الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين الطبيعة والله
نُشرت مستهلّ سنة 1938
انصرف الطلاب إلى النوم حين سمعوا الساعة الكبيرة تطنّ عشرَ طَنّات، وخَلَتْ ردهة المكتبة ونشر عليها الصمتُ أجنحتَه السود، فلم أكن ألمح في خلاله إلا رنين طنّات الساعة وأصداء أصوات الطلاب الذين كانوا هنا منذ لحظة واحدة يتسامرون ويتحدثون، ترنّ هذه الأصداء في أذني، فإذا أنا أراها بعيني تتراقص بين طيات الصمت الأسود حتى تنحدر إلى أغواره العميقة، ويشمل السكوت الرهيب أبنية التدريس في كلية بيروت الشرعية، ويتمدد في أنحائها وغرفها وممراتها (1).
(1) أمضى جدي رحمه الله سنة 1937 في بيروت مدرّساً في كليتها الشرعية. وقد وصف في ذكرياته الجوَّ النفسي الذي كان فيه يوم كتب هذه المقالة، فقال:"في مستهلّ عام 1938 كنت مدرّساً في الكلية الشرعية في بيروت التي تُدعى الآن «أزهر لبنان»، فكتبت مقالة طويلة فيها فلسفة وفيها فكر وفيها شعور، وفيها كلام جميل فارغ من الفكر ومن الشعور، وصفت فيها كيف دقّت الساعة آخر دقاتها في عام 1937 وانتهت بانتهائها الدروس في ذلك اليوم، فابتدر الطلابُ الأبوابَ وبقيت وحدي أصغي إلى خرير نهر الزمان من وراء جدار الصمت"
…
انظر الذكريات: 3/ 245 وما بعدها (مجاهد).
فجلست أصغي إلى أناشيد الصمت التي كانت تُسمَع من حولي باستمرار، فأجدها تملأ قلبي مرارةً وأسى. ثم رفعت رأسي فُجاءةً إلى التقويم فنظرت فيه وجمد بصري عليه. أمن الممكن هذا؟ أيحدث هذا كله في هدوء؟ يموت في هذه الليلة عامٌ ويولَد عام، يمضي الراحل بذكرياتنا وآلامنا وآمالنا إلى حيث لا يعود أبداً، ويُقبل القادم فاتحاً ذراعيه ليأخذ قطعة من نفوسنا وقسماً من حياتنا، ولا يعطينا بدلاً منها شيئاً. وهل الحياة إلا أعوام فوق أعوام؟ وهل النفوس إلا الذكريات واللذائذ والآلام؟
وجلست بين المأتم والمولد أفكر وأتذكر وأحلم. ولقد تعودّت أن أجلس هذه الجلسة كلما تصرّم عام، أُصفّي حسابي مع الحياة، أنظر ماذا أخذَتْ وماذا أعطَتْ، وأراقب هذه القافلة من السنين التي بدأت مسيرها منذ
…
منذ بدأ الزمان، ولست أدري متى بدأ الزمان، والتي تنتهي إلى حيث لا يدري أحد.
تعودّت أن أعطي نفسي من فكري ساعة في العام، أفكر فيها في نفسي وفي الوجود (1).
* * *
نظرت فلم أجد حولي إلا كتاب التفسير أحضّر منه درسي
(1) انظر المقالة الأولى في هذا الكتاب، وانظر فيه أيضاً مقالة «بيني وبين نفسي» ، وانظر في كتاب «من حديث النفس» مقالات «على أبواب الثلاثين» و «على عتبة الأربعين» و «بعد الخمسين» ، وفي «الذكريات» حلقات متفرقة في المعنى نفسه، انظر منها -على سبيل المثال- الحلقة 106، وهي في الجزء الرابع (مجاهد).
الذي سألقيه غداً، وكتب البلاغة التي أكسّر بها دماغي وأدمغة الطلاب من غير طائل، فنحّيتها كلها. ووجدت ركام «الوظائف» التي يجب عليّ أن أنظر فيها وأصححها، وأقرأ كل ما تفيض به هذه القرائح الفتيّة من سخف وهُراء يدعوه أصحابه «إنشاء» ، فبعثرتها في غيظ وحنق.
أنا في هذا البلاء منذ عشر سنين. عشر سنين، يا له من دهر طويل! كان ربيع حياتي وزهرة شبابي، أضعته كله في هذا العناء، فماذا استفدت؟ لا شيء إلا أنْ أحرقت نفسي كالشمعة لأضيء لهؤلاء الفتية طريقَهم إلى المجد، هؤلاء الذين أحببتهم وأخلصت لهم الحب، وعشت بهم دهراً ولهم، واعتصرت لهم ماء شبابي، ثم فرّق الزمان بيني وبينهم، فلم أعرف مكانهم من الشام أو العراق، ولم يعرفوا مكاني لأنهم لم يفكروا في أن يعرفوه.
فأنا أحترق كالشمعة! يا للحقيقة المرّة المروِّعة! يا لشمعة شبابي التي ذوت وخبت وأوشكت أن تنطفئ!
إني أعيش في العدم، أعيش في الماضي بالذكرى وفي المستقبل بالأمل، مع أن الحاضر وحدَه هو الموجود. لقد مضى الأمس إلى حيث لا رجعة، ولن يأتي المستقبل أبداً. وأين هو هذا المستقبل؟ ومَن ذا الذي يستطيع أن يصل إليه؟ لقد جلست في مثل هذه الليلة من العام الذي يموت الآن في شرفة منزلي بالأعظمية (في بغداد) أحلم بالمستقبل، بهذه السنة التي كانت مستقبلي، أسعى إليها وأؤمل أن أدركها، فلما أدركتها صارت حاضراً وطفقت أعدو إلى مستقبل آخر! إنني كالثور يسعى ليدرك حزمة الحشيش التي يراها على شبر واحد منه، فيُهلكه السعي ولا
ينالها أبداً، لأنها معلَّقة بقرنَيه تسعى أمامه!
يومض شعاع الأمل من بين فرج الغد، فنسعى فلا نجده إلا سراباً. إن الأمل مصباح لا يضيء إلا من بعيد. أفليس من سخافات الفكر الإنساني أن يضع في اللغة كلمة «الأمل» ولفظ «المستقبل» ؟ أليس وجودهما في المعاجم دليلاً على أننا لم ندرك بعدُ حقائقَ الحياة؟
لقد كنت في الأعظمية غبياً جاهلاً لأني كنت مطمئناً متفائلاً! كنت كلما ودعت بالخيبة عاماً انتظرتُ آمالي عند آخر، ولكني صحوت الآن، فلا آسَفُ على ماضٍ ولا أؤمل في مستقبل.
لقد قُدر عليّ ألاّ أشهد ولادة العام إلا غريباً عن موطني بعيداً عن أهلي، تارة في مصر، ومرة بالحجاز، وحيناً في العراق. وهأنَذا الآن غريب من جهتين: هذا السد الهائل من الجبال، جبال لبنان، بيني وبين إخوتي في دمشق، وهذا البحر الواسع بيني وبين أخي في باريس؛ والدهر والأبدية بيني وبين آمالي، والقبر بيني وبين والديّ (1)
…
وأنا -بعد هذا كله- غارق في كتب البلاغة
(1) كانت قد مضت ستُّ سنين على وفاة أمه يوم كتب هذه المقالة، وأخوه عبد الغني سافر إلى باريس من قريب (انظر مقالة «إلى أخي النّازح إلى باريس»، وقد مضت في هذا الكتاب)، وبقي له في الشام أخوان وأختان يزورهم في كل أسبوع يومين، قال في الذكريات:"كنت أقضي ثلثَي الأسبوع في بيروت وثلثه في دمشق"، وأخباره في بيروت في تلك السنة مبسوطة في حلقتَي الذكريات 103 و104 (في أول الجزء الرابع)(مجاهد).
ووظائف الإنشاء، نسيت مشروعاتي الأدبية التي رسمت خططها وأقمت أسسها، وأهملت بحوثي ومطالعاتي، وبعت ذكائي ومواهبي وشبابي برغيف من الخبز!
هذا ما قُدر عليّ، وإني راضٍ بما قدر.
* * *
إني أعيش بلا غاية، ولكنّ غايتي أن أعيش، أن أثبت وجودي في هذه الدنيا، كتلميذ كسلان ما جاء ليتعلم ولكن ليُعَدّ في التفقد موجوداً، أو موظف خامل مقصِّر. فلماذا إذن أعيش؟ ألأن لي حق الحياة؟ فلماذا لا يكون لي إذن حق الموت؟ ألا أملك أنا أمر نفسي؟ ولكن من أنا؟ ومن نفسي؟ أأنا اثنان في واحد؟ إني لا أستطيع التفكير في هذا.
وملأ نفسي الشعور بالوحشة، وأحسست في نفسي وفيما حولي فراغاً مخيفاً، وشعرت كأن الغرفة تتسع ثم تتسع حتى صار بين الجدران فضاء لا يدركه البصر! ثم ضاق بي الفضاء حتى كدت أختنق فيه، فخرجت إلى الشارع، وكان مَوْهناً من الليل.
* * *
تركت ميدان البرج يضحك بالكهرباء ويرقص على ألحان الأشعة التي تنسكب على الميدان من ذُرى البُنى الرفيعة، فتغمره بجو فاتن وتسيل على جوانبه، وتنسج فوقه شبكة منسوجة من ملايين الخيوط الملونة بمئات الألوان. وتركت الناس يحتفلون بعيد رأس السنة، لا يتأملون معاني الوجود وفلسفة الوجود
وحقيقة الزمان، بل يبتغون المُتَع الرخيصة واللّذائذ الواطية في هذه المراقص الخليعة الغارقة في الخمر والعهر. ويمّمت شطر البحر، أمشي في الطرق المظلمة المنعزلة الخالية إلا من أعقاب السابلة ممن هو حليف البؤس أو الرذيلة، لعلّي حين فقدت الأنس بالناس أجد الأنس بالطبيعة
…
وخلا الجو لفكري فانطلق.
قالت النفس: إن العام يموت، أفلا نودّعه بحسرة أو نسكب على جدثه عَبْرة؟
فلم يعرف العقل ما هو الموت ولم يصدق بوجوده. قال العقل: ما هو الموت؟ إنْ كان انتقالاً من حال إلى حال فليس موتاً، وإن كان الموت عَدَماً فإن العدم ليس له وجود أبداً.
قلت: ولكن أبي قد مات.
قال: لا، إنه لم يمت؛ إنك تذكره ويعيش حياً في ذاكرتك.
قلت: إن العام يموت الآن!
قال العقل: إن العام 365 يوماً وبعضٌ من اليوم هو خمس ساعات، و48 دقيقة وبعضٌ منها هو 51 ثانية، وبعض الثانية، فلنفرض هذا البعض 20 ثالثة، وبعض الثالثة، ولنفرض أنه 30 رابعة، وبعض الرابعة، فلنفرض هذا البعضَ 25 خامسة (1)
(1) قياس الأزمان الدقيقة يمكن أن يكون بالثواني والثوالث وأجزائها، حيث تُقسَّم كل وَحْدة زمنية إلى ستين جزءاً من الوحدات الأصغر، ففي الساعة ستون دقيقة، والدقيقة ستون ثانية، والثانية ستون ثالثة والثالثة ستون رابعة، إلخ. وهذا الأسلوب في القياس غير=
وبعضاً
…
وهكذا يمشي العقل حتى يصل إلى أصغر الأجزاء الزمنية، ولكنه لا يزال يمشي ولا ينتهي أبداً. إن عام الهجرة مثلاً لا تزال له بقية في الوجود، أجزاء من الزمن بالغةٌ في الصغر حداً لا يدركه العقل ولكن تدركه الذاكرة. إن هذه البقايا هي ذكريات الأعوام الماضية في نَفَس العام الجديد (1).
قلت: إني لم أفهم شيئاً!
وقفز عقلي فجأة من أجزاء الزمن الصغيرة إلى الزمان المطلق، وراح يمشي على هذا الخط الطويل يقطعه في لحظة، ولكنه لا يستطيع أن يبلغ طرفيه، فلا يَني يحاول بلوغَهما ولا ينقطع عن السؤال: إلى أين ينتهي هذا الخط؟ من أين يبدأ؟ أليست له نهاية؟ ما هي اللانهاية؟
وذهب العقل يفكر: إن عمر عشر حشرات ساعة من عمري، وعمر عشرة رجال ساعة من عمر الصحراء، وعمر الصحارى
= شائع في الكتابات العلمية، بل الشائع هو التقسيم العشري للثانية (التي صارت هي وَحْدة الزمن القياسية في النظام العالمي «SI»)، فجزء من ألفٍ من الثانية هو ملّيثانية، وجزء من مليون منها هو مايكروثانية، والنانوثانية جزء من بليون، والبيكوثانية جزء من ألف بليون (تريليون)، ثم الفمتوثانية، فالأتّوثانية، إلخ. وقل مثل ذلك في قياس الكتلة: غرام وملّيغرام ومايكروغرام، والمسافة: متر وملّيمتر ومايكرومتر
…
(مجاهد).
(1)
ليس لهذا التصوير الفلسفي معنى لأن الزمن كله ينقضي، سواء أكان طويلاً أم قصيراً، فإذا انقضت أيامُ العام المنصرم وساعاته ودقائقه، فلماذا لا تنقضي ثوانيه وثوالثه وروابعه؟ (مجاهد).
كلها ساعة من عمر الشمس
…
فما هي الساعة إذن؟ ما هو العام؟ ما هي حقيقة الزمان؟ وما هو المكان؟ إني لم أرَ مكاناً قط، ولم أرَ إلا موجودات لا أعرف نهايتها ولا أدرك آخرها. فكيف لي أن أرى مكاناً ليس فيه شيء؟ ما حقيقة المكان والزمان؟ ما عمرهما؟ ماذا وراءهما؟ ألا أستطيع أن أعرف هذا العالم الهائل، الذي تحجبه عن عيني هذه الطبيعة كما تحجب الكفُّ الدنيا الواسعةَ وهي كف واحدة؟ (1).
وضجرت من هذه الفلسفة، فانصرفت عن العقل وتركته يهذي وحده. وكنت قد بلغت البحر، فوقفت في حِجْر الطبيعة أتأمل وأناجي وأحلم.
لقد نفضت يدي من الناس ولجأت إلى هذه الطبيعة السخيّة
(1) حين ذكر هذه المقالة في «الذكريات» ونقل منها فقرات قال في هذا الموضع: "إنني أعرف أشياء كثيرة تملأ المكان، ولكن ما هو المكان؟ وحوادث كثيرة على مدى الزمان، ولكن ما هو الزمان؟ فإذا كنت لا أعرف روحي التي أعيش بها، لا أدري ما هي، ولا أدري ما الزمان الذي هو رأس مالي ولا المكان، فما سعيُنا وما عملنا؟ ألسنا مثل القافلة التي جُنّ أهلوها فانطلقوا يركضون، لا يعرفون من أين جاؤوا ولا إلى أين يذهبون، ولا يهدؤون إلا إذا هدّهم التعب فسقطوا كالقتلى نائمين؟ كذلك نحن إذ نعدو على طريق الحياة، نتسابق كالمجانين ولكن لا ندري علامَ نتسابق؛ نعمل أبداً من اللحظة التي نفتح فيها عيوننا في الصباح إلى أن يغلقها النعاس في المساء، نعمل كل شيء إلا أن نفكر في أنفسنا أو ننظر من أين جئنا وإلى أين المصير! إن كل ما في الدنيا يذهب إن ذهبنا، لا يبقى لنا إلا ما قدّمنا لآخرتنا". انظر الذكريات: 3/ 251 (مجاهد).
الوفيّة الوادعة الجميلة لأجد عندها أنس نفسي وراحة قلبي، أنظر إليها فتَمَّحي هذه الأبعاد والمسافات التي تفصل بيني وبين أهلي، وتبدو لعيني حافلةً بالألوان التي لا يستطيع أبرع مصوِّر (1) أن يجمعها في لوحة. ومَن -لَعَمْري- يصوّر ألوان الغروب أو ألوان الزهر في الروض، أو يثبتها على لوحة بالألفاظ والأوزان أو بالأصبغة والألوان؟ إن الطبيعة أبرع في الألوان، ولكن الفن البشري أبرع في الأصوات. إن الطبيعة ليست موسيقية فنانة ولكن عندها من الألوان ما لا نهاية له. وهل عندها إلا هدير الموج، وخرير النهر، وحفيف الأشجار، وتغريد البلابل، وسجع الحمام، وقصف الرعد
…
هذه موسيقاها، ومن هنا كانت الموسيقى أسمى الفنون لأنها ابتكار وتجديد، على حين أن الأدب والتصوير تقليد.
هذه الطبيعة التي أجد في حِماها الحب والعاطفة والجمال كلما لجأت إليها فراراً من الناس وضيقاً بالحياة. وما ذهبت مرة إلى بَسِّيمَة (2) وأطللت على هذا الوادي الصغير الذي يشبه همسة حلوة من همسات الحب أو بيتاً بارعاً من قصيدة الجمال إلا
(1) يريد «الرسّام» ، ويسميه جدي دائماً «المصوِّر» ، وإذا أراد ما ندعوه اليومَ صُوَرة (أي مما تلتقطه آلات التصوير) وصفها بالصورة الضوئية أو صورة الفوتوغراف (مجاهد).
(2)
قرية حلوة صغيرة مختبئة بين الجبال على القرب من العين الخضراء، وقد كانت مُصطاف الشاميين القريب ومتنزّههم الفاتن الحبيب، فأفسدتها «المدنية!» حين حولتها إلى حانات وخمارات وجعلتها معابد للشيطان!
نسيت الدنيا كلها؛ هذا الوادي الذي تجري فيه العين الخضراء ليّنةَ الأعطاف فاتنةَ المحاسن، كأنها فتاة مدللة تَخطِر بحسنها وفتنتها على سفح الجبل، تغمز بردى بعينها وتغريه بجمالها، وهو يلحقها جرياً في بطن الوادي متحدّراً متكسّراً كشابّ قوي متين العود جهير الصوت، قد اكتملت رجولته كما اكتملت أنوثتها، وأشجار الحَور «حُور كواشف عن ساق» يرقصن في عرس الفتاة المدللة والفتى القوي رقصة الحب، يتمايلن على العروسين وقد تعانقا بعد قليل وضم الفتى عروسه حتى اختفت بين ذراعيه وطار بها إلى دمشق، لتكون جلوتها في الغوطة جنة الأرض. وهذه الجبال الحمراء تقوم على الباب، تحرس الوادي أن يدخله واشٍ أو عَذول يفجأ العروسين العاشقين، وتمنع الشمسَ الملتهبة أن تدنو منهما أو تعكر عليهما خلوتهما، فيبقى الوادي جنة تجري من تحتها الأنهار، والدنيا من حوله في جحيم الصيف.
* * *
غبت في تأملي وأنا على شاطئ البحر، فلم ينبّهني إلا المطر يَسّاقط على وجهي ويديّ، فنظرت فإذا السحب قد نسجت في السماء ليلاً آخر، وإذا المطر يهبط متلاحقاً ثم يستحيل بَرَداً طيّاشاً، ثم تهب الريح وتُجَنّ الطبيعة جنونها، فتنطلق تُعَوّل وتولول وتنتف شعرها وتحطم كل ما بلغته يدها، فماجت نفسي واضطربت كهذا البحر الذي يزمجر ويلكم صخورَ الشاطئ حتى تكلّ سواعده، فيستلقي على الرمال، فلا تكون إلا لحظة حتى ينزل سوط الريح على ظهره دِراكاً، فيهب فزعاً مرتاعاً ويعود إلى ضرب الصخر في غير ما طائل، والريح تُدير هذه المعركة
كلها، تقفز على رؤوس الجبال، وتبعثر البَرَد يميناً وشمالاً، وتنثر السحائب ثم تجمعها ثم تعبث بها.
جُنَّت الطبيعة جنونها، ولكني لم أخَفْها ولم تكبر في عيني، وإنما ازدريتها وأبغضتها! ما هذه المخلوقات الضعيفة العاجزة التي لا يدري بها أحدٌ من سكان هذا الكون الواسع؟ لقد رأيتها من قمة لبنان نقطة، فكيف يراها كوكب المشتري؟ وهل يعبأ نجم القطب بثورتها وجنونها؟
وانصرفت إلى نفسي أفكر آسفاً.
إن العام يتصرّم وليس حولي صديق أطمئن إليه وأحمل معه أعباء الوداع، وأشاركه دمعة يذرفها معي على الفقيد الراحل وبسمة يمنحها هذا المولود الجديد. عرفت أن الصداقة ليس لها وجود عند الناس فنفضت يدي منهم، ولجأت إلى الطبيعة أتخذها صديقي المخلص وأوليها حبي وقلبي، فكانت هذه هي النتيجة. صادقت مجنونة طَيَّاشة بَطّاشة لا تعرف إلا التخريب والتدمير وتجهل ما هو الحق وما هو الشعور!
أهذا كل ما لي عندك يا صديقتي؟ ألجأ إليك في ساعة من أحرج ساعات حياتي، قد تركت فيها أهلي وعِفْتُ صحبي، لألقي بنفسي بين أحضانك وأنشق عطرك، وأغتسل بعبير محبتك وأدفن آلامي في صدرك، فلا تلقينني إلا بهذا الجنون وهذا العويل؟
كلا، إنك لا تعرفين الحق ولا الشعور!
* * *
وأين -لعمري- مكان الشعور من الطبيعة؟
أنا أشعر بجمال الربيع، ولكن هل يشعر الربيع بجمال نفسه؟ لقد رأت الكونتيسة دي نواي في الطبيعة مخلوقاً حياً ذا شعور، وعانقت الربيع وجالست المساء، ولكن ماذا رأى الربيع في الكونتيسة دي نواي؟ هل يفرّق الربيع بين الفتاة تقطف الزهرة لتقدمها بفمها إلى حبيبها، والبقرة تقطف الورقة لتملأ بها معدتها؟
وأنت أيها الجبل: كم رأيت من الفواجع التي تفتت الأكباد وتذيب القلوب، فهل شعرت بشيء منها؟ هل حزنت؟ هل تألمت؟ أشعرت بالأمس القريب يوم عصفت الأثرة برؤوس نفر من القُوّاد، فأطفؤوا بأفواههم شعلة السلام وملؤوا العالم ظلاماً، ونزعوا الرؤوس من أكتاف أصحابها، ثم نهضوا يبنون من الجماجم مجدهم في التاريخ، فلما امتلأت الأرض بالجثث وغسلت بالدموع، وتجلببت بالآلام والأوجاع والثكل واليتم، ولما سهرت الأمهات يبكين أبناءهن الذين ضاعت قبورُهم كما ضاعت أسماؤهم، وعكف الأطفال يهتفون:"بابا"! ينادون مَن ليس يجيب، كان القواد العظماء يحتفلون بالظفر
…
أشعرت بشيء من ذلك يا لبنان؟ أشعرت بالأرامل والصبايا والأطفال يفتشون عن الخبز، الخبز الأسود، فلما لم يجدوه توسدوا رِجْلَك ونظروا إليك صامتين، ثم ماتوا جائعين كما مات ألوف وألوف في سبيل مجد القواد الظافرين؟ ألانَ قلبُك الذي قُدَّ من جلمد الصخر؟ أذرفتَ -يا لبنان- من عيونك الصافية دمعة حنان؟
وكم رأيت -يا لبنان- من متع الحب، وكم أوى إليك
العاشقون فاستظلوا بظلك وتعانقوا في حِجْرك، وشربوا خمر العيون وسكروا بنجوى الحب
…
أأهاج ذلك عاطفتَك يا لبنان؟ أحرّك قلبَك كلُّ ذلك أيها الشاب التيّاه الذي يخطر بحلله الخضراء الزاهية ويتيه بعطره الخالد؟
فأين هو مكان الشعور من الطبيعة؟
وأنت أيها البحر الرقيق السيّال، أأنت أرهف شعوراً وأرقّ عاطفة؟ أيحزنك منظر البؤس والشقاء وأنت تلتهم الأحياء وتخنق البشر وتفتح فاك لابتلاعهم، أأنت ذو الشعور؟ أين هو الشعور؟ وأين أجد العاطفة في الطبيعة؟ أأبتغيها في البركان الهائل المحرق، أم في العاصفة العاتية المُدمِّرة؟
* * *
وأين هو الحق في الطبيعة؟
أنا أرى في الطبيعة عاصفة تكسر الأغصان وتقلع الأشجار؛ وأرى صاعقة تهدم الدور، وأرى سيلاً يجرف المدن ويكتسح في طريقه كل شيء، وأرى البركان الثائر، وأرى الرياح العاتية
…
كل هذا وجود مادّي للقوة، فأين هو الوجود المادي للحق؟
لقد اتضح الأمر، وخسرتُ صديقتي الطبيعة الجامدة الظالمة الميتة. فلمَن ألجأ؟ لمَن ألجأ ويحك يا نفس؟ هذا العام يوشك أن يموت!
فعجزت النفس ولم تجب، وانطلق العقل يتفلسف، قال:
إن في الطبيعة لَحِسّاً وتمييزاً. ضع ذرة واحدة من الفحم (1)، وخمساً من الإيدروجين يأخذ الفحم أربعاً ويدع الواحدة، ومهما ضاعفت العدد تبقى النسبة ثابتة، أفليس هذا دليلاً على أن الجماد يميز؟ وضع الذهب بين عشرة معادن وألقِ عليه الزئبق، فإنه يعانق الذهب ويدع كل ما عداه. أفليس في هذا دليل على أن في الجماد شعوراً وعاطفة؟ وانظر لنفسك لا تحسّ حرارة الجو ولا ضغط الهواء، ولكن ميزان الحرارة ومقياس الضغط (البارومتر) يحسّان بهما، أفليس هذا دليل على أن الجماد أرهف حسّاً من الإنسان؟
ولكني لم أنتبه لما قال العقل.
* * *
ونظرت إلى البحر فقلت: ما البحر؟ ما الطبيعة؟ أنا لا أرى إلا هذا العالم المادي، ولكن ماذا وراء المادة من عوالم؟ إن الروح أول محطة في طريق هذه العوالم، فهل استطعنا أن نبلغها؟ إن العقل البشري يمشي إليها منذ بدأ صناعة التفكير، ولا يزال في الطريق لم تَبِنْ له معالمُها. إنه تعب وملّ ويئس؛ افتح الآن كتاب علم النفس، إنك لا ترى في فهرسه اسم الروح ولا النفس.
وفكرت في العام الراحل فقلت: ما هو العام؟ ما وجوده؟ ما حقيقته؟ ولم أسمع جواباً، فأغمضت عيني كما أغمضت قبة الأعظمية عينيها منذ عام، ولكني لم أحلم ولم أتذكر، وإنما لبثت صامتاً محدّقاً في غير شيء كالأبله أو المشدوه، وتركت عقلي
(1) أي الكربون، كذا كانوا يسمونه في مدارس الشام من قديم (مجاهد).
المغرور يتيه وحده في فضاء اللانهاية
…
إنه لا يستطيع أن يعرف شيئاً مما وراء المادة، كما أن عقل الجنين لا يقدر أن يعلم شيئاً عن هذا العالم ولا يؤمن بوجوده.
وكنت قد نسيت الطبيعة الجامدة الميتة التي لا شعور فيها ولا عاطفة، ونسيت هذه المخلوقات التافهة الحقيرة التي يدعونها «الناس» ، ونسيت هذه الذرة التائهة في رياح الوجود التي اسمها «أنا» ، وتوجهت إلى العظيم الباقي الذي هو وحده الخير المطلق والحق والجمال، توجهت إلى الله أسأله أن يُلبس هذا العام القادم ثوب السعادة، ويُضفي على العام الراحل حلة الغفران؛ اللهمَّ آمين.
* * *