المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كِتَابُ الْوَدِيعَةِ الْوَدِيعَةُ: هِيَ اسْمٌ لِعَينٍ يَضَعُهَا مَالِكُهَا أَوْ نَائِبُهُ عِنْدَ - عجالة المحتاج إلى توجيه المنهاج - جـ ٣

[ابن الملقن]

الفصل: ‌ ‌كِتَابُ الْوَدِيعَةِ الْوَدِيعَةُ: هِيَ اسْمٌ لِعَينٍ يَضَعُهَا مَالِكُهَا أَوْ نَائِبُهُ عِنْدَ

‌كِتَابُ الْوَدِيعَةِ

الْوَدِيعَةُ: هِيَ اسْمٌ لِعَينٍ يَضَعُهَا مَالِكُهَا أَوْ نَائِبُهُ عِنْدَ آخَرٍ لِيَحْفَظَهَا، مَأْخُوذَةٌ مِنْ وَدَعِ الشَّيءَ وَيَدَعُ إِذَا سَكَنَ؛ فَكَأَنَّهَا سَاكِنَةٌ عِنْدَ الْمُوْدَع، وقيلَ: مِنْ قَوْلهِمْ فُلانٌ فِي دَعَةٍ أَي فِي حَفْضٍ (•) مِنَ العَيشِ، لأَنهَا غَيرُ مُبْتذَلَةٍ بِالانْتِفَاعِ. وَبِالْقُيُوْدِ الْمَذْكُوْرَةِ تَخْرُجُ العَينُ فِي يَدِ الْمُلتَقِطِ، وَالثوبُ إِذَا طَيَّرَهُ الرِّيحُ فِي دَارٍ آخَر، وَنَحوَهُ؛ فَإِنَّ حُكْمَهُ مُغَايِرٌ لِحُكْمِ الوَدِيعَةِ. والأصلُ فيها قولُهُ تعَالى:{فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ...... } (289) وقولُهُ تعَالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (290) وقولُ نَبِيِّهِ عليه الصلاة والسلام: [أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ] صَحَّحَهُ الحاكمُ على شرطِ مسلمٍ (291). ولأنَّ بالناسِ حاجَةً بل ضرورةً إليها.

مَنْ عَجَزَ عَنْ حِفْظِهَا حَرُمَ عَلَيهِ قبُولُهَا، لأنَّهُ يعرِّضُها للهلاكِ، وَضَمَّ صاحبُ

(•) هكذا رسمها في جميع النسخ. و (الخَفْضُ) الدَّعَةُ.

(289)

البقرة / 283.

(290)

النساء / 57.

(291)

رواه الحاكم في المستدرك: كتاب البيوع: الحديث (2296/ 167)، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي في التلخيص. وذكر حديث أنس شاهدًا له. ورواه أبو داود في السنن: كتاب البيوع: باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده: الحديث (3535). والترمذي في الجامع: كتاب البيوع: الحديث (1264)، وقال: هذا حديث حسن غريب.

ص: 1111

المهذَّبِ والماورديُّ إلى العجزِ عدَمَ الوُثوقِ بأمانَةِ نفسِهِ، وَمَنْ قَدَرَ وَلَمْ يَبْقْ بأمانَتِهِ، نَفْسُهُ، كُرِهَ، كذا جزَمَ بهِ رحمه الله وهو من تصرُّفِهِ، فإنَّ عبارَةَ الْمُحَرَّرِ لا ينبغِي أن يقبَلَها، وعبارةُ الشَّرح: منهُمْ مَن يقولُ: لا يجوزُ، ومنهُمْ مَن يقولُ: يُكرهُ، ولم يرجِّحْ واحِداً منهُما؛ فلذلكَ عبَّرَ في المُحَرَّرِ بما سلفَ وما أحسَنَها. وعبارةُ الروضةِ: هلْ يَحْرُمُ قبولُها أو يُكرهُ؟ وجهانِ فَجَزْمُهُ في الكتابِ بالكراهَةِ؛ لم يرجِّحْهُ في الروضة ولا الرافعيُّ في شرحِهِ. نَعَمْ: هو ظاهرٌ لأجلِ الشَّكِّ في حصولِ المفسدَةِ، قال صاحبُ المطلبِ: ويظهرُ أنَّ هذا كلَّهُ فيما إذا أرادَ قبولَها مِن غيرِ إطِّلاعِ المالِكِ على الحالِ. أمَّا إذا أطلعَهُ؛ فرَضِي بذلكَ فلا تحريمَ ولا كراهَةَ، وكذا محِلُّ ذلكَ إذا لم يتعيَّنِ القبولُ. أما إذا تعيَّنَ القبولُ فقد يقولُ عند الخوفِ بهِ أيضاً كما في ولايَةِ القضاءِ، فَإن وثق استُحِبَّ، لقوله عليه الصلاة والسلام:[وَالله فِي عَوْنِ الْعَبدِ مَا كَانَ الْعَبدُ فِي عَوْنِ أَخِيْهِ] رواهُ مسلم (292).

فَرْعٌ: قدْ يجبُ القبولُ إذا لم يكُنْ مَن يصلُحُ لَهَا ثَمَّ غيرُهُ، وخافَ إنْ لم يقبلْ هَلَكَتْ، قالَهُ صاحبُ المهذَّبِ وغيرُهُ. وهو محمولٌ على أصلِ القبولِ دونَ أنْ يُتْلِفَ منفعَةَ نفسِهِ في الحفظِ من غيرِ عِوَضٍ، وجوَّزَهُ كما نبّهَ عليه أبو الفَرَج البزَّازِ.

وَشَرْطُهُمَا؛ أيْ شرط الْمُوْدِع وَالْمُوْدَع، شَرط مُوَكّل وَوَكِيْل، لأنهُ اسْتِنَابَةٌ في

(292) في أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: [مَنْ نَفسَ عَنْ مؤمنٍ كُربَة مِنْ كُرَبِ الدُّنيَا؛ نَفَّسَ الله عَنهُ كُربةَ مِنْ كُرَبِ يَوْمٍ القِيَامَةِ. وَمَنْ يَسَّرَ على مُعْسِر؛ يَسَّرَ الله عَلَيْهِ في الدُّنْيَا وَالآخرةَ. ومَنْ ستر مسُلِماً؛ سَترَهُ الله فِى الدُّنيَا والآخِرَةِ. وَالله فِي عَونِ العَبدِ مَا كَانَ الْعَبدُ فِى عَونِ أَخِيهِ. وَمَنْ سَلَكَ طَرِيْقاً يَلتمِسُ فِيهِ عِلْماً؛ سَهَّلَ الله لَهُ طريقاً إِلَى الجنَّة. وَمَا اجْتَمَعَ قوْمٌ فِى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ الله يَتْلُونَ كتابَ اللهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنهُم إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحمَةُ وَحَفَّتْهُمُ المَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمُ الله فِيمَنْ عِنْدَه. ومَنْ بَطَّأ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِع بهِ نَسَبُهُ]. رواه مسلم في الصَّحيح: كتاب الذكر: باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن: الحديث (38/ 2699). وأبو داود في السنن مختصرًا: كتاب الأدب: باب في المعونة للمسلم: الحديث (4946). والترمذي في الجامع: كتاب الحدود: باب ما جاء في الستر على المسلم: الحديث (1425).

ص: 1112

الحِفظِ، ويُشترَطُ صِيغَة المُودِع: كَاستَوْدَعتُكَ هَذَا أَوِ اسْتَحفَظْتُكَ أَوْ أَنَبتُكَ فِي حِفْظِهِ؛ أيْ وكذا خُذْه أمانةً وما أشبهَهُ من الألفاظِ الدَّالَّةِ على الاسْتِحفَاظِ، وَالأصَحُّ أَنَّهُ لَا يُشترَطُ الْقَبُولُ لَفْظاً وَيَكْفِي الْقَبْضُ؛ أي في العَقَارِ والمنقولِ كما فِى الوكالَةِ. والثاني: يُشترط بناءَ على أنَّها عقدٌ، والثالث: يُفصَلُ بينَ صيغَةِ الأمرِ كَاحْفَظ هذا المالَ؛ والعَقْدِ كَأوْدَعْتُكَ؛ كما فِى الوكالَةِ. والخلافُ كما قال المتوليّ: يُلتفتُ على أنَّ العُقودَ يُعتبرُ فيها ألفاظُهَا أو معانِيهَا.

فَرْعٌ: إذا قَبِلَ الوديعَةَ سواء شَرَطنا القبولَ أمْ لَا؟ ففي توقُّفِها على القبضِ ثلاثةُ أوجه، جزَمَ البغويُّ بمنعِهِ، والمتوليّ بمقابلِهِ، وأفتَى الغزاليُّ: بأنهُ إنْ كان الموْدَعُ في يدِهِ، فقال: ضَعْهَا فيهِ تَمَّت، أو في يدِ غيرِ رَبِّهِ، كما لو قال: أنظُرْ إلى متاعِي في حانوتِي فقال: نَعَمْ. فلا. وَلَوْ أَوْدَعَهُ صَبِيٌّ أَوْ مجنون مالاً لَمْ يَقْبَلْهُ، لأنَّ إيداعَهُما كَلَا إيدَاع، فإن قَبِلَ ضَمِنَ، كما لو غصبَهُ؛ ولا يزولُ الضمانُ إلَّا بالرَّدِّ إلى الناظِرِ في أمرِهِ، نَعَمْ: لو خافَ هلاكَهُ في يدِهِ فأخذَهُ على وجهِ الْحِسبَةِ صَوناً، لم يضمنْهُ على الأصحِّ. ويظهرُ أن يكونَ محِلُّ الخلافِ ما إذا كانَ هناكَ من يحفظُهَا غيرُة، فإن لم يكُنْ؛ فينبغِي أن لَا يضمنَ قطعًا؛ فإنهُ يجبُ عليه الأخذُ ويستحيلُ التَّضْمِيْنُ مع وجوبِ الأخذِ.

وَلَوَ أَوْدَعَ صَبِياً مَالاً فَتَلِف عِنْدَهُ لَمْ يَضْمَنْ، إذ ليس عليه حِفْظُهُ فهو كما لو تركَهُ عند بالغٍ من غيرِ اسْتِحْفَاظٍ، وَإن أَتْلَفَهُ ضَمِنَ فِي الأصَحِّ، لأنهُ لم يُسَلِّطْهُ على إتلافِهِ فيضمنُهُ، كما لو أذِنَ لهُ في دخولِ دارِهِ لأكلِ شئٍ فأتلفَ غيرَهُ. والثاني: لا، كما لو باعَ شيئًا وسلَّمُهُ إليهِ فأتلفَهُ؛ فلا ضمانَ عليه. والفرقُ على الأوَّلِ أنَّ البيعَ يتضمَّنُ التَسَلُّطَ على التصرُّفِ، ومقتضى كلامهِ في الروضةِ تبعًا للرافعيّ في موضع تصحيح الثَّاني، وخصَّصهُمَا بعض المصنِّفِينَ بغيرِ القتلِ؛ وقال: لو كان عبداً فقتلَهُ ضمنَهُ قطعاً.

وَالْمَحْجُورَ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ كصَبِيٍّ؛ أي في إيداعِهِ. والإيداعُ عندَهُ كما قرَّرناهُ،

ص: 1113

وَترْتفِعُ بِمَوْتِ المُودِع أَوِ المُوَدَع وَجُنُوبهِ وَإغْمَائِهِ، لأنها وكالة في الحفظِ وهذا حكمُ الوكالةِ؛ وترتفعُ أيضاً إذا حُجِرَ عليهِ بسفهٍ قالهُ صاحبُ البيانِ، وَلَهُمَا الاسْتِرْدَادُ وَالرَّدُّ كُلَّ وَقْتِ، أما المودِعُ، فلأنهُ مالكٌ، وأمَّا المودَعُ؛ فلأنهُ متبرِّعٌ بالحفظِ، وَأصلُهَا الأمَانَةُ، بالإجماع وما خالفَهُ أُوِّلَ.

وَقد تصِيْرُ مَضْمُونة بِعَوَارِضَ مِنْهَا: أن يُوْدِعَ غَيْرَهُ بِلَا إِذْنٍ وَلَا عُذْرٍ فَيَضمَنُ، لأنَّ المالِكَ لم يرض بأمانَةِ غيره ولا يدِهِ، وَقِيْلَ: إن أَوْدَعَ القَاضِي لَم يَضمَنْ، لأنَّ أمانتَهُ أظهرُ وهو نائبُ الغائبِينَ، والأصحُّ أنَّهُ لا فرْقَ؛ لأنَّهُ إنْ كانَ المالِكُ حاضِراً فلا وِلايةَ لهُ عليهِ، وإن كان غائِباً فلا ضرورَةَ إليهِ ولم يَرْضَ المالِكُ بيَدِ غيرِهِ، وإذا لَم يُزِل يَدَهُ عَنهَا؛ جَازَتِ الاِستِعَانَةُ بِمَنْ يَحْمِلُهَا إِلَى الحِرزِ أَوْ يَضعُهَا فِي خِزَانَةٍ مشتركة، لأنَّ العادَةَ جَرَتْ بهَا؛ ولأنهُ ما أخرجَهَا عن يدِهِ. ولا فَوَّضَ أمرَهَا إلى غيرِهِ. وَالحِرْزُ أصْلُهُ فِى اللُّغة: المَوْضِعُ الحَصينُ؛ وَالخِزَانَةُ بكسرِ الخاءِ كذا رأيتُهُ مضبوطًا بخطِّ مؤلِّفِهِ، وإذا أَرَادَ سَفَراً فَلْيَرُدَّهُ إِلَى المَالِكِ أَوْ وَكِيلِهِ، أي في تسليمِ تلكَ العينِ خاصَّة أو في عامَّةِ أشغالِهِ لأنهُ قائمٌ مقامَهُ، فَإن فَقَدَهُمَا؛ أيْ لِغَيبةٍ ونحوها، فَالقَاضِي، أي وعليهِ قبولُها لأنَّ المالِكَ لو كان حاضِراً لزِمَهُ القبولُ فينُوبُ عنهُ الحاكمُ عندَ الغيبة، كما لو خُطبت امرأةٌ وَوَلِيُّهَا غَائِبٌ، فَإن فَقَدَهُ فَأمِيْنٌ، أي يأتمنَهُ الموَدِّعُ وكذا غيره في الأصحِّ، لئلا يؤدِّي إلى تأخيرِ السَّفَرِ. وهل يجبُ على المودِّع الإشهادُ على الأمينِ؟ فيهِ وجهانِ في الكفايَةِ. ويظهرُ ترجيحُ الوجُوبِ، فإنَّ الأمينَ قد يُنْكِرُ، ولا يبعُدُ تخصِيصُ الخلافِ بحالِ القدرةِ على الإشهادِ.

فَرْعٌ: لو تركَ هذا التَّرتيبَ ضَمِنَ.

فَإن دَفَنهَا بِمَوْضِع وَسافَرَ ضَمِنَ، لأنهُ عرَّضَها للأخْذِ، فَإن أَعلَمَ بِهَا أَمِيْناً يَسْكُنُ المَوضعَ؛ أي وهو حِرْز مثلُهُ، لَمْ يَضمَنْ فِي الأصَحِّ، لأنَّ ما في الدَّارِ في يَدِ ساكِنِها؛ فكأنهُ أودعَهُ إيَّاهُ، والثاني: يضمنُ، لأنَّ ذلك إعلامٌ لا إيداعٌ. وجعلَ الإمامُ في معنَى السُّكنى أن يُراقِبَهَا من الجوانِبِ أو مِن فَوقِ مُراقَبَةَ الحارِسِ، وهذا

ص: 1114

الإعلامُ سبيلُهُ الائتِمَانُ، وقيل: الإشْهَادُ. وَاعلَم: أنَّ محِلَّ الخلافِ الذي ذكرَهُ المصنِّفُ فيما إذا فَعَلَ ذلكَ مع عدَمِ القُدرةِ على الدَّفْنِ بمسكَنِ الحاكِمِ كما سبقَ في التسلِيمِ؛ لا مُطلقًا، لأنَّ الدَّفنَ فيما سكنَهُ مع إعلامِهِ بهِ ومرافقَتِهِ عليه تسليمٌ لهُ إذ لا يُشترطُ في التسلِيمِ والتَّسَلُّمِ الأخذُ باليدِ إجماعًا.

وَلَوْ سافر بِهَا ضَمِنَ، لأنَّ حِرْزَ السَّفَرِ دُونَ حِرْزِ الحَضَرِ، ثم هذا إذا أودَعَ حاضِراً، فإن أودَعَ مُسافراً فسافَرَ بها أو مُنَتَجعاً فَانتجعَ بها فلا ضَمَانَ، كما جزَمَ به في الروضة تبعًا للرافعيّ، لأنَّ المالِكَ رَضِيَ حينَ أودعَهُ، إِلَّا إِذَا وَقعَ حَرِيْق أَوْ غَارَةٌ وَعَجَزَ عَن مَن يَدفَعُهَا اِلَيهِ كَمَا سبَقَ، أىْ فإنهُ لا يضمَنُ لقيامِ العُذرِ بهِ، بل يلزمُهُ السفرُ بها في هذه الحالةِ وإلا فهو مُضيِّعٌ، وَالحَرِيقُ وَالْغارَةُ فِي البقعة وإشراف الحِرزِ عَلَى الخَرَابِ؛ أيْ ولم يَجِد حِرزاً آخرَ ينقُلُها إليهِ، أَعْذَارٌ كاَلسَّفَرِ، أىْ في جَوَازِ الإيداع لظهُورِ العُذرِ.

فَائِدَة: الغَارَةُ لُغَة قَلِيلَة، وَالأفْصَحُ الإغَارَةُ.

وَإذَا مَرِضَ مَرَضاً مُخَوِّفاً فَليَرُدَّهَا إلَى المَالِكِ أَوْ وَكِيلِهِ، وَإِلَّا فالَحَاكِمِ أَوْ إلَى أَمِيْن أَوْ يُوْصِي بِهَا، أي إلى أمين كما إذا أرادَ السفرَ. والمرادُ بالوصيَّةِ الإعلامُ والأمرُ بردِّها بعد موتهِ، هذا هو المعتمَدُ كما قال الرافعيُّ. وكلامُ الأئمَّةِ يقتضي أنَّ المرادَ أن يسلِّمَها إليهِ وليس كذلكَ، فَإن لَمْ يَفْعَل ضَمِنَ، لأنهُ عرَّضَها للفواتِ، إذ الوارثُ يعتمدُ ظاهرَ اليدِ ويَدَّعِيْها لنفسِهِ، وقصد ابنُ الرفعةِ ذلك بما إذا لم تكُنْ بالوديعَةِ بَيِّنَة باقيةٌ، لأنها كالوصيَّةِ، إِلَّا إِذَا لَم يَتَمَكَّن بِأن مَاتَ فُجأة، أىْ وكذا إذا قُتِلَ غَيلَة لانتفاءِ التقصيرِ، وما أحسَنَ قولَ أبي سَهل الصُّلُوكِيِّ وقدْ سُئلَ عن ذلكَ يعني الضَّمَانَ: لَا إنْ ماتَ عَرَضاً، نَعَمْ إنْ ماتَ مَرَضاً. ومرادُهُ ما ذكرَهُ المصنِّفُ.

فَرْعٌ: الْمَحبوسُ لِقَتْل (•) كمَنْ مَرِضَ مُخَوِّفاً، فيما ذكرنَاهُ؛ قال الإمامُ: ولا يلتحِقُ به الانتهاءُ إلى الهَرَمِ مِن غيرِ مرضٍ.

(•) في النسخة (1): لِيقتلَ.

ص: 1115

فَرْعٌ: لا يلزمُ الورثةَ التسليمُ بمجرَّدِ الكتابَةِ: أنَّ هذا وَدِيعَة، لأنَّ الخَطَّ لا يُثْبِتُ حَقّا على كاتبِهِ؛ كذا علَّلَهُ في الاستقصاءِ، وعلَّلهُ غيرُهُ باحتمالِ شِرائِهَا بعد الإيداع.

فَرْعٌ: إذا ماتَ القاضي وَلَم تُوْجد تَرِكَةُ اليتيمِ في تَرِكَتِهِ لَمْ يَضمَنْهَا، وإن لم يُوْصِ ولم يعيِّنْ لأحدٍ مالًا، قالهُ ابنُ الصَّلاح في فتاويهِ؛ وقال: إنَّما يضمنُ إذا فرَّطَ سواءٌ ماتَ عن مرضِ أو بَغتة.

وَمِنْهَا إِذَا نَقَلَهَا مِنْ مَحِلْةٍ أَوْ دَارٍ إِلَى أخْرَى دُونَهَا فِي الْحِرزِ ضَمِنَ، لتعريضها للهلاكِ، وإلا؛ أيْ وإن تساوَيَا أو كان المنقولُ إليهِ أَحْرَزَ، فَلا، أىْ فلا ضمانَ لعدمِ التَّفريطِ، واحترزَ بقوله (إِلَى أخرَى) عمَّا إذا نقلَ من بيتٍ إلى بيتٍ في دار واحدةٍ، أو خانِ واحدٍ فإنهُ لا ضمانَ، وإنْ كان الأولُ أحْرَزَ. وفي فتاوَى القفالِ: أنهُ إذا نقلَهَا من قريةٍ إلى أخرى أحْرَزَ فلا ضمانَ إن كانتْ ممَّا لا مُوْنَةَ لحَملِهِ، لأنَّهُ أَوْردهَا في الموضع المنقولِ إليهِ لزِمَ المودِعَ قبولُها، ثم هذا كلُّهُ إذا أطلقَ الإيداعَ، فإن أمَرَهُ بالحفظِ في موضع معيَّنِ فسيأتِي.

وَمِنْهَا: أَن لَا يَدْفَعَ مُتْلِفَاتِهَا؛ أيْ أنَّهُ يجبُ عليهِ دفعُها عنها على المعتادِ، لأنَّهُ من أُصُولِ الحِفْظِ، فَلَو أَوْدعَهُ دابَّة فَتَرَكَ عَلْفَهَا؛ أيْ بإسكانِ اللَّامِ مُدَّةً يموتُ مثلُها، ضَمِنَ؛ أيْ سواء أَذِنَ في عَلْفِهَا أو أطلقَ لِتَعَدِّيهِ، فإنهُ يلزمُهُ أنْ يَعْلِفَهَا لحقِّ اللهِ تعالى؛ وبهِ يحصُلُ الحفظُ الذي التزمَهُ بقبولها. أمَّا إذا ماتَت قبلَ مُضيِّهَا فلا؛ إنْ لم يكُنْ بها جُوعٌ أو عطَشٌ سابِقٌ، فإن كانَ وهُو عالِمٌ بهِ ضَمِنَ وإلَّا، فلا على الأصحِّ، فَاِن نَهَاهُ عَنْهُ فَلَا عَلَى الصَّحِيح، للإذن في الإتلافِ، نَعَمْ يَعْصِي لِحُرْمَةِ الرُّوح، والثاني: يضمنُ؛ لأنَّهُ لا حُكْمَ لِنَهْيِهِ عما أوجبَهُ الشَّرْعُ: بدليلِ أنَّهُ يَأثمُ.

فَرْعٌ: لو كانَ بالبهيمَةِ قُوْلَنْجٌ أو تُخمَةٌ يضُرُّ بها العَلْفُ والسَّقْي لزمَهُ امتثالُ نَهْيهِ، فلو خالفَ قبْلَ زوالِ العلَّةِ فماتَتْ ضَمِنَ، وإن أَعطَاهُ الْمَالِكُ عَلَفاً؛ أيْ بفتح اللَّامِ، عَلَفَهَا مِنْهُ، وَإِلَّا فَلْيُرَاجِعْهُ أَوْ وَكِيلَهُ؛ أي ليستردَّهَا أو يُعطى علَفَها، فَاِن فُقِدَا فَالحَاكِمُ، كما في هَرَبِ الجَمَّالِ ونحوِهِ، وَلَوْ بَعَثَهَا مَعَ مَنْ يَسْقِيْهَا؛ أيْ وكانَ

ص: 1116

أمِيْناً، لَمْ يَضْمَنْ فِي الأصَح، لِاطّرَادِ العادَةِ بذلكَ، والثاني: يضمنُ لإخراجِها من حِرْزِهَا على يدِ مَن لم يَأتمِنْهُ المالِكُ مع إمكانِ تعاطِى ذلكَ بنفسِهِ، فإن لم يكُنْ أمِيْناً ضَمِنَ قطعًا، قال في الوسيطِ: والخلافُ فيمَنْ يتولى ذلكَ بنفسِهِ في العادَةِ. وأمَّا غيرُهُ فلا يضمنُ قطعًا.

وَعَلَى المُودَع تَعرِيضُ ثِيَابِ الصوفِ لِلرِّيْح كَيْ لَا يُفْسِدَهَا الدُّوْدُ، وَكَذَا لُبسُهَا عِندَ حَاجَتِهَا، أيْ بأنْ يعين طريقًا لدفْع الدُّوْدِ بسبَبِ عَبَقِ رائحَةِ الآدمِّي بِهَا، فإنْ لم يفعلْ وفسدَتْ ضَمِنَ إلَّا أنْ ينهَاه عنهُ، وهذا كُلهُ مع عِلْمِ المودِّع. فإنْ لم يعلَمْ؛ بأن كان في صُنْدُوق أو كِيْسٍ مشدودٍ، ولم يُعلِمْهُ المالِكُ فلا ضَمَانَ.

فَرْعٌ: ثِيَابُ الخَزِّ كالصُّوفِ؛ قالهُ في المطلَبِ، قال: وَهِىَ الْمَعمولَةُ مِنْ حَرِير وَصُوْفٍ، قُلْتُ: وَقِيْلَ: مِنْ حَرِيْرٍ وَوَبَرٍ.

فَرْعٌ: تَمْشِيَةُ الدابَّةِ عند الخوفِ عليها مِن الزَّمَانَةِ لكثرَةِ وُقوفِهَا كَنَشْرِ الثوبِ. وَمِنْهَا أَن يَعْدِلَ عَنِ الْحِفْظِ الْمَأمُورِ، وَتَلِفَتْ بِسَبَبِ الْعُدُولِ فَيَضمَنُ، لأنَّهُ لو رَاعَى المأمورَ بهِ لم يتحققِ التلَفُ، فَلَوْ قَالَ: لَا تَرْقُد عَلَى الصُّنْدُوقِ، فَرَقَدَ وَانكَسَرَ بِثِقْلِهِ وَتلِفَ مَا فِيْهِ ضَمِنَ، للمخالَفَةِ، وَإِن تَلِفَ بغَيْرِهِ، أيْ كما إذا كانَ في بيتٍ مُحْرَزٍ أو في صحراءَ وأخذَهُ لِصٌّ، فَلَا، عَلَى الصحِيْح، لأنَّه زادَهُ خيراً: فالتلَفُ ما جاءَ ممَّا أتَى بهِ، والثاني: يضمنُ؛ لأنَّ الرقَادَ عليهِ يُوهِمُ السارِقَ نفَاسَةَ ما فيهِ فيقصُدُهُ.

فَرْع: لو كانَ في صحراءَ وأخذَهُ اللّصُّ من جانِبِ الصندوقِ ضَمِنَ على الأصحِّ؛ إذا سُرِقَ من جانبٍ لو لم يرقُدْ عليهِ لَرَقَدَ هُناك، بأنْ كانَ يرقُدُ أمامَهُ فتركَهُ.

وَكَذَا لَوْ قَالَ: لَا تَقْفِلْ عَلَيْهِ قُفْلَيْنِ فَأقْفَلَهُمَا، لأنَّهُ زادَ احتياطًا، والثاني: يضمنُ للإِغْرَاءِ. ومحِلُّ الخلافِ في بلدٍ لم تَجْرِ عادتُهُم بذلكَ وإلَّا فلا ضَمَانَ قطعاً، قالهُ ابنُ عُجَيْلٍ وَتَبِعَهُ صاحبُ المُعِيْنِ.

فَرْعٌ: الخلافُ جارٍ فيما لو قالَ: لا تُقْفِلْ عليهِ؛ فَأقفَلَ، وهو ما ذكرَهُ في الْمُحَرر عِوَضاً عن مسألةِ الكتابِ.

ص: 1117

وَلَوْ قَالَ: إرْبِطِ الدَّرَاهِمَ فِي كُمِّكَ، فَأمْسَكَها فِي يَدِهِ، فَتَلِفَت، فَالمَذْهَبُ: أنهَا، إِن ضَاعَتْ بِنَوْمٍ وَنسْيَان ضَمِنَ، لأنَّها لو كانتْ مربوطةً لم تَضِع بهذا السببِ، فالتلفُ حَصَلَ بالمخالَفَةِ، أو بِأخْذ غَاصِبٍ فلا، لأنَّ اليدَ أَحْرَزُ بالنسبةِ إليها، وهذا نَصُّهُ في عيونِ المسائِلِ، ونقلَ المُزَنِي أنهُ: لَا ضَمَانَ مُطلقاً، والرَّبِيْعُ مقابلَهُ، وللأصحابِ طُرُق أصحُّها ما ذكرَهُ المصنفُ، وثانيها: إطلاقُ قولينِ، الضمَانُ مُطلقًا، وعكسُهُ. وثالثها: أنْ يربِطْها في الكُمِّ، واقتصرَ على الإمسَاكِ ضَمِنَ. وإنْ أمسَكَ باليَدِ بعدَ الربطِ، فلا. وفي كلامِ الفورانيِّ تصويرُ المسألَةِ بما إذا كانَ الإيداعُ خارِجاً عن منزلِهِ؛ وكلامُ الشافعيِّ في الأمِّ يقتضيْهِ أيضاً كما أفادَهُ صاحبُ المطلبِ، وقولُ المصنف (وَنِسيان)؛ لو قال:(أو) مكانَها يعني الواو لكانَ أحسَن، لأنَّهُ يكفي واحدٌ.

تنْبِيْهَانِ: الأوَّل: أفْهَمَ كَلامُ المصنِّف أنهُ بالربطِ لا يضمنُ؛ ومحلُّهُ إذا جعلَ الخيطَ الرابطَ خارِجَ الكُم في الضياع بِالاسْتِرْسَالِ دُونَ أخذِ الطرارِ وإذا كانَ داخلُهُ في الضياع بأخْذِ الطرارِ دُونَ الاسْتِرْسَالِ، وَاستَشْكَلَهُ الرافعيُّ؛ لأنَّ المأمورَ به مطلقُ الربطِ وقدْ أتَى بهِ، ولكَ أنْ تقولَ: ينبغِي أن يكونَ المأمورُ بهِ رَبطاً يتضمنُ الحِفْظَ، ولهذا لو رَبَطَ ربطاً غيرَ مُحكم ضَمِنَ، وإن كان لفظُ الربطِ يشمَلُ الْمُحكَمَ وغيرَهُ، قال: ولأنهُ لو قال: إحفَظْ في هذا البيتِ، فوضعَها في زاويةٍ منهُ؛ فَانهَدَمَتْ على الوديعَةِ؛ ينبغي أنْ يَضْمَنَ؛ لأنَّها لو كانَتْ في زاوية غيرِها لَسَلِمت، ومِن المعلومِ أنَّ تضمينَهُ بعيد. ولكَ أن تُفَرق بأن لفظَ البيتِ يتناولُها والعُرفُ لا يُخَصصُ موضعاً من البيتِ. الثانِي: معنَى الربطِ معروفٌ لكنْ في ابنِ يُوْنُسَ معناهُ اجعَلْهَا، وكذا في البيانِ عن الشَّيخ أبي حامد: أنَّ الربطَ هنا عبارة عن الْجَعلِ، وهو خلاف المتَبَادَرِ.

وَلَوْ جَعَلَهَا فِي جَيبِهِ بَدَلاً عَنِ الرَّبط فِي الكُمِّ لَم يَضمَن، لأنَّهُ أَحرَزُ؛ اللَّهُمَّ إلَّا إذا كان واسِعاً غيرُ مَزرُورٍ، وَبِالْعَكْسِ يَضمَنُ، لأنَّ الْجَيبَ أَحرَزُ؛ لأنَّهُ يُرْسَلُ الكُمُّ فَيَسْقُطُ. وهل المرادُ بالجيْبِ المعروفِ أو فَتْحَةُ القَمِيْصِ كما هو ظاهرُ كلامِ الجَوْهَرِيِّ وصاحِبُ المطَالِع وَالنهَايَة، والظاهرُ أنَّ المرادَ هنا هو: الأوَّلُ، وإنْ لم أرَهُ في شيءٍ من كُتب اللغَةِ بهذا المعنَى، وبعضُهُم يجعَلُ عندَ طَوْقِهِ فَتْحَة نَازِلَة كَالخريطَةِ

ص: 1118

فيحتمَلُ أن يكونَ المرادَ بهِ أيضاً، وَلَوْ أَعطَاهُ دَرَاهِمَ بِالسُّوقِ وَلَم يُبَيِّن كَيفِيةَ الحِفْظِ فَرَبَطَهَا فِي كُمِّهِ وَأمسَكَهَا بِيَدِهِ أَوْ جَعَلَهَا فِي جَيبِهِ لَم يَضمَنْ، لأنَّهُ قد بالَغَ في الحفظِ. وشرطُ الجَيْبِ أنْ يكونَ ضيقاً أو واسِعاً مَزْرُوْراً، فإنْ كانَ واسِعاً غيرَ مَزْرُورٍ؛ فإنه يضمنُ لسهولَةِ التناوُلِ باليَدِ، وِإن أمسَكَها بِيَدِهِ، يعني ولم يربطْهَا، لَم يَضمَن إِن أَخَذهَا غَاصِبٌ، وَيضمَنُ إِن تلفَت بِغفْلَةِ أَوْ نَوْمِ، لأنَّه حصلَ بسببٍ من جهتَهِ بخلافِ الأولِ، وَإن قَالَ: احفَظْهَا فِي الْبَيتِ فَلْيَمضِ إِلَيهِ ويحرِزْهَا فِيهِ، فَإن أخرَ بِلَا عُذْرِ ضَمِنَ، لتفريطِهِ ولا يبعُدُ الرجوعُ في ذلك إلى العُرفِ ويختلفُ ذلكَ باختلافِ نَفَاسَةِ الودِيْعَةِ وَقِلتِهَا وطُولِ زَمَانِ التأخِيْرِ وَقِصَرِهِ.

وَمِنْهَا: أَن يُضَيِّعَهَا بِأن يَضَعَهَا في غيرِ حِرزِ مِثْلِهَا، أيْ وإنْ قصَدَ بهِ إخْفَاءَهَا، أَوْ يَدُل عَلَيْهَا سَارِقاً أَوْ مَنْ يُصَادِرُ المَالِكَ، لأنَّهُ مأمور بحفظِهَا في حِرزِ مِثلِهَا، وَالتحَرُّزُ عن أسبابِ تلفِهَا، فلو أُخبِرَ بالوديعةِ ولم يعيِّنْ مكانَهَا أو كان الدَّالُّ غيرَهُ فلا ضمانَ، وعنهُ احترَزَ بقولهِ (أوْ يَدُل عَلَيْهَا). ولو أَعلَمَ مَنْ يُصَادِرُ المالِكَ غير المودَع فلا ضمانَ عليه، لأنَّهُ لم يَلتزِمْ بالحفظِ.

فَرْعٌ: دَلَّ عليها سَارِقاً فضاعَتْ بغيرِهَا، قال في الذخَائِرِ، قال أصحابُنا: الدَّلَالَةُ كَنِيةِ الخِيَانَةِ؛ وفيهِ وجهانِ، قال: والأظهرُ هنا الضمَانُ؛ وهو ظاهرُ إطلاقِ المصنِّف أيضاً.

فرع: ضيَّع بِالنسيانِ، ضَمِنَ في الأصحِّ.

فَلَو أَكرَهَهُ ظَالِم حَتَّى سَلمَهَا إِلَيهِ فَلِلمَالِكِ تَضمِينُهُ فِي الأصَحِّ، لتسليمِهِ، والضمانُ يستوى فيهِ الاختيارُ والاضطرارُ، ثم يَرْجِعُ، أي المودِّعُ، عَلَى الظالِمِ، لأنَّهُ ليس لهُ أن يَقِي نفسَهُ بمالِ غيره، كما لو أَلقى في البحرِ مالَ غيرِهِ، والثاني: المنعُ، لأنَّهُ مضطر كما لو أخذَها الغاصِبُ بنفسِهِ، ولا يلزمُهُ أن يَقِىَ مالَ غيره بنفسِهِ كما لو صَالَ عليهِ فَحْل فَفَتَلَهُ، واحترزَ بقولِهِ (سَلمَهَا إِلَيهِ) عمَّا لو أخذَها منهُ قَهْراً، فإنهُ لا ضمانَ عليهِ قطعاً كما لو سُرِقَتْ منهُ، نَعَمْ: لو لم يسلمْها، لكنْ دَل عليهَا فأخذَها

ص: 1119

الظالِمُ؟ (293) قال الماوردي: المذهبُ أنهُ لا يضمَنُ كَالْمُحْرِمِ إذا دَلَّ على صَيدٍ لا يضمنُهُ تقديماً للمباشرَةِ على السبَبِ.

فَرْع: يُخْفِى الوديعَةَ عن الظالِمِ؛ ويحلِفُ كاذباً جَوَازاً؛ قالهُ الرافعىُّ، وقال الغزالي في البسيطِ: وُجوْباً ويكَفرُ على الأصح، ولو حَلَفَ بالطلاقِ مُكْرَهاً، وَقَعَ على الأصحِّ، لأنَّهُ فَدَى الوديعَةَ بِزَوْجَتِهِ.

وَمِنْهَا: أَن يَنتَفِعَ بِهَا بِأن يَلْبَسَ أَوْ يَرْكَبَ خِيَانَة، أَوْ يَأخُذَ الثوْبَ لِيَلْبَسَهُ أَوِ الدرَاهِمَ لينْفِقَهَا فَيَضْمَنُ، لوجُودِ التعَدِّي في اللبسِ والرُّكُوبِ والإخراج في الباقى وهُو على هذا القَصْدِ خِيَانَة، واحترزَ بقوله (خِيَانَة) عمَّا إذا كان ثَمَّ عُذْر بأنْ لَبِسَ لِدَفْع الدودِ كما سبقَ أو رَكِبَ الدابَّةَ حيثُ يجوزُ إخراجُها للسقىِّ وكانت لا تنقادُ إلَّا بهِ فإنهُ لا ضمانَ.

فَرْعٌ: في فتاوى البغوي: لو أَوْدَعَ كِتاباً من إنسانٍ فَقَرَأَ فيه ضَمِنَ، وإنْ غصبَ منهُ بعدَهُ فعليهِ بدلُ الضمانِ، لأنَّ القراءَةَ مِن الكتابِ انتفاع بهِ.

وَلَوْ نَوَى الأخْذَ وَلَم يَأخُذْ، لَمْ يَضْمَنْ عَلَى الصحِيْح، لأنَّهُ لم يُحْدِثْ فِعْلاً، والثاني: يضمنُ كما لو وُجِدَتْ نِيَّةُ الْخِيَانَةِ في الابتداءِ. وَنِيةُ الاستعمالِ كَنِيةِ الأخْذِ فيجرِي الخلافُ، ثم الخلافُ إذا نوَى بعدَ القبضِ، أما إذا نواهُ ابتداء ضَمِنَ قطعاً، وَلَوْ خَلَطَهَا بِمَالِه وَلَم تَتَمَيزْ ضَمِنَ، لأنَّهُ لم يَرْضَ به المالِكُ لما فيهِ من سُوءِ المشاركَةِ؛ فإنْ تَميزَ؛ فلا، إلا أن يحدُثَ بالخلطِ نقص، وَلَوْ خَلَطَ دَرَاهِمَ كِيْسَيْنِ لِلْمُوْدِع ضَمِنَ فِي الأصَحِّ، لأنَّهُ خيانة. والثاني: لا، لأنَّهُ كله مِلْكُ مالِكٍ واحدٍ، ولو كانَا مُتَمَيزَينِ كدراهِمَ ودنانيرَ فلا ضمانَ وكذا لو خلطَ ذلك بمالِهِ. وعنه احترزَ بقوله أولاً (وَلَمْ يَتَمَيزْ)، وَمَتَى صَارَتْ مَضمُونَةً بانْتِفَاعِ وَغَيْرِهِ ثُمَّ تَرَكَ الْخِيَانَةَ لَمْ يَبْرَأ، كما لو جحَدَها ثم اعترفَ بها، فَإن أًحدَث لَهُ المالِكُ اسْتِئْمَاناً، أي

(293) أي ضَمَنَ المُودِّعُ؟

ص: 1120

كاستَأمَنتُكَ عليهَا ونحوه، بَرِىَء في الأصَح، لأنَّهُ أسقَطَ حقهُ؛ والثاني: لا، حتَّى يردها إلى صاحبِها أو وكيلهِ لحديث [عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدّيهِ](294) ونَصَّ الشافعيُّ رحمه الله على الوجهينِ، قال الرافعي: فيجوزُ التعبيرُ على الخلافِ بالقولينِ، قُلْتُ: بَلْ يَتَعَيَّنَ.

فَصل: وَمَتَى طَلبهَا المَالِكُ لَزِمَهُ الرَّدُّ بِأن يُخَلي بَينَهُ وَبَينَهَا، أي وليس المرادُ بالرد أنهُ يجبُ عليهِ مباشرته أو تحملِ مُؤْنَتِهِ وإنَّما ذلك على المالِك، فإن أَخْرَ بِلَا عُذْر ضَمِنَ، لتعديه، وإنْ كانَ ثَمَّ عذرٌ فلا ضمانَ قطعًا على الراجِح في الروضة، وَإنِ ادًعَى تَلَفَهَا وَلَمْ يَذْكُرْ سَبَباً أَوْ ذَكَرَ خَفِياً كَسَرِقَةٍ صُدِّقَ بِيَمِيْنهِ، لأنَّهُ ائْتمَنَهُ فليصدقهُ، وَإِن ذَكَرَ ظَاهِراً كَحَرِيق، فَإن عُرِفَ الحَرِيقُ وَعُمومُهُ صُدِّقَ بِلَا يَمِينٍ، لقيامِ القرائِنِ على ذلكَ، وِإن عُرِفَ دُون عُمومِهِ صُدّقَ بِيَمِينهِ، لاحتمالِ ما يدَّعيهِ، وَإِن جهِلَ طُولِبَ بِبَينةٍ، يعني على السببِ الظاهرِ، ثُمَّ يُحَلفُ عَلَى التَّلَف بِهِ، لاحتمالِ أنها لم تَتلَف بِهِ.

فَرْعٌ: موتُ الحيوانِ والغصبُ من الأسبابِ الظاهرةِ عند المتوليّ، والأقربُ في الرافعيِّ وهو ما في التهذيب: إلحاقُ الغَصْبِ بِالسرقةِ.

وِإنِ ادعَى رَدَّهَا عَلَى مَنِ ائتمَنَهُ، أيْ وهو المالكُ، صُدِّقَ بِيَمِينهِ، لأنَّهُ ائتمَنَهُ فيقبَلْ قولَهُ عليهِ، أَوْ عَلَى غَيْرِهِ كَوَارِثه أَوِ ادعَى وَارِثُ الْمُوَدع الرّدّ عَلَى الْمَالِكِ أَوْ أَوْدَعَ عِندَ سفرِهِ أمِيْناً فَادعَى الأمِيْنُ الرّدّ عَلَى الْمَالِكِ طُوْلبَ، كُل، بِبَينَةٍ، لأنَّ الأصلَ عدمُ الرَّدِّ ولم يأتمِنهُ، وَجُحُودُهَا بَعْدَ طَلَبِ الْمَالِكِ مضَمنْ، لخيانتِهِ حينئذٍ، واحترزَ بطلَبِ المالِكِ على طلَبِ غيرِهِ، فإنهُ لو سألَهُ عنها فأجابَ: بأنْ لا وديعَةَ لأحدِ عندي، ولو بحضْرَةِ المالِك؛ فإنهُ لا يكونُ مُضَمناً، لأنَّ إخفاءَها أبلغُ في

(294) رواه أبو داود في السنن: كتاب البيوع: باب في تضمين العارية: الحديث (3561). والترمذي في الجامع: كتاب البيوع: الحديث (1266)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. والنَّسائيُّ في السنن الكبرى: كتاب العارية: باب المنيحة: الحديث (5783/ 3).

ص: 1121

حفظِها، ولو لم يطلبْهَا بل قال: لي عندَكَ وديعةٌ فسكَتَ لم يَضْمَنْ، وإنْ أنكرَ لم يضمَنْ أيضًا في الأصح، لأنهُ قد يكونُ لهُ في الإخفاءِ غَرَضٌ صحيحٌ بخلافِ ما بعد الطَّلَبِ.

فَرْعٌ: لو جَحَدَ، ثم قالَ: كُنتُ غلطتُ أو نسيتُ لم يبرَّأُ، إلا أن يصدقَهُ المالِكُ.

ص: 1122