المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فلسفة العيد نشرت سنة 1967   لما دفع إليّ موزّع البريد الكتابَ ورأيت - صور وخواطر

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌ ‌فلسفة العيد نشرت سنة 1967   لما دفع إليّ موزّع البريد الكتابَ ورأيت

‌فلسفة العيد

نشرت سنة 1967

لما دفع إليّ موزّع البريد الكتابَ ورأيت على ظرفه اسم جريدة «البلاد» (1) قرأته من عنوانه، وعرفت قبل أن أفتحه أن فيه تكليفاً بمقال، ولكن ما عرفت ولا قدّرت أن يكون المقال في الفلسفة!

وظننت أن الأستاذ رئيس التحرير غلط فظن اسمي هنري برجسون أو وليم جيمس، أو أن أحد أولاد الحـ

ـلال قد اغتابني عنده فقال له إني فيلسوف عظيم! وهممت أن أعتذر. ثم داخلني الغرور وقلت: ما دام رئيس التحرير قد رآني أهلاً للكتابة في الفلسفة فأنا من الفلاسفة الكبار، ولكني -من التواضع- أجهل مقدار نفسي! وذكرت أن في بطاقاتي القديمة بطاقةً مطبوعة سنة 1348هـ مكتوباً عليها تحت الاسم الكريم (أي اسمي)«بكالوريوس فلسفة» ، وكنت قد اقتديت في ذلك بصديقي الدكتور زكي المحاسني الشاعر الكاتب، وكان زكي قد

(1) نُشر هذا المقال في جريدة «البلاد» يوم 28 رمضان 1386 (10 كانون الثاني/يناير 1967)(مجاهد).

ص: 359

نال الشهادة في الفلسفة قبلي بسنة واحدة، وهو في مثل سني، ولكنه يدّعي أن عمره ست وخمسون سنة فقط (1)!

وكنا قد تعلمنا أن الفلسفة كانت قديماً «تَحضُن» العلومَ كلها، لمّا كانت العلوم كالأطفال في سن الحضانة، فكلما كبر علم و «بلغ» سن الرشد استقل عنها. وكانت مناهج الفلسفة التي درسناها فيها علم النفس والأخلاق والاجتماع والمغيَّبات (ما وراء الطبيعة، أي الميتافيزيك)، وعلم الجمال وعلم المنطق بقسمَيه، الصوري اليوناني والفكري.

أي أن الفلسفة كانت على أيامنا مثل بريطانيا التي كانت العظمى، فكبرت تلك العلوم فاستقلت وصَغُرَت هي وقَلَّت، حتى لم يبقَ فيها إلا مباحث (ولا أقول علم) ما وراء المادة (الميتافيزيك)، كما أنه لم يبقَ لبريطانيا التي كانت تحكم ربع سكان الأرض من ربع قرن إلا لندن وضواحيها، لأن أيرلندا لا يريدها أكثرها، وإسكتلندا لها تاريخها المغاير لها، وويلز (حتى ويلز) تنطق -كما سمعنا- بغير لغتها.

إذن

إذن أنا فيلسوف حقاً ما دام رئيس التحرير -وهو حجة في معرفة الرجال- قد رآني أهلاً للكتابة في الفلسفة، وما دمت أحمل شهادة في الفلسفة مَرَّ عليها أربعون سنة، ولم يبقَ عليّ لأستكمل شروط الفلسفة كلها إلا أن أُطيل شعر رأسي وأركب على حمار أبيض، كما فعل الشاعر الزهاوي لمّا عمل

(1) كان عمر جدي يومها سبعاً وخمسين، رحمه الله ورحم المحاسني (مجاهد).

ص: 360

فيلسوفاً، بعد أن كان شيخاً له جُبّة وعمامة! وهذا سهل؛ فتطويل الشعر يوفّر أجرة الحلاق، وركوب الحمار يُغني عن السيارة ومشاكل السائقين.

ولكن كيف أتفلسف في الكلام على العيد؟

قرأت مرة لأستاذ جامعي كبير فصلاً في «فلسفة عَبِيد بن الأبرص» . وليست فلسفته مذهباً يفسر مشاكل الفكر أو يكشف خفايا النفس، أو يزاحم فلسفة أرسطو وأفلاطون، بل إن فلسفته في قوله:

وكلُّ ذي غَيْبَة يَؤوب

وغائبُ الموت لا يَؤوب

هذا الكشف العظيم هو الذي أدهش الأستاذ الجامعي الكبير حتى جعل منه فلسفة عرف فيها هذا الأمر المخبأ وكشف هذا السر المتواري، لأن الناس كانوا يظنون أن الميت يؤوب، وأنه يموت اليوم ليعود غداً، وأنهم يضعونه في القبر فيجدونه خارجاً من بئر المقبرة قاعداً في دلو الماء! فجاء الشاعر الفيلسوف ابن الأبرص يؤكد لهم أنه لا يؤوب.

فهل تريدون فلسفة من هذه النوع؟

هل أقول إن الأيام تمر متشابهة متشاكلة كما يمر الجندي في العرض، لباسهم واحد وزيهم واحد، ثم يأتي القائد بثيابه المتفردة وأوسمته اللامعة، وأن العيد في الأيام كالقائد في الجند (1). ولكن هذا تشبيه سخيف وليس فلسفة العيد.

(1) انظر مقالة «حديث العيد» في كتاب «مع الناس» (مجاهد).

ص: 361

أم أقول إن أعياد الناس منها أعياد وطنية تذكّر بحادث رائع أو نصر بارع، وأعياد موسمية كيوم النيروز وأعياد الربيع، أو أعياد لهو ولعب ومتعة كأعياد المساخر (الكرنفال) وأعياد الفسوق الذي يسمى فناً، وأعياد فيها مزيج من هذا وذاك، تبدأ في المعبد وتنتهي في المرقص! وإن لنا -معشرَ المسلمين- عيدين اثنين، عيد الفطر وعيد الأضحى، وإنهما عيدان دينيان، فالفطر شكرٌ لله على التوفيق للصيام، والأضحى شكر لله على التوفيق للحج.

ولكن دين الإسلام يجمع الدنيا والآخرة، ويطلب أداء حق الله وحق النفس وحق الأهل وحق الناس، لذلك كان في العيد لبس الجديد، وبهجة الوجه، وحلاوة القول، وبسطة اليد، والسعة في الإنفاق، وأن يشمل بالخير القريبَ والجار، فيكون عيدنا ثواباً من الله، وأُلْفة بين الناس، وتعميماً للخير.

ولكن هذا الكلام ليس فلسفة العيد، فما فلسفة العيد التي يطلب رئيس التحرير أن أكتب فيها؟

هل أقول: إن العيد -في حقيقته- عيد القلب، فإن لم تملأ القلوبَ المسرّةُ ولم يُتْرِعْها الرضا ولم تَعُمَّها الفرحة كان العيد مجرَّد رقم على التقويم؟

إذا كان هذا هو العيد فأين -يا إخوتي- هو العيد؟ أين بهجة القلب وأين مسرة النفس وأين بهاء الأيام، وهؤلاء هم العرب، بل هؤلاء هم المسلمون كلهم، في خلاف ونزاع وتهاتر وتخاصم؛ قد اشتغلوا بهدم أنفسهم عن هدم عدوهم، وأُلقي بأسهم بينهم، وترك أكثرُهم دينَهم وتخلَّوا عن كريم خِلالهم؟

ص: 362

أين العيد وهذه حال المسلمين؟ وكيف يبتسم القلب وهو يبكي دماً لما يرى ويسمع؟ وكيف نقول لمن نلقاه: "كلَّ عام أنتم بخير"، وما نحن بخير هذا العام، ولا كنا بخير العامَ الذي قبله، ولو أنه لا يجوز اليأس لقلت إننا لا ننتظر أن نكون بخير العام الذي بعده؟ (1)

فلا تقولوا: "كل عام أنتم بخير"، ولكن قولوا لمَن تلقونه في هذا العيد:"ما كل عام أنتم بِشَرّ"! فهل تكون هذه هي فلسفة العيد؟

* * *

(1) لم يطَّلِعْ الشيخ على الغيب، ولا يكون ذلك لبشر، ولكن قلب المؤمن ينير له الظلمات ويهديه في المُدلَهِمّات، وكذلك كان؛ فإنها لم تَنْقَضِ غير مئة وخمسة وأربعين يوماً بعد نشر هذه الكلمة حتى سقطت القدس في أيدي اليهود! (مجاهد).

ص: 363