المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌أعرابي في سينما

‌أعرابي في سينما

نشرت سنة 1940

وطالت غيبة صْلَبي، فنسيته وطرحت همه عن عاتقي، وعدت أدور مع الحياة كما تدور السانية، مغمض العينين، أطوف في مَفْحَص قطاة، فلا غايةً أبلغ ولا راحةً أجد، أغدو إلى كدّ العقل وعذاب النّفْس وجفاف الريق وانقطاع النّفَس، وأروح وما بقي فيّ بقية لعمل ولا طاقة على كتابة، فألقي بنفسي على كرسي أو سرير أنتظر عذاب اليوم الجديد.

وإني لَغَادٍ إلى المدرسة ذات يوم، وإذا أنا بأعرابي في شملته يشير إليّ وهو يسير بين تلك المواخير: تريانون وليدو ولوازيس، حائراً يتلفت. فقلت: لعله ضالٌّ أحب أن يستهديني، ووقفت له، فلما دنا وتبيّنته لم أملك من الفرح فمي، فصحت في السوق وسط الناس! وما لي لا أصيح وقد وجدت صلبي بعد طول الغياب؟ وحييته وحياني تحية ذاكر للصحبة حافظ للود، وطفق يحدثني حديثه.

قال: أتذكر يا شيخ ما ابتلاني به الله من أمر الحمام؟ لقد وقعت في داهية أدهى، ولقد والله كرهت الحضر وعفت المدن

ص: 103

وأصبحت أخشى فيها على نفسي، فما أدري ماذا سيكون من أمري بعد الذي كان. قدمت الشام قَدْمَة أخرى، فكان أول ما صنعت أن قصدت صاحبي، وكنت قد عرفت داره في «الميدان» ، فأكرمني وأحسن استقبالي أحسن الله إليه، وذبح لي خروفاً، ولم يكتفِ بذلك من إكرامي بل أزمع أن يأخذني إلى سنمة. قلت: ولكني لا أعرف سنمة هذا ولا أدري من هو، فيكف تأخذني إليه؟ قال: لا بد من ذلك.

فاستحييت منه وكرهت أن أخالفه بعد الذي صنع في إكرامي، وقلت في نفسي: لولا أن سنمة هذا صديق له عزيز عليه ما سار بي إليه، ولقد قال المشايخ من قبيلتنا:«صديق صديقك صديقك» . فرضيت وقلت له: على اسم الله.

ولكن الرجل لم يَسِرْ، بل أدركه لؤم الحضر فصاح بابنه أن هات الجرائد حتى نرى الرواية، فتوجّست خيفة الشر، وقلت: إن الرجل قد جُنَّ، وإلا فما بال الجرائد؟ وهل تراه يضربني بها؟ إذن والله لأريته عزّ الرجال ولضربته ضرباً يبلغ مستقر اللؤم في نفسه. وخشيت أن أتريّث أو أتلوّم فأخيب وأفشل، وذكرت حكمة حَمَد بن عْلَوي:«الغلبة لمن بدأ» ، فشدّ ذلك من عزمي وصرخت: "يا هُو

" ووثبت وثبة أطبقت بها على عنقه، وقلت: سترى لمن الجرائد والسياط، ألابن المدينة الخَوّار الفَرّار أم لابن البَرّ الحُرّ؟

فارتاع -وأبيك- وجعل يصيح من جنبه: أدركوني، أنقذوني! النجدة، العون! يا فلان (لابنه) أقبل. ويلك يا صلبي، يا مجنون، كُفَّ عني. ويلك، ماذا اعتراك؟

ص: 104

فأخذتني به رأفة، فكففت عنه وقعدت محاذراً أرقب أهل المنزل وقد اجتمعوا ينظرون إليّ بعيون مَن يهمّ بِفَرْي جلدي، فقال لي: ما أردت بهذا ويلك؟ وبمَ أسأت إليك حتى أستحقق منك هذا الصنيع؟

قلت: بالجرائد؟ أمثلي يُضرَب بالجرائد لا أمَّ لك؟

فضحك والله وجعل يكركر حتى لقد شبهت بطنه بقربة جوفاء أدخلتها الماء، وضحك كل من كان حاضراً من أهله وبنيه ضحكاً ما شككت معه أن القوم قد أصابهم طائف من الجن، فقلت: قبّحكم الله من قوم، وقبّحني إذ أنزل بمثلكم! وهممت بالانصراف، فصاح بي وعزم عليّ إلا ما رجعت، فبَرَرت بيمينه وقفلت راجعاً، فقال لي: وأنت حسبت الجرائد مما يُضرَب به؟ ألم تبصر جريدة قط؟

قلت: ويحك، فكيف إذن؟ أنا من بلاد النخيل، تبوك حاضرتي.

قال: وتحسبها جرائد نخيل؟

قلت: إذن فجرائد ماذا؟

قال: خذ، هذه هي الجرائد.

وألقى إليّ صحفاً سوداً بها من دقيق الكلم مثل دبيب النمل، فعجبت منها وسألته أن يقرأ عليّ ما فيها فأستفيد علماً ينفعني في آخرتي، فإن الرجل لا يزال عالماً ما طلب العلم فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل، ولقد سمعت أنه جاء في الأثر: «كن

ص: 105

عالماً أو متعلماً أو مستمعاً، ولا تكن الرابعة فتهلك».

فضحك وقال: هل تظنها كتب علم؟

قلت: فماذا فيها مما ينفع الناس؟

قال: فيها أخبار البشر؛ مَن سافر منهم أو حضر، أو تزوج أو وُلد له ولد، فما يصنع أحدٌ من شيء إلا دُوِّن فيها، ولا ينبغ من عالم أو أديب أو يَقْدم مُغَنٍّ أو تجيء قَيْنة أو تأمر الحكومة أو تنهى إلا ذُكر ذلك فيها، حتى إنّ فيها صفة الخمر والإعلان عن الميسر، وأخبار دور الدعارة والدعوة إلى الروايات الخليعة!

فلما سمعت ذلك طار عقلي، وأخذت هذه الجرائد فمزقتها شرّ ممزَّق، وعلمت أن الله مهلكٌ هذه القرية، وعزمت على مفارقتها ونويت ألاّ أعود إليها بعد الذي سمعت من خبر جرائدها، وما ظننت أن مثل ذلك يكون. ولم يجتزئ صاحبي بما أعلمني من علمها حتى وصف لي أخرى تكون في أيدي الصبيان والبنات، فيها صور قوم عراة تبدو عوراتهم ونساء ما يسترهن من شيء إلا شيء ليس بساتر! قلت: فهل يرضى الحضري بها؟ قال: نعم. فسقط والله من عيني وقلت: هذا القَرْنان الذي لا تأخذه على أهله غَيْرة، وما كنت أحسب أن رجلاً يؤمن بالله واليوم الآخر يفعل ذلك.

* * *

ولست مطيلاً عليك الحديث.

وذهبنا نزور سنمة، فسرنا حتى بلغنا قصراً عظيماً على بابه خلق كثير، وله دهليز تسطع فيه الأضواء، فقلت: هذا قصر

ص: 106

أمير البلد، هذا الذي يدعونه رئيس الجماهير. وألهاني ما رأيت وشغلني ففقدت صاحبي وسط الزحمة، ولكني لم أُبال، وأقبلت أصعد الدرج، فمنعني أغلمة بثياب ضيقة حُمر ما رأيت مثلها، وعلى رؤوسهم كُمَمٌ لها رواق من فوق عيونهم كالذي يوضع على عينَي بغل العجلة، وأفخاذهم مكشوفة فعلَ أهل الفسوق والتهتك. فهممت أن آخذ ثلاثة منهم فأكركبهم على الدّرَج فأزحلق مِعَدَهم عن مواضعها، ثم قلت: ترفَّقْ يا صلبي لا تجنّ، فما أنت في البادية، أنت في قصر الأمير وهؤلاء مماليكه، وإنك إن مسستهم لم تجد أمامك إلا ضرب العنق. ووضعت يدي على عنقي أتحسسها فعلمت أني لا أزال أحتاج إليها.

ولو أنني في السوق أبتاع مثلها

-وجَدِّكَ- ما باليت أن أتقدّما

وسألت الغلمان الكاشفي الأفخاذ ماذا يريدون مني أن أصنع، فأشاروا إلى كوّة ازدحم عليها الناس، فعلمت أن الدخول من هناك، وأقبلت أزاحم وأدافع وهم يردّونني حتى بلغت الكوّة، فإذا هي غرفة ضيقة كأنها القفص، وإذا فيها رجل محبوس والناس يتصدقون عليه، فقلت في نفسي: هذا رجل ضرب مماليكَ الأمير فحبسه هنا لتُضرَب عنقه في غداة الغد، وحمدت الله على السلامة، وتوجهت بوجهي إلى رجل توسمته أسأله: متى تضرب عنق السجين؟

فنظر إليّ ولم يُجِبْ، ثم ولاّني قفاه وانصرف، فعلمت أن الأمير يمنع الناس من الكلام في هذا، ولولا ذلك لأجابني. ودنوت من كوّة السجين فأعطيته قروشاً كانت معي وقلت له:

ص: 107

هذه لأولادك من بعدك، لهم الله فلا تحزن. فلم يقبضها حتى عدّها فرآها كثيرة، فرَدَّ إليّ بعضها وقبل بعضاً، فلم أُلحِفْ عليه وأخذتها منه، وأخذت معها ورقة صفراء أعطانيها لم أدرِ ما هي، ولكنني لم أشأ كسر قلبه بردّها، ووضعت ذلك كله في كمّي وعمدت إلى الكوة لأدخل منها فوجدتها عالية، فوثبت فأصبت بقدمي وجه رجل ممن كان هناك، فما باليته وقلت: سأعتذر إليه. فقد رأيت أهل المدن يؤذون إيذاء العدو ثم يعتذرون اعتذار الصديق! وأدخلت رأسي في الكوة، فصاح السجين صياحاً أرعبني والله، شبّهته بصراخ كلب ديس على ذنبه، وأجلب الناس فطفقوا يشدون برجلي وثيابي، وأنا أرفس بقدمي رفساً لا أبالي موقعه من أجساد الناس، والسجين اللئيم الذي أحسنت إليه يدفع برأسي ويشد بشعري، ولم يكن عضو من أعضائي إلا وهو مشغول، فيداي أتمسك بهما، ورجلاي أذود بهما عن نفسي، ولم أجد ما أدفع به أذاه عني إلا أن بصقت في وجهه، فأقبل يضربني فعضضت يده، ثم دنوت من وجهه فعضضت أنفه، وكان أنفاً ذليلاً لا يزال خبث طعمه على لساني.

ثم أخرجوني قسراً وجبراً، وجاء مماليك السلطان فحجزوا بيني وبينهم، وأخذوا الورقة الصفراء، وأدخلوني من باب كان هناك إلى بهو واسع صَحَّ معه ما كنت قدرت من أن سنمة هذا سلطان البلد. ورأيت الناس قد صفّوا كراسيّهم كصف الصلاة، وإذا بعضهم يولي بعضاً دبره، فقلت: ما ألأمَ أهلَ المدن! والله ما كنت مولياً مسلماً ظهري إلا في الصلاة، وعمدت إلى الكرسي لأديره، فإذا هو مثبت بمسامير من حديد، فتركته واستدرت أنا

ص: 108

فجلست على قفاه، وجعلوا يضحكون مني فما ألقي لهم بالاً، حتى جاءت امرأة فجلست قبالتي، فقلت: يا أمَةَ الله استتري، فأقبلوا يَزْبُرونني، وإذا هي -فيما قالوا- شاب وليس امرأة! فجعلت أعجب.

ولبثت أنتظر خروج السلطان، فإذا بالمماليك يديرونني فيجلسونني من حيث يجلس الناس، فلم أملك إلا الطاعة. وقعدت أنتظر، فلم أنشب أن جاء مملوك آخر فقدم إليّ صَفْحة من خشب قد صفّ عليها فَرَانيّ وشطائر (1) وقال: تريد؟ قلت أريد والله، وهل يأبى الكرامة إلا اللئيم؟ وأقبلت آكل فأجد طعاماً هشّاً تحت الأسنان حلواً في الحلق خفيفاً على البطن، فقلت: هذه هي البقلاوة التي وصفوها لنا. فمسحت شفتي بيدي وقلت: الحمد لله، جزاك الله خيراً.

فظل واقفاً ولم يمضِ، فقلت: الحمد لله، لقد شبعت.

قال: يَدَك على الفلوس؟

قلت: ويحك، ماذا تريد؟

قال: أكلت ثلاثين قطعة كل قطعة منها بسبعة قروش، فهذه مئتان وعشرة.

قلت: قبّحك الله من عبد لئيم! تأخذ من ضيوف السلطان ثمن القِرى؟

(1) الفُرْنية الكاتو، وجمعها فَراني، والشطيرة والشطائر هي الساندوتش.

ص: 109

وكان ما أكلت قد شَدَّ ظهري، فوثبت إليه ووثب إليّ، وقام الناس، وزُلزل البهو بأهله، وكادوا والله يطردونني لولا أن ظهر صاحبي، فانفرد بالمملوك فأرضاه عني وجاء فقعد معي.

وإنّا لكذلك يا شيخ، وإذا بالأنوار تنطفئ، وإذا بالخيل تهجم علينا مسرعة حتى كادت والله تخالطنا. فقلت: لك الويل يا صْلَبي، ثكلتك أمك، إنه الغزو فما قعودك؟ وقفزت قفزاتي في البادية، وصرخت وهجمت أدوس على أجساد الناس وهم يضجُّون ويصخبون، فلما كدت أبلغ الخيل اشتعلت الأنوار وفرّ العدوّ من خوف بطشي هارباً، وجاء عبيد السلطان ليخرجوني فردّهم عني صاحبي وكلمهم.

فقلت: هذا والله العجز والذل، فقبح الله من يقيم عليهما! ترون العدوّ قد خالطكم وتلبثون قعوداً؟ ما أكرَهَكم إليّ يا أهل المدن، ما ظننت والله إلا أنكم ستحملون إليّ صلة السلطان على أن رددت عدوَّكم وهزمته.

فضحك اللئام، وجعل صاحبي يحذرني العودة إلى مثلها. ولم ألبث حتى أُطفئت الأنوار كَرّةً أخرى، ففزعت ونظرت، فما أحسست إلا امرأة قد قبض عليها رجل خبيث يحاول أن ينال منها على مرأى منا ومسمع، وهي تستغيث وأنا أسمع صياحها ولا من مغيث. فثارت الحمية في رأسي، وسللت الخنجر وأقبلت أريده، فاختفى والله حتى كأنْ لم يكن هناك من أحد، وعادت الأضواء ورجع الصخب، فقلت: والله ما أقيم. وجعلت أصيح: أخرجوني، ويلكم أخرجوني!

* * *

ص: 110

قال صْلَبي: فخرجت وقد علمت أن جرائدكم -يا أهل المدن- تنشر الفجور وتهتك ستر الله عن الناس وتفضحهم، وأن شبابكم بنات، وأن أمراءكم سَحَرة يسحرون أعين الناس حتى يُروهم ما لا يُرى، ثم إنكم لا تغارون على أعراضكم ولا تبالون كشف عورات أبنائكم وبناتكم

لا والله ما أحبكم.

وذهب مولياً عني مسرعاً يمشي بين تلك المواخير القذرة: ترياتون وليدو وأوليمبيا، تلقاء سوق الحميدية والأموي حيث المدينة الطاهرة الفاضلة، حيث دمشق التي سمّاها شوقي «ظئر الإسلام» .

* * *

ص: 111