الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من الأدب الإنكليزي
مرثيَّة غراي
نشرت سنة 1936
[تُعَدّ هذه المرثية من أبلغ المراثي في الشعر الإنكليزي، قرأها عليّ صديقي الأستاذ حيدر الركابي، فنقلتها إلى العربية كما فهمتها. (1)]
قرع الناقوس ينعى النهارَ الآفل، وراح القطيع يزحف ببطء
(1) الاسم الكامل للقصيدة (في الأصل) هو «مرثيّةٌ في فناء كنيسة ريفية» (Elegy Written in a Country Churchyard) للشاعر الإنكليزي الكبير ثوماس غراي (Thomas Gray)(1771 - 1716)، وقد كتبها سنة 1750 وهو في مقبرة كنيسة قديمة في ريف باكنْغهامْشايَر في جنوب إنكلترا. وأحسب أن جدي رحمه الله كان أول من قدّمها لقرّاء العربية في هذه الترجمة، وبعده بعشر سنين نشرت لها الشاعرةُ العراقية نازك الملائكة ترجمةً موزونة في مئة وثلاثين بيتاً. أما حيدر الرّكابي فقد كان أستاذاً للّغة الإنكليزية، وهو ابن رضا باشا الركابي الذي كان الحاكم العسكري في الشام أيام الشريف فيصل قبل ميسلون، وكان حيدر من أصدقاء علي الطنطاوي في شبابه، وسكنا داراً واحدة في الأعظمية لمّا جمعهما التدريس في بغداد (مجاهد).
يتسلق الهضبة راجعاً إلى القرية، وعاد الفلاح إلى البيت يجر رجله تعباً، وبقي العالم لي وللظلام.
تدثر الكون بالسواد وتوارى عن الأنظار، وسكنت الدنيا سكوناً مهيباً، ولم يبق في الجَوِّ نامةٌ تُسمَع، إلا هذه الأصوات العميقة تفيض بها الأودية البعيدة والشعاب النائية، وإلا طنين حشرة تطير، ونعيق بوم على تلك الدَّوْحة يشكو ظلمَ الناس وعدوانَهم على وكره الآمن.
* * *
هنالك، عند تيك الشجيرات القديمات، تحت تلك الرِّجام (1) التي يزدحم عليها الشعب ويتكوَّم (2) الكلأ، كان أجداد القرية ينامون إلى الأبد في حفرهم الضيقة وأجداثهم العميقة؛ لا يوقظهم نسيم الصباح الأَرِج، ولا تغريد البلبل الطَّرِب، ولا زُقاء الديك المزهوّ، ولا زمّارة الراعي السعيد
…
كل ذلك لم يعد يوقظهم من رَقْدتهم.
لا، ولن توقَد من أجلهم نيران المدافئ، ولن تقوم في خدمتهم ربّات المنازل، ولن يهتف أطفالهم اللُّثْغ فَرِحين بمقدمهم، ولن يتسلَّقوا رُكَبَهم يستبِقون إلى أحلى تَمْنِية لهم: قبلة آبائهم عند عودتهم إلى منازلهم وأهليهم.
* * *
(1) واحدتها الرَّجْمة، وهي الحجارة التي تُنصَب على القبر (مجاهد).
(2)
كوّم الكَومة وتكوَّمت: من العامي الفصيح.
كم كان المنجل العَضْب (1) يخضع لسواعدهم، وكم كانت الأرض الصَّلدة تشقق تحت معاولهم، والغابة القاسية كم لانت لضرباتهم! كان عملهم مفيداً وحياتهم مجدية، فلا يسخر الطموح من مسراتهم الهيِّنة وحياتهم المجهولة، ولا تستمع العظمة هازئةً حديث الفقر وقصته الساذجة القصيرة.
فإنّ فخرَ القوّاد وعظمةَ الأقوياء، وكل ما تمنحه الثروة ويأتي به الجمال، كل ذلك ينتظر الساعة التي لا مفر منها والغاية التي لا مَحيد عنها، لا فرق في ذلك بين عظيم وحقير، لأن طريق المجد لا ينتهي إلا إلى القبر.
* * *
فيا أيها المغتَرّون: لا تلوموا هؤلاء المساكين أنْ خلت قبورهم من نُصُبُ المجد وتماثيل الجلال، على حين تتصاعد ألحان الثناء وأغاني المديح من بين جدران المدافن الفخمة تحت أقبيتها المزخرفة.
لأن البخور المحروق والتمثال المنحوت لا يَرُدّ الروح على الميت الراقد، وهتاف الناس وعجيج الجماهير لا ينفخ الحياة في التراب الجامد، وقصائد المديح وآيات الثناء لا تبلغ سمع الموت البارد!
* * *
(1) العَضْب هو الحادّ القاطع (مجاهد).
ومن يدري؟ فلعل في بطن هذه البقعة المهجورة قلباً كان يمكن أن يفيض منه النور السماوي، ويداً كان يمكن أن تدير دفّة المركب السياسي، وأصابع كان يمكن أن تمشي على أوتار القيثارة الخالدة فتنشئ النغم السحري، لولا أن العلم لم يفتح أمامها صفحاته الحافلة بثمرات الزمان.
* * *
أخمد النسيانُ جذوةَ أرواحهم النبيلة، وأجمد نهرَ حياتهم الجارية، وطغا عليهم لجّ الزمان. ولكن، كم في جوف البحر من جواهر مخبوءة ولآلئ مجهولة، وكم في عرض البادية من وردة تفتحت واحمرَّتْ فلم يَرَها أحد، فضاع أريجها العطر في رياح الصحراء.
ومن يدري؟ فلعل هنا بطلاً كهامبْدِن، كان حاكماً في حقوله مطلقاً وكان جباراً شجاعاً، ولعل هنا مِلْتون آخر ولكنه صامت مغمور، ولعل هنا كرومْوِل، ولكنه كرومْوِل بريء من دم أبناء الوطن (1).
* * *
(1) لعل المقصود هو جون هامبدن الذي كان من قادة الحرب الأهلية الإنكليزية في القرن السابع عشر، وهي الحرب التي قادها أولِفَر كرومْوِل وانتهت بسيطرته على الحكومة وإعدام الملك تشارلز الأول، ولكنه لم يلبث أن تحول إلى حاكم مستبد. أما مِلْتون فهو الشاعر الإنكليزي الأشهر جون مِلْتون، صاحب ملحمة «الفردوس المفقود» ، وكان من مساعدي كرُمْوِلْ وأتباعه المقرَّبين (مجاهد).
منعهم القدر من الاستمتاع بهتاف الجماهير وتصفيق البرلمانات، ومنعهم من المغامرة وركوب الأهوال، وازدراء المصاعب واحتقار العقبات، ومنعهم من نَثْر الخيرات على بلادهم وقراءة تاريخهم في عيون الشعب.
ولكن القدر لم يمنعهم مزاياهم وحدها وفضائلهم، بل منعهم رذائلهم أيضاً وجرائمهم، فلم يرتقوا العرش على الجماجم، ولم يسدّوا أبواب الرحمة على البشر، ولم يُخفوا حُمْرة العار والخجل، ولم يُخفتوا صوت الضمير، ولم يعطّروا معابد ترفهم واستكبارهم بالبخور الذي تحرقه شياطين الشعر.
* * *
لقد اتّبعوا طريقهم السَّوِيّ في وادي الحياة المنعزل البارد وساروا فيه صامتين؛ لم تتعلم أمانيُّهم القريبة وشهواتهم البريئة الخروجَ بهم عن صفوف الشعب المناضل على الحياة، المزاحم على البقاء.
ولكنهم -مع ذلك- لم تَخْلُ قبورهم من أثر للذكرى ضئيل: شعر أخرق ونقش مَحْطوم، يستجدي المارة آهةَ العطف وهمسة التقدير، ويحفظ عظامهم من أن تُهان.
إن هذا الشِّعر، شعر الأمية الساذجة الذي نطق بأسمائهم وأعمارهم، يقوم مقام التعظيم والتبجيل والرثاء، وينشر بين القبور نصوصاً مقدسة تعلم المربين والمعلمين كيف يصمتون ويتعلمون.
* * *
وأي امرئ -مهما بلغ من خمول الذكر والهوان على الناس- يترك الدفء والنور والسعادة من غير أن يلتفت إلى الوراء فيودع العالم بنظرة؟
إن الروح الراحلة تريد أن تتكئ قبل رحيلها على صدر محب، والعين المغمضة تحتاج قبل إغمائها إلى دموع الإخلاص، بل إن صراخ الحياة لينبعث من صميم القبر فيضرم نارَها في رمادنا البارد.
* * *
وبعد، فيا أيها الشاعر الذي يقوم في المقابر ويندب الموتى المنسيين: إني لألتفت الآن إليك فأرى رجلاً مثلك، شاعراً هائماً قد جاء يبحث عما حل بك، وانتهى إليه مطافك، فوجد فلاحاً هَرِماً فسأله عنك، فقال له: لقد طالما رأيناه عند انبلاج الفجر، يسرع الخطو ليستقبل الشمس من ذروة التل.
وطالما لمحناه في الظهيرة متمدداً بجسمه المنهوك على أقدام تلك الشجرة الهرمة وفوق جذورها الباردة العجيبة، يرقب الجدول الذي ينساب إلى جانبه ويتأمل مياهه الهادرة المتكسرة. وطالما أبصرناه هائماً على وجهه بالقرب من هذه الغابة، باسماً آناً كأنه ساخر من كل شيء، وآناً عابساً كئيباً كأنه مُضنَى هدَّتْهُ الآلام، أو مريض قتله الحب اليائس.
* * *
وفي ذات صباح، نظرنا إلى الهضبة فلم نجده! "فبحثنا عنه
عبر المرج وعند شجرته المفضلة" (1)، وإلى جانب الجدول وبالقرب من الغابة، فلم نقع له على أثر. "ومضى يوم جديد ولم يعد" (2).
ثم رأينا -بعدُ- نعشه محمولاً إلى المقبرة، تُرَتَّل من حوله أناشيد الموت. وها هو ذا قبره قائم تحت تلك الشجرة التي كان يجلس إليها، فتعال اقترب، اقرأ ما عليه:
هنا، في حضن الأرض، يرقد شاب تجهله الثروة ولا يدري به المجد، لا يعرفه إلا الحزن الذي اصطفاه خليلاً وهو في المهد.
(1) كانت هذه الجملة في الأصل: "فبحثنا عنه في الذروة وعند الشجرة"، والذي أثبتُّه أصح لأن أصلها الإنكليزي هو:
One morning I missed him on the custom'd hill
Along the heath and near his favorite tree
ولم أغير في القصيدة كلها سوى هذه الجملة المحصورة بين القوسين والتي تأتي بعدها (مجاهد).
(2)
في الأصل: "ثم رأينا شاعراً آخر يحتل مكانه"، ولا أشك أنه خطأ من الأستاذ حيدر الركابي الذي نقل النص لجدي (رحم الله الاثنين)، فليس في أصل القصيدة شاعر ثان، وإنما يتحدث مؤلفها -على لسان الراوي- عن «يوم ثان» ؛ فالبيت الأول في هذا المقطع يتحدث عن يوم اختفى فيه الشاعر، ثم يجيء البيت الثاني الذي يقول:
Another came، nor yet beside the rill،
Nor up the lawn، nor at the wood was he
فهو يتحدث عن يوم جديد جاء ولمّا يَعُد الشاعر، فلا يُعثَر عليه لا قرب الجدول ولا على المرج ولا في الغابة، ثم يأتي اليوم الثالث -كما سنقرأ في البيت التالي- فيُشاهَد محمولاً في النعش ماضياً إلى القبر (مجاهد).
كان كريماً مخلصاً فكانت مكافأته عظيمة، منح البائسين كل ما يملك: وهو دمعه! ومنحه الله كل ما يطلب: وهو صديق!
لم يُحِبَّ أن يفيض في ذكر مزاياه أكثر مما أفاض، ولم يشأ أن يهتك الستر عن نقائصه، لأنه استودعها كلها اللهَ الذي لا تضيع عنده الودائع.
* * *