الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هيكل عظمي
نشرت سنة 1936
[كنت أمس عند قريب لي يمارس صناعة الطب، فخرج لبعض حاجته حتى أطال الغياب، وتسرب إليّ الملل فقمت إلى خزانة كانت حيالي فقلت: لعل فيها كتاباً أقرؤه. فما راعني -حين فتحتها- إلا هيكل عظمي معلَّق بسقف الخزانة، وإلى جانبه هيكل ثان!]
…
مَن أنت أيها الإنسان الذي انتهى به الأمر إلى أن يحبس في خزانة، ويلبث الدهرَ معلَّقاً بسلكة ويُعَدّ متاعاً من المتاع؟ أأنت رجل أم امرأة؟ أغنيّ أم فقير؟ أملك أنت أم صعلوك؟
هل كان في هاتين الحفرتين البشعتين عيون ساحرات الطَّرْف "يصرعنَ ذا اللب حتى لا حراك به" و"يفعلن بالألباب ما تفعل الخمر"؟ (1)
(1) الأول صدر البيت المشهور لجرير، والآخر عجز بيت لذي الرمة:
وعينان قال الله كونا فكانتا
…
فَعولانِ بالألباب ما تفعلُ الخمرُ
(مجاهد).
وهل كان على هذا الثغر المخيف شفاه لُعْس (1)، تأخذ دنيا البخيل بضمة على شفتيه، ويبذل حياتَه الجبانُ في قبلة منها؟ وهل كان على هذا القفص العظمي صدر ينسى امرؤ أسند إليه رأسَه الدنيا وما فيها؟ هل كانت هذه العظام المستطيلة المرعبة سواعد بضة طالما أثارت مِن هوىً وأذكت من خيال؟ أكنت -أيها الإنسان- امرأة فاتنة جميلة؟
وهذا الإنسان الآخر: هل كان عشيقك أيتها الفتاة؟ اعترفي فلا بأس عليك اليوم. هل كان يهيم بك حباً ويحيي الليالي يحوم حول منزلك، أو يرقب شرفتك، فإذا رأى إشارة منك أو أبصر على الشرفة ظلك أو لمح طرف ثوبك الأبيض أو الأصفر أو
…
أو الأرجواني، انصرف وهو أسعد الناس حالاً، وراح يحبّر فيك «المقالات» (2)، وطفق يرى صورتك التي نسجها من خيوط حبه لا صورتَك التي هي لك: طفق يراها في السماء التي يرنو إليها ويعدّ نجومها، وفي صفحة الكتاب الذي يفتحه وينظر فيه، وبين أغصان الأشجار التي تمتد إلى شرفته، وحيثما تلفّتَ أو نظر "تلوح له ليلى بكل سبيل"؟
* * *
(1) تختلف مقاييس الجمال باختلاف الأزمان، فقد أحب العرب -مثلاً- الأسنان المفلَّجة (التي تفصل بينها فراغات)، فكانت المرأة تفلّج أسنانها تزيّناً حتى تصير فَلْجاء! ومن هذا الباب الشفة اللَعْساء (الجمع لُعْس)، وهي الشفة التي اسوَدَّ باطنها! (مجاهد).
(2)
إشارة إلى مقالات «ذات الثوب الأرجواني» التي كان ينشرها المازني رحمه الله في تلك الأيام.
أم كنت -أيها الإنسان- ملكاً يضيء على مفرقه التاج المحلّى بالدّر، ويلمع تحته السرير المصنوع من الذهب، إذا أمر تقاتلوا على السبق إلى طاعته، وإذا اشتهى شيئاً أسرعوا إلى تحقيق شهوته، وإذا مرض لم يكن للناس حديث إلا حديث مرضه، وإذا أبَلَّ لم يكن سرور إلا ببشرى إبلاله، وإذا قام أو قعد أو قدم أو ذهب لهجت الألسن بقيامه وقعوده واشتغلت الصحافة بذهابه وقدومه، وإذا مشى في الطريق لم يمشِ على رجليه كما كان يمشي أبونا آدم عليه السلام وكما تمشي ذريته من بعده، ولكنه كان يمشي على رؤوس الناس الذين يحسّون -لفرط الإجلال أو لفرط السخط- بأنه يمشي على رؤوسهم جميعاً؟
أم كنت -أيها الإنسان- صعلوكاً حقيراً عاش على هامش الحياة ودُفن في حاشية المقبرة، فلم يحسّ أحد بحياته ولم يَدْرِ أحد بمماته، ولعل حياته أشرف حياة لأنها حافلة بالفضائل مترعة بالشرف، فكان يكدح طول نهاره ليحصل خبزه وخبز عياله، فيأكله مأدوماً بعرق جبينه، لا يؤذي أحداً، ولا يسرق مال الدولة، ولا يتخذ وظيفته جسراً إلى تحقيق شهواته وتحصيل لذاته
…
ولعل موته أشرف موت، لأنه مات مجاهداً وسط المعمل أو سقط وفي يمينه المعول.
انظر يا صديقي، التفت إلى يمينك. إن الملك الذي طالما خفتَه وأكبرته وأعظمت زينته وبزّته وشارته وحليته، فملت عن طريقه ولم تجرؤ على رفع نظرك إلى طلعته الكريمة، إنه معك في هذه الخزانة، قد نُزع عنه ثوب المُلْك والبهاء وعاد مثلك: لا الملك دام له ولا دام الغنى!
هل كنت -أيها الإنسان- رجلاً عفيفاً مستقيماً، أم كنت لصاً خبيثاً؟ اعترف؛ إنه لن يضرك اليوم اعتراف. هل كنت لصَّ أعراض تلبس ثوب التاجر أو ترتدي حلّة الموظف أو تتيه ببُرْد الغنيّ؟ كم من الأعراض سطوت عليه باسم الوظيفة أو بصلة الصداقة، أو ولجت إليه من باب السفور والاختلاط؟
أم كنت لصاً رسمياً لا سبيل للقانون عليه، يسرق من الناس ويسكتون لأنهم يريدون أن تمشي أعمالهم، ويسرق من الخزينة بأسناد مصدَّقة؟
أم كنت لص أدب، تسرق فكرة الفيلسوف وصورة الشاعر وموضوع الكاتب فتُلبسها ثوباً من أثوابك الخسيسة الممزقة، ثم تخرج بها على الناس على أنها بنت خيالك ووليدة عقلك؟
أم كنت مظلوماً، لم تكن لصاً ولم تحترف السرقة، ولكن رأيت صِبْية مشرفين على الموت من الجوع وأسرة كادت تودي من أجل رغيف، ورأيت حقك في بيت مال الأمة قد سرقه السادة الأكابر، فغطيت وجهك حياء وأخذت رغيفاً ليس لك، فثار بك المجتمع وقامت عليك الصحف، وتعلق بك القانون حتى استاقك إلى السجن، فمُتَّ فيه مفجوعاً بشرفك وأولادك؟
اقترب أيها المجرم، ادْنُ أيها الشهيد، تعال انتقم؛ هذا هو القاضي الذي حكم عليك لأنك سرقت رغيفاً تعيّش به أسرة، ثم خرج يخترق الصفوف، صفوف الشعب الذي اجتمع ليشهد انتصار الحق وظفر العدالة، فلما رآه حيّاه وهتف له حتى بُحَّ صوته وصفّق حتى احمرّت كفاه، حتى إذا ابتعد ولم يعد يراه أحدٌ
مَدَّ يده التي حمل بها مطرقة العدل فأخذ ثمن وجدانه الذي باعه، أخذ الرشوة! تعال انتقم؛ إن القاضي والمجرم قد التقيا وزالت من بينهما الفروق!
* * *
أم أنت -أيها الإنسان- جندي صاحوا به: الإنسانية في خطر، الحضارة مهددة بالزوال؛ لقد أوشك أن يموت الحق وتذهب الفضيلة! فاشتعلت الحميّة في رأسك، والتهب الدم في عروقك، وقدحت عيناك بالشرر، فتركت أمك المسكينة ليس لها بعدك إلا الله، وأسلمتَها إلى الحزن الطويل والثكل القاتل، وأولادك الذين تعلقوا بك يصيحون:"بابا، بابا" أسلمتهم إلى اليتم والفقر والبؤس، وذهبت تلبي نداء الإنسانية وتخلّص الحضارة، فنمت على الجثث وتجلببت باللهب وتوسدت القنابل، حتى إذا أدركك أجلك سقطت صريعاً، وأقبل رفاقك يدوسون على جثتك لا يجدون وقتاً لإزاحتها ودفنها، لأنهم يخافون إذا أبطؤوا ألاّ يدركهم الموت في سبيل الإنسانية! فلما ماتوا جميعاً ربحت الإنسانية وساماً زيّن صدر القائد وصفحة في تاريخ العدوان، وثبت كرسيُّ طاغيةٍ من الطغاة أو استقرت مكانةُ حزب من الأحزاب
…
أما الأطفال الأيتام والعجائز الثاكلات فحسبهم عوضاً من آبائهم وحسبهنّ بدلاً من أبنائهن التمتع برؤية موكب القائد الظافر!
أم أنت -أيها الإنسان- القائد نفسه، قد جُرِّد صدرُه من الأوسمة والشارات، وجسمُه من الحلة المزدانة بالقصب، ووجهُه من الأنف والعينين، وعاد قفصاً من العظام لا يمتاز
عن أصغر جندي وأحقر صعلوك، فلم تعد لك تانك العينان اللتان تبرقان فترتجف لبريقهما أقسى القلوب، وذانك الشاربان القائمان كساريتَي مركب، وذلك الصوت القوي الذي كان يصيح بالجنود: إلى الأمام
…
أي إلى الموت، إلى الثكل، إلى اليُتْم، إلى الحرب، جحيم الحياة الدنيا! (1)
وأنت أيها الآخر: أأنت ذلك الجندي؟ ما لك تقف جامداً؟ هذا قائدك. ألا تضم شفتيك وتثبت بصرك وتزوي ما بين عينيك، وتأخذ هيئة الجِدّ لتؤدي التحية العسكرية؟ ويحك! أما أنت جندي؟ هل أنت امرأة؟ أأنتِ عشيقة القائد العظيم، رآكِ مُنصرَفَه من المعركة التي طوّح فيها بالمئات من شباب أمته في سبيل العدوان على بقعة ليست له، أو إعطائها إلى غير أصحابها ومنحها لبعض الطارئين من الشعوب الذليلة المسكينة (2)، فماتوا كلهم ولم يقدروا على شيء، لأن للحق قوة كقوة النار والحديد؟ أأنت التي اخترقَتْ سهامُ لَحْظها هذا القلب الذي طالما هزئ بالقنابل والمدمرات، فجاء يصب جبروته على قدميك، وأصبح هذا الذي يصرّف عشرات الألوف من الكُماة المستلئمين تصرّفينه وتجرّينه من زمامه، حتى صار يفكر فيك وهو في ساحة الحرب، يزلزل الأرض تحت أقدام أهلها ويتأمل صورتك والعدو على أبواب معسكره، لا يخاف عليه أن يحتله الأعداء، إنما يخاف عليك أن تضم جسَمك غيرُ ذراعيه؟
(1) الحرب ما لم تكن لإعلاء كلمة الله، أو لدفع المعتدين وتثبيت الدين ورد المستعمرين الغاصبين، فهي بلاء شامل وشر مبين.
(2)
كاليهود الصهيونيين!
أم أنتما رجلان؟ أعدوّان أنتما أم صديقان؟ أكان بينكما مسافة على الأرض ومسافة في الزمان، أم أنتما رفيقان متلازمان؟ هل التقيتما في معمل، أو عملتما في منجم، أو اصطحبتما إلى الحرب، أو تجاورتما في السوق، أو اشتغلتما في ديوان؟
أم كنتما مضطجعَين في قصريكما المتقابلين، قد مللتما من التسلية فأنتما تدفعان العمر دفعاً، لا تتنازلان أن تنظرا من النافذة إلى هؤلاء البؤساء الذين يشتغلون دائماً وأبداً كأنهم آلات تدور، تحت الشمس في الصيف وتحت المطر في الشتاء، وفي الحرّ وفي الزمهرير، وفي الصحة وفي المرض، ليأخذوا بعد ذلك الواحدَ وتأخذوا أنتم التسعةَ والتسعين مكافأة لكم على غصبكم حريّتَهم وعسفكم إياهم وزرايتكم عليهم، فتنفقوها على الموائد الخُضر وفي كؤوس الخمر وعلى الشُّقر والسُّمر
…
ثم إذا خرجتم تمسّحوا بأذيالكم وقبّلوا السياط التي تلهبون بها ظهورهم؟
* * *
من أنتما أيها الإنسانان وما شأنكما؟ هل كان بينكما حاجز عرضه ثلاثمئة سنة فلم تلتقيا في الحياة، وجمع بينكما الموت الذي تُختصَر فيه المسافات وتلتقي فيه الأزمنة والأوقات؟ أأنتما هنا لتقولا: إن المُلك والغنى، والمجد والجاه، والفتنة والجمال، كل أولئك أثواب تُلبَس وتُخلَع، ولا يبقى للإنسان من دنياه إلا ما قَدّمَ من عمل، ينال به النعيم الخالد أو يَصلَى به النار الباقية؟
ألا ليت الناس يذكرون أبداً هذا المصير!
* * *