المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌نداء إلى أدباء مصر

‌نداء إلى أدباء مصر

نشرت سنة 1943

أتممت البارحة قراءة كتاب «جبران» لمؤلفه ميخائيل نُعَيمة، فأعجبني أسلوبه -على ما فيه من مخالفة لقانون اللغة وقواعد العربية- لما حمل من الصور البيانية والمجازات المستحدَثَة، والتشابيه التي لا نظير لها والاستعارات التي لم تتحدث عنها كتب البلاغة، لأن علماءها لم يقرؤوا مثلها، ولأنه أسلوب مستمَد من قلب حيّ وخيال قوي، على حين أن من الأساليب ما يُستمَد من كتب اللغة. وتمنيت لو أن مثله يجيء صحيحاً بنفَس عربي، فيكون نادرة الأساليب، ومفخرة الأدب، وهيهات!

أما موضوع الكتاب فلم يعجبني، لأني وجدت حياة هذا الرجل -كما يصفها صديقه المؤلف- سلسلة آثام: من كفر إلى فسوق، ومن اعتماد على امرأة تشتغل وتغذوه وهو كسلان يتمدد على فراشه، إلى خيانة لهذه المرأة ونقض لعهدها، ومن إكبار لنيتشه المجنون، إلى الجنون به، إلى سرقة آثاره وانتحالها! ووجدته في حياته كلها أشبهَ بالمرأة المدلَّلة الكسول، هَمُّه شهوته، إنْ بالحقيقة وإنْ بالمجاز، يعبّر عنها بهذه الصور العارية وهذه القصص الفاسقة، التي ردّ على واحدة منها إمامُ الكُتّاب

ص: 275

المنفلوطي رحمه الله في نظراته، وهي القصة التي يدعو فيها النساءَ إلى ترك أزواجهن واللحوق بعشاقهن، لأن رباط الحب الشهواني أقوى عنده من رباط الزواج الشرعي! ووجدته تتوالى عليه المواعظ فلا يتّعظ، وتتعاقب النُّذُر فلا يتوب: يموت أبوه وأخته وأمه، ويصاب بالمرض العُضال ينخر جسمه الذي رُبي بالحرام نخر السوس (1)، وتأتيه في ذلك فتاة لم تعرف غير الطهر ولم تصحب إلا العفاف، تريد أن تحيّي فيه الكاتب الفيلسوف الذي تُكْبره وتُجِلّه، قد حملت معها عفافها وطهرها وطيب سريرتها، فكان ردّه على تحيتها وترحيبه بها أن أخرجها من عنده بلا عفاف ولا طهر، وسلبها أعزَّ شيء عليها: عِرْضَها.

ووجدت كتاب حياته يُختصَر في كلمة واحدة: هي أنه خسر الإيمان والرجولة والفضائل كلها وربح شهرة عريضة، وترك صفحات فيها كلام جميل يلذ قارئه، ولكنه يسلبه إيمانه من قلبه ويقوّض بيته على رأسه، ولوحات فيها خطوط وألوان لا يرى فيها من كان مثلي من الناس، وهم مليون إلا واحداً من كل مليون، إلا أجساماً عارية لا معنى لها ولا دلالة، ولا يُعرف لها رأس من ذَنَب، والباقون من الناس يقولون إنها تدل على معان كبيرة هي رموز لحقائق الحياة، ويوضحون لك غامضها ويفتحون المغلَّق من معانيها بمحاضرة طويلة لا تفهم منها شيئاً، لأنهم هم لم يفهموا شيئاً منها.

هذه هو الرجل الذي اتخذه قومه «نبياً» !

(1) مات جبران بداء السل (مجاهد).

ص: 276

فخبروني: ماذا يصنع هذا الكتاب بنفوس الناشئة إن هم قرؤوه؟ أي قدوة في الحياة يكون لهم فيه؟ أيّ نمط من العيش يحبِّب إليهم؟ أما والله إنه لخطب داهم؛ ليس خطبَ هذا الكتاب وحده، فإن له لَأمثالاً، وإن أمثاله لَكثير كثير.

وسيقول قوم: أنت رجل رجعي جامد، هذا هو الفن، يُغتفَر لصاحبه ما لا يغتفر لغيره. ولئن كنتُ جامداً فهم والله مائعون، والجامد يستقر ويتماسك، أما المائع فيسيل ويضيع. ولئن كنت رجعياً فالرجعية مشتقة من الرجوع، وهي في الغرب سبّ لأنها عودة إلى ظلام القرون الوسطى وجَهالة الماضي الذميم، وهي عندنا مدح لأنها رجوع إلى مثل ما كان عليه أجدادنا في عصور العلم والنور.

أما قولهم "هذا هو الفن" فإني أنكره أشد الإنكار. إن الذي أعرفه أن الفن هو الذي يبحث عن «الجمال» بحثَ العلم عن «الحقيقة» ، وأنه يُدْرَك بالعاطفة كما يُدرَك العلم بالعقل. فمن قال إن الجمال لا يكون إلا في الفحشاء والمنكر؟ أليس في تصوير الفضيلة جمال؟ والوفاءُ والوطنيةُ والإخلاص والنبل، أَخَلَتْ كلها من الجمال، واقتصر الجمال على ما يثير الشهوة ويحركها؟ أوَمن أجل حماقة نزلت برأس فرويد فرفع من شأن الشهوة ونَوَّهَ بها ننسى فضائلنا وسجايانا؟

إنّ مَن كانت هذه مقالتهم لم يأتوا بجديد، إلا أنهم لم يسمّوا الرذيلة رذيلة ولا الفحش فحشاً، وإنما سموه فناً. والجنون فنون، والذي أعرفه أنا أن الفن إن كانت عاقبته فساد الأخلاق وانهيار بناء الأمة لم يكن له وزن، وأن للأدب غاية هي تهذيب الطباع

ص: 277

وصرف العواطف إلى الخير، وتنبيه الضمائر الغافلة، وإيقاظ الهمم والمروءات، وما إلى ذلك مما يكون منه نفع الناس، وأن في الحياة ما هو أثمن من الجمال والفن، فيها الخُلُق والعِرْض والفضيلة والدين، وأن من يبيع ذلك كله بلوحة مزخرفة بالخطوط والألوان، أو قصيدة قد أودعت سحر البيان، كان أخسَرَ الناس قاطبة.

وليست مقالتهم في الفن إلا إعادة لما يقوله غيرهم، فهي عن تقليد لا عن اجتهاد، وهي محصول ذاكرة تَحفظ وتُردِّد، لا ثمرة عقل يَبحث ويقيس ثم يصدّق أو يكذّب، لذلك تجد لهم الرأي وضده، وما الأولَ رأوا ولا بدا لهم فعدلوا، وإنما قال لهم معلّموهم فقالوا، ثم مالوا فمالوا، فلا سبيل إلى مناقشتهم فيما يقولون، ولا تجوز مناظرة المقلِّد الذي يروي قول إمامه دون دليله.

هذا الذي أعرفه، ولكنّ مَن حولي من الأدباء لا يعرفون إلا العبث يشتغلون به والنارُ تشتعل من حولهم، والسيلُ طامياً يندفع إليهم، والبلاءُ نازلاً يحيط بهم. وإلا فأين الأدباء عن هذا الذي في سواحل الإسكندرية وبيروت، وعمّا في دور الملاهي وحانات الخمر؟ أين هم عن العِرض المَثْلوم في رأس البَرّ وستانلي باي (1)،

(1) من شواطئ الإسكندرية التي عُرفت بالتكشف والفساد من تلك الأيام. قال في غير هذا الموضع: "خبّروني: هل في الدنيا دين من الأديان أو خُلُق من الأخلاق يبيح هذا الذي في ستانلي باي وسيدي بشر؟ فلماذا لا يُحارَب المنكر؟ لماذا لا يقوم عليه القائمون على الأخلاق؟ لماذا لا ينفّر منه الأدباء؟

يا أيها المصريون، بل أيها=

ص: 278

والشرف المُهان والفجور المُعْلَن؟ أين هم عن المدارس التي تعلم التلاميذ الجهل مركَّباً تركيباً مَزْجِيّاً كيميائياً، حين تعلمهم كل شيء إلا حقائق دينهم، وحين تقرهم على كشف العورات وإضاعة الصلوات واختلاط البنين بالبنات، أو هي تدفعهم إلى ذلك دفعاً؟ أين أدباؤنا عن الرجولة التي يعصف بها داء التأنّث في الشباب؟

يا ويحَ من يظن أن الأدب إنما هو حديث الشهوة ملفوفاً برداء الفن، والمواخير موضوعةً بين دفّتَي كتاب أو في غلاف مجلة، ويستهين بالعِرْض والأخلاق، والعرب أغير الأمم على الأعراض، يفخرون بالبخل بها وصيانتها فخرَهم بالجود بالمال وبذله، ويحافظون عليها في صحوهم وسكرهم:

وإذا شربت فإنني مُستهلِكٌ

مالي، وعِرْضي وافِرٌ لم يُكْلَمِ

لأن المال يُعوَّض إن فُقِد، والعرض إن ثُلِمَ لا يلتئم.

أصون عِرْضي بمالي لا أُدنِّسه

لا بارك اللهُ بعد العِرْضِ بالمالِ

أحتالُ للمال إنْ أَوْدَى فأجمعه

ولست للعِرض إن أودى بمُحتالِ

= المسلمون: انتبهوا، إنها النار شبّت في «ستانلي باي» وأقبلت تضربها الرياح الأربع وتهيّجها تحرق كل ما تمسه. إنها النار، وإني نذير لكم". انظر مقالة «إلى علماء مصر» في كتاب «في سبيل الإصلاح» ، وهذه المقالةُ هنا (هي والتي ستأتي بعدها) كأنهما التتمة لها، فكان ينبغي أن تلحقا بها في ذلك الكتاب (مجاهد).

ص: 279

وكانوا يفخرون بغض الطرف عن الجارات:

وأغُضُّ طَرْفي إنْ بدت لي جارتي

حتى يواري جارتي مأواها

هذا وُهم في جاهلية، فلما جاء الإسلام وبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم ليتمم مكارم الأخلاق أقرَّ العربَ على ما كانوا عليه من فضيلة، ومن فضائلهم الغَيْرة على الأعراض، وأدّبهم أحسن التأديب حين أنزل على نبيهم:{قُلْ للمُؤْمنينَ يَغُضّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظوا فُرُوجَهُم} ، وحرّم عليهم كشف العورات. ثم استدار الزمان، وكان ناس يدّعون أنهم عرب مسلمون ثم لا يتخلقون بأخلاق الجاهلية ولا يتأدبون بأدب الإسلام؛ غاض ماء الحياء من وجوههم فلم يستحيوا أن يسايروا زوجاتهم في الطرقات سافرات باديات الشعور والنحور، واستُلَّت الشهامة من قلوبهم وامَّحَت الغيرة، فلم يردعهم دين ولم يزعهم خُلُق عن أن يعرضوا بناتهم ونساءهم وأخواتهم عاريات الأجسام كلها إلا ما يستر العورة الكبرى، في مكان اختلط فيه الرجال والنساء

أمرٌ واللهِ لو سمعه مسلم من المسلمين الأولين لصُعق له، ولو سمعه جاهلي لأغمي عليه من غرابته وفظاعته، ومصر ذات الأزهر لا تمنع ذلك ولا تحرّمه، ودينها الرسمي الإسلام!

اللهمَّ إليك المشتكى!

وهذه مجلات مصر تنشر كل أسبوع صور العاريات، فتزيد نار الشهوة في أعصاب الشبان والشابات ضِراماً ولا مُنكِر، حتى جرّأها هذا السكوت على الإقدام على عدوان يمنعه القانون

ص: 280

والذوق والنبل والدين، وهو تصوير الشيخ الجليل أبي العيون تصويراً هزلياً بعمامته وجبته ومعه امرأة عارية، وتكرار ذلك مرتين، وتهكمها عليه لأنه انفرد بإنكار هذا المنكر الفظيع وأعلن الغيرة على الأعراض.

فإلى متى تمتد هذه الجاهلية العمياء؟

* * *

فيا أدباء مصر: انتبهوا، فوالله إنها لتوشك أن تنهار الأخلاق فلا تقوم لها قائمة، وتذهب هذه البقية من الدين فلا يبقى دين، وتموت هذه الفئة من أهل المروءة فلا يبقى من مروءة.

يا أدباء مصر: إن العالم العربي ليسمع منكم ويقتدي بكم، فإن أنتم لم تسلكوا به سبيل الإصلاح وتدلّوه على طريق الخير كان عليكم أكبر الوزر. ورحم الله ذا قلم جرّده لنُصرة هذه الدعوة والدفاع عن الشرف، وذا صحيفة فتحها لتلك الأقلام، وأعانها على دعوتها، وكل قارئ أقبل عليها ونشرها.

* * *

ص: 281