المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌أنا والإذاعة أذيعت سنة 1942   أيها السادة: إني أشكو إليكم القائمين على - صور وخواطر

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌ ‌أنا والإذاعة أذيعت سنة 1942   أيها السادة: إني أشكو إليكم القائمين على

‌أنا والإذاعة

أذيعت سنة 1942

أيها السادة: إني أشكو إليكم القائمين على هذه المحطة، فقد ظلموني وظلموكم معي. جاؤوا بي لأحدثكم، فحسبت أني سأدخل نادياً فيه ناس أراهم فأخاطبهم على قَدْر عقولهم، فإن كانوا علماء كلمتهم كلام العلماء، وإن كانوا من العامة خاطبتهم خطاب العامة؛ فإذا هم يصعدون بي دَرَجاً بعد دَرَج، حتى إذا كلَّتْ رجلاي من الصعود وهممت بالرجوع قالوا: قد وصلنا. فنظرت فإذا نحن في أعلى طبقة من عمارة البرق والبريد، فَتَلفَّتُّ أنظر: أين النادي الذي سأخطب فيه؟ فما عهدت نادياً يُبنى على رأس مئذنة! وأين الناس؟

وإذا هم يُدخلونني من دهليز إلى دهليز، حتى انتهيت إلى زاوية مظلمة، فأشاروا إلى باب وقالوا: هُسْ، إياك أن تتكلم، أو تعطس، أو تسعل، أو تخبط برجلك، أو تدق بيدك، أو تُخَشْخِش (1) بأوراقك!

فقلت: فكيف إذن أتحدث؟ أتريدون أن يكون حديثي إيماء

(1) من العامي الفصيح.

ص: 239

وإشارة من غير كلام على لغة الخرسان؟

قالوا: لا، ولكن إذا جاء دورك تكلمت.

وفُتح الباب، ودخلنا غرفة صغيرة كأنها الصندوق المغلق، لا شبّاكَ ولا باب، ولا نافذةَ ولا كوّة ولا شقَّ لدخول الهواء. ورأيت فيها مكتباً ما عليه إلا علبة قائمة على عمود من الحديد ووراءها مرآة، وقد وقف أمامها شاب يصوِّت أصواتاً، بعضها يخرج من حلقه وبعضها من صدره وبعضها من بطنه، ويتخلَّع ويتلوّى مع النغمات، وقد يأتي بكلمات يلقيها إلقاء بلا نغم، ووراءه رفاق له يضربون بأعوادهم ويزمّرون، فأجهدت ذهني خمس دقائق كاملات لأعرف ماذا يصنع هذا الرجل: أيغني أم يخطب، أم هو مصروع معتوه يُخَلِّط، أم يتكلم بلسان أهل مالطة

؟ فلم أهتدِ إلى حقيقته، ثم سكت، وتقدّم من العلبة أحدُ موظفي المحطة فقال: لقد انتهت الحفلة الموسيقية.

فقلت: إذن هي حفلة موسيقية؟ سبحان القادر على كل شيء!

وأقبل الموظف عليّ، فأشار بيده إلى حيث كان يقف الشاب صاحب الأصوات المخنَّثة، فقلت: ماذا؟ أأعمل أنا أيضاً حفلة موسيقية؟

قالوا: هُسْ! هُسْ!

وأدار مفتاحاً كمفتاح الكهرباء، وجعل يكلمني بلسانه بعد أن كان يتكلم بيديه. قال: تفضل يا أستاذ، اقعد وتكلم.

قلت: أتكلم مع من؟ أين الناس؟ أين المستمعون؟

ص: 240

قال: تكلم هنا (وأشار إلى العلبة).

قلت في نفسي: أعوذ بالله من شر هذه الغرفة! لقد حسبتها سجناً مغلقاً فإذا هي مارستان! أأكلم علبة؟ أمجنون أنا؟

ونظرت في المرآة فوجدت صورتي متغيرة. أهذا أنا؟ وأمعنت النظر، فإذا الذي حسبته مرآةً لوحٌ من زجاج بيننا وبين الغرفة الأخرى، فنحن نرى من فيها ولكن لا نسمع أصواتهم، فاجتمعت عليّ هذه الليلة المتناقضات: هنا أشخاص أراهم ولا أسمع أصواتهم، وهنالك صندوق تخرج منه أصوات أسمعها ولا أرى أهلها

وبحثت عن مهرب فلم أجد، وفتشت عن نصير فلم ألقَهْ، وما حولي إلا شباب جدد وموسيقيون معهم أعوادهم، وأنا الشيخ الوحيد في هذه العُصْبة.

فاستسلمت للمقادير، وقعدت والعرق يسيل على عنقي ووجهي، وشرعت أكلم العُلبة كالمجانين، خوفاً من أن يحلّ بي هذه الليلة ما هو أعظم!

نعم؛ لقد ظُلمت أيها السادة وظُلمتم معي، لأن أكثركم يُؤْثر «عتابا» بلدية أو «قَرّادية» نقدية، أو أغنية شاكية باكية ميّتة مميتة لا شرقية ولا غربية من أغاني عبد الوهاب، على كل ما في الدنيا من محاضرات! ولكنكم تستطيعون أن تُديروا مفتاح الرادّ فتتخلصوا مني ومن محاضرتي، وتبعثوا إليّ مما يوحيه إليكم نُبلكم وكرمكم من الشتائم واللعنات التي لا أسمع منها شيئاً. ولكن المصيبة عليّ أنا، لقد حبُست في مارستان لا أخرج منه حتى أكلم علبة من حديد ربع ساعة، لا تنقص ثانية ولا تزيد!

ص: 241

فلنستعن بالله، ولنتحدث.

* * *

ولكن خبروني أولاً: هل تسمعون كلامي حقيقة؟

أما أنا فلا أصدق أنكم تسمعون مني. وكيف يسمع من هو في المهاجرين وحمص وحلب والقاهرة وطهران ما لا يسمعه هذا الأخ الجالس أمامي وراء الزجاج، والذي يبدو عليه أنه لا يدري ماذا أقول، فلا يبتسم ولا يعبس ولا يفتح عينيه ولا يرفع حاجبيه، ولا يصنع شيئاً يدل على أنه سامع؟ وهذا من نِعَم الله عليّ، فلو سمعني أتكلم عنه لما نجوت منه بسلام!

فإذا كنتم تسمعون -يا سادة- كلامي فأشيروا إليّ، أو صفّقوا، أو قربوا أفواهكم من الرادّ وصيحوا

إني انتظرت فلم أسمع صيحتكم، فلم يبقَ إلا أن أصنع كما صنع زميلنا المحترم جحا حين أذَّن ونزل من المنارة يعدو، قالوا: إلى أين يا جحا؟ قال: أريد أن ألحق صوتي فأنظر: إلى أين وصل؟

ولنفرض أنكم سامعون، فعمَّ أحدثكم؟ ومَن لي بالحديث الذي يرضيكم جميعاً: العالم منكم وغير العالم، والرجل والمرأة، والكبير والصغير؟ وأي معلم يستطيع أن يلقي درساً واحداً يفهمه تلميذ المدرسة الأولية وطالب الجامعة ومَن بينهما، ويرضون عنه ويعجبون به؟

لقد فكرت طويلاً، وحشدت قوى نفسي كلها وما تعلمت من علم وما حفظت من مسائل، لآتيكم بحديث يدهشكم حتى

ص: 242

تقولوا: ما شاء الله كان! ما هذه المحاضرة؟ شيء عظيم جداً! ولكني لم أستقر على موضوع.

قلت: الدنيا الآن في رمضان، وخير الأحاديث حديث الدين. وما أسهل الكلام في الدين في هذه الأيام! وما أيسر أن يجعل المرء نفسه مجتهداً، وأن يرى الرأي المخالف لأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل والليث بن سعد والأوزاعي، وكل مجتهدي الأرض، فيتمسك به ويخطِّئ المخالفين، مَن كان منهم ومَن سيكون إلى يوم القيامة!

ولِمَ لا؟ إنه رجل وهم رجال، والحَدّاد والنجّار والموسيقي رجال أيضاً، فلماذا لا يكونون أئمة مجتهدين ما دام العلم بالعربية -نَحْوها وصرفها وبلاغتها- والفقه -أصوله وفروعه- والتفسير والحديث ليس شرطاً في الاجتهاد؟ وما دامت الحكومة تمنع غيرَ الطبيب أن يكتب وصفة دواء، وغيرَ المهندس أن يرسم مصوَّر بناء، وتدع مَن شاء يتكلم في الدين والأدب بما شاء؟ وما دام كل ما يحتاجه الرجل في هذه الأيام ليكون واعظاً مرشداً يُقتدى به ويُستمَع لقوله وتُقبَّل يده ويُتمسَّح بذيله، أن يعرّض لحيته ويكوّر عمّته ويوسع جبته ويطوّل سُبحته، ثم يتكلم كلاماً تقبله العامة، ولو خرّفَ وخلّطَ وضلَّلَ، وأكل الدنيا بالدين واستغل غفلة الغافلين، لا يسأله سائل عما يفعل أو يقول!

لا، لن أتكلم في الدين، فالكلام فيه شديد الخطر؛ فأنا أخشى أن أقول الحق فأُغضب الناس، أو أقول الباطل فأُسخط الله. ثم إني طلبت الليلةَ مرضاة السامعين، وأكثر السامعين -لجهلهم بالدين، ولطول ما رأوا من أدعياء العلم فيه- منصرفون

ص: 243

عنه زاهدون في حديثه، حتى الأتقياء الصالحون منهم الذين يتمسكون في رمضان بدينهم، فيقضون نصف النهار في الأموي، نائمين يشخرون وينخرون (1)، أو متحلّقين حِلَقاً يمزحون في الجامع ويضحكون ويكذبون ويغتابون!

فلنتكلم في الأدب إذن، فالأدب أسلم عاقبة وأوسع حرية، وهو هيّن عليّ وعلى غيري، وقد صار الأدب الآن كوصل ليلى: كلٌّ يدّعيه، وكلُّ مَن يستطيع أن يكتب كلاماً في ورقة ويجد صَفّافاً يَصُفُّ له حروفه وصاحب جريدة ينشره فهو كاتب بليغ! وكل من يأتي بلفظ موزون أو شبه موزون فهو شاعر مفُلق! وكل من يحفظ خبراً عن أبي تمام والمتنبي، أو هوغو ولامارتين، أو شكسبير وملتون، فهو أديب أريب! وكل من عاب كاتباً كبيراً بحق أو بباطل فهو ناقد محقق! ومن عجز عن أن يفكر كما يفكر أبناء آدم عليه السلام ويتكلم كما يتكلمون، ففكر تفكيراً غير آدمي وتكلم كلاماً ليس بإنساني، فهو شاعر رمزي! وإن في الرمزية متَّسَعاً لجميع الأغبياء والأدْعياء، وإذا شكا القراء أنهم لا يفهمون هذا الأدب الرمزي فالقراء جاهلون رجعيون جامدون!

لا يا سادة، إن الأدب امتُهن وابتُذل، فلن أتكلم في الأدب.

أفأتكلم في السياسة؟ إن السياسة في بلدنا أن ينتقد الرجلُ قوانينَ الحكومة ويتكلم في رجالها، ويتهم كل أمين يكرهه بالسرقة، ويصف كل سارق يحبه بالأمانة، ويكون له رأي في الملك عبد الله وابن السعود وإتلي ومولوتوف وترومان، ويرسم

(1) من العامي الفصيح.

ص: 244

أحسن الخطط لمحاربة الغلاء، وتنظيم مِلاكات الموظفين، وحل مشكلة فلسطين، وإدارة ألمانيا المحتلة، ويقترح وجوه الإصلاح للجامعة العربية وهيئة الأمم المتحدة

ولو كان تاجراً أمّياً أو سائق ترام أو شيخ ضيعة يضع بصمة إبهامه مكان التوقيع على دفاتر الانتخابات!

لا، لن أتكلم في السياسة. أفأتحدث إليكم في الفلسفة؟ لقد اشتغلت بها حيناً وأنا أستطيع أن أتفلسف متى أردت، ولا يكلفني ذلك إلا أن أقول ما لا أفهمه أنا ولا القراء، وأن أنظر إلى كل ما تواضع عليه الناس من أفكار وعادات، فأقيم لهم أدلة غامضة لا تُدرَك على أنه خطأ وأن الصواب هو عكسه!

* * *

وبعدُ يا أيها السادة، فاعلموا أن وقت حديثي قد انتهى، وأني قد خدعت القائمين على المحطة، فأطعتهم وكلمت العلبة ربع ساعة، وقبضت الأجرة، ولم أقل شيئاً. وكذلك يكون الرجل الناجح في هذه الأيام، يأخذ الأجرة من غير عمل (ولنا في ساداتنا العلماء الأعلام مدرّسي دائرة الفتوى قدوة غير حسنة)! هذا، وأنا لا أدري هل يدفعون لي أجرة أم أنهم سيكتفون بشكري الجزيل؟ فإذا أعطونا شيئاً ربحناه، وإلا فحسبنا أننا لم نعطهم شيئاً نندم عليه!

ولا تعجبوا يا سادة، فكل الناس تاجر يعرض بضاعته، ونحن -معشر الأدباء- بضاعتنا الكلام، وكل كلام له ثمن، فهاتوا كثيراً تسمعوا جيداً، وإلا فالبضاعة كلها من هذا النوع!

ص: 245

والسلام عليكم ورحمة الله. (1)

* * *

(1) لو كان التاريخ الذي وُضع في رأس المقالة صحيحاً فسوف يكون هذا هو أولَ حديث قدمه علي الطنطاوي من محطة الشرق الأدنى، لكنني أغلّب أنه حديثه الأول من إذاعة دمشق، وإذا كان الأمر كذلك فلن يكون تاريخ المقالة صحيحاً، بل سيكون سنة 1947، وهذا الاستنتاج يحتاج إلى تعليل وبيان.

صرّح جدي رحمه الله دائماً أنه كان من أوائل المتحدثين في إذاعة الشرق الأدنى من يوم أُنشئت هذه الإذاعة في يافا. وقد بحثت فوجدت أن أول ما أذاعته هيئة الإذاعة البريطانية بالعربية كان من لندن في أوائل سنة 1938، وبعد ذلك بأربع سنوات أنشأت الهيئةُ إذاعةً خاصة باللغة العربية بدأت تذيع من يافا باسم «محطة الشرق الأدنى» . ويغلب على الظن أن جدي قد بدأ بإذاعة أحاديثه منها في تلك السنة، 1942، والظاهر أنه وَهِم -وهو يضم المقالة إلى الكتاب- فظن أنها أول ما ألقاه من أحاديث في محطة الشرق الأدنى فوضع في رأسها هذا التاريخ، والصحيح -والله أعلم- أنها أول حديث له من إذاعة دمشق.

لقد صدر أول بَثٍّ عن الإذاعة السورية في السابع عشر من نيسان سنة 1946، بمناسبة يوم الجلاء، واستمر ست ساعات، وكان البث من غرفة صغيرة في مبنى البريد. وخلال الأشهر العشرة التالية دأبت الإذاعة على البث المتقطع، مرةً كلَّ عدة أيام، حتى بدأت أخيراً بالبث المنتظم في الرابع من شباط سنة 1947، بعدما خصص للإذاعة مبنى من ثلاث طبقات في شارع بغداد بدمشق، وهو مبنى البرق والبريد والهاتف.=

ص: 246

= فهل كان هذا الحديث هو أول أحاديث علي الطنطاوي من إذاعة دمشق أم من إذاعة الشرق الأدنى؟ السياق يوحي بأنه حديث «شامي» ، فهو يذكر في السامعين "مَن كان في المهاجرين (من أحياء دمشق) وحمص وحلب"، وهو يصف لنا المبنى الذي أذاع حديثه منه فيقول:"فإذا نحن في أعلى طبقة من عمارة البرق والبريد"، وهذا أقرب إلى وصف المبنى الجديد الذي بدأت منه الإذاعةُ السورية إرسالها. هذا من حيث إيحاء السياق وإيحاء المكان، أما إشارة الزمان فتحسم الأمر وتنفي عنه أي خلاف، فهو يقول في الحديث: "إن السياسة في بلدنا أن ينتقد الرجل قوانين الحكومة

ويرسم أحسن الخطط لمحاربة الغلاء وإدارة ألمانيا المحتلة"، وألمانيا لم تكن محتلَّة سنة 1942، إنما صارت كذلك بعد هزيمتها واستسلامها غير المشروط في الثامن من أيار (مايو) سنة 1945؛ وإذن فلا بد أن هذا الحديث قد أُذيع بعد ذلك التاريخ، وإذن فالراجح أنه كان أول حديث يقدمه علي الطنطاوي رحمه الله من إذاعة دمشق في السنة الأولى لإطلاقها، سنة 1947، والله أعلم (مجاهد).

ص: 247