الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بيني وبين نفسي
نشرت في مستهل عام 1937
نظرت من النافذة فإذا كل شيء أراه نائم، هذه النخلة التي تقوم حيال شبّاكي، وقبة الأعظمية التي تبدو من ورائها في عظمة وجلال، ودجلة التي تجري صامتة مهيبة، والقمر الذي يغسل ماءها بشُعاعه
…
وإذا على الطريق شبح يسير منهوكاً.
على الطريق الذي لا يمتد في سهل ولا وعر، ولا يسير على سفح جبل ولا شاطئ بحر، ولا يسلك الصحراء ولا يخترق البساتين، ولكنه يلف السهل والوعر، والجبل والبحر، والصحراء والبساتين، وكل ما تحتويه ومن يكون فيها. على الطريق الطويل الذي يلوح كخط أبيض، يغيب أوله في ظلام الأزل ويختفي آخره في ضباب الأبد.
رأيت شبحاً يسير على طريق الزمان، وسمعت صائحاً بالدنيا النائمة: تيقّظي، إن العام يرحل الآن!
ففتحت النخلة عينيها ونظرت، فلما رأته قالت: قد رأيت «عشرات» مثله تأتي وتذهب فلم تبدل شيئاً؛ الفأس لا تزال باقية، وهذا الوحش البشري لا يزال ينتظر ثَمَري لِيَسْلُبَنيه، ثم إذا قنط
مني كافأني بلذع النار، فما لي وللعام الراحل؟
وأغمضت عينيها فنامت، ولم تكترث!
ونظرت القبة، فلما أبصرته قالت: قد رأيت «مئات» مثله تجيء وتروح ولم تبدل شيئاً، فهذا النخيل قائم حولي كما كان، والشمس تطلع عليّ كل يوم وتغيب، والنجوم تسطع فوقي كل ليلة، والأرض تنتظرني تريد أن أهرم فتجذب أحجاري إليها وتأكلني، وكل شيء على حاله، لم يتبدل إلا الإنسان: كان الخليفةُ يمشي تحتي ويخطر بين أساطيني في حلل المجد وأردية الجلال، إنْ أمَرَ أطاعت الدنيا وإنْ نادى لبّى الدهر وإن مال مالت الأرض، وكان الناس يطيفون بي أجلّة أمجاداً، عباداً أذلاء لله وملوكاً أعزّة على الناس، فأصبحت وحيدة منعزلة، لا أرى إلا هذه الفئات من العامة المساكين الذين تعرّوا من كل جاه إلا جاه العبادة ومجد إلا مجد الآخرة، فما لي وللعام الراحل؟
وأغمضت عينيها وعادت تحلم، ولم تكترث!
وتنبهت «دجلة» ونظرت، فلما رأته قالت: قد رأيت «ألوفاً» مثله تمرّ في هذا الطريق، فلم تعمل في الكون شيئاً ولم تغيّر إلا الإنسان، كانت تقوم على شاطئيّ القصور الفخمة، تتوّج هامَها العظمةُ، ويَحُلّ أرجاءها الجلالُ، ويمثل في أبهائها المجد، ويقف على بابها التاريخ يصدر عنها ويكتب حديثها، وتنبثق منها أشعة الحضارة والفن، وتسطع منها أنوار العلم والأدب، وتومض في شرفاتها وأروقتها العمائمُ التي كانت على أشرف رؤوس وأحفلها بالفضائل والعلوم
…
فلم يبقَ من هذا كله إلا
أطلال يريدون أن يطمسوا اليوم آثارها ويغطّوا عليها بقبّعة! ولكن ذلك لن يدوم؛ إن طريق الزمن لا يزال مسلوكاً.
ثم صمتت وعادت تجري كما كانت تجري، ولم تكترث!
وأنصت القمر وأطلّ ينظر، فلما رأى العام الراحل قال: لقد رأيت «ملايين» مثله، وقد مللت مرّ السنين وكر العصور، فما لي وله؟ وعاد يفيض نوره على الكون ولم يكترث!
وبقيت وحدي.
* * *
بقيت وحيداً، فنظرت في نفسي: لقد صحبت تسعاً وعشرين قافلة من قوافل الزمان، فهل اقتربت من آمالي؟ هل دنوت من الغاية التي أسعى إليها في سفري؟ ثم سألت نفسي: ما هي الغاية التي تسعين إليها؟ أتسيرين إلى غير ما نهاية؟ كلما مرّ عام تعلقتِ به فسرت معه، حتى يضيق بك عام من الأعوام فيقذف بك إلى وادي الموت؟ ألا تعلمين أين المسير؟
ولم تكن النفس ترقب مثل هذا السؤال فاضطربت اضطراباً شديداً، وكثرت فيها الآراء واشتدّ بين أعضائها الخلاف، ثم انشقّت انشقاقاً وانقسمت أحزاباً وانتثرت نفوساً.
قالت النفس الأولى: الغاية يا صاحبي واضحة؛ إننا نسعى لخدمة هذا الجسم الذي نحمله، نحيا لسدّ حاجاته، وإجابة رغباته، وإمتاعه بملذاته.
قالت الثانية: خسئت أيتها «النفس الفاجرة» ! إننا لم نُسخَّرْ
من أجل هذا العنصر الأجنبي، إن الجسم ليس منا.
قالت الأولى: أفهو إذن من غيرنا؟ وقهقهت ضاحكة.
قالت: اسخري من نفسك. إنه لو كان منّا لما عشنا إلا فيه ولم نعش بعده، إنه ثوب نلبسه ونخلعه، أفيكون الثوب جزءاً من اللابس؟
قالت الأولى: إني لم أفهم فلسفتك. أتزعمين أن يدي ورجلي ليستا مني؟
قالت: نعم؛ إن المرء لو قُطعت يده أو رجله أو ذهب سمعه أو بصره فلن تنقص نفسه شيئاً، بل لقد يكون الأعمى الأصمُّ أكملَ نفساً وأقوى عقلاً وأسمى روحاً من السميع البصير، وإنك لتعلمين هذا، ولكنك «نفس سوء» تريدين الاستمتاع بشهواتك، ونحن لا نحيا لنيل الشهوات.
قالت الأولى: فلِمَ إذن نحيا يا أيتها «النفس المفكِّرة» ؟
قالت: نحيا لنكشف خبايا الوجود، لنستطلع طلع الكائنات، لنعرف نواميس الكون وأسرار الطبيعة
…
من أجل هذا نحيا.
فانبرت لها نفسي الثالثة فقالت: كنت أظنك عاقلة تفهمين وتعرفين، فإذا أنت جاهلة. ويحك! ما نحن والوجود؟ ما لنا والطبيعة؟ وماذا يعنينا أكانت المجرّة نهراً في السماء أم كانت مجموعة من الكواكب؟ وماذا ينفعنا أن يكون في المريخ ناس أو يكون مقفراً لا ناس فيه؟ وما لنا ولهذا الفضول؟
قالت الثانية: إنك «نفس شاعرة» تنكرين قيمة العلم.
قالت: إن هذا العلم خسران لك يا حمقاء! إنك كنت ترين في الكسوف حادثاً غريباً مليئاً بالأسرار يبعث فيك عالماً من العواطف، فلما علمت أنه حادث طبيعي: كوكب يقوم بحذاء كوكب، ضاع معناه وانتفت أسراره، ولم يعد يثير فيك عاطفة أو يَهيج فيك حِساً.
قالت الثانية: وما قيمة العاطفة؟ أتريدين أن ندع العلم من أجل العاطفة؟
قالت الثالثة: لا، بل تعلّمي، ولكنْ تعلّمي ما تحتاجين إليه. العلم دواء يؤخَذ بمقدار الحاجة، ولكن الشعور غذاء لا يُستغنى عنه؛ فنحن نحيا لنرى الجمال ونستمتع به ونتذوقه في الطبيعة وفي الإنسان وفي الفن، من أجل هذا نحيا.
فوثبت النفس الرابعة، «النفس المؤمنة المطمئنّة» ، فقالت: يا للسخف!
قالت الثالثة وقد غاظها ما قالت: أيَّ سخف ترين من فضلك؟ إذا كنا لا نرى الجمال فلِمَ نحيا؟
قالت الرابعة متهكمة: كأنك تحيَين الآن! إنك -يا سيدتي- سجينة، فاسعَي لتتخلصي من قيود السجن، ثم انطلقي في فضاء الحرية فيعشي في الحياة الأخرى: حياة الانطلاق.
ورأيت أن المناقشة قد طالت وغدت مملّة وتشعبت فيها الآراء، فأسكتُّهنّ ورجعت أفكر وحدي.
* * *
قلت: إنني لا أدري لماذا أحيا، ولا أعرف ما هي صلتي بالكون! كنت أنظر إلى الدنيا من خلال الكتب وأشرف عليها من نافذة المدرسة، فأراها صغيرة كقبضة الكف، فحسبت أنّي إذا خرجت من المدرسة وحزت الشهادة قبضت عليها بيدي. وعشت بهذا الأمل، لم أعرف حقيقة الحياة ولم أُعِدَّ لها العدة، ولم أجد من يخبرني خبرها إلا هؤلاء الأساتذة، وهم قوم مخادعون، لا يبصِّرون التلميذَ بالدنيا كما هي في ذاتها، بل كما يريدون هم أن تكون.
وخرجت من المدرسة، وهبطت من سماء الخيال إلى أرض الحقيقة، فإذا الطريق مزروع بالشوك، فانطلقت أمشي وأجاهد بهمّة الشاب القوي الطموح، فما قطعت من الطريق إلا قليلاً حتى وجدت هذه الطفيليّات البشرية تتعلق بكتفي وتستمسك بي، حتى إذا دنوت من أول منزل وهممت أن أستريح فيه وثبَت فسبقتني إليه، فسرت أجاهد وأتقدم أؤمّ منزلاً آخر، حتى هدّني التعب ونال مني النصَب ولم أصل إلى شيء.
ولاح لي فجأة قصر عظيم على الطريق، تلمع قِبابه المغشّاة بالذهب وتشرق جدرانه المغطاة بالفضة وتضيء نقوشه وزخارفه في شعاع الشمس، ويُقرأ على بابه بأحرف من نور:«هذا قصر اليأس» . فراعني مظهره، وهممت أن أحيد عن الطريق فأدخله، ولكني نظرت إليه أولاً، فإذا هو موحش مظلم في وسطه قبر مفتوح مملوء بالأساود (1) والأفاعي، وإذا هو خالٍ من البشر،
(1) الأساود جمع أسْوَد، وهو أسوأ أنواع الحيات وأفتكها (مجاهد).
ليس فيه إلا جماعة الشعراء البائسين يُعِدّون قصائدهم لتدفن معهم في هذا القبر الأسود فلا يدري بها أحد.
فوليت هارباً، وآثرت العودة إلى مقارعة الشوك وجهاد الحياة. عدت فقارعت وجاهدت فلم أصل إلى شيء، فسألت نفسي: هل أيأس؟
* * *
سألتها وحدثتها، ولكني جَهَرت بالحديث فأيقظت النائمين.
أطلَّت عليّ النخلة فقالت: إلامَ تجاهد وتناضل؟ ماذا تريد أيها الرجل؟ ألا تقنع مثلي بأن تقف في مكانك حتى يأتيك الموت؟ قلت: لا، إن لي غاية واحدة، هي أن أبقى دائماً أجاهد وأناضل. فضحكت وقهقهت أوراقها وعادت إلى منامها.
ومدّت القبة رأسها فقالت: ألا تنام مثلي أيها الفتى وتحلم؟ لماذا تعدو في طريق القبر؟ قلت: إني أحب أن أصل إلى القبر لأني سأخرج منه إلى الفضاء الواسع، سأخلع فيه ثوبي الجثماني ثم أنطلق صُعُداً. فذهبت وهي تحدث نفسها: ينطلق صعداً؟ أنا هنا منذ ألف ومئة سنة ولم أنطلق صعداً! ثم رجعت إلى المنام.
وقالت دجلة وقد صفَّق لي ماؤها سروراً: امضِ أيها الغلام، امض؛ إن طريقك طويل ولكنك قوي. إنك لا تمشي إلى القبر لتَفنى ولكن تدخل من باب القبر إلى عالم الخلود. ها أنا قد بلغت من العمر سبعمئة وخمسين ألف سنة، ولكنك قد وُلدت بعقلك قبلي، وستعيش بروحك من بعد أن تموت الجبال وتغرق البحار،
ويختنق الهواء وتُدفن الصحراء!
وأمّن القمر على كلامها، وأطلّ عليّ من النافذة فصافحني بشعاعه وقال: لقد صدقَت. إنك تعيش الآن لتعدّ العدة للحياة، حين تنطلق من قيود الجسم.
ثم صمَتَ وصمَتُّ.
* * *
وكان العام يقطع اللحظة الأخيرة، فصحت به: أنا الذي يهتم بك أيها العام، أنا الذي يودعك ويستقبل غيرك، لا النخلة ولا القبة ولا دجلة ولا القمر، تلك للفناء وأنا للبقاء، تلك تنتظر الموت وأنا أنتظر الحياة
…
أنا أمشي على هام السنين إلى الحياة الأخرى.
* * *