الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يا بنتي
نشرت سنة 1954
يا بنتي، أنا رجل يمشي إلى الخمسين (1)، قد فارق الشباب وودّع أحلامَه وأوهامَه، ثم إني سِحْتُ في البلدان ولقيت الناس وخَبِرتُ الدنيا، فاسمعي مني كلمة صحيحة صريحة من سني وتجاربي لم تسمعيها من غيري.
لقد كتبنا ونادينا ندعو إلى تقوم الأخلاق ومحو الفساد وقهر الشهوات، حتى كَلَّتْ منّا الأقلامُ ومَلَّت الألسنة، وما صنعنا شيئاً ولا أزلنا منكراً، بل إن المنكرات لتزداد والفساد ينتشر، والسفور والحسور والتكشف تقوى شِرَّته وتتسع رقعته، ويمتد من بلد إلى بلد، حتى لم يبقَ بلد إسلامي -فيما أحسب- في نَجْوَة منه. حتى الشام التي كانت فيها الملاءة السابغة، وفيها الغلوّ في حفظ الأعراض وستر العورات، قد خرج نساؤها سافرات حاسرات
(1) حينما نشرت «دار المنارة» هذه الرسالةَ أول مرة أضاف جدي تعليقاً في هذا الموضع قال فيه: "كان ذلك يوم كتابة المقالة، وهو اليوم -سنة 1406هـ- يقرع أبواب الثمانين". أما اليوم، وأنا أراجع هذا الكتاب في طبعته الجديدة، فقد مضى على فراقه لنا في هذه الدنيا إحدى عشرة سنة، عليه رحمة الله (مجاهد).
كاشفات السواعد والنحور!
ما نجحنا وما أظن أننا سننجح. أتدرين لماذا؟ لأننا لم نَهْتَدِ -إلى اليوم- إلى باب الإصلاح ولم نعرف طريقه.
إن باب الإصلاح أمامك أنت يا بنتي ومفتاحه بيدك؛ فإذا آمنت بوجوده وعملت على دخوله صلحت الحال. صحيح أن الرجل هو الذي يخطو الخطوة الأولى في طريق الإثم، لا تخطوها المرأة أبداً، ولكن لولا رضاك ما أقدم ولولا لينك ما اشتدّ؛ أنت فتحت له وهو الذي دخل، قلت للّص: تفضل. فلما سرقك اللص صرختِ: أغيثوني يا ناس، سُرِقتُ!
ولو عرفت أن الرجال جميعاً ذئاب وأنت النعجة لفررت منهم فرار النعجة من الذئب، وأنهم جميعاً لصوص لاحترست منهم احتراس الشحيح من اللص. وإذا كان الذئب لا يريد من النعجة إلا لحمها، فالذي يريده منك الرجل أعزّ عليك من اللحم على النعجة، وشر عليك من الموت عليها. يريد منك أعزّ شيء عليك: عفافك الذي به تَشْرُفين، وبه تفخرين، وبه تعيشين. وحياة البنت التي فجعها الرجل بعفافها أشد عليها بمئة مرة من الموت على النعجة التي فجعها الذئب بلحمها، إي والله.
وما رأى شاب فتاة إلا جرّدها بخياله من ثيابها ثم تصورها بلا ثياب. إي والله، أحلف لك مرة ثانية. ولا تصدقي ما يقوله لك بعض الرجال من أنهم لا يرون في البنت إلا خلقها وأدبها، وأنهم يكلمونها كلام الرفيق ويودّونها ودّ الصديق. كذبٌ والله، ولو سمعتِ أحاديثَ الشباب في خلواتهم لسمعت مهولاً مرعباً.
وما يبسم لك الشاب بسمة، ولا يُلين لك كلمة، ولا يقدم لك خدمة، إلا وهي عنده تمهيد لما يريد، أو هي -على الأقل- إيهام لنفسه أنها تمهيد!
وماذا بعد؟ ماذا يا بنت؟ فكّري: تشتركان في لذة ساعة، ثم ينسى هو، وتظلين أنت أبداً تتجرعين غصصها. يمضي «خفيفاً» يفتش عن مغفَّلة أخرى يسرق منها عرضها، وينوء بك (1) أنت «ثِقَلُ» الحمل في بطنك، والهم في نفسك، والوصمة على جبينك. يغفر له هذا المجتمعُ الظالم ويقول: شاب ضَلّ ثم تاب، وتبقين أنت في حمأة الخزي والعار طولَ الحياة، لا يغفر لك المجتمع أبداً.
ولو أنك -إذ لقيتِه- نصبت له صدرك وزويت عنه بصرك وأريتِه الحزم والإعراض، فإذا لم يصرفه عنك هذا الصد، وإذا بلغت به الوقاحة أن ينال منك بلسان أو يد، نزعت حذاءك من رجلك ونزلت به على رأسه
…
لو أنك فعلت هذا لرأيت مِن كل مَن يمرّ في الطريق عوناً لك عليه، ولَمَا جرؤ بعدها فاجر على ذات سِوار، ولجاءك -إن كان صالحاً- تائباً مستغفراً يسأل الصلة بالحلال؛ جاءك يطلب الزواج.
والبنت -مهما بلغت من المنزلة والغنى والشهرة والجاه- لا تجد أملها الأكبر وسعادتها إلا في الزواج، في أن تكون زوجاً صالحة وأماً موقَّرة وربة بيت. سواء في ذلك الملكات والأميرات
(1) هذا هو التعبير الأصح؛ قال تعالى: {مَا إنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنوءُ بِالعُصْبَةِ أولي القُوَّة} .
وممثلات هوليود ذوات الشهرة والبريق الذي يخدع كثيرات من النساء. وأنا أعرف أديبتين كبيرتين في مصر والشام، أديبتين حقاً، جُمع لهما المال والمجد الأدبي، ولكنهما فقدتا الزوج ففقدتا العقل وصارتا مجنونتين، ولا تحرجيني بسؤالي عن الأسماء فإنها معروفة.
الزواج أقصى أمانيّ المرأة، ولو صارت عضوة البرلمان وصاحبة السلطان. والفاسقة المستهترة لا يتزوجها أحد، حتى الذي يغوي البنت الشريفة بوعد الزواج، إن هي غوت وسقطت تركها وذهب -إذا أراد الزواج- فتزوّج غيرها من الشريفات، لأنه لا يرضى أن تكون ربة بيته وأم ابنته امرأة ساقطة!
والرجل وإن كان فاسقاً داعراً، إذا لم يجد في سوق اللذات بنتاً ترضى أن تريق كرامتها على قدميه وأن تكون لعبة بين يديه، إذا لم يجد البنت الفاسقة أو البنت المغفَّلة التي تشاركه في الزواج على دين إبليس وشريعة القطط في شباط، طلب مَن تكون زوجته على سنّة الإسلام. فكساد سوق الزواج منكن يا بنات، لو لم يكن منكنّ الفاسقات ما كسدت سوق الزواج ولا راجت سوق الفجور، فلماذا لا تعملنَ، لماذا لا تعمل شريفات النساء على محاربة هذا البلاء؟ أنتنّ أولى به وأقدر عليه منا لأنكن أعرف بلسان المرأة وطرق إفهامها، ولأنه لا يذهب ضحيةَ هذا الفساد إلا أنتن: البنات العفيفات الشريفات، البنات الصيّنات الديّنات.
في كل بيت من بيوت الشام بنات في سن الزواج لا يجدن زوجاً، لأن الشباب وجدوا من الخليلات ما يغني عن الحليلات. ولعل مثل هذا في غير الشام أيضاً، فألِّفْنَ جماعات منكن من
الأديبات والمتعلمات ومدرّسات المدرسة وطالبات الجامعة تعيد أخواتكن الضالاّت إلى الجادّة، خوِّفْنَهنّ الله، فإن كُنّ لا يخَفْنَه فحذِّرْنَهنّ المرض، فإن كنّ لا يَحْذَرْنَه فخاطبْنَهنّ بلسان الواقع، قلنَ لهنّ: إنكن صبايا جميلات، فلذلك يُقبل الشباب عليكنّ ويحومون حولكن، ولكن هل يدوم عليكنّ الصبا والجمال؟ وهل دام في الدنيا شيء حتى يدوم على الصبيّة صباها وعلى الجميلة جمالُها؟ فكيف بكنّ إذا صرتن عجائز مَحنيّات الظهور مجعَّدات الوجوه؟ من يهتم يومئذ بكنّ ومن يسأل عنكنّ؟ أتعرفنَ من يهتم بالعجوز ويكرمها ويوقرها؟ أولادها وبناتها وحَفَدتها وحفيداتها. هنالك تكون العجوز ملكة في رعيتها ومتوجَّة على عرشها، على حين تكون «الأخرى»
…
أنتنّ أعرف بما تكون عليه! (1)
فهل تساوي هذه اللذةُ تلك الآلامَ؟ وهل تُشترى بهذه البداية تلك النهاية؟
وأمثال هذا الكلام. لا تحتجن إلى من يدلكنّ عليه، ولا
(1) رأيت في بروكسل عند ملتقى طريقين -وقد فُتح الطريق للمارة- عجوزاً لا تحملها ساقاها، تضطرب من الكبر أعضاؤها، تريد أن تجتاز والسيارات من حولها تكاد تدعسها، ولا يمسك أحدٌ بيدها. فقلت لمَن كان معي من الشباب: ليذهب أحدكم فليساعدها. وكان معنا الصديق الأستاذ نديم ظبيان، وهو مقيم في بروكسل من أكثر من أربعين سنة، فقال لي: أتدري أن هذه العجوز كانت يوماً جميلةَ البلد وفتنة الناس، وكان الرجال يلقون بقلوبهم وما في جيوبهم على قدميها ليفوزوا بنظرة أو لمسة منها، فلما ذهب شبابها وزوى جمالها لم تعد تجد من يمسك بيدها!
تُعدمنَ وسيلة إلى هداية أخواتكن المسكينات الضالات، فإن لم تستطعن ذلك معهن فاعملن على وقاية السالمات من مرضهن، والناشئات الغافلات من أن يسلكن طريقهن.
* * *
وأنا لا أطلب منكن أن تَعُدْنَ بالمرأة المسلمة اليوم بوثبة واحدة إلى مثل ما كانت عليه المرأة المسلمة حقاً، لا، وإني لأعلم أن الطفرة مستحيلة في العادة (1)، ولكن أن ترجعن إلى الخير خطوة خطوة كما أقبلتنّ على الشر خطوة خطوة. إنكنّ قَصَّرْتُنّ الثيابَ ورفعتنّ الحجابَ شعرة شعرة، وصبرتُنّ الدهر الأطول تعملنَ لهذا الانتقال، والرجل الفاضل لا يشعر به، والمجلات الداعرة تحثّ عليه، والفُسّاق يفرحون به، حتى وصلنا إلى حال لا يرضى بها الإسلام ولا ترضى بها النصرانية، ولم يعملها المجوس الذين نقرأ أخبارهم في التاريخ، إلى حال تأباها الحيوانات.
إن الديكين إذا اجتمعا على الدجاجة اقتتلا غَيْرَةً عليها وذوداً عنها، وعلى الشواطئ في الإسكندرية وبيروت رجال مسلمون
(1) فالليل أسود مظلم والضحى مشرق وضّاح، ولكن الله ما نقلنا من الظلام إلى النور في لحظة، بل هو يولج النهار في الليل فلا تحسّ بهذه النقلة؛ كالعقرب الصغير في الساعة: تراه واقفاً لا يتحرك، ولكن عُدْ إليه بعد ساعتين تَرَه قد مشى. وكذلك ينتقل الإنسان من الطفولة إلى الصبا ومن الشباب إلى الشيخوخة، وكذلك يكون تبدل الأمم وتحولها من حال إلى حال.
لا يغارون على نسائهم المسلمات أن يراهُنّ الأجنبي. لا أن يرى وجهوهنّ ولا أكفهنّ ولا نحورهنّ، بل كل شيء فيهن! كل شيء إلا الشيء الذي يقبح مرآه ويجمل ستره، وهو حلقتا العورتين وحلمتا الثديين! وفي النوادي والسهرات «التقدمية» الراقية رجال مسلمون يقدّمون نساءهم المسلمات للأجنبي ليراقصهن، يضمّهنّ حتى يلامس الصدرُ الصدرَ والبطنُ البطنَ والفمُ الخدَّ، والذراع ملتوية على الجسد، ولا ينكر ذلك أحد! وفي الجامعات المسلمة شباب مسلمون يجالسون بنات مسلمات متكشّفات باديات العورات، ولا ينكر ذلك الآباء المسلمون ولا الأمهات المسلمات! وأمثال هذا.
وأمثال هذا كثير، لا يُدفَع في يوم واحد ولا بوثبة عاجلة، بل بأن نعود إلى الحق من الطريق الذي وصلنا منه إلى الباطل، ولو وجدناه الآن طويلاً
…
وإنّ مَن لا يسلك الطريقَ الطويل الذي لا يجد غيرَه لا يصل أبداً. وأن نبدأ بمحاربة الاختلاط. والاختلاط غير السفور، وأنا لا أمنع من كشف الوجه إن كان لا يتحقق بكشفه الضررُ على الفتاة والعدوانُ على عفافها، وأراه -عند أمن الفتنة- خيراً من هذا الذي نسمّيه في بلاد الشام حجاباً، وما هو إلا ستر للمعايب وتجسيم للجمال وإغراء للناظر.
السفور إن اقتصر على الوجه -كما خلق الله الوجهَ- نقبل به، وإن كنا نرى الستر أحسن وأَولى، أما الاختلاط فشيء آخر. وليس يلزم من السفور أن تختلط الفتاة بغير محارمها، وأن تستقبل الزوجةُ السافرة صديقَ زوجها في بيتها، أو أن تحييّه إن قابلته في الترام أو لقيته في الشارع، وأن تصافح البنتُ رفيقَها في الجامعة،
أو أن تصل الحديثَ بينها وبينه، أو أن تمشي معه في الطريق وتستعدّ معه للامتحان، وتنسى أن الله جعلها أنثى وجعله ذكراً وركّب في كلٍّ الميلَ إلى الآخر، فلا تستطيع هي ولا هو ولا أهل الأرض جميعاً أن يغيروا خلقة الله وأن «يساووا» بين الجنسين (1)، أو أن يمحوا من نفوسهم هذا الميل.
وإن دعاة المساواة والاختلاط باسم المدنيّة قوم كذّابون من جهتين: كذابون لأنهم ما أرادوا بذلك كله إلا متاع جوارحهم وإرضاء ميولهم، وإعطاء نفوسهم حظها من لذة النظر وما يأملون من لذائذ أُخَر، ولكنهم لم يجدوا الجرأة على التصريح به فلبّسوه بهذا الذي يهرفون به، بهذه الألفاظ الطنّانة التي ليس وراءها شيء: التقدمية، والتمدن، والحياة الجامعية
…
وهذا الكلام الفارغ -على دَوِيّه- من المعنى، فكأنه الطبل!
وكذّابون لأن أوربا التي يأتمّون بها ويهتدون بهديها، ولا يعرفون الحق إلا بدمغتها عليه، فليس الحق عندهم الذي يقابل الباطل ولكن الحق ما جاء من هناك: من باريس ولندن وبرلين ونيويورك، ولو كان الرقصَ والخلاعة والاختلاط في الجامعة والتكشف في الملعب والعري على الساحل (2)، والباطل ما جاء
(1) لي مقالات وأحاديث شرحت فيها معنى المساواة، وأنها تكون في الحقوق والواجبات والثواب والعقاب، لا في الوظائف، فلا يحبل الرجل ويُرضع بدلاً من المرأة، ولا تحارب هي أو تمتهن المهن الشاقة بدلاً من الرجل، ولا الأعمال المحرَّمة أو التي تجرّها إلى الحرام.
(2)
ومن هناك أيضاً جاءت دولة إسرائيل!
من هنا: من الأزهر والأموي وهاتيك المدارس الشرقية والمساجد الإسلامية، ولو كان الشرفَ والهدى والعفاف والطهارة، طهارة القلب وطهارة الجسد
…
إن في أوربا وفي أميركا -كما قرأنا وحدّثَنا مَن ذهب إليهما- أُسَراً كثيرات لا ترضى بهذا الاختلاط ولا تُسيغه، وإن في باريس
…
في باريس يا ناس، آباء وأمهات لا يسمحون لبناتهم الكبيرات أن يَسِرْنَ مع شاب أو يصحبنَه إلى السينما، بل هم لا يُدخلونهنّ إلا إلى روايات (1) عرفوها وأيقنوا بسلامتها من الفحش والفجور، اللذَين لا يخلو منهما -مع الأسف- واحدٌ من هذه «التهريجات» والصبيانيات السخيفة التي تسميها شركاتُ مصر الهزيلةُ الرقيعةُ، الجاهلةُ بالفن السينمائي مثلَ جهلها بالدين
…
تسميها أفلاماً!
يقولون: إن الاختلاط يكسر شِرَّة الشهوة ويهذب الخلق وينزع من النفس هذا الجنون الجنسي، وأنا أحيل في الجواب على من جرّب الاختلاط في المدارس، روسيا التي لا تعود إلى دين ولا تسمع رأي شيخ ولا قسّيس. ألم ترجع عن هذه التجربة لمّا رأت فسادها؟ وأميركا، ألم تقرؤوا أن من جملة مشكلات أميركا مشكلة ازدياد نسبة «الحاملات» من الطالبات؟ (2) فمن يسرّه
(1) يريد الأفلام السينمائية، هكذا كان يسمّيها (مجاهد).
(2)
لذلك صاروا يدرّسون «الثقافة الجنسية» في المدارس، أي أنهم يصبّون البنزين على النار؛ يصفون للفتاة الغافلة البريئة ما خفي من سَوْأة الرجل وماذا يصنع إذا خلا بأنثى! ووُجد فينا من شياطين الإنس مَن يدعونا إلى أن نصنع في ذلك مثلَ صنيعهم. كما أنهم صاروا يدرّبون طالبات المدارس المتوسطة على استعمال حبوب منع الحمل!
أن يكون في جامعات مصر والشام وسائر بلاد الإسلام مثل هذه المشكلة؟
* * *
أنا لا أخاطب الشباب ولا أطمع في أن يسمعوا لي، وأنا أعلم أنهم قد يردّون عليّ ويسفّهون رأيي لأني أحرمهم من لذائذ ما صدّقوا أنهم قد وصلوا إليها حقاً، ولكن أخاطبكنّ أنتنّ، أنتنّ يا بناتي المؤمنات الديّنات، يا بناتي الشريفات العفيفات: إنه لا يكون الضحية إلا أنتنّ، فلا تقدّمنَ نفوسكنّ ضحايا على مذبح إبليس، لا تسمعنَ كلامَ هؤلاء الذين يزيّنون لكنّ حياة الاختلاط باسم الحرية والمدنية والتقدمية والروح الجامعية، فإن أكثر هؤلاء الملاعين لا زوجة له ولا ولد، ولا يهمّه منكن جميعاً إلا اللذة العارضة! أما أنا فإني أبو أربع بنات (1)، فأنا حين أدافع عنكنّ أدافع عن بناتي، وأنا أريد لكُنّ من الخير ما أريده لهنّ.
إنه لا شيء مما يهرف به هؤلاء يَرُدّ على البنت عِرْضَها الذاهب، ولا يرجع لها شرفها المثلوم ولا يعيد لها كرامتها
(1) كذلك كان يوم كتب هذه المقالة سنة أربع وخمسين، وفي السنة التي بعدها رزقه الله بصغرى بناته، يمان. وأنبتها الله نباتاً حسناً وفقّهَها في دينه حتى صارت من المُفتيات الداعيات، ودَرّست علومَ الدين -من فقه وتفسير وسواهما- في جامعة الملك عبد العزيز في جُدّة زماناً، ثم اختارها الله إلى جواره فلحقت بأبيها قبل كتابة هذه الحاشية بسنتين كاملتين، لا تزيدان يوماً ولا تنقصان يوماً، وهذا من غرائب الموافقات. عليها وعلى أبيها رحمة الله (مجاهد).
الضائعة. وإذا سقطت البنت لم تجد واحداً يأخذ بيدها أو يرفعها من سقطتها، إنما تجدهم جميعاً يتزاحمون على جمالها ما بقي فيها جمال، فإذا ولّى ولَّوا عنها كما تولّي الكلاب عن الجيفة التي لم يبقَ فيها مِزْعة لحم!
* * *
هذه نصيحتي إليك يا بنتي، وهذا هو الحق فلا تسمعي غيره، واعلمي أن بيدك أنت لا بأيدينا معشرَ الرجال، بيدك مفتاح باب الإصلاح، فإذا شئت أصلحت نفسك وأصلحت بصلاحك الأمةَ كلها.
والسلام عليكِ ورحمة الله (1).
* * *
(1) نُشرت هذه المقالة أولَ مرة في العدد الأول من أعداد السنة الثالثة من مجلة «المسلمون» الدمشقية الذي صدر في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1953، وبعد ذلك بسنوات صدر كتاب «صور وخواطر» والمقالة فيه، وفي آخرها حاشية قال فيها:"كتب الله لهذه المقالة ما لم يكتبه لغيرها، فنُشرت في دمشق في رسالة وحدَها، ونشرت في رسالة في بغداد وفي القاهرة وفي الإسكندرية، وتُرجمت إلى الأوردية ونشرت في «الدون» أكبر جرائد باكستان، وإلى الإنكليزية ونشرت في «التايمز» الهندية، وإلى الفارسية ونشرت في جريدة «برس» الإيرانية".
وبعد ذلك بثلاث وثلاثين سنة أصدرت دار المنارة المقالةَ في رسالة مستقلة مرة أخرى، فكتب لها مؤلفها مقدمة جديدة، وقد رأيت =
= أن أُثبتها هنا ليطّلع عليها من لم يَقْتَنِ الرسالة المستقلة من قرّاء هذا الكتاب (ولا بد أنهم كثير)؛ قال:
"أنا أكتب وأخطب من ستين سنة، فما قُدِّر لمقالتين نشرتهما من الذيوع ما قُدِّر لهاتين المقالتين؛ «يا ابني» و «يا بنتي» ، ولاسيما مقالة «يا بنتي» ؛ كتبتها وأنا أمشي إلى الخمسين، وأنا اليوم أقرع باب الثمانين، أسأل الله دوام الصحة وحسن الخاتمة وأن يجزي خيراً من يمدّ يديه من القرّاء ويقول آمين. طُبِعَت مقالة «يا بنتي» ستاً وأربعين طبعة علمت بها، ولعلها طُبعت غيرها ولم أعلم بها، فقد أبحتُ لمن يشاء أن يطبعها (على أن يوزعها بالمجّان).
ونحن نُهاجَم اليوم من طريقين: طريق الشبهات، وطريق الشهوات. الأول مرض أشدّ خطراً وأكبر ضرراً، ولكنه بطيء السّرَيان، فليس كل مَن تُلقى إليه شبهة يقبلها، ولكن كل مَن تُثار له -من الشباب- شهوة يستجيب لها؛ فهو مرض سريع الانتشار كثير العدوى، وإن كان يُضني ولا يُفني، ويُؤذي ولا يُميت. والأول كفر وهذا يوصل إلى الفسق.
وقد كتبت بعدها وحاضرت وأذعت وحدّثت كثيراً كثيراً، ولكن بقي لهذه المقالة -بفضل الله- أثرها في نفس قارئها وقارئتها. أسأل الله أن ينفع بها وأن يثيبني ويثيب ولدي وصهري محمد نادر حتاحت (الذي ينشرها اليوم) عليها. ولم أبدّل فيها ولا في أختها (يا ابني) حرفاً. وكيف وقد قُرئت في الشرق والغرب، وطُبِعَت في الشام والأردن ومصر والعراق، وتُرجمت -فيما علمت- إلى أوسع لغتين انتشاراً وأكثر اللغات ناطقين بها: الإنكليزية والأوردية، وصارت ملكاً للقرّاء، فكيف أبدّل فيها؟ ".
وفي آخر المقدمة وضع جدي مكان وزمان كتابتها: "مكة المكرمة، 1 ربيع الأول 1406". رحمه الله (مجاهد).