الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَيْضا فَيحمل على أَن المُرَاد بالحكمة أَيْضا الْقُرْآن، فَيكون بَعضهم رَوَاهُ بِالْمَعْنَى. وَقَالَ جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فِي قَوْله تَعَالَى:{يُؤْتِي الْحِكْمَة من يَشَاء وَمن يُؤْت الْحِكْمَة} الْآيَة (الْبَقَرَة: 269) . إِن الْحِكْمَة الْقُرْآن. فَإِن قلت: روى التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ من طَرِيق عَطاء عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: دَعَا لي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَن أَوتى الْحِكْمَة مرَّتَيْنِ. قلت: يحْتَمل تعدد الْوَاقِعَة فَيكون المُرَاد بِالْكتاب الْقُرْآن، وبالحكمة السّنة، وَقد فسرت الْحِكْمَة بِالسنةِ فِي قَوْله تَعَالَى:{وَيُعلمهُم الْكتاب وَالْحكمَة} (الْبَقَرَة: 129) قَالُوا: المُرَاد بالحكمة هُنَا السّنة الَّتِي سنّهَا رَسُول الله، عليه الصلاة والسلام، بِوَحْي من الله تَعَالَى، وَيُؤَيّد ذَلِك رِوَايَة عبد اللَّه بن أبي يزِيد عَن ابْن عَبَّاس، رضي الله عنهما، الَّتِي أخرجهَا الشَّيْخَانِ بِلَفْظ:(اللَّهُمَّ فقهه)، وَزَاد البُخَارِيّ فِي رِوَايَة:(فِي الدّين) . وَذكر الْحميدِي فِي (الْجمع) : أَن أَبَا مَسْعُود ذكر فِي (أَطْرَاف الصَّحِيحَيْنِ)، بِلَفْظ:(اللَّهُمَّ فقهه فِي الدّين وَعلمه التَّأْوِيل) . قَالَ الْحميدِي: هَذِه الزِّيَادَة لَيست فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَهِي فِي رِوَايَة سعيد بن جُبَير عِنْد أَحْمد وَابْن حبَان، وَوَقع فِي بعض نسخ ابْن مَاجَه من طَرِيق عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ عَن خَالِد الْحذاء بِلَفْظ:(اللَّهُمَّ علمه الْحِكْمَة وَتَأْويل الْكتاب) . وَهَذِه الرِّوَايَة غَرِيبَة من هَذَا الْوَجْه، وَقد رَوَاهَا التِّرْمِذِيّ والإسماعيلي وَغَيرهمَا من طَرِيق عبد الْوَهَّاب بِدُونِهَا، وروى ابْن سعد من وَجه آخر عَن طَاوس عَن ابْن عَبَّاس قَالَ:(دَعَاني رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَمسح على ناصيتي وَقَالَ: اللَّهُمَّ علمه الْحِكْمَة وَتَأْويل الْكتاب) . وَقد رَوَاهُ أَحْمد عَن هشيم عَن خَالِد فِي حَدِيث الْبَاب بِلَفْظ: (مسح على رَأْسِي) . فَإِن قلت: مَا معنى تَسْمِيَة الْكتاب وَالسّنة بالحكمة؟ قلت: أما الْكتاب فَلِأَن الله تَعَالَى أحكم فِيهِ لِعِبَادِهِ حَلَاله وَحَرَامه، وَأمره وَنَهْيه. وَأما السّنة فحكمة فصل بهَا بَين الْحق وَالْبَاطِل، وبيَّن بهَا مُجمل الْقُرْآن. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: هَل جَازَ أَن لَا يُسْتَجَاب دُعَاء النَّبِي صلى الله عليه وسلم؟ قلت: لكل نَبِي دَعْوَة مستجابة، وَإجَابَة الْبَاقِي فِي مَشِيئَة الله تَعَالَى، وَأما هَذَا الدُّعَاء فمما لَا شكّ فِي قبُوله، لِأَنَّهُ كَانَ عَالما بِالْكتاب، حبر الْأمة، بَحر الْعلم، رَئِيس الْمُفَسّرين، ترجمان الْقُرْآن. وَكَونه فِي الدرجَة القصوى فِي الْمحل الْأَعْلَى مِنْهُ، مِمَّا لَا يخفى. وَقَالَ ابْن بطال: كَانَ ابْن عَبَّاس من الْأَحْبَار الراسخين فِي علم الْقُرْآن وَالسّنة، أجيبت فِيهِ الدعْوَة، إِلَى هُنَا كَلَام الْكرْمَانِي. قلت: هَذَا السُّؤَال لَا يُعجبنِي، فَإِن فِيهِ بشاعة، وَأَنا لَا أَشك أَن جَمِيع دعوات النَّبِي صلى الله عليه وسلم مستجابة. وَقَوله:(لكل نَبِي دَعْوَة مستجابة) ، لَا يَنْفِي ذَلِك، لِأَنَّهُ لَيْسَ بمحصور. فَإِن قلت: مَا كَانَ سَبَب هَذَا الدُّعَاء لِابْنِ عَبَّاس؟ قلت: بيَّن ذَلِك البُخَارِيّ وَمُسلم فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى عَن ابْن عَبَّاس. قَالَ: (دخل النَّبِي، عليه الصلاة والسلام، الْخَلَاء فَوضعت لَهُ وضوأ) . زَاد مُسلم: (فَلَمَّا خرج ثمَّ اتفقَا قَالَ: من وضع هَذَا؟ فَأخْبر) . وَلمُسلم: (قَالُوا: ابْن عَبَّاس) . وَفِي رِوَايَة أَحْمد وَابْن حبَان من طَرِيق سعيد بن جُبَير عَنهُ أَن مَيْمُونَة هِيَ الَّتِي أخْبرته بذلك،، وَأَن ذَلِك كَانَ فِي بَيتهَا لَيْلًا. قلت: وَلَعَلَّ ذَلِك فِي اللَّيْلَة الَّتِي بَات فِيهَا ابْن عَبَّاس عِنْدهَا ليرى صَلَاة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، لما سَيَأْتِي فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
بَيَان استناط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ بركَة دُعَائِهِ، عليه الصلاة والسلام، وإجابته. الثَّانِي: فِيهِ فضل الْعلم والحض على تعلمه وعَلى حفظ الْقُرْآن وَالدُّعَاء بذلك. الثَّالِث: فِيهِ اسْتِحْبَاب الضَّم، وَهُوَ إِجْمَاع للطفل والقادم من سفر ولغيرهما، ومكروه عِنْد الْبَغَوِيّ، وَالْمُخْتَار جَوَازه، وَمحل ذَلِك إِذا لم يؤد إِلَى تَحْرِيك شَهْوَة. هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي، وَمذهب أبي حنيفَة أَن ذَلِك يجوز إِذا كَانَ عَلَيْهِ قَمِيص، وَقَالَ الإِمَام أَبُو مَنْصُور الماتريدي: الْمَكْرُوه من المعانقة مَا كَانَ على وَجه الشَّهْوَة، وَأما على وَجه الْبر والكرامة فَجَائِز.
18 -
(بَاب متَى يَصِحُّ سَماعُ الصَّغِيرِ)
وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: الصَّبِي الصَّغِير، أَي: هَذَا بَاب، وَهُوَ منون، وَكلمَة: مَتى، للاستفهام. إِذا قلت: مَتى الْقِتَال؟ كَانَ الْمَعْنى الْيَوْم أم غَدا أم بعد غَد. وَبني لتَضَمّنه معنى حرف الِاسْتِفْهَام، كَمَا فِي الْمِثَال الْمَذْكُور. قَالَ الْكرْمَانِي: معنى الصِّحَّة جَوَاز قبُول مسموعه. وَقَالَ بَعضهم هَذَا تَفْسِير لثمرة الصِّحَّة لَا لنَفس الصِّحَّة. قلت: كَأَنَّهُ فهم: أَن الْجَوَاز هُوَ ثَمَرَة الصِّحَّة وَلَيْسَ كَذَلِك، بل الْجَوَاز هُوَ الصِّحَّة وَثَمَرَة الصِّحَّة عدم ترَتّب الشَّيْء. عَلَيْهِ عِنْد الْعَمَل فَإِن قلت: مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ؟ قلت: من حَيْثُ إِن مَا ذكر فِي الْبَاب الأول من دُعَائِهِ، عليه الصلاة والسلام، لِابْنِ عَبَّاس، إِنَّمَا كَانَ وَابْن عَبَّاس إِذْ ذَاك غُلَام مُمَيّز، وَالْمَذْكُور
فِي هَذَا الْبَاب حَال الْغُلَام الْمُمَيز فِي السماع، على أَن الْقَضِيَّة هَهُنَا لِابْنِ عَبَّاس أَيْضا، كَمَا كَانَت فِي الْبَاب الأول، وَمرَاده الِاسْتِدْلَال على أَن الْبلُوغ لَيْسَ شرطا فِي التَّحَمُّل. وَاخْتلفُوا فِي السن الَّذِي يَصح فِيهِ السماع للصَّغِير، فَقَالَ مُوسَى بن هَارُون الْحَافِظ: إِذا فرق بَين الْبَقَرَة وَالدَّابَّة. وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: إِذا عقل وَضبط. وَقَالَ يحيى بن معِين: أقل سنّ التَّحَمُّل خَمْسَة عشر سنة، لكَون ابْن عمر، رضي الله عنهما، رد يَوْم أُحد، إِذْ لم يبلغهَا، وَلما بلغ أَحْمد أنكر ذَلِك. وَقَالَ: بئس القَوْل. وَقَالَ عِيَاض: حدد أهل الصّفة ذَلِك أَن أَقَله سنّ مَحْمُود بن الرّبيع، ابْن خمس. كَذَا ذكره البُخَارِيّ. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى أَنه كَانَ ابْن أَربع، وَقَالَ ابْن الصّلاح: والتحديد بِخمْس هُوَ الَّذِي اسْتَقر عَلَيْهِ عمل أهل الحَدِيث من الْمُتَأَخِّرين، فيكتبون لِابْنِ خمس سِنِين فَصَاعِدا سمع ولدون حضر أَو أحضر، وَالَّذِي يَنْبَغِي فِي ذَلِك اعْتِبَار التَّمْيِيز، فَإِن فهم الْخطاب ورد الْجَواب كَانَ مُمَيّزا وصحيح السماع، وَإِن كَانَ دون خمس. وَإِن لم يكن كَذَلِك لم يَصح سَمَاعه وَلَو كَانَ ابْن خمس، بل ابْن خمسين. وَعَن إِبْرَاهِيم بن سعيد الْجَوْهَرِي قَالَ: رَأَيْت صَبيا، ابْن أَربع سِنِين، قد حمل إِلَى الْمَأْمُون قد قَرَأَ الْقُرْآن وَنظر فِي الْآي، غير أَنه إِذا جَاع بَكَى. وَحفظ الْقُرْآن أَبُو مُحَمَّد عبد اللَّه بن مُحَمَّد الْأَصْبَهَانِيّ وَله خمس سِنِين، فامتحنه فِيهِ أَبُو بكر بن الْمقري وَكتب لَهُ بِالسَّمَاعِ وَهُوَ ابْن أَربع سِنِين، وَحَدِيث مَحْمُود لَا يدل على التَّحْدِيد بِمثل سنه.
76 -
حدّثنا إِسْماعِيلُ بنُ أبي أُوَيْسٍ قَالَ حدّثني مالِكٌ عَن ابْن شِهابٍ عنْ عُبَيدِ اللَّه ابنِ عَبْدِ اللَّه بنِ عُتْبَةَ عنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أقْبَلْتُ راكِباً عَلَى حِمارٍ أَتانٍ، وأنَا يوْمَئِذٍ قَدْ ناهَزْتُ الإحْتِلامَ، ورَسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِمِنَى إِلى غَيْرِ جِدارٍ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ وأرْسَلْتُ الأَتَانَ تَرْتَعُ، فَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ فَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِك علَيَّ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْعلمَاء جوزوا الْمُرُور بَين يَدي الْمُصَلِّي، إِذا لم يكن ستْرَة، بِرِوَايَة ابْن عَبَّاس هَذِه، وَابْن عَبَّاس تحمل هَذَا فِي حَالَة الصبى، فَعلم مِنْهُ قبُول سَماع الصَّبِي إِذا أَدَّاهُ بعد الْبلُوغ. فَإِن قلت: التَّرْجَمَة فِي سَماع الصَّغِير وَلَيْسَ فِي هَذَا الحَدِيث سَماع الصَّبِي. قلت: الْمَقْصُود من السماع هُوَ وَمَا يقوم مقَامه لتقرير الرَّسُول، عليه السلام، فِي مَسْأَلَتنَا لمروره. فَإِن قلت: عقد الْبَاب على الصَّبِي الصَّغِير، أَو الصَّغِير فَقَط، على اخْتِلَاف الرِّوَايَة، والمناهز للاحتلام لَيْسَ صَغِيرا، فَمَا وَجه الْمُطَابقَة؟ قلت: المُرَاد من الصَّغِير غير الْبَالِغ، وَذكره مَعَ الصَّبِي من بَاب التَّوْضِيح وَالْبَيَان.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة، كلهم قد ذكرُوا، وَإِسْمَاعِيل هُوَ: ابْن عبد اللَّه الْمَشْهُور بِابْن أبي أويس، ابْن أُخْت مَالك، وَابْن شهَاب: هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَعتبَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع وَصِيغَة الْإِفْرَاد والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم مدنيون. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ هُنَا عَن إِسْمَاعِيل، وَفِي الصَّلَاة عَن عبد اللَّه بن يُوسُف والقعنبي، ثَلَاثَتهمْ عَن مَالك، وَفِي الْحَج عَن إِسْحَاق عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم ابْن سعد عَن ابْن أخي ابْن شهَاب، وَفِي الْمَغَازِي، وَقَالَ اللَّيْث: حَدثنِي يُونُس. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك، وَعَن يحيى بن يحيى، وَعَمْرو النَّاقِد، وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، ثَلَاثَتهمْ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَعَن حَرْمَلَة بن يحيى عَن ابْن وهب عَن يُونُس، وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَعَن عبد بن حميد كِلَاهُمَا عِنْد عبد الرَّزَّاق عَن معمر، خمستهم عَنهُ بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن سُفْيَان بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن الْمَالِك أبي الشَّوَارِب عَن يزِيد بن زُرَيْع عَن معمر نَحوه. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور عَن سُفْيَان بِهِ، وَفِي الْعلم عَن مُحَمَّد بن سَلمَة عَن ابْن الْقَاسِم عَن مَالك، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الصَّلَاة عَن هِشَام بن عمار عَن سُفْيَان بِهِ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (على حمَار)، قَالَ فِي (الْعباب) : الْحمار العير، وَالْجمع: حمير وحمر وحمر وحمرات واحمرة ومحمور، والحمارة: الأتان، والحمارة أَيْضا: الْفرس الهجين، وَهِي بِالْفَارِسِيَّةِ: يالانى،، واليحمور حمَار الْوَحْش. (أتان)، بِفَتْح الْهمزَة وبالتاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفِي آخِره نون: وَهِي الْأُنْثَى من الْحمر، وَقد يُقَال، بِكَسْر الْهمزَة، حَكَاهُ الصغاني فِي (شوارده) ،
وَلَا يُقَال: أتانة. وَحكى يُونُس وَغَيره: أتانة، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الاتان الحمارة وَلَا يُقَال: أتانة. وَثَلَاث أتن مثل: عنَاق وأعنق، وَالْكثير اتن واتن، والمأتونا الاتن مثل، المعبورا. قَوْله:(ناهزت الِاحْتِلَام)، أَي: قاربت يُقَال: ناهز الصَّبِي الْبلُوغ إِذا قاربه وداناه. قَالَ صَاحب (الْأَفْعَال) : ناهز الصَّبِي الْفِطَام دنا مِنْهُ، ونهز الشَّيْء أَي: قرب، وَقَالَ شمر: المناهزة الْمُبَادرَة، فَقيل للأسد: نهز، لِأَنَّهُ يُبَادر مَا يفترسه، والنهزة بِالضَّمِّ: الفرصة. ونهزت الشَّيْء دَفعته، ونهزت إِلَيْهِ: نهضت إِلَيْهِ. والاحتلام: الْبلُوغ الشَّرْعِيّ، وَهُوَ مُشْتَقّ من الحالم بِالضَّمِّ، وَهُوَ مَا يرَاهُ النَّائِم. قَوْله:(بمنى)، مَقْصُور: مَوضِع بِمَكَّة تذبح فِيهِ الْهَدَايَا وترمى فِيهِ الجمرات. قَالَ الْجَوْهَرِي: مُذَكّر مَصْرُوف؛ قلت: لِأَنَّهُ علم للمكان فَلم يُوجد فِيهِ شَرط الْمَنْع. وَقَالَ النَّوَوِيّ: فِيهِ لُغَتَانِ: الصّرْف وَالْمَنْع، وَلِهَذَا يكْتب بِالْألف وَالْيَاء، والأجود صرفهَا وكتابتها بِالْألف، سميت بهَا لما يمنى بهَا من الدِّمَاء أَي: تراق. قَوْله: (ترتع)، بتاءين مثناتين من فَوق مفتوحتين وَضم الْعين أَي: تَأْكُل مَا تشَاء، من: رتعت الْمَاشِيَة ترتع رتوعاً. وَقيل: تسرع فِي الْمَشْي وَجَاء أَيْضا، بِكَسْر الْعين على وزن تفتعل، من: الرَّعْي: وَأَصله: ترتعي، وَلَكِن حذفت الْيَاء تَخْفِيفًا، وَالْأول أصوب وَيدل عَلَيْهِ رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الْحَج: نزلت عَنْهَا فرتعت.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (أَقبلت) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل. قَوْله: (رَاكِبًا) نصب على الْحَال. (وعَلى حمَار) يتَعَلَّق بِهِ قَوْله: (أتان) : صفة للحمار أَو بدل مِنْهُ. فَإِن قلت: من أَي قسم من أَقسَام الْبَدَل؟ قلت: قيل: إِنَّه بدل غلط، وَقَالَ القَاضِي: وَعِنْدِي أَنه بدل الْبَعْض من الْكل، إِذْ قد يُطلق الْحمار على الْجِنْس فَيشْمَل الذّكر وَالْأُنْثَى، كَمَا قَالُوا: بعير. وَقَالَ النَّوَوِيّ والقرطبي وَغَيرهمَا أَيْضا: إِن الْحمار اسْم جنس للذّكر والانثى، كلفظة الشَّاة وَالْإِنْسَان. وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين فِي بعض طرقه: على حمَار، أَرَادَ بِهِ الْجِنْس وَلم يرد الذُّكُورَة، وَفِي بَعْضهَا: أتان. وَجمع البُخَارِيّ بَينهمَا، فَقَالَ:(على حمَار أتان) . وَقَالَ القَاضِي: وَجَاء فِي البُخَارِيّ (على حمَار أتان) ، بِالتَّنْوِينِ فيهمَا، إِمَّا على الْبَدَل أَو الْوَصْف. وَقد ذَكرْنَاهُ، وَرُوِيَ:(على حمَار أتان) ، بِالْإِضَافَة، أَي: حمَار أُنْثَى، كفحل اتن. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: إِنَّمَا استدرك الحمارة بِالْأُنْثَى ليعلم أَن الْأُنْثَى من الْحمر لَا تقطع الصَّلَاة، فَكَذَلِك لَا تقطعها الْمَرْأَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: لم قَالَ: على حمارة، فيستغني عَن لفظ: أتان؟ قلت: لِأَن التَّاء فِي حمارة يحْتَمل أَن تكون للوحدة وللتأنيث فَلَا تكون نصا فِي الْأُنُوثَة. قلت: هُنَا قرينَة تدل على تَرْجِيح المُرَاد بأنوثته فَلَا يَقع الْجَواب موقعه، وَالْأَحْسَن أَن يُقَال فِي الْجَواب: إِن الحمارة قد تطلق على الْفرس الهجين، كَمَا نَقَلْنَاهُ عَن الصغاني عَن قريب، فَلَو قَالَ: على حمارة، رُبمَا كَانَ يفهم أَنه أقبل على فرس هجين، وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك، على أَن الْجَوْهَرِي حكى أَن الحمارة فِي الْأُنْثَى شَاذ. قَوْله:(وَأَنا يَوْمئِذٍ)، الْوَاو: فِيهِ للْحَال و: أَنا، مُبْتَدأ وَخَبره قَوْله:(قد ناهزت الِاحْتِلَام) . قَوْله: (وَرَسُول الله) صلى الله عليه وسلم الْوَاو: فِيهِ للْحَال، وَهُوَ مُبْتَدأ وَخَبره قَوْله:(يُصَلِّي) . قَوْله: (بمنى)، نصب على الظّرْف. قَوْله:(إِلَى غير جِدَار) فِي مَحل النصب على الْحَال، وَفِيه حذف تَقْدِيره: يُصَلِّي غير مُتَوَجّه إِلَى جِدَار. قَوْله: (وارسلت)، عطف على: مَرَرْت، و: الأتان، بِالنّصب مَفْعُوله. قَوْله:(ترتع) جملَة فِي مَحل النصب على الْحَال من الْأَحْوَال الْمقدرَة، وَالتَّقْدِير: مُقَدرا رتوعها. قَوْله: (وَدخلت)، بِالْوَاو عطف على:(أرْسلت) . وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (فد خلت)، وبالفاء الَّتِي للتعقيب. قَوْله:(فَلم يُنكر) على صِيغَة الْمَعْلُوم، أَي: فَلم يُنكر النَّبِي صلى الله عليه وسلم ذَلِك عَليّ، وَرُوِيَ بِلَفْظ الْمَجْهُول: أَي لم يُنكر أحد لَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَلَا غَيره مِمَّن كَانُوا مَعَه.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (أَقبلت رَاكِبًا على حمَار)، وَزَاد البُخَارِيّ فِيهِ فِي الْحَج:(أَقبلت أَسِير على أتان حَتَّى صرت بَين يَدي الصَّفّ ثمَّ نزلت عَنْهَا) . وَلمُسلم: (فَسَار الْحمار بَين يَدي بعض الصَّفّ) . قَوْله: (إِلَى غير جِدَار) يَعْنِي: إِلَى غير ستْرَة. فَإِن قلت: لَفْظَة إِلَى غير جِدَار، لَا يَنْفِي شَيْئا غَيره، فَكيف يُفَسر، بِغَيْر ستْرَة؟ إِخْبَار ابْن عَبَّاس عَن مروره بالقوم وَعَن عدم جِدَار، مَعَ أَنهم لم ينكروا عَلَيْهِ، وَأَنه مَظَنَّة إِنْكَار يدل على حُدُوث أَمر لم يعْهَد قبل ذَلِك، من كَون الْمُرُور مَعَ الستْرَة غير مُنكر، فَلَو فرض ستْرَة أُخْرَى غير الْجِدَار لم يكن لهَذَا الْإِخْبَار فَائِدَة. قَوْله:(بَين يَدي بعض الصَّفّ) : هُوَ مجَاز عَن القدام، لِأَن الصَّفّ لَا يَد لَهُ، وَبَعض الصَّفّ يحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهِ صف من الصُّفُوف، أَو بعض من الصَّفّ الْوَاحِد، يَعْنِي المُرَاد بِهِ: إِمَّا جُزْء من الصَّفّ، وَإِمَّا جزئي مِنْهُ. قَوْله:(ناهزت الِاحْتِلَام) قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: فِيهِ معنى يَقْتَضِي تَأْكِيد الحكم، وَهُوَ عدم بطلَان الصَّلَاة بمرور الْحمار، لِأَنَّهُ اسْتدلَّ على ذَلِك بِعَدَمِ الْإِنْكَار، وَعدم الْإِنْكَار على من هُوَ فِي مثل هَذَا السن أدل على هَذَا الحكم، فَإِنَّهُ لَو كَانَ فِي سنّ عدم التَّمْيِيز لاحتمل أَن يكون عدم الْإِنْكَار عَلَيْهِ لعدم مؤاخذته لصِغَر سنه، فَعدم الْإِنْكَار دَلِيل على جَوَاز الْمُرُور،
وَالْجَوَاز دَلِيل على عدم إِفْسَاد الصَّلَاة. وَقَالَ عِيَاض: وَقَوله: (ناهزت الِاحْتِلَام) يصحح قَول الْوَاقِدِيّ: إِن النَّبِي صلى الله عليه وسلم، توفّي وَابْن عَبَّاس ابْن ثَلَاث عشرَة سنة. وَقَول الزبير بن بكار: إِنَّه ولد فِي الشّعب قبل الْهِجْرَة بِثَلَاث سِنِين. وَمَا رُوِيَ عَن سعيد بن جُبَير عَنهُ، توفّي النَّبِي، عليه الصلاة والسلام، وَأَنا ابْن خمس عشرَة سنة. قَالَ أَحْمد: هَذَا هُوَ الصَّوَاب، وَهُوَ يرد رِوَايَة من يروي عَنهُ، أَنه قَالَ: توفّي النَّبِي، عليه الصلاة والسلام، وَأَنا ابْن عشر سِنِين. وَقد يتَأَوَّل، إِن صَحَّ، على أَن مَعْنَاهُ رَاجع إِلَى مَا بعده، وَهُوَ قَوْله وَقد قَرَأت (الْمُحكم) .
بَيَان استنباط الاحكام: الأول: فِيهِ جَوَاز سَماع الصَّغِير، وَضَبطه السّنَن والتحمل لَا يشْتَرط فِيهِ كَمَال الْأَهْلِيَّة، وَإِنَّمَا يشْتَرط عِنْد الْأَدَاء. ويلتحق بِالصَّبِيِّ فِي ذَلِك: العَبْد وَالْفَاسِق وَالْكَافِر. وَقَامَت حِكَايَة ابْن عَبَّاس لفعل النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَتَقْرِيره مقَام حِكَايَة قَوْله. الثَّانِي: فِيهِ إجَازَة من علم الشَّيْء صَغِيرا وَأَدَّاهُ كَبِيرا، وَلَا خلاف فِيهِ، وَأَخْطَأ من حكى فِيهِ خلافًا، وَكَذَا الْفَاسِق وَالْكَافِر إِذا أديا حَال الْكَمَال. الثَّالِث: فِيهِ احْتِمَال بعض الْمَفَاسِد لمصْلحَة أرجح مِنْهَا، فَإِن الْمُرُور أَمَام الْمُصَلِّين مفْسدَة، وَالدُّخُول فِي الصَّلَاة وَفِي الصَّفّ مصلحَة راجحة، فاغتفرت الْمفْسدَة للْمصْلحَة الراجحة من غير إِنْكَار. الرَّابِع: فِيهِ جَوَاز الرّكُوب إِلَى صَلَاة الْجَمَاعَة. الْخَامِس: قَالَ الْمُهلب: فِيهِ أَن التَّقَدُّم إِلَى الْقعُود لسَمَاع الْخطْبَة إِذا لم يضر أحدا والخطيب يخْطب جَائِز، بِخِلَاف مَا إِذا تخطى رقابهم. السَّادِس: أَن مُرُور الْحمار لَا يقطع الصَّلَاة، وَعَلِيهِ بوب أَبُو دَاوُد، فِي (سنَنه)، وَمَا ورد من قطع ذَلِك مَحْمُول على قطع الْخُشُوع. السَّابِع: فِيهِ صِحَة صَلَاة الصَّبِي. الثَّامِن: فِيهِ أَنه إِذا فُعل بَين يَدي النَّبِي صلى الله عليه وسلم شَيْء وَلم يُنكره فَهُوَ حجَّة. التَّاسِع: جَوَاز إرْسَال الدَّابَّة من غير حَافظ أَو مَعَ حَافظ غير مُكَلّف. الْعَاشِر: قَالَ ابْن بطال وأبوعمر وَالْقَاضِي عِيَاض: فِيهِ دَلِيل على أَن ستْرَة الإِمَام ستْرَة لمن خَلفه، وَكَذَا بوب عَلَيْهِ البُخَارِيّ، وَحكى ابْن بطال وَأَبُو عمر فِيهِ الْإِجْمَاع. قَالَا: وَقد قيل: الإِمَام نَفسه ستْرَة لمن خَلفه، وَأما وَجه الدّلَالَة فَقَالَ عِيَاض: قَوْله: فَلم يُنكر ذَلِك أحد، لِأَنَّهُ إِن كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم رَآهُ، وَهُوَ الظَّاهِر لقَوْله، بَين يَدي الصَّفّ فَهُوَ حجَّة لتقريره، وَإِن كَانَ بِموضع لم يره فقد رَآهُ أَصْحَابه بجملتهم فَلم ينكروه، وَلَا أحد مِنْهُم، فَدلَّ على أَنه لَيْسَ عِنْدهم بمنكر، وَقَالَ غَيره: يحْتَمل أَن لَفْظَة: أحد، تَشْمَل النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَغَيره، لما فِيهَا من الْعُمُوم، لكنه ضَعِيف بِأَنَّهُ لَا معنى لعدم إِنْكَار غير النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَعَ حُضُوره صلى الله عليه وسلم، وَعدم إِنْكَاره أَيْضا، فَيجوز أَن يكون الصَّفّ ممتداً فَلَا يرَاهُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم، وَلِهَذَا أَن ابْن عَبَّاس ذكر الرائين وَلم يذكر النَّبِي صلى الله عليه وسلم احْتِرَازًا مِنْهُ. قلت: فعلى هَذَا لَا يكون من بَاب الْمَرْفُوع قطعا، بل مِمَّا يتَوَجَّه فِيهِ الْخلاف، وَيحْتَمل كَمَا قَالُوا فِي شبهه. وَقَالَ أَبُو عمر: حَدِيث ابْن عَبَّاس، رضي الله عنهما، هَذَا يخص بِحَدِيث ابْن سعيد الْخُدْرِيّ، رضي الله عنه، يرفعهُ:(إِذا كَانَ أحدكُم يُصَلِّي فَلَا يدع أحدا يمر بَين يَدَيْهِ) . قَالَ: فَحَدِيث أبي سعيد هَذَا يحمل على الإِمَام وَالْمُنْفَرد، فَأَما الْمَأْمُوم فَلَا يضرّهُ من مر بَين يَدَيْهِ لحَدِيث ابْن عَبَّاس هَذَا، قَالَ: وَهَذَا كُله لَا خلاف فِيهِ بَين الْعلمَاء، وَمِمَّا يُوضحهُ حَدِيث ابْن عمر رضي الله عنهما:(أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظّهْر، أَو الْعَصْر، فَجَاءَت بَهِيمَة تمر بَين يَدَيْهِ، فَجعل يدرؤها حَتَّى رَأَيْته ألصق مَنْكِبَيْه بالجدار فمرت من خَلفه) . قلت: أخرجه أَبُو دَاوُد من أَبُو دَاوُد من أَوله: كَانَ يُصَلِّي إِلَى جدر، وَفِيه: حَتَّى ألصق بَطْنه بالجدر. وَبَوَّبَ عَلَيْهِ: بَاب ستْرَة الإِمَام ستْرَة لمن خَلفه. قَالَ: والمرور بَين يَدي الْمُصَلِّي مَكْرُوه إِذا كَانَ إِمَامًا أَو مُنْفَردا أَو مُصَليا إِلَى ستْرَة، وَأَشد مِنْهُ أَن يدْخل الْمَار بَين الستْرَة وَبَينه، وَأما الْمَأْمُوم فَلَا يضرّهُ من مر بَين يَدَيْهِ، كَمَا أَن الإِمَام أَو الْمُنْفَرد لَا يضر وَاحِد مِنْهُمَا مَا مر من وَرَاء سترته، لِأَن ستْرَة الإِمَام ستْرَة لمن خَلفه. وَقد قيل: إِن الإِمَام نَفسه ستْرَة لمن خَلفه. قَالَ: وَهَذَا كُله إِجْمَاع لَا خلاف فِيهِ. وَقَالَ ابْن بطال: اخْتلف أَصْحَاب مَالك فِيمَن صلى إِلَى غير ستْرَة فِي فضاء يَأْمَن أَن يمر أحد بَين يَدَيْهِ، فَقَالَ ابْن الْقَاسِم: يجوز وَلَا حرج عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْن الْمَاجشون ومطرف: السّنة أَن يُصَلِّي إِلَى ستْرَة مُطلقًا. قَالَ: وَحَدِيث ابْن عَبَّاس يشْهد لصِحَّة قَول ابْن الْقَاسِم وَهُوَ قَول عَطاء وَسَالم وَعُرْوَة وَالقَاسِم وَالشعْبِيّ وَالْحسن، وَكَانُوا يصلونَ فِي الفضاء إِلَى غير ستْرَة، وَسَيَأْتِي بسط الْكَلَام فِيهِ فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
77 -
حدّثني مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ قَالَ: حدّثنا أبُو مُسْهِرٍ قَالَ: حدّثني مُحمَّدُ بنُ حَرْب حدّثني
الزُّبَيْدِيُّ عنِ الزُّهْرِيّ عنْ مَحْمُودِ بنِ الرَّبيِعِ قَالَ: عَقَلْتُ منَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مجَّةً مجَّها فِي وجْهي وَأَنا ابنُ خَمْسِ سنِينَ مِنْ دَلْوٍ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ استدلالهم بِهِ على إِبَاحَة مج الرِّيق على الْوَجْه إِذا كَانَ فِيهِ مصلحَة، وعَلى طَهَارَته وَغير ذَلِك، وَلَيْسَ ذَلِك إلَاّ لاعتبارهم نقل مَحْمُود بن الرّبيع، فَدلَّ على أَن سَماع الصَّغِير صَحِيح، والترجمة فِيهِ، بل مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة أَشد من حَدِيث ابْن عَبَّاس، فَإِن من ناهز الِاحْتِلَام لَا يُسمى صَغِيرا عرفا، ومحمود ابْن الرّبيع أخبر بذلك وعمره خمس سِنِين.
بَيَان رِجَاله: وهم سِتَّة. الأول: مُحَمَّد بن يُوسُف البيكندي، أَبُو أَحْمد، نَص عَلَيْهِ الْبَيْهَقِيّ وَغَيره، وَذَلِكَ لِأَن مُحَمَّد بن يُوسُف الْفرْيَابِيّ لَيْسَ لَهُ رِوَايَة عَن أبي مسْهر. الثَّانِي: أَبُو مسْهر، بِضَم الْمِيم وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَكسر الْهَاء وبالراء، واسْمه عبد الْأَعْلَى أَبُو مسْهر الغساني الدِّمَشْقِي. قيل: مَا رُؤي أحد فِي كورة من الكور أعظم قدرا وَلَا أجلّ عِنْد أَهلهَا من أبي مسْهر بِدِمَشْق، وَكَانَ إِذا خرج إِلَى الْمَسْجِد اصطف النَّاس يسلمُونَ عَلَيْهِ، ويقبلون يَده. وَحمله الْمَأْمُون إِلَى بَغْدَاد فِي أَيَّام المحنة، فَجرد للْقَتْل على أَن يَقُول بِخلق الْقُرْآن، وَمد رَأسه إِلَى السَّيْف، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِك مِنْهُ حمل إِلَى السجْن، فَمَاتَ بِبَغْدَاد سنة ثَمَان عشرَة وَمِائَتَيْنِ، وَدفن بِبَاب التِّين، وَقد لقِيه البُخَارِيّ وَسمع مِنْهُ شَيْئا كثيرا، وَحدث هُنَا بِوَاسِطَة، وَذكر ابْن المرابط فِيمَا نَقله ابْن رشيد عَنهُ أَن أَبَا مسْهر تفرد بِرِوَايَة هَذَا الحَدِيث وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، فَإِن النَّسَائِيّ رَوَاهُ فِي (سنَنه الْكُبْرَى) عَن مُحَمَّد بن الْمُصَفّى عَن مُحَمَّد بن حَرْب، وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي (الْمدْخل) من رِوَايَة ابْن جوصا، بِفَتْح الْجِيم وَالصَّاد الْمُهْملَة، عَن سَلمَة بن الْخَلِيل وَابْن التقي، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسر الْقَاف، كِلَاهُمَا عَن مُحَمَّد بن حَرْب، فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثَة غير أبي مسْهر رَوَوْهُ عَن مُحَمَّد بن حَرْب، فَكَأَنَّهُ الْمُنْفَرد بِهِ عَن الزبيدِيّ. الثَّالِث: مُحَمَّد بن حَرْب، بِفَتْح الْحَاء وَسُكُون الرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة: هُوَ الأبرش أَي: الَّذِي يكون فِيهِ نكت صغَار يُخَالف سَائِر لَونه، الْخَولَانِيّ الْحِمصِي أَبُو عبد اللَّه، سمع الْأَوْزَاعِيّ وَغَيره، وتقضى بِدِمَشْق وَهُوَ ثِقَة، مَاتَ سنة أَربع وَسبعين وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الرَّابِع: أَبُو الْهُذيْل مُحَمَّد بن الْوَلِيد بن عَامر الزبيدِيّ الشَّامي الْحِمصِي قاضيها، الثِّقَة الْكَبِير الْمُفْتِي الْكَبِير، روى عَن مَكْحُول وَالزهْرِيّ وَغَيرهمَا، وَعنهُ مُحَمَّد بن حَرْب وَيحيى بن حَمْزَة، وَهُوَ أثبت أَصْحَاب الزُّهْرِيّ، مَاتَ بِالشَّام سنة سبع، وَقيل: ثَمَان واربعين وَمِائَة وَهُوَ شَاب، قَالَه أَحْمد بن مُحَمَّد بن عِيسَى الْبَغْدَادِيّ. وَقَالَ ابْن سعد: ابْن سبعين، سنة، روى لَهُ الْجَمَاعَة سوى التِّرْمِذِيّ. الْخَامِس: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. السَّادِس: مَحْمُود بن الرّبيع بن سراقَة بن عَمْرو بن زيد بن عَبدة ابْن عَامر بن عدي بن كَعْب بن الْخَزْرَج بن الْحَارِث ابْن الْخَزْرَج، الْأنْصَارِيّ الخزرجي، أَبُو نعيم. وَقيل: أَبُو مُحَمَّد، مدنِي مَاتَ سنة تسع وَتِسْعين عَن ثَلَاث وَتِسْعين، وَهُوَ ختن عبَادَة ابْن الصَّامِت، نزل بَيت الْمُقَدّس وَمَات بهَا.
بَيَان الْأَنْسَاب: الغساني: نِسْبَة إِلَى غَسَّان، مَاء بالمشلل قريب من الْجحْفَة، وَالَّذين شربوا مِنْهُ تسموا بِهِ، وهم من ولد مَازِن بن الأزد، فَإِن مَازِن جماع غَسَّان فَمن نزل من بنيه ذَلِك المَاء فَهُوَ غَسَّان، وَذكر الرشاطي الغساني فِي الأزد. وَقَالَ ابْن هِشَام: نسبوا إِلَى مَاء بسد مأرب كَانَ شرباً لولد مَازِن فسموا بِهِ. الْخَولَانِيّ: فِي قبائل، حكى الْهَمدَانِي فِي كتاب (الإكليل) قَالَ: خولان بن عَمْرو بن الحاف بن قضاعة، وخولان بن عَمْرو بن مَالك بن الْحَارِث بن مرّة بن أدد، قَالَ: وخولان حُضُور، وخولان ردع هُوَ خولان بن قحطان، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة فِي كتاب (المعارف) : وخولان بن سعد بن مذْحج. الزبيدِيّ، بِضَم الزَّاي الْمُعْجَمَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَالدَّال الْمُهْملَة: نِسْبَة إِلَى زبيد، قَبيلَة من مذْحج، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة. وَذكر الرشاطي الزبيدِيّ فِي قبائل مذْحج وَغَيرهَا، فَالَّذِي فِي مذْحج: زبيد، واسْمه مُنَبّه الْأَكْبَر بن صَعب بن سعد الْعَشِيرَة بن مَالك، وَمَالك هُوَ جماع مذْحج. قَالَ ابْن دُرَيْد: زبيد تَصْغِير: زبد، والزبد الْعَطِيَّة، زبدته أزبده زبداً. وَفِي الأزد: زبيد بطن، وَهُوَ زبيد بن عَامر بن عَمْرو بن كَعْب ابْن الْحَارِث الغطريف الْأَصْغَر بن عبد اللَّه بن عَامر الغطريف الْأَكْبَر بن بكر بن يشْكر بن بشير بن كَعْب بن دهمان بن نصر بن زهران بن كَعْب بن الْحَارِث بن كَعْب بن عبد اللَّه بن مَالك بن نصر بن الأزد. وَفِي خولان القضاعية: زبيد بطن ابْن الْخِيَار بن زِيَاد بن سُلَيْمَان بن الناجش بن حَرْب بن سعد بن خولان.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع وَصِيغَة الْإِفْرَاد والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته إِلَى الزُّهْرِيّ شَامِيُّونَ.
وَمِنْهَا: أَن هَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ عَن مُسلم.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطَّهَارَة عَن عَليّ بن عبد اللَّه عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن أَبِيه عَن صَالح بن كيسَان عَن الزُّهْرِيّ بِهِ، وَفِي الدَّعْوَات عَن عبد الْعَزِيز بن عبد اللَّه عَن إِبْرَاهِيم بن سعد بِهِ، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن مُحَمَّد بن مصفى عَن مُحَمَّد بن حَرْب بِهِ، وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن سُوَيْد بن نصر عَن ابْن الْمُبَارك عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ نَحوه، وَلم يذكر: وَأَنا ابْن خمس سِنِين. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الطَّهَارَة عَن أبي مَرْوَان مُحَمَّد بن عُثْمَان العثماني عَن إِبْرَاهِيم بن سعد بِهِ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (عقلت) أَي: عرفت. وَيُقَال: مَعْنَاهُ حفظت، عَن: عقل يعقل من بَاب: ضرب يضْرب، عقلا ومعقولاً. وَهُوَ مصدر. وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: وَهُوَ صفة، وَكَانَ يَقُول: إِن الْمصدر لَا يَتَأَتَّى على وزن مفعول الْبَتَّةَ. قَوْله: (مجة) يُقَال: مج الشَّرَاب من فِيهِ إِذا رمى بِهِ. وَقَالَ أهل اللُّغَة: المج إرْسَال المَاء من الْفَم مَعَ نفخ. وَقيل لَا يكون مجاً حَتَّى تبَاعد بِهِ. وَكَذَلِكَ مج لعابه والمجاجة والمجاج الرِّيق الَّذِي تمجه من فِيك، ومجاجة الشَّيْء إيضاً عصارته، وَيُقَال: إِن الْمَطَر مجاج المزن وَالْعَسَل مجاج النَّحْل والمجاج أَيْضا اللَّبن، لِأَن الضَّرع يمجه والتركيب يدل على رمي الشَّيْء بِسُرْعَة.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (عقلت)، جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل مقول القَوْل. قَوْله:(مجة) بِالنّصب مَفْعُوله، قَوْله:(مجها) ، جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول فِي مَحل النصب على أَنَّهَا صفة لمجة، وَالضَّمِير فِيهَا يرجع إِلَى المجة. قَوْله:(فِي وَجْهي) حَال من مجه. قَوْله: (من دلو)، أَي: من مَاء دلو والدلو يذكر وَيُؤَنث. وَقَوله: (وَأَنا ابْن خمس سِنِين) جملَة إسمية من الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر مُعْتَرضَة وَقعت حَالا: إمّا من: تَاء، عقلت، أَو من: يَاء وَجْهي.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (وَأَنا ابْن خمس سِنِين)، قد ذكرنَا أَن الْمُتَأَخِّرين قد حددوا أقل سنّ التَّحَمُّل بِخمْس سِنِين. وَقَالَ ابْن رشيد: الظَّاهِر أَنهم أَرَادوا بتحديد الْخمس أَنَّهَا مَظَنَّة لذَلِك، لَا أَن بُلُوغهَا شَرط لَا بُد من تحَققه، وَلَيْسَ فِي (الصَّحِيحَيْنِ) وَلَا فِي غَيرهمَا من الْجَوَامِع وَالْمَسَانِيد التَّقْيِيد بِالسِّنِّ عِنْد التَّحَمُّل فِي شَيْء من طرقه إلَاّ فِي طَرِيق الزبيدِيّ هَذِه، وَهُوَ من كبار الْحفاظ المتقنين عَن الزُّهْرِيّ، وَوَقع فِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ والخطيب فِي (الْكِفَايَة) ، من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن نمر، بِفَتْح النُّون وَكسر الْمِيم، عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ: حَدثنِي مَحْمُود بن الرّبيع: وَتُوفِّي النَّبِي، عليه الصلاة والسلام، وَهُوَ ابْن خمس سِنِين، واستفيد من هَذِه الرِّوَايَة أَن الْوَاقِعَة الَّتِي ضَبطهَا كَانَت فِي آخر سنة من حَيَاة النَّبِي، عليه الصلاة والسلام، وَقد ذكر ابْن حبَان وَغَيره أَنه مَاتَ سنة تسع وَتِسْعين، وَهُوَ ابْن أَربع وَتِسْعين سنة، وَهُوَ مُطَابق لهَذِهِ الرِّوَايَة. وَذكر عِيَاض فِي (الإلماع) وَغَيره أَن فِي بعض الرِّوَايَات أَنه كَانَ ابْن أَربع سِنِين، وَلَيْسَ فِي الرِّوَايَات شَيْء يُصَرح بذلك، فَكَأَن ذَلِك أَخذ من قَول ابْن عمر أَنه عقل المجة وَهُوَ ابْن أَربع سِنِين أوخمس، وَكَأن الْحَامِل لَهُ على هَذَا التَّرَدُّد قَول الْوَاقِدِيّ: إِنَّه كَانَ ابْن ثَلَاث وَتِسْعين سنة لما مَاتَ، وَالْأول أصح. قَوْله:(من دلو)، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ:(من دلو مُعَلّق)، وَفِي (الرقَاق) من رِوَايَة معمر:(من دلو كَانَت فِي دَارهم) . وَفِي الطَّهَارَة وَالصَّلَاة وَغَيرهمَا: (من بِئْر)، بدل:(دلو) . وَلَا تعَارض بَينهمَا، لِأَنَّهُ يتَأَوَّل بِأَن المَاء أَخذ بالدلو من الْبِئْر وتناوله النَّبِي، عليه الصلاة والسلام، من الدَّلْو.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ بركَة النَّبِي، عليه الصلاة والسلام، كَمَا جَاءَ من أَنه يحنك الصّبيان بِأَن يَأْخُذ التمرة يمضغها ويجعلها فِي فَم الصَّبِي، وحنك بهَا: حنكه بالسبابة حَتَّى تحللت فِي حلقه، وَكَانَت الصَّحَابَة، رضي الله عنهم، يحرصون على ذَلِك إِرَادَة بركته، عليه الصلاة والسلام، لأولادهم، كَمَا رَأَوْا بركته فِي المحسوسات والأجرام من تَكْثِير المَاء بمجه فِي فرلادين وَفِي بِئْر الْحُدَيْبِيَة. الثَّانِي: فِيهِ جَوَاز سَماع الصَّغِير وَضَبطه بالسنن. الثَّالِث: قَالَ التَّيْمِيّ: فِيهِ جَوَاز مداعبة الصَّبِي، إِذْ داعبه النَّبِي، عليه الصلاة والسلام، فَأخذ مَاء من الدَّلْو فمجه فِي وَجهه.
فَائِدَة: تعقب ابْن أبي صفرَة على البُخَارِيّ من ذكره حَدِيث مَحْمُود بن الرّبيع فِي اعْتِبَار خمس سِنِين، وإعقاله حَدِيث عبد اللَّه بن الزبير، رضي الله عنهما، أَنه رأى أَبَاهُ يخْتَلف إِلَى بني قُرَيْظَة فِي يَوْم الخَنْدَق ويراجعهم، فَفِيهِ السماع مِنْهُ وَكَانَ سنه إِذْ ذَاك ثَلَاث سِنِين، أَو أَربع، فَهُوَ أَصْغَر من مَحْمُود، وَلَيْسَ فِي قصَّة مَحْمُود ضَبطه لسَمَاع شَيْء، فَكَانَ ذكره حَدِيث ابْن الزبير أولى لهذين الْمَعْنيين. وَأجِيب: بِأَن البُخَارِيّ إِنَّمَا أَرَادَ نقل السّنَن النَّبَوِيَّة لَا الْأَحْوَال