الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تسعة قروش
نشرت سنة 1948
من أسبوعين ابتُليت من أولادي بِبَلِيّة، هي أني كلما دخلت الدار تعلقوا بي طالبين تمثال «العبد الأسود ذي الطربوش الأحمر» . وأنا لا أدري ما هذا التمثال ولا أعرف من أين آتيهم به، وهم يُلِحّون، لا يشغلهم عنه شيء من غالي اللعَب ونادر الطُّرَف، حتى كرَّهوا إليّ البقاء في البيت.
وكنت مرة خارجاً إلى عملي مستعجلاً، فوجدت بائعاً يحمل هذه التماثيل ينادي:"الواحد بقرش"، ففرحت به فرح الضالّ في البادية يرى معالم الطريق، واشتريت تمثالين وحملتهما معتزّاً بهما كأني أحمل كنزاً، وعدت بهما. حتى إذا دنوت من الدار وجدت ولدين صغيرين قاعدين في ظل جدار، فلما أبصرا التمثالين برقت عيناهما، ودنا رأساهما في همس، وارتفعت يداهما في إشارة خفية متهيبة، وشَخَص بصراهما كما يفعل شابان غريران طلعت عليهما من الطريقة فتاة فتّانة، وقاما فتبعاني وعيونهما معلقة بالتماثيل. فلما رأيت ذلك منهما فكّرت أن أدفعها إليهما، ولكني خشيت أن أرجع فلا أرى البائع، وتخيلت رغبة أولادي فيها فلم تطب نفسي أن أحرمهم هذه المتعة، ولم أستطع الإعراض عن
الولدين الفقيرين، فدعوتهما فدفعت إليهما قرشين وقلت لهما: هو ذا البائع، فالحقاه فاشتريا مثلهما، الواحد بقرش.
فأخذا القرشين، وعهدي بمثلهما أن القرش الصاغ ثروة له لا يناله إلا بشقّ النفس، فما حفلا بهما ولا هشَّا لهما، ولبثا شاخصَين في التمثالين كأنهما لم يريا القرشين ولم يسمعا الكلام، أو كأن عقلهما فارقهما فاستقر على ما في يدي فلم يفهما كلامي. وحاولت نسيانهما وسرت، فتبعاني كأنهما كلبان، وكنت أحس بحرّ نظراتهما على ظهري وبثقلها على روحي فأهم أن أمد يدي باللعب إليهما، ثم تدركني محبة الولد فأكف، حتى وصلت الدار وصورتهما أمام عيني، تمنع عنهما رؤية فرحة أولادي باللعب وتواثبهم إليها.
ولما خرجت وجدت الولدين لا يزالان في الطريق يفتّشان عن البائع، يعدوان هنا وهناك كأم أضاعت طفلها ولا تدري أية سبيل سلك، فدعوتهما فأفرخت روعهما وسألتهما عن اسميها، فمشيا معي، فما درت مع الطريق دورة حتى لقيت البائع أمامي، فاشتريت لهما تمثالين وتركت لهما القرشين، ووجدت حول البائع أولاداً مثلهما، فقلت له: أعطِ كل ولد تمثالاً (1).
وكانوا تسعة، فدفعت إليه تسعة قروش.
* * *
(1) الأصل في التمثال أنه ما نُحت من حجر أو صُوِّر من طين أو نحاس أو سواه، ويكون على هيئة إنسان أو حيوان، وهذا محرَّم صُنعُه وبيعه واقتناؤه، وقد كان مذهب علي الطنطاوي التشدد فيه، فلم =
هل تصدقون (أو أحلف لكم) أنّي لما نظرت في وجوه الأولاد وقد بدا فيها بهاء الفرح، وما عرفَت هذه الوجوه الفرح قط، ولاحت عليها سمات الطفولة الراضية الشاكرة، وما كان يلوح عليها إلا الألم والحقد المرير، وأشرق عليها نور إلهي سطع من وراء ما حملت من الأوساخ والأقذار، ولما رأيت عيون الأمهات الواقفات تدمع وألسنة الرجال الواقفين تدعو، أحسست في قلبي بفرحة لا تعدلها فرحة الجائع بالمائدة الملوكية المترعة، ولا الضَّجِر بالقصة العبقرية الممتعة، ولا المحب المدنف بلقاء الحبيب بعد طول الهجران.
لا والله، فتلك أفراح أرضية وهذه فرحة سماوية، قد تعيش آلاف البشر وتموت ولا تحس مثلها. وشعرت كأني كبرت في عين نفسي، وأني صرت أقوى وأقدر، وأني نلت الأمانيّ ومُتِّعْتُ بالخلود.
إننا ننفق كثيراً من المال نشتري به يسير المُتَع، وهذي متعة
= يُبِحْ قَطّ لا لنفسه ولا لأحد من أهله أن يعرض في بيته مجسَّماً على هيئة حي من الأحياء. بل إنه كان ممن جهر بإنكار مُنكَر بدأ ينتشر في زمانه، فنهى الناس عن نصب التماثيل في الطرقات تعظيماً -كما يزعمون- للزعماء والكُبَراء. انظر مقالة «لا نريد تماثيل» في كتاب «كلمات صغيرة» ، وراجع حديثه عن مقالة «لا تماثيل في الإسلام» في الحلقة 102 من «الذكريات» (في الجزء الرابع، ص39 وما بعدها). وإنما استطردت هذا الاستطراد لئلا يظن قارئٌ أن جدي رحمه الله اشترى لبناته تماثيل حقيقية، وما هي إلا لُعَب من لعب الأطفال، سمّاها تماثيل من باب الفصاحة في التعبير لا غير (مجاهد).
ما يكاد يجد الإنسان مثلها نلتها بتسعة قروش. وما تسعة قروش بالنسبة لي؟ إنها شيء كالعدم، شيء لا يغنيني وجوده ولا يفقرني فقده، فهل تحبون أن تشتروا مثل هذه المتعة؟ هل تحبون أن تعرفوا ما هي لذة الروح وما هي راحة القلب؟ هل تريدون أن تذوقوا نعيم الجنة وأنتم في الدنيا؟
لا تحسبوا أني أصُفُّ كلاماً وأرصفُ ألفاظاً، إني والله أسوق لكم حقائق. فإن أردتم معرفتها ففتّشوا حولكم عن هذه الطفولة المحرومة وهذه النفوس المعذَّبة، ثم أوْلوها الإحسان.
وليست قيمة الإحسان بكثرة المال؛ إن المال ينفع الفقيرَ ولكنه لا ينزع من قلبه النقمة على الحياة ولا يَسْتَلُّ منها بغض الأغنياء ولا يملؤها بالحب. إن الذي يفعل هذا كلَّه هو العطف، وأن تُشعر الفقير بأنه مثلك، وأن تعيد إليه كرامته وعزة نفسه. ورُبّ تحية صادقة تلقيها على سائل أحب إليه من درهم، ودرهم تعطيه فقيراً وأنت تصافحه يكون آثَرَ عنده من دينار تدفعه إليه متكبراً مترفعاً، يدك تمتد إليه بالمال ووجهك يجرّعه كأسَ الإذلال.
إن كل غني يستطيع أن يتصدق بالكثير، ولكن غنيّ القلب بالإنسانية والنبل والحب هو الذي يستطيع أن يتصدق -مع المال- بالعاطفة المنعشة؛ فلا تضنّوا على الفقراء بإنسانيتكم، ولا تبخلوا عليهم بعطاء قلوبكم، وذكّروهم أنهم لا يزالون معدودين من البشر، وأنهم مثلكم لأب واحد ولأم واحدة، لآدم وحواء، وأنهم لم ينحدروا إلى دركة الدواب والبهائم.
ذكّروهم بهذه الحقيقة التي طالما نسيتموها أنتم، ونسوها هم
أنفسهم. ولِمَ لا ينسونها وهم يعيشون كما تعيش البهائم: ينامون مثلها على الأقذار، في الأكواخ والحقول وفي الأزِقّة المعتمة وفي الخرائب المهجورة، ويأكلون مثلها من فضلات الناس، ويشربون مثلها من البِرَك الآسنة والأنهار العَكِرة، ولمْ ينالوا تعليماً يرفعهم عنها ولا مدنية تميزهم منها؛ يسهرون في عصر الكهرباء على السُّرُج والقناديل، ويركبون في عهد الطيران على العربات التي تجرها الحمير، ويسكنون في الأكواخ على التراب في زمان ناطحات السحاب. ومن تشبّهَ منهم بالناس المتحضرين لم يكد يصل إلى مثل حضارة الإنسانية الأولى، يحلق مثل الناس، ولكنه يقعد على الأرض، على رصيف الشارع، وبيده مرآه مكسورة يرى فيها وجهه، والصابون القذر يغطيه، وموسى الحلاّق المفلولة تجري فيه، والدم ينبثق من نواحيه، ثم تمر على هذا الوجه البشري ممسحة لا ترضونها أنتم والله لمسح أحذيتكم! ويركبون مثلما يركب الناس، ولكن على عربات الكارو، العشرة على متر مربع من الخشب، محمولين على دولابين من الحديد يسحبه حيوان هزيل، والعربة ترتَجّ بهم فترقّص مِعَدَهم وتزلزل أمعاءهم، ثم لا تصل بهم إلى نهاية الميل الواحد إلا بعد ساعة! ولهم قهوات، ولكن قهواتهم إصطبلات فيها ركائز تسمى مناضد أمامها عيدان تُدعى كراسي! ولهم مطاعم، ولكن مطاعمهم يقدَّم فيها المرض في طِباق قذرة.
فتداركوهم قبل أن يكفروا بالإنسان فينقلبوا حرباً عليه، حرباً ليس معها أمان. أشعروهم أنه لا يزال في الدنيا فضل وعدل ونبل. لِيَجُدْ كل واحد منكم على مَن هو دونه، لا بالمال وحده، بل
بالعاطفة والتواضع والإنسانية: الرئيس على المرؤوس، والوزير على الوكيل، والوكيل على المدير، والضابط على العريف، والعريف على الجندي
…
فإن كل واحد من هؤلاء هو اليومَ عبدٌ لمَن هو أعلى منه وفرعون على ما هو دونه، يتكبر عليه مَن هو فوقه ويتكّبر هو على من تحته، حتى إن الشرطي ليطغى على البائع المتجول، والبائع يطغى على امرأته، والمرأة على ولدها، والولد على القطة يضربها بالعصا أو الكلب يرميه بحجر
…
كلٌّ يحاول أن يَظلم كما ظُلم، والمجرم الأكبر هو الظالم الأول. إنهم كالحيوانات: الجرادة تأكل البعوض، والعصفور يأكل الجرادة، والحية تقتل العصفور، والقنفذ يقتل الحية، والثعلب يسطو على القنفذ، والذئب يسطو على الثعلب، والأسد يفترس الذئب، والإنسان يقتل الأسد، والبعوضة تقتل الإنسان، فتُغلق الحلقة على عدوان بعد عدوان.
كم تلقون كل يوم ممّن هم دونكم، فلا تتفضلون بالالتفات إليهم ولا تفكرون فيهم ولا تشعرون بوجودهم، ثم تتألمون إذا أعرض عنكم من هو فوقكم وتجاهل مكانكم، وترون ذلك جرحاً لشعوركم وكسراً لقلوبكم! فلماذا تطلبون ممن فوقكم ما لا تعطونه من هم دونكم؟ أليس لهؤلاء نفوس تحس وقلوب تتألم؟
مررت أمس بسائلة على شاطئ النيل الصغير، في الروضة، وأمامها بنت لها تحبو، وصلت إلى كومة أوساخ فنبشت فيها حتى وجدت بقية لعبة فحملتها فَرِحة بها وعادت إلى أمها مستبشرة، فأخذتها منها أمها ومسحتها وحاولت أن تصلحها وتعيد الحياة
إليها، وقد فارقتها الحياة منذ أزمان. فلويت وجهي ألماً من منظر هذه القذارة، ثم عدت ألوم نفسي وأسائلها: ما ذنب هذه الأم إذا أحبت ابنتها وأرادت إسعادها؟ وما ذنب هذه البنت إذا طالبت بحق الطفولة الطبيعي باللعب؟
لماذا أشتري لبناتي كل أسبوع لعبة، ولم يخطر على بالي أبداً أن في البلد أطفالاً لا يجدون لعباً؟ نحسب أننا إذا أطعمنا أطفال الفقراء الخبز فقد أدَّينا حق الله وحق المروءة والإنسانية علينا، ولكن الطفل لا يكفيه الخبز ولا يرضيه، وهو يرى أطفال الناس يمرون به كل ساعة وعليهم أبهى الثياب ومعهم أغلى اللعب. إنه بين أمرين: إما أن يتبلد حسه وتموت نفسه، فلا يطمح أن يجاري هؤلاء ولا يأمل أن يكون مثلهم أبداً، فينشأ ضعيف الهمة ذليلاً مَهيناً، فيكون من أسباب ضعف هذه الأمة وهوانها على الأمم؛ وإمّا أن يثور ويغضب ويمتلئ قلبه الصغير حقداً، ثم يكبر ويكبر الحقد معه حتى يكون عدواً للمجتمع ونقمة على الناس، يظلمهم كما ظلموه، يسرق من يستطيع سرقة ماله، ويُزهق روح من يتمكن من إزهاق روحه، وينشر الفساد في الأرض.
فلماذا نجعل من هؤلاء الأطفال أعداء لنا؟ لماذا لا نحبهم فنعلمهم الحب؟
أليسوا أزهاراً في روض الحياة؟ أليست كل زهرة حلوة ولو علاها الغبار؟ أليس كل صغير جميلاً ولو كان قطاً أو كلباً؟ أفنحبّ القطة الصغيرة ونمسحها ونضعها على الأحضان ونكره هؤلاء الأطفال؟ وما لهم؟ ألأنهم قُذْر الوجوه والثياب؟ إن القذارة لا تُحَب، ولكن هذا ذنب أمهاتهم، لا يغسلن وجوههم وهنّ
على النيل! لا، بل هو ذنبي وذنب كل واحد منكم وذنب الكُتّاب وأولي الأمر، إنهم لم يعلموا هؤلاء الأمهات النظافة، ولم يقل لهن أحد إن النظافة لازمة والوساخة مؤذية. ومن يقول لهن، وهن شحّادات على الطرقات، لا يكلمنَ أحداً بغير السؤال ولا يكلمهن أحدٌ أبداً؟
وما يدريني أن ابنتي أو ابنة أحدكم (لا سمح الله) ستلقى مثل هذا المصير؟ مَن منا أخذ على الدهر عهداً أن لا يزيل عنه نعمة؟ هل أَمِنّا المرض والفقر؟ هل أوقفنا حركة الفلك؟
وهل نسينا أن في الوجود إلهاً وأن بعد الدنيا آخرة؟ فكيف سوّغنا لأنفسنا -مع هذا كله- إهمالَ هذه «الإنسانية» الصغيرة المبرَّأة الطاهرة؟ لقد كان فينا مقلّدون متحذلقون ألّفوا جمعيات للرفق بالحيوان، ولكن لم ينشأ فينا إلى اليوم من يؤلف جمعية للرفق بالإنسان؟ لقد بلغ الخزي من نفوسنا أن وُجد فينا أناس يطعمون الكلاب المدللة اللحم السمين والشكلاطة الغالية، وحولهم بشر لا يأكلون اللحم مرة في الشهر ولا يتذوقون الشكلاطة أبداً!
* * *
إذا شئتم أن تذوقوا أجمل لذائذ الدنيا وأحلى أفراح القلوب، فجودوا بالحب وبالعواطف كما تجودون بالمال.
* * *