الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من تاريخ الماضي القريب
رقم مكسور
نشرت سنة 1968
لا، لا تظنوه «رمزاً» ولا تُتعبوا أنفسكم في تفسيره، فما كنت قط من كتّاب الرمزية ولا ملت يوماً إليها، وما هو إلا «رقم مكسور» حقيقة في التقويم المعلَّق في داري، نظر إليه صبي صغير، ابن أحد أصدقائي، وقد سألته عن السنة الجديدة، فقال إنها سنة 1918؛ ذلك أن رقم الستة قد كُسر رأسه فصارت الستة واحداً.
قطعة طولها ثلاثة مُعَيشيرات (1)، ولكنها ردّتني إلى الوراء خمسين سنة. وجدت نفسي مشدوداً إلى الماضي على الرغم مني، لم أعد أستطيع أن أفكر في غير سنة 1918، لأن صورها طغت على نفسي حتى أنستني الموضوع الذي كنت أفكر فيه لأكتب فيه مقالة المجلة. فأفتِني يا أخي الأستاذ العامودي (2): هل
(1) المِعشار سنتيمتر، والمُعَيشير (مُصَغَّره) ملّيمتر.
(2)
كان الأستاذ محمد سعيد العامودي رئيسَ تحرير مجلة «الحج» التي نُشرت فيها هذه المقالة في عدد شوال سنة 1387 (مجاهد).
أدع الكتابة في هذا العدد، أم أسرد على القرّاء ذكريات 1918؟ وما للقراء وذكرياتي؟ وليست مجلة «الحج» مجلة أدبية وما أُعِدَّت لنشر الذكريات؟
ما عندي اليوم إلا هذا الموضوع، فإما أن تتكرم بنشره، وإما أن تعفيني من الكتابة في هذا العدد من المجلة، والأمر لك يا أخي الأستاذ السعيد!
* * *
قطعة من الرقم بحجم رأس الدبوس، ولكنها ردتني إلى ما قبل خمسين سنة. وما خمسون سنة بالزمن الطويل، ولكن هذه السنين الخمسين قد بدّلت في حياتنا كل شيء. إني عندما أذكر كيف كنا سنة 1918 وأرى كيف صرنا سنة 1968 لا أكاد أصدق أني يقظان، وأفرك عيني أحسب أني نائم وأن الذي أراه رؤيا منام! لقد تبدلت الأرضُ غيرَ الأرض والناسُ غيرَ الناس، وما كنا نظنه من المستحيلات صار حقيقة واقعة.
وما لي أعمد إلى التعميم قبل التخصيص والفلسفة قبل القصة، وأنسى أني أدوّن ذكريات تلميذ لا أسرد تاريخ عصر؟
لقد كنت سنة 1918 تلميذاً، وعندي وثيقة محفوظة فيها درجاتي المدرسية لتلك السنة، وكنا لا نزال في دمشق في ظلال الحكم التركي. وكانت الحرب في نهايتها، ولكني لا أعرف منها إلا ما يعرفه تلميذ يقيم في بلد بعيد عن الحرب وأهوالها، وإن لم يكن بعيداً عن آثار الحرب.
كنا نرى آثارها في الطرق الخالية من الرجال، لأن الرجال
سيقوا كرهاً إلى معركة كانوا يحسّون أنْ ليس لهم فيها ناقة ولا جمل، وأنها ليست جهاداً في سبيل الله ولا دفاعاً واجباً عن الأرض ولا عن العرض، لذلك كانوا يفرّون منها، وكان الضابط الموكل بالفُرّار (الذي كنا ندعوه بـ «أبي لبّادة» لأنه يلبس قلنسوة طويلة من اللبّاد) يمسك بكل شاب يراه -إذا هو رأى شاباً- يسأله: نَرْدِه وَثيقة؟ (أي: أين وثيقتك؟) فإذا لم يُبرز وثيقة الإعفاء من الخدمة العسكرية أو الإجازة المعتادة أمر بسحبه إلى مقر التجنيد، وكنا نسميه «السُّوَيقات» ، وكان على طريق المدرسة (1).
فكنا نرى المقبوض عليهم بالعشرات، نمر بهم كل يوم كما نمر بالجائعين الممددين على جوانب الطرق، الذين يبحثون في أكوام القمامة عن شيء يأكلونه، وكان هذا من المناظر المألوفة! وكان الخبز من النوادر، والأفران مغلقة الأبواب، ما فيها إلا كوة صغيرة يزدحم عليها الناس ليأخذوا أرغفة من الخبز الأسود، وما ذلك إلا لأن الترك أخذوا قمح الشام إلى حلفائهم الألمان، وتركوا أهل الشام (كما تركوا جنودهم في الميدان) بلا طعام!
وزاد البلاءَ وُرودُ الجراد. وإني لأذكر صبيحة إعلان الحرب سنة 1914 وقد تغطت سماء المدرسة بالجراد، تغطت حقيقة والله، كأن أَرْجال (2) الجراد سحابة مطبقة، لا أقولها مجازاً،
(1) قال في «الذكريات» : "وهو في البناءين القائمَين إلى الآن في سوق صاروجا". وأكثر ما يُذكر هنا موجزاً مَرويٌّ هناك بالتفصيل. راجع حلقات الذكريات 4 - 6، في الجزء الأول (مجاهد).
(2)
جمع رِجْل، وهي الجماعة من الجراد (مجاهد).
وكانت سحابة واطية قريبة حتى كان الجراد يتساقط على الأرض! جراد كَنَسَ الحقول وقضى على كل شيء مَرَّ عليه.
كانت أيام بلاء وشقاء، ولكنا كنا نهتف في المدرسة كل صباح بالتركية "باديشاهم جوق يشا"، أي أطال الله عمر السلطان. كانت أناشيدنا باللغة التركية، وكان من المدرسين من يدرّسنا باللغة التركية، حتى النحو، القواعد العربية كنا نتعلمها باللغة التركية، فإذا أراد المدرّس أن يسألنا مثلاً "ما هو الفاعل" قال: فاعل نِدِرْ؟ وكان اسم جمال باشا يُدخل الرعب إلى قلوبنا نحن الصغار، حتى إن معلماً في المدرسة أشاع أنه نسيب جمال باشا، فكنا نموت من الخوف إذا دخل علينا.
هذا كل ما كنا نعرف عن الحرب. ومن أين نعرف أكثر منه وما كان في البلد، بل لم يكن في الدنيا كلها إذاعات، وما كان عندنا جرائد، أو ما كنا نعرف -نحن التلاميذ- وما كان يعرف جمهور الناس ما الجرائد، وكانت دمشق في عزلة، كانت منطوية على نفسها.
لم يكن في الألف من أهلها واحدٌ يستطيع أن يعدّ أسماء خمس دول أوربية ولم نكن نعرف شيئاً من مخترعاتها. لمّا جاءتنا أول سيارة (سنة 1915 أو 1916، لم أعد أذكر)، سيارة فورد من ذوات الرفارف والدواليب الدقيقة والسقف المصنوع من القماش، خرج الناس كلهم ليروها، ليروا هذه الأعجوبة: عربة تمشي بلا خيل تجرّها! فلما وصلت فزعوا منها وابتعدوا عنها! لم يكن في دمشق إلا عشرون داراً فيها الكهرباء. لم يكن فيها شارع واحد، وأول شارع فيها هو الذي فتحه جمال باشا سنة 1916،
أذكر ذلك، ولا يزال يحمل عند الناس اسمه إلى الآن.
كنا نقرأ في المدرسة «الجغرافيا» ، ولكن العلماء كانوا يبحثون في حلقاتهم عن حكم قراءة الجغرافيا: هل هو الإباحة أو المنع؟ وكان ثلاثة أرباع الناس، بل أكثر، يعتقدون أن الأرض مسطَّحة ويكّفرون من يقول بكرويتها! مع أن المسلمين عرفوا أنها كرة، بل هم قد قاسوا محيط الأرض وعرفوا طول خط الاستواء قبل ألف ومئتَي سنة، والرقم الذي وصلوا إليه لا يختلف عن الرقم المعترَف به اليوم علمياً إلا واحداً في الألف.
تقدمت الأمم وتأخرنا، وتعلّمت وجهلنا، حتى انتهينا سنة 1918 - على عهد العثمانيين- إلى جَهالة مطبقة بالدنيا وأهلها.
ولست أعني أن حكم العثمانيين كان شراً، ولست مع هؤلاء المغفلين الجاهلين الذين يقولون «الاستعمار العثماني» كما يقولون «الاستعمار الفرنسي» و «الاستعمار الإنكليزي» ؛ فلقد كان العثمانيون الأوّلون ملوكاً مسلمين، رفعوا راية الدين وفتحوا لها ربع أوربا، وأقاموا للإسلام دولة كانت ثالثة الدولتين الكبيرتين: دولة أمية ودولة العباس، وكان منهم ملوك عظام كالفاتح والقانوني (سليمان). ولكن خلف من بعدهم خلف كانوا شراً علينا وعلى قومهم، هم «الاتحاديون» . بل لقد بدأ الفساد من عهد السلطان محمود (1) الذي ترك أحكام الشرع وأخذ
(1) السلطان محمود الثاني، حكم الإمبراطورية العثمانية بين عامَي 1808 و1839، وكان عصره كئيباً والخسائر فيه كثيرة، وفي أيامه ضاعت الجزائر (مجاهد).
قوانين أوربا، دفعه إلى ذلك ضغط الكفار وجمود أذهان العلماء وعجزهم -كما يقول ابن القيم في مثل هذه الحال- عن استنباط الأحكام من أدلة الإسلام.
الاتحاديون الذين شوّهوا اسم السلطان عبد الحميد (وقد تبين اليوم براءته من أكثر ما اتهموه به) والذين انهزموا أمام دول البلقان التي كانت تخضع للسلاطين من آل عثمان، والذين أقحموا الدولة في حرب ما لها فيها مصلحة فقضوا عليها. هؤلاء الذين منهم جمال باشا هم الذين أساؤوا إلينا وإلى الترك على السواء.
* * *
وأصبحنا يوماً من سنة 1918 وإذا في البلد رَجّة، وما كانت تعرف بلدُنا الرجات، وإذا نحن نرى لأول مرة «المظاهرات» ، وما كنا نعرف إلا «العرضات» . وإذا نحن نسمع هتافاً، لا كهتاف "باديشاهم جوق يشا"، بل هو هتاف جديد:"لِيَحْيَ الاستقلال العربي".
ورأينا الناس فرحين ففرحنا معهم، لا لأننا عرفنا سر فرحهم، بل لأن مدرستنا التركية قد أغلقت وسُرِّحنا منها، فلذلك فرحنا! وسمعنا الناس يقولون: جاء الشريف وانقضى حكم الأتراك، فقلنا: من الشريف؟ قالوا: فيصل بن الحسين، منقذ العرب ومحررهم وقائد نهضتهم.
ولم نكن نعرف ما صنع منقذ العرب ولا ندري ما هذه النهضة العربية التي يتحدثون عنها، فعشنا حتى عرفنا ودرينا!
كم رأينا بعدُ وكم شاهدنا!
رأينا ولادة الاستقلال وموته في ميسلون، ودخول غورو، وثورة سنة 1925 التي دامت سنتين، قهرنا فيها فرنسا التي غلبت الإمبراطور غليوم، غلَبَها منّا مئاتٌ من الثوار. وشهدنا بعث الاستقلال سنة 1946، والانقلابات التي بدأها حسني الزعيم ولم تنتهِ بعد (ولا يعلم أحد متى تنتهي)، والوحدة والانفصال.
كم شاهدنا من دول قامت ثم زالت، وعهود كانت ثم انقضت، وناس كانوا على كراسي الحكم في السراي ثم صاروا على حصير السجن أو على أعواد المشانق! أدركنا عهد الترك، وعهد الشريف، وعهد الفرنسيين، وعهد الاستقلال، وعهد الوحدة
…
وما عهدٌ منها إلا بكينا فيه منه وبكينا بعده عليه!
الناس يقرؤون التاريخ، ولكنّا عشنا نحن في التاريخ، لم نطلّ عليه من نوافذ المناهج المدرسية بل كنا فيه من داخل. الأساتذة والمؤرخون الذين يكتبون التاريخ يقعدون مع المشاهدين، وكنا نحن على المسرح مع الممثلين.
يقولون إن الدهر دولاب يدور أبداً، يرفع ويضع، ويعلي وينزل، ولكنه كان يدور ببطء عقرب الساعة، فصار يدور بسرعة مراوح الطيّارة. لقد تبدلت الأحوال وتغير المجتمع في هذه السنين الخمسين أضعافَ أضعاف ما تبدلت في القرون الخمسة الماضية.
* * *
والحديث طويل طويل، وإذا قدر الله أن يتم كتابي الكبير «ذكريات نصف قرن» جاءتكم في فصوله بقاياه (1).
* * *
(1) وقد جاءت بقاياه بالفعل، ولكن بعد نشر هذه المقالة (والتي بعدها في الكتاب) بأربع عشرة سنة، لمّا نشر جدي رحمه الله حلقات ذكرياته في «المسلمون» أولاً وفي «الشرق الأوسط» آخِراً، وهي التي صارت اليوم كنزاً مطبوعاً في ثمانية مجلدات يتداولها الناس (مجاهد).