الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يوم مع الشيطان
نشرت سنة 1957
-1 -
أنا أخطب من قديم، فما يتعاظمني بحمد الله موقف ولا أضيق بقول، إلا موقفاً واحداً، كلما ازددت بالخطابة تمرُّساً ازددت له هيبة ومنه فراراً، فأنا لا أزال أمامه اليوم ذلك الشابَّ الذي أقدم على مواجهة الناس أول مرة في حفلة مدرسية كانت قبل بضع وثلاثين سنة، وقد كنت تلميذاً في المدرسة الثانوية (1).
ذلك الموقف الذي أخشاه وأتهيَّبه هو خطبة الجمعة، وما أهابه خوفاً من الناس، فقد فرغ مني الناس وفرغت منهم إذ صار لي منهم صديق وعدو، أما الصديق فليس يضرّني عنده أن أسيء مرة وهو يرى أني قد أحسنت مئة مرة، وأما العدو فمهما جئته به من خير وإحسان أترضَّاه به فلن أنال رضاه
…
بل لأن هذا الموقف خاصة -من دون المواقف كلها- ليس مقام فصاحة ولَسَن وبيان، ولكنه مقام وعظ وهداية وإرشاد، مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمَن قامه وجب أن يتخلق ما استطاع بأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم وأن يكون متّبعاً
(1) القصة في الذكريات: 1/ 132 (مجاهد).
سنن الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى إذا قال "اتقوا الله" لم يكذب قولَه فعلُه، ولم يُبطل ما يعرف الناس من سيرته أثرَ ما يسمعون من موعظته، ولأنه المقام الذي لا يقول فيه الخطيب:"سادتي"، ولا يوجه كلامه توجيه تشريف وإعظام لصاحب فخامة أو صاحب دولة كما يصنع خطباء الدنيا، بل هو ينظر بعين الشرع فيراهم كلهم عبيداً لله، أكرمهم أتقاهم لا أقواهم ولا أغناهم، وهو يتكلم بلسان الشرع، فيرفعه الشرع حتى يكون فوقهم جميعاً، فيأمرهم جميعاً وينهاهم ويحذّرهم ويُنذرهم، فإن كان يأمر ولا يأتمر وينهى ولا ينتهي بطل نفعه وذهب خيره، وأعقبه ذلك الهوانَ على الناس والخَسارَ في الآخرة.
لذلك أجد عنتاً كلما كُلِّفت خطبةَ الجمعة وأُعِدّ نفسي لها من قبل أيام، أحاول أن أذكّرها بالله وأن أدلها على طريق الخير وأسلكه بها ما استطعت واستطاعت، وأبتغي من المواعظ والفِكَر ما ألين به هذا القلب القاسي.
وقد كنت قبل أيام أستعد لخطبة الجمعة التي ألقيتها في مسجد الجامعة السورية وأُذيعت منه، فنمت مبكراً على أن أقوم من الليل لصلاة العشاء، لعلي أدخل في ركب المتهجدين كما يدخل الفضولي الحقير في الوليمة الكبيرة التي لم يُدعَ إليها إلا السادة العظماء، فأكون مرة واحدة في عمري مع الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع، والذين يَصُفّون الأقدامَ والناس نيام، يَدْعون ربهم خوفاً وطمعاً، وما أنا منهم ولا أدرك غبارهم، ولكن تشبّهاً بهم:«إن التشبّه بالكرامِ فَلاحُ» .
وبيَّتُّ العزم على ذلك، فصحوت في الساعة التي قدّرتها
كأنما أيقظني موقظ، وذهبت أقوم، ومددت يدي (وكان النوم آخذاً بمعاقد أجفاني) فأحسست برودة الجو ودفء الفراش، فاسترخى جسدي، وحُبِّبَ إليّ النوم واجتمعت فيه رغباتي كلها، وسمعت كأن هاتفاً يهمس في أذني يقول: الوقت فسيح والليل طويل، والفراش دافئ والجو بارد، فنَمْ ساعة.
فاستجبت له، فجاء آخر يقول لي: قُمْ، نفِّذْ ما عزمت عليه وتوكل على الله، واذكر ثواب الصبر على الطاعة وعذاب الإقدام على المعصية. ولو أن رجلاً أدنى منك جمرة أو جاءك بمئة ليرة لوثبت من الفراش، فكيف لا تبالي بجهنم كلها وأنت تخاف الجمرة، ولا تحفل الجنةَ بنعيمها وأنت ترجو مئة ليرة؟
فعاد الأول يقول: تريث لحظة، وانقلب على جنبك الآخر.
واشتدت عليّ هذه الرغبة حتى لقد أحسستها في أعضائي كلها، فانقلبت فإذا أنا أشعر لمعاودة المنام على ذلك الجانب بلذة لا تعدلها اللذاذات. فرجع الثاني يقول: ويحك! هذا هو الشيطان يصرفك عن الصلاة، فاستعذ بالله منه.
وصرت بين «نم» و «قم» تترددان عليّ كدقات الساعة: نم، قم، نم، قم، نم، قم
…
وكنت أعرف من علم النفس أن هذا التردد لا آخر له، وسيظل حتى أستغرق في النوم أو يطلع الفجر، فإذا لم أَثِبْ عند كلمة «قم» لم أقم أبداً. وقلت: أعوذ بك يا ربّ من الشيطان وأسألك العون عليه، وتوجهت بقلبي إلى الله، فلما ذكرت الله رأيت الشيطان قد خنس وانقطع عني وسواسه، ولم يبقَ إلاّ
«قم، قم، قم» ، فقمت وتوضأت وقد سرَّني أني غلبت الشيطان واستجبت إلى طاعة ربي.
وأحببت أن أصلي صلاة خاشعة مخلصة لله، ووقفت للنية مُصَفّياً نفسي من الأكدار نافياً عن فكري الشواغل، أريد أن أدخل على الله وأنا نظيف لم تعلق بذهني أوضار الدنيا، وذهبت أقول:«الله أكبر» ، وإذا بالخواطر الدنيوية تنثال عليّ قبل أن أُتمّ تكبيرة الإحرام. فعدت أجمع ذهني وأركز فكري، فإذا حاولت الإحرام فسدت عليّ نية التوجه وتفرق ما جمعت من ذهني. وتكرر ذلك، وعجبت من نفسي، فما كان لي بمثله عهد من قبل. وذكرت الله واستغفرته فعرفت السبب؛ إنه الشيطان، لمّا طردته بالذكر أول مرة ووثبت من الفراش دخل نفسي العُجب وظننت أني صرت من الصالحين، فرأى الخبيث في هذا باباً جديداً يلج عليّ منه، فجاءني متنكراً بهيئة الناصح ليفسد عليّ صلاتي بهذا التكلّف الذي ما عرفه الصحابة ولا التابعون ولا أوجبه الله في كتاب ولا سنّة! (1)
واستعذت بالله منه وصليت، فلما انتهيت قال لي: ما هذه الصلاة؟ أين هذه من صلاة الخاشعين؟ إن الصلاة إذا لم تكن على وجهها كان وجودها كعدمها. فأدركت أن هذه حيلة من حِيَله
(1) كان هذا التكلّف شائعاً في تلك الأيام (ولعله ما يزال كذلك إلى اليوم) ولطالما رأيته في الجوامع وأنا صغير، يجهر المصلي بتكبيرة الإحرام مرة بعد مرة، وما يزال يكررها حتى يشوّش على المصلين صلاتهم، يريد أن يوافق نطقُه بها بلسانه استحضارَ نية الصلاة بقلبه، فهو كمن يسعى ليُدخل بيدٍ مرتعشةٍ خيطاً غليظاً في سَمّ إبرة صغير! (مجاهد).
طالما أضاع على كثير من المسلمين صلاتهم بها، يقول لهم:"ليست الصلاة ركوعاً وتلاوة وذكراً، ولكنّ الصلاة الحقَّ هي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر فلا يأتي المرء معها معصية ولا ذنباً، والتي يقف فيها بين يدي مولاه لا يفكر في شيء قط من أمر الدنيا ولا يذهب إليه ذهنه، ولا يبصر بعينيه ما حوله ولا يحسه ولا يدري به"
…
فلما استقر ذلك في نفوس طائفة من الناس ورأوا أنهم لا يقدرون عليه، قالوا: إذا لم تكن صلاتنا صلاة، ولم نكن نقدر على خير منها، فما لنا نُتعب أنفسنا بالركوع والسجود في غير ثواب؟ وتركوا الصلاة جملة، فكان لإبليس ما أراد!
مع أن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، وشريعة الله لا تنافي طبائع البشر التي طبع الله الناس عليها، وليس على المصلي إلا أن يخشع ما استطاع، وأقل درجات الخشوع أن يدرك معاني ما ينطق به وأن يتصورها، وكلما عرض له عارض من الأفكار الدنيوية التي لا يخلو منها ذهن مُصَلٍّ ذكر أنه بين يدي الله وأن الله أكبر منها، فطردها بقوله «الله أكبر» ، يقولها كلما قام أو قعد أو ركع أو سجد. أمّا أن نكلف المصلي ألاّ يرى ما حوله ولا يسمع به ولا يحس، ونجعل ذلك شرطاً لصحة الصلاة، فهذا ما لم يقل به أحد، والرسول صلى الله عليه وسلم أطال السجود لمّا ركب ظهره أحد ولدَي فاطمة (نسيت مَن منهما رضي الله عنها وعنهما) لأنه أحس به. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم:«مَن رابه في صلاته شيء فليسبِّح الرجال وليُصَفِّح (أي يصفق) النساء» ، وجوَّز قتل الحيّة والعقرب في الصلاة، وأباح للمصلي منع الماشي أمامه من أن يمر
…
ومعنى ذلك أن المصلي يرى ما حوله ويحسه، ومن قال إنه لا يرى؟
وعمر كان يفكر في تجهيز الجيش وهو في الصلاة (على الرغم منه) لاشتغال فكره به، لا أنه كان يتعمد. والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر حقيقة، فمن لم تَنْهَه صلاته لم يتركها، بل يرجع إلى الله بالتوبة والاستغفار، ومن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً خيرٌ ممّن ترك الطاعة وأقام على المعصية!
* * *
فلما رأى الشيطان أن هذه الحيلة لم تَجُزْ عليّ عاد يوسوس لي ويقول: لقد صليت صلاة كاملة، هذه هي الصلاة، وأنت رجل صالح متعبد عارف بالله لا يغلبك الشيطان أبداً، وأنت من أهل الجنة فاحمد الله على ذلك.
قلت: لعنك الله، هذه إحدى بلاياك! تريد أن آمَن مكر الله، فلا يأمن مكر الله إلا القوم الفاسقون، كما أنه لا ييأس من رَوح الله إلا القوم الكافرون، فالمؤمن أبداً بين حالتَي الخوف والرجاء، إن استقر على إحداهما وحدها هلك.
وقعدت أقرأ القرآن، لأن قرآن الفجر كان مشهوداً، فجرب الخبيث معي ألواناً من وساوسه كلها ليصرفني عن الفهم والتدبّر، منها أن أجعل همي كله لمخارج الحروف وأحكام التجويد، والترقيق والتفخيم والاستطالة والإشمام، وقال: انظر الضاد من «المغضوب» ، فإنها ما جاءت على وجهها، وانظر الغين فصحح مخرجها، والمَدّ المتصل في «الضالّين» لم يبلغ مداه
…
يريد أن أشتغل بذلك عن فهم القرآن والعمل به، مع أن ذلك مما لم يُسمَع عن صحابيّ أو تابعيّ أنه اشتغل به أو أَوْلاه هَمَّه، بل لقد كره
السلف التدقيق في ذلك (1).
ومنها أن أسرع وأتلو تلاوة الببغاء وأستكثر من القراءة لأقول إني ختمت في يومين أو ثلاثة. ومنها أن أتعلم القراءات المختلفة وأقرأ بها على العامة، وذلك مما لا أراه يجوز لأنه فتنة لهم وإفساد لعقيدتهم، ولأنه سبب عُجْب القارئ ورضاه عن نفسه، ولأن فيه صرفاً عن حقيقة التلاوة التي هي التدبر والفهم واستنباط الحكم، ثم إنه يجعل التلاوة صناعة من الصناعات يعيش بها أهلها، يقدَّم منهم مَن كان أطرى حَنْجَرة وأحلى صوتاً وأبصر بالأنغام، وهذا حرام (2). والقرآن ليس للاستكثار من الختمات بلا فهم، ولا للاشتغال بأوجه القراءات والاقتصار على أحكام التجويد، ولا للتلحين به كتلحين الغناء واتخاذه أداة للطرب، بل هو قانون فيه أمر ونهي، فيجب أن يُفهَم ويُهتدى بهديه، ويُتبَع أمره ويُنتهَى بنهيه، ويوقَف عند حدوده.
وجعلت أقرأ وأحاول أن أفهم وأفسّر لنفسي، وفهمت أحكاماً جديدة مما قرأت من آيات وأخذت أدوِّنها، ثم نبهني الله فعلمت أن الشيطان -لما رآني نجوت من أحابيله الأولى- عاد بأُحبولة جديدة، يريد أن أفسر القرآن بعقلي وأقول فيه برأيي فأضل.
(1) مانظر «الإحياء» للغزالي، و «تلبيس إبليس» لابن الجوزي، و «إغاثة اللهفان» لابن القيم: ج1 ص160.
(2)
والصحيح أنه لا يجوز (عند الحنفية) أخذ الأجرة على تلاوة القرآن، والفقهاء إنما جوّزوا أخذ الأجرة على تعليمه، وأخطأ المتأخرون منهم في نقل الحكم فخلطوا بينهما، وللعلامة ابن عابدين رسالة في هذا الموضوع، انظرها في مجموعة رسائله المطبوعة.
وكذلك يصنع الخبيث؛ يصرف الناس أبداً إلى الإفراط أو إلى التفريط ليجد بينهما دائماً باباً يدخل منه، ولذلك مدح الله الاعتدال والتوسط، وجعل أمة محمد صلى الله عليه وسلم أمة وسطاً، وجعل كل فضيلة وسطاً بين رذيلتين. والمسلك الحق في التلاوة وسط بين القراءة الببغاوية بلا فهم ولا تدبر، ولو صححت المخارج وضبطت الأحكام، وبين تفسير القرآن بالرأي، من غير رجوع إلى كتب اللغة وأسباب النزول والمأثور من التفسير.
* * *
وجعلت أقرأ وأرجع إلى الزمخشري وابن كثير وما عندي من كتب التفسير، فلما اشتغلت بالتلاوة والذكر شعرت بلذة روحية عرفت معها معنى قول الرجل الصالح (ونسيت من هو):"نحن في لذة لو ذاقها الملوك لقاتلونا عليها بالسيف"! (1) وعرفت أن هذه هي اللذة الباقية على حين تنقطع اللذائذ كلها. كُلْ ما شئت من الطيّبات، فإذا شبعت مرت بك ساعة لا يبقى للطعام فيها لذة تتوهمها أو ترجوها. وائت من شئت من الجميلات، فإذا انتهيت مرت بك ساعة لا تبقى للوصال فيها لذة تتصورها أو تتمناها. وكل لذة لها حد إن هي بلغته وقفت عنده، إلا لذة الروح. ولقد قرأت قصصاً كثيرة تمثل الواقع (وإن كانت من صنع الخيال) عن أناس نالوا من المال ما يعجزون عن إنفاقه ووصلوا إلى كل ما يريدون من المُتَع، وكانوا مع ذلك يشكون الفراغ والملل ويحسون أنهم قد فقدوا شيئاً، فهم أبداً يتطلعون إلى المستقبل ينتظرون هذا
(1) الكلمة منسوبة لإبراهيم بن أدهم (مجاهد).
«الشيء» الذي افتقدوه، وما فقدوا -في الحقيقة- إلا نفوسهم:{نَسُوا اللهَ فأنْسَاهُمْ أنْفُسَهُم} ، وحرمهم لذائذ الروح، وهي وحدها التي لا حَدَّ لها، ولا تزال كلما طلبتها تجد مزيداً منها.
* * *
فلما أصبح الصبح قلت: لأجرِّبَنَّ أن أكون مع الله يومي كله. فعاد الشيطان يقول: هذا الغرور، وهذا ما لا يكون، إنه أصعب الصعب، بل هو المستحيل.
قلت: بل هو والله السهل القريب، وما هي إلا أن أتصور كأني أرى الله، فإن لم أكن أراه فإنه يراني. فإذا كان أبي أو أستاذي الذي أُجِلّه وأحبّه قد أمرني بشيء ونهاني عن شيء، ثم قعد يُطِلّ عليّ ويبصر ما أصنع، أتراني أخالفه فأدع ما أمر به وآتي ما نهى عنه؟ إنه ما يعصي اللهَ أحدٌ وهو يتصور أنه يراه، ومن هنا جاء في الحديث:«لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» . أيزني على عين أبيه أو أستاذه؟ وما عليّ إلا أن أبقى متيقظاً متنبهاً، فكلما عرض لي أمر ذكرت حكم الله فيه، فإن كان محرَّماً تركته، وإن كان مباحاً حكّمت فيه عقلي.
قال: وهل تمنع خواطرَ السوء أن تطوف برأسك؟ وهل تملك نفسك عند الشهوة أو الغضب؟
قلت: أما الخواطر فإن الله -بكرمه ومَنِّه- يثيب على الخَيِّر منها ولو لم يحقِّقْه صاحبُه بالفعل، ولا يؤاخذ على الشرير إلا إذا حققه. وأما الشهوة والغضب فعليّ أن أجتنب أسبابهما، وأن أبقيهما في عقالهما لا أطلقهما حتى تجمَحا عليّ فأعجز عن كبح
هذا الجماح منهما. والشهوة والغضب كالصخرة المستقرّة على شفير الوادي، يصعب وَقْفُها إذا هي انحدرت كالبلاء النازل، ولكنْ لا يصعب عليك أن تَدَعها مكانها ولا تحركها. ثم إني لا أدّعي العصمة، وإذا غُلبت على أمري فأتيت ذنباً استغفرت وتبت، والتوبة الصادقة تمحو الحَوْبَة. ولست أنوي من الآن أن آتي المعصية وأن أتوب بعدها، وما أكون بذلك تائباً، ومن يضمن لي إن حييت أن أُقبل حينئذ على التوبة وألاّ استمرئ المعصية فأوغل فيها وأتبعها بغيرها؟
* * *
وحاولت -ما استطعت- أن أكون على العهد، فتبدلَت حالي ذلك اليوم حتى لقد عجب أهلي مني؛ كنت أغضب لأشياء يأتونها وأعاتب عليها، فسكَتُّ ذلك اليومَ عنها، وأكلت ما قُدِّم إليّ، لم أقل لشيء جاء ادفعوه عني ولا لشيء غاب هاتوه لي، ورضيت بما رأيت، إلا شيئاً محرَّماً فما كنت لأرضى به لو رأيته. ولبثت على مراقبة لله وحذر من الشيطان، وبقيت لي بقية من حلاوة الإيمان التي ذقت في السَّحَر، فكشف لي ذلك طرفاً من الحقيقة التي كانت محجوبة بأغشية المادة عن نظري، فرأيت أن المعطي المانع هو الله، وأنه هو النافع الضارّ، وأنه هو الذي يُضحك ويُبكي، وأن الناس ليسوا إلا قِطَعاً في هذه الآلة الضخمة تتحرك ولا تحرك نفسها، وأن من أصابه خير من قطعة فيها فشكرها واعتقد أن الخير من هذه القطعة، أو مسّه منها ضُرٌّ فعاتبها أو سبَّها يعتقد أن الضرر منها نفسها، من المسمار أو الدولاب، لم يكن إلا مجنوناً! ولست أزعم أن هذا الشعور قد
لازمني حتى صار عادة لي، فإن ذلك من مراتب الصدّيقين، ولو زعمته لكنت من أكذب الناس، ولكنه شعور خامرني لحظات وذقته أولَ مرة في حياتي.
وكنت -كسائر الناس- أفزع من الوَحدة وأحس ثقلها عليّ، وأحاول أن أفر منها إلى رفيق أُناقله لغو الحديث أو كتاب أقرأ فيه فارغ الكلام، فصرت ذلك اليوم أحب الوحدة وأطمئن إليها. وما يكون في وحدةٍ مَن يراقب الله ويحسّ بأنه معه يسمع ويرى، ويتوجّه إليه بالدعاء بلسانه وبقلبه يسأله ما دَقَّ وما جَلَّ، معتقداً أن كل شيء بيده، وأنه إن لم يُعْطِه ما طلب أعطاه خيراً منه. والدعاء بهذا المعنى عبادة، بل هو مخّ العبادة كما جاء في الحديث الصحيح. وغدوت منفرداً عن الناس وأنا منغمس فيهم داخل بينهم.
وجعلت أرصد الشيطان، فإذا هو مرابط لي عند كل طريق يؤدي إلى الجنة، يأتيني -كما أخبر الله عز وجل عن يميني وعن شمالي، ومن أمامي ومن خلفي، ولكنه لا يستطيع أن يجيء من فوقي ولا يستطيع أن يسد عليّ طريق الاستنجاد بربي. ورأيت الإيمان كالحصن الذي يحصِّنني منه، ولكنّ له في جدار هذا الحصن مداخلَ وثغرات احتفرها ليدخل منها، منها المداخل الكبار الظاهرة (وسأعدد بعضها في هذا المقال) ومنها المداخل الدقيقة الخفية. وعلى المؤمن أن يبقى ساهراً أبداً يحرس حصنه، أو أن يسد هذه المداخل سداً مُحكَماً ليأمن دخوله منها، وربما اغتنم الخبيث انشغال الإنسان بمراقبة مدخل منها فدخل عليه من غيره، كما صنع بي لما رأى أني لم أصدقه بأن صلاتي باطلة،
فعاد يدخل عليّ من باب العُجْب فيريني أنها الصلاة المقبولة الكاملة. وعلى مقدار سهر العبد في سد مداخل الشيطان وحراسة ما لا يمكن سده منها، يكون خلاصه من وسواسه في الدنيا ويناله نعيم الله في الآخرة.
والله لم يترك الإنسان في هذه الحراسة أعزل، بل وضع في يده سلاحاً ماضياً قاطعاً، «رشاشاً» يستطيع أن يردّ به أعْتى الشياطين، هو ذكر الله حتى يخنس الشيطان ويبلس وينكمش وينقطع وسواسه. وليس المراد الذكر باللسان فقط، بل التذكر بالقلب، وهو الأصل فيه، والمسافر الذي يذكر وطنه وأهله لا يقول بلسانه، ولكنه يستحضر الوطن والأهل بقلبه. وذكرُك اللهَ هو ألاّ تنساه، وأن يكون دائماً في قلبك، وأن تتصور أنه مطّلعٌ عليك وأنه معك، فإن صَحِبَ ذلك الذكرُ المأثور باللسان فهو أحسن وأكمل.
* * *
وكان لي مع الشيطان ذلك اليوم مواقف تستعصي على العدّ، أذكر منها هذا على سبيل المثال على وساوسه:
حاول أن يسخّطني على الله ويكفرني بنعمه عليّ، حينما مرّ بي في الطريق رجل كان معنا في المدرسة فخاب وقصّر، وكان مضرب المثل في السوء فطُرد من المدرسة، فما هي إلا أن جال ههنا وههنا حتى صار له الجاه العريض والمال الكثير، فجاء الشيطان يقول لي: أما ترى هذا؟ أتكون أنت في علمك وفضلك دونه مالاً وجاهاً، ما هو ذنبك حتى تقصر بك الأقدار عنه؟
فقلت: اخرس يا عدو الله! تريد أن أكفر بنعم الله عليّ؟ وهل في الدنيا أحدٌ نال الخيرَ كله حتى ما يزيد عليه فيه أحد؟ فلماذا أنظر إلى هذا ولا أنظر لأناس هم مثلي (إن لم يَفْضُلوني) علماً وخلقاً، وهم دوني في الجاه والمال؟ ولماذا تريدني أن أنظر لمن هم فوقي في الدنيا لأحسدهم، ولا أنظر لمن هم فوقي في الدين؟ لماذا أزاحم على زيادة درجة في دار الزوال ولا أزاحم على زيادة درجات في دار البقاء؟
لماذا أحسد هذا إن صار ماله أكثر من مالي، ولا أحسد ذاك على أنه صلّى أكثر من صلاتي، ونال أكثر من ثوابي، وكان له في بنك الحسنات رصيد أكبر من رصيدي؟ ولِمَ أحسده على ماله ولا يحسدني هو على علمي؟ أليس العلم والخلق والذكاء نِعَماً كنعمة المال والجاه؟ فماذا ينقصني؟ إنه لا ينقصني والحمد لله شيء أحتاج إليه: صحتي جيدة، وموردي يقوم بحاجاتي ويَفْضُل منه عنها، وأنا في سلام في بيتي، وفي راحة في عملي، وفي أمان في سِرْبي، وفي منزلة في بلدي، وأنا راضٍ عن ربي، وليس لي مطلب إلا أن يبعدك عني!
* * *
وحاول أن يثير ما أخمدته السنون من شهوتي حين واجهت في الترام فتاة إفرنجية كأنها فلقة بدر، وقد كشفت عن النحر والصدر والقدم والساق، ولقد ألممت بهذا كله منها بالنظرة الخاطفة. وذكرت حديث النظرتين وأن «لك الأولى وعليك الثانية» ، فغضضت عنها وملت ببصري إلى الطريق وبفكري إلى مسائل أُخَر. فرجع الشيطان بفكري إليها، وجعل يعيد عليّ تصور
مفاتنها ويمثلها لي على صور لا أستطيع أن أعرض لها بالوصف، وإن كان كل قارئ يدرك مثلَها بالتصوّر، فسرقَتْ عيني نظرة أخرى إليها من غير عزم مني عليها، فاستعذت بالله وقرأت الآية:{يَعْلَمُ خَائنَةَ الأَعْيُنِ ومَا تُخْفي الصُّدورُ} ، متعجِّباً من دلائل الإعجاز فيها، وأنها ألمَّت بأربع كلمات فقط بحالات النفوس البشرية ودخائلها؛ «خائنة الأعين» ؟ لقد خانتني عيني حقيقة، فما أعظم أسلوب القرآن!
ولما رأيت أن المعركة مع الشيطان قد طالت وخفت ألاّ أثبت في الميدان فررت بديني ونزلت فوقفت أنتظر تراماً آخر، هذا وأنا في سن الخمسين، فكيف بابن العشرين أو الثلاثين؟ وجاء الترام الآخر فركبته، وأحسست أن الملعون قد ركبه معي، فما إن أخذت مكاني في غرفة الدرجة الأولى، وسلّم عليّ الجابي وسلّم عليّ بعض الركاب وأثنوا على أحاديثي ومواعظي، حتى وسوس لي الشيطان يقول: أرأيت؟ إن ألسنة الخلق أقلام الحق، وإن ثناءهم عليك يكتب لك ويشهد لك بالصلاح.
فقلت: أعوذ بالله منك أن تخدعني عن نفسي وأن تجعلني أصدق كلامهم فيّ.
وصعد رجل ما عليه إلا أسمال ممزَّقة وسخة لها رائحة تزكم الآناف، فضممت عنه ثيابي ليمرّ، فلم يسعه إلا أن جاء فقعد إلى جنبي. وأحسست بنار الغضب تشتعل في أعصابي، ووثق الشيطان من انتصاره هذه المرة عليّ، فرجعت وقلت: لا والله، لا أشمّت الشيطان بي. وذكرت عهديَ اللهَ، وتوجهت إليه مستعيناً به، فأنزل السكينة عليّ وبدّل مقاييس الرجال في عيني. وما أكثر ما
تتبدل هذه المقاييس؛ ففي التدريب العسكري يصنَّف الناس على طول الأجسام، فإذا رجعوا إلى وظائفهم صُنِّفوا على المراتب والدرجات، فإن جاءت المعركة صُنِّفوا على الشجاعة والإقدام، فإن كان دفع الضرائب صُنِّفوا على المال والأملاك
…
ورأيت كأني في يوم العرض، يوم الامتحان الأكبر، يوم يكون الناس قسمين لا ثالث لهما: ناجحين في الامتحان يمشون فرحين مستبشرين إلى الجنة، وساقطين في جهنم يشيّعهم الخزي والعار، وقلت: لعل هذا بثيابه القذرة ورائحته المنتنة يكون مع الناجين، وأكون أنا -لا قدّرَ الله- مع الهالكين، ولعل من حقه هو أن ينفر مني ويضم ثيابه عني!
واستغرقت في هذه الخواطر حتى بلغ الترام الغاية.
-2 -
ووجدت أن من أوسع مداخل الشيطان إلى قلوب الناس: المال.
ولقد خلق الله الخلق لعبادته وأمرهم بأوامر يأتونها، وحدد لهم أرزاقهم وكفلها لهم، وأقسم لهم على أن ذلك حق مثلما ينطقون. هل يشك ناطق في أنه ينطق؟ فتركوا ما أمرهم به واشتغلوا بما كفله لهم! كالتلميذ في المدرسة الداخلية، يكلَّف بعلوم يتعلمها ويُعَدُّ له طعام يأكله، فيترك الدرس الذي كُلِّف به ويذهب إلى المطبخ يبحث عن طعامه، فيعرّض نفسه للعقوبة،
وقد يُحرَم جزاءَ إهماله من الطعام. وربما بلغ به الجهل أن يسأل الطباخ أن يزيد له في حصته، والطباخ لا يستطيع أن يزيد فيه أو أن ينقص منه وليس هو الذي قدره وقسمه. أو كالموظف الذي يبتغي الوسيلة إلى المحاسب الذي يوزع الرواتب (1) ليعطيه راتب الرئيس أو المعاون، يحسب أنه هو الذي يملك قسمتها وتوزيعها، وينسى أن المِلاك (2) قد حدد لكل موظف درجته براتبه، فلا يملك واحد منهم -مهما كان قوياً ومهما زاحم واحتال- أن يأخذ راتب غيره، ولا يفوت أحداً راتبُه ولو كان ضعيفاً، ولو كان مريضاً في بيته.
وكذلك الأرزاق: قسم الله لكل امرئ رزقه وحدد له في الحياة عمله، ووكل من يوصل إليه هذا الرزق، فما كان له أتاه على ضعفه، وما كان لغيره لم ينَلْه بقوّته. وربما حسب الرجل أن كل ما يدخل يده فهو رزقه، فيَمُنّ على من أعطاه أو يَضِنّ على من سأله، مع أن فيه ما هو رزق غيره، رزق ولده وأهله وخادمه وتابعه، وما هو في الحقيقة إلا موزِّع، كمحاسب المصرف: تحت يده آلاف الآلاف ولكنها ليست له، ما له منها إلا راتبه، وليس له أن يمنّ ولا أن يضنّ، وكمعتمد الدائرة: يقبض رواتب موظفيها من الصندوق ليوصلها إليهم.
وليس معنى ذلك أنك تقعد لا تصنع شيئاً وتنتظر أن ينزل عليك رزقك من السماء، فإن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة (كما يقول عمر)، ولكن الله يرزق الناسَ بعضَهم من بعض. وعليك
(1) وهي في اللغة الوظائف (الواحدة وظيفة)، ولكننا آثرنا اللفظ الشائع.
(2)
«المِلاك» في الشام هو ما يُسمّى في مصر باللفظ الأعجمي «الكادر» .
بذل الجهد واستنفاد الطاقة وابتغاء الأسباب المشروعة، على أن تؤمن بأن النجاح والتوفيق بيد الله وحده، فلا تفرحَ بما أوتيت من الخير فرحاً يؤدي بك إلى البطر، ولا تأسى على ما فاتك منه أسى يُسلمك إلى اليأس.
والمال وسيلة إلى العيش لا يُقصَد لذاته، ولكن الشيطان يدخل على الناس من باب الشُّحّ، فيطلبونه لذاته ويجمعونه، ويحبسونه في صناديقهم ويمنعونه من التداول، وكلما زاد ما في أيديهم منه زاد ما في نفوسهم من الطلب له والحرص عليه، حتى ليَضنّ أحدهم بالقرش على الولد الجائع الفقير وهو يملك ألف ألف! فإذا بلغ المرء هذا المبلغ في طاعة الشيطان تمكّن منه فجرَّعه غُصَصَ الفقر وهو ينام على أكياس الذهب، وجعله يبخل على نفسه بالأكلة الطيبة والضِّجْعَة المريحة والمُتَع المباحة، ويعيش حياة المحرومين ليموت من بعدُ موت الموسرين، فلا يزيد على أن جمع هذا المال لوارثه، يستمتع به من بعده ولا يحمده عليه ولا يدعو له دعوة صالحة! وهذا هو الغاية في الخذلان والعياذ بالله.
* * *
ومنها: النساء.
والله ما حرّم شيئاً إلا أحلَّ مكانه شيئاً: حرّم الربا وأحل البيع، وحرّم السرقة وأحل الشراء والاستيهاب، وحرّم لحم الخنزير وأحل اللحوم كلها، وحرّم المُسْكر وأحل الأشربة جميعاً، وحرّم الزنا وأحل الزواج، وجعل مذاق النساء كلهن
واحداً وإن اختلفت الصور، فجاء الشيطان فمَنَّانا في كل جديد لذة، فجعلنا نسعى أبداً وراء هذا الجديد حتى يستنفد السعيُ طاقةَ أجسادنا فتركبنا العلل، والرغبة كما هي ما نقصت ولا زالت، كالعطشان يشرب من ماء البحر فلا يزداد إلا عطشاً! وحبَّبَ إلينا الحرام وزيَّنه في عيوننا، وكرَّه إلينا الحلال (ولو كان أحلى منه) وسوَّده في أبصارنا، حتى لَيطلب الرجل واحدةً يسهر ليله ويُفني جسمه ويذرف دمعه شوقاً إليها، وعنده مِن حلاله مَن لا تُقاس هذه بشِسْع نعلها! وكلما خمدت هذه النار في أعصابنا أوقدتها نظرة إلى عورة بادية، أو إصغاء إلى كلمة نابية، أو صُحْبة شرير يدل على طريق الفساد.
ولو أنّا سلكنا طريق الشرع فتحصّنّا بحصن الزواج، وتسلحنا بغَضِّ النظر عن الحرام وسَدِّ الأذن عن الفحش، وتخيُّر الصالحين من الأقران، لجمعنا بين صحة الجسد وراحة القلب والنجاة في الآخرة.
* * *
ومنها: التمسك بالحاضر الموجود والزهد بالغائب الموعود.
يقول لك الشيطان: هذا يومُك بين يديك، فما لك ولغدٍ لا تدري ماذا يكون فيه؟ وهل يبيع العاقل موجوداً بمعدوم ومحقَّقاً بمتوهَّم؟ وهل رجع مَنْ ذهب فخبَّر بما رأى؟ إنما هي هذه الحياة، فاحْيَ فيها واستمتع بها وخذ من لذائذها! فإن أنت استمعت إليه جرَّك من هذه المقدمة إلى النتيجة الملازمة لها المقرونة بها، وهي
الكفر بالآخرة، وإنكار المعاد، والخروج من الدين.
وإن أنت استعصيت عليه داورك وراوغك ودخل عليك من المدخل الآخر، وهو طول الأمل (وطالما دخل منه على القلوب وطالما أفسد به الناس) وقال لك: إن العمر أمامك، فاستمتع بيومك واعزم على أن تتوب في غدك. فإن جاء الغد قال: أجِّلْها إلى غد. ثم لا يأتي هذا الغد أبداً، لأنه كلما جاء صار حاضراً وجَدَّ من بعده غدٌ جديد.
فإن كنت شاباً قال: وما عليك؟ إنك ستتوب إذا صرت كهلاً. فإن صرت كهلاً قال: ستتوب متى شخت. وإن كنت عَزَباً قال: تتوب متى تزوجت، وإن كنت متزوجاً قال: تتوب متى حججت
…
ولا زال بك يؤخر عليك التوبة يوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر، حتى يفاجئك عزرائيل فيمضي بك عاصياً أو فاسقاً، والعياذ بالله.
* * *
ومنها: الإقامة على المألوف واتّباع ما وجدنا عليه الآباء والأجداد، وإنْ دعانا داعٍ إلى ما هو خير منه وأهدى سبيلاً وأرضى لله. ومن هنا جاء الشرك أولاً، والتمسّك بالبِدَع والمُحدَثات آخراً، وكلما قام مصلحٌ بإماتة بدعة ثار عليه أدعياءُ العلم وقالوا له: أأنت خير من العلماء الذين رأوها من كذا وكذا وسكتوا عنها وأقرّوها؟ هل كانوا جميعاً جاهلين وأنت وحدك العالم؟ أم كانوا ضالّين وأنت وحدك المهتدي؟ وأيّدَتهم العامة التي تأنس بكل ما هو مألوف ولو كان مخالفاً للسنّة، وتنفر من كل جديد ولو كان
فيه الرجوع إلى ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه.
ومنها: ابتغاء الراحة والهرب من كل ما فيه مشقة أو تعب، وفَقْد الصبر بمعانيه الثلاثة، الصبر على المصيبة، والصبر على أداء الطاعة، والصبر على مفارقة المعصية.
* * *
ومنها: الابتعاد عن قصد السبيل، وترك أوساط الأمور والميل إلى جانبيها، والغُلُوّ في كل شيء، وفي الغلوّ الهلاك؛ كالماشي على القَنْطَرة الضيقة: إنْ سار في وسطها سَلِمَ، وإن غلا في التيامُن أو التياسُر بلغ حافتها فزلَّت به قدمه فسقط. وقد عقد ابن القيِّم فصلاً في هذا المدخل من مداخل الشيطان وضرب عليه أمثالاً، بَيَّنَ فيها كيف يغلو قومٌ في التساهل في الطهارة حتى يحملوا الأنجاس، ويغلو آخرون في التطهير حتى يُوَسْوِسوا، وكيف يبخل رجل بالزكاة المفروضة ويبذل آخَرُ مالَه كله حتى يكون كَلاًّ على الناس، ويترك امرؤٌ سنّةَ النكاح ويُقارب آخَرُ النساءَ من حِلٍّ ومن حرمة، ومن يَزْري على العلماء وأهل الدين، ومن يعظّمهم تعظيم العبادة المختصة بالله عز وجل (1).
وزَهِدَ قوم بعلم الكتاب والسنة وزعموا بأن ذلك علم العامة، وأن الخاصّة يُنَقّون قلوبهم ويشتغلون برياضتها فتنطبع فيها العلوم بلا تعلم، واستدلّوا جهلاً بآية:{واتَّقُوا اللهَ ويعلّمُكُمُ الله} . ومنهم من زاد في هذا الغلوّ حتى صار يصحّح الأحاديثَ أو يضعِّفها عن
(1) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لابن القيم، ص16.
طريق الكشف، أو يأخذ الأحكامَ من الرؤى والأوهام، أو يكذب على الله ويبلِّغ عنه ما لم ينزِّلْ به سلطاناً.
وجاء قوم بضدِّ هذا، حين وقفوا على ما جاء في فضل العلم وأهله، فطلبوه وتعمقوا فيه وصاروا المرجع في أمور الدين والمقصد في الفتوى والمسائل، فأوهمهم الشيطان أنهم بلغوا بذلك الغايةَ، وصرفهم عن تفقد القلوب ورياضتها وتنقيتها من الأوضار وإنقاذها من الأمراض، مع أن من الأمراض القلبية ما يفتك بها أشدَّ من فتك السرطان والجُذام بالأجسام، وهي العُجْب والحسد والرياء وأمثالها. وتهذيب القلوب واستشعار الإخلاص هو لُبُّ الدين، فالصلاة بلا إخلاص قيام وقعود، والصيام بلا إخلاص جوع وعطش، والحج بلا إخلاص تعب ونصب، والعالِم بلا إخلاص إبليس آخر! وإبليس ما أُتِيَ من جهة الجهل، بل أُتِيَ من جهة المرض القلبي الفتاك الذي هو الكِبْر.
ولست أَحْقِر العلم أو أزيِّن الجهل، فالجهل هو المفتاح الذي يفتح به الشيطان كل باب إلى الفساد، والصالحون الذين ضلّوا بجهلهم بأحكام الدين كثيرون، ولَعالمٌ «عامل» أشدُّ على الشيطان من سبعين عابداً «جاهلاً» ، ولولا الجهل ما استطاع الشيطان أن يدفع أناساً -ممّن كان قبل هذه الأيام- إلى الغلوّ في التوحيد (بزعمهم) حتى قوَّلهم بمثل مقالة «وحدة الوجود» ، ودفع آخرين إلى الأخذ بظواهر النصوص حتى شبَّهوا، أو إلى صرفها إلى المجاز حتى عطّلوا. ولولا الجهل ما هدم قومٌ القرآنَ وخالفوا نصوصَه بحجة أن له ظاهراً وباطناً، ولولا الجهل ما تمسك قوم بالبدع وتركوا لها السنّةَ الثابتة.
وهذه المقالة في القرآن من أكبر مداخل الشيطان؛ ذلك أنه رأى القرآن محفوظاً بحفظ الله، لا يأتيه الباطل من أمامه ولا من ورائه ولا يُبدَّل حرفٌ واحد منه، وعلم أنه لا يستطيع أن يجيئه من جهة تنزيله فجاءه من جهة تأويله، فألقى إلى نفر من الناس أن للقرآن ظاهراً وباطناً، فظاهِرُه هذه الألفاظ وما تدل عليه من المعاني في لسان العرب وما تنصرف إليه من المجازات بعُرْف أهله، وباطنه ما يتوهّم هؤلاء أنه هو المقصود، ولو لم تدلّ عليه لغة ولم يقرّه عرف، واحتجوا لذلك بأثر حوَّلوه عن المراد منه، فصار الدين الواحد دينين: شريعة وحقيقة! وليت شعري: ما الشريعة إن لم تكن هي الحقيقة، وما الحقيقة في الدين إن لم تأتِ بها الشريعة؟
* * *
ومن أوسع مداخله (على الشباب خاصة): الحرية والانطلاق وحلّ كل قيد، مع أن الدين والفضيلة والعقل كلها قيود (1)، ولا تكون الحرية الكاملة إلا للمجانين والدواب، فالدابة تمشي عارية الجسم بادية السَّوأة، تفعل ما تريد وتأتي ما تشتهي، ولكن لها وقتاً للشهوة، شهراً في السنة، والإنسان لو انطلق مع هواه وغريزته، وهُتكت الأستار دون شهوته ونُضِيت الثياب، لكان عمره كله كذلك الشهر، ولما بقي عرض مَصون ولا مال مَضمون ولا حياة اجتماعية، ولأكل القويُّ مالَ الضعيف وعدا على عرضه وماله وأهله، ثم يجيء من هو أقوى منه فيعتدي هو أيضاً عليه كما اعتدى هو على غيره.
(1) العقل والحكمة مشتقّان من العِقال والحَكَمَة، وهما في اللغة القَيْد.
ومن هنا تبدو صعوبة عمل الداعي إلى الله في جماعات الشباب. إن المعلم الفاسق يدعو طلاّبه إلى كل ما فيه لذة النظر أو لذة التطلع، أو اللذة الأخرى، فيغريهم بذلك، فبِمَ يغريهم المعلم الديِّن وهو يدعوهم إلى تركها كلها؟ لا تنظرْ إلى المرأة الجميلة لأن ذلك حرام، ولا تدخل أماكن الرقص لأن ذلك حرام، ولا تشاهد الفلم العاري ولا تقرأ القصة الداعرة لأن ذلك حرام
…
يدعوهم إلى حرمان أنفسهم من لذة حاضرة ابتغاءَ لذة مغيَّبة، وفي ذلك أكبر المشقة وأشد الجهد. ولذلك أعظم الله ثوابَ الشاب الناشئ في طاعة الله، الذي يرى طريق اللذة المحرمة مفتوحاً أمامه ويمنع نفسَه منه ابتغاءَ مرضاة الله، وجعله في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله، ليستريح ويتلذذ حين يتألم الناس، كما تألم في الدنيا وهم مستريحون متلذذون.
* * *
ومنها أنه يكبِّر أولياءه في عيون الناس، قال تعالى:{إنّمَا ذلكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أولياءَهُ (1) فلا تَخَافوهُمْ وخَافُونِ إنْ كنتُمْ مُؤمنين} . ومن هنا وقر في صدورنا -لمّا ضعف إيماننا- تعظيم الغربيين، وصرنا نرى الحَسَن إن جاء من عندهم ازداد حُسْناً، والقبيحَ إن كان من عندنا ازداد قبحاً، وكل ما يرونه خيراً فهو الخير. حتى الموسيقى التي هي لسان الطبع وحديث القلب، إن كانت من هناك فهي الموسيقى العالمية الخالدة، ولو كان الذي نسمعه منها هو -على الحقيقة- أصوات متنافرة ورقاعة بادية!
(1) معناها: يخوفكم بأوليائه، قال قتادة: يعظّمهم في صدوركم.
حتى الفن الذي هو مظهر الجمال وتعبير الشعور، إن كان من هناك فهو الفن العالمي الخالد ولو كان خربشات وتخليطات، ولو كان فيه لوحات من هذا الفن الجديد، إذا أنت لم تقرأ تحت اللوحة أنها صورة فتاة حسبتها كومة من علب الكبريت! حتى الفجور الذي يأباه كل عقل وينفر منه كل طبع، إن كان من هناك فهو التطبيق العملي للفلسفة الوجودية! حتى السم الناقع الذي اسمه الخمر، إن كان من هناك فهو ماء الحياة!
* * *
ومنها أنه عطّل الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر، حين قال للعلماء: إن في عزكم عزّ الدين وفي هوانكم هوان الإسلام وشماتة المخالفين، فهل يليق بكم أن ينكر أحدكم منكراً أو يصدع بحق عند أمير ظالم، فيسحبه الشُّرَط على رؤوس الأشهاد، فتتدحرج عمامته وتتخرّق جُبّته ويتعرض للمكروه؟ وصدّقه قومٌ من العلماء، ونسوا أن الرسول -صلوات الله عليه- ضُرب وأوذي وكسرت أسنانه ورُمي بالحجارة وألقي عليه كرش البعير، وأن الصحابة حملوا من الأذى ما لا تحمله الجبال، فما كانت هذه المهانة إلا عزاً لهم ومجداً ورفعةَ منزلةٍ عند الله وعند الناس. وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو قدوتنا وإمامنا، وأنه لما قعد علماؤنا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجاملوا الملوك وسعوا إلى أبواب الأمراء، وبَشُّوا في وجوه الفُسّاق ولايَنوا المجاهرين بالمعاصي، سلبهم الله الهيبة التي كانت لهم في صدور الحكام وفي قلوب الرعية، وأحوجهم إلى السلاطين وسلّطهم عليهم.
* * *
ومنها: أنه حوَّل الدينَ من جواهر إلى مظاهر ومن حقائق إلى أشكال، فصار القرآن كلاماً يُتغنَّى به ولا يُعنَى إلا بمخارج ألفاظه وطول مُدوده (1)، وصار الدعاء كلاماً فصيحاً مُسَجَّعاً محفوظاً معاداً، وصارت الصلاة قياماً وقعوداً وركوعاً وسجوداً، وصار الحج سفراً وعودة
…
أعمالُ جوارح والقلبُ غائب، وألفاظ لسان والفكر ساهٍ لاهٍ، وعباداتٌ غدت كالأجساد بلا أرواح، ودينٌ اقتصر على المساجد دون البيوت والأسواق.
فلنتنبه -يا أيها الناس- إلى وساوس الشيطان، ولنستعذ بالله منه، ولنَذْكر دائماً أن الله معنا يسمعنا ويرانا، ولنعرف حكم الشرع في كل ما نأتي وما ندع، ولنعلم جميعاً أن العمر ماضٍ، والدنيا إلى الفناء، وأنه ما خلد في الدنيا أحدٌ حتى نخلد فيها، ولا فَرَّ من مُلْك الله أحد حتى نفرَّ من ملك الله. وأن في الوجود رباً، وأن بعد الحياة موتاً، وأن بعد الموت نشوراً وحساباً عسيراً، ثم تكون العاقبة جنة أو ناراً، فما أهون الألم في الدنيا يُعقب لذة باقية، وما أمَرَّ اللذةَ العارضة يكون من ورائها الألم الدائم.
نسأل الله السلامة، وألاّ يجعلنا من الذين يأمرون الناس بالبِرّ وينسون أنفسهم، وأن يهدينا ويهدي بنا، ونعوذ بالله من الشيطان الرجيم (2).
* * *
(1) انظر آخر الجزء الثالث من الإحياء للغزالي.
(2)
راجع آخر الجزء الثالث من إحياء علوم الدين للغزالي، وتلبيس إبليس لابن الجوزي، وإغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لابن القيم.