الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المشرفة بهَا وَهِي عَارِية عَنْهَا فِي الْآخِرَة لَا تنفعها إِذا لم تضمها مَعَ الْعَمَل. قَالَ تَعَالَى: {فَلَا أَنْسَاب بَينهم يَوْمئِذٍ وَلَا يتساءلون} (الْمُؤْمِنُونَ: 101) قَوْله: (كاسية) على وزن: فاعلة، من: كسا، وَلَكِن بِمَعْنى مَكْسُورَة، كَمَا فِي قَول الحطيئة.
واقعد فَإنَّك أَنْت الطاعم الكاسي
قَالَ الْفراء: يَعْنِي المكسو. كَقَوْلِك: مَاء دافق، وعيشة راضية. لِأَنَّهُ يُقَال: كسي الْعُرْيَان، وَلَا يُقَال: كسا. قَوْله: (عَارِية) بتَخْفِيف الْيَاء. قَالَ القَاضِي: أَكثر الرِّوَايَات بخفض عَارِية على الْوَصْف. وَقَالَ السُّهيْلي: الْأَحْسَن عِنْد سِيبَوَيْهٍ الْخَفْض على النَّعْت لِأَن: رب، عِنْده حرف جر يلْزم صدر الْكَلَام، وَيجوز الرّفْع كَمَا تَقول: رب رجل عَاقل على إِضْمَار مُبْتَدأ، وَالْجُمْلَة فِي مَوضِع النَّعْت أَي: هِيَ عَارِية، وَالْفِعْل الَّذِي يتَعَلَّق بِهِ: رب، مَحْذُوف. وَاخْتَارَ الْكسَائي أَن يكون رب أسما مُبْتَدأ، وَالْمَرْفُوع خَبَرهَا. وَمِمَّا يُسْتَفَاد من هَذَا الحَدِيث أَن للرجل أَن يوقظ أَهله بِاللَّيْلِ للصَّلَاة وَلذكر الله تَعَالَى، لَا سِيمَا عِنْد آيَة تحدث أَو رُؤْيا مخوفة، وَجَوَاز قَول: سُبْحَانَ الله، عِنْد التَّعَجُّب واستحباب ذكر الله بعد الاستيقاظ وَغير ذَلِك.
41 -
(بابُ السَّمَر فِي العِلْمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان السمر فِي الْعلم، هَذِه رِوَايَة أبي ذَر بِإِضَافَة الْبَاب إِلَى السمر، وَفِي رِوَايَة غَيره بَاب السمر فِي الْعلم بتنوين الْبَاب، وَقطع الْإِضَافَة، وارتفاعه على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، كَمَا ذكرنَا. والسمر، مُبْتَدأ: وَفِي الْعلم، فِي مَحل الصّفة، وَالْخَبَر مَحْذُوف تَقْدِيره: هَذَا بَاب فِيهِ السمر بِالْعلمِ أَي: بَيَان السمر بِالْعلمِ، و: السمر، بِفَتْح الْمِيم، هُوَ الحَدِيث بِاللَّيْلِ، وَيُقَال: السمر بِإِسْكَان الْمِيم، وَقَالَ عِيَاض: الأول هُوَ الرِّوَايَة. قَالَ ابْن سراج: الإسكان أولى، وَضَبطه بَعضهم بِهِ، وَأَصله لون الْقَمَر، لأَنهم كَانُوا يتحدثون إِلَيْهِ، وَمِنْه الأسمر لشبهه بذلك اللَّوْن. وَقَالَ غَيره: السمر، بِالْفَتْح: الحَدِيث بِاللَّيْلِ، وَأَصله لَا ُأكَلِّمهُ السمر وَالْقَمَر، أَي: اللَّيْل وَالنَّهَار. وَفِي (الْعباب) السمر المسامرة أَي: الحَدِيث بِاللَّيْلِ، وَقد سمر يسمر وَهُوَ سامر والسامر أَيْضا السمار وهم الْقَوْم يسمرون، كَمَا يُقَال للحجاج: حَاج كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {سامراً تهجرون} (الْمُؤْمِنُونَ: 67) أَي: سمارا يتحدثون، والسمر اللَّيْل والسمير الَّذِي يسامرك، وابنا سمير: اللَّيْل وَالنَّهَار لِأَنَّهُ يسمر فيهمَا، وَيُقَال: أَفعلهُ مَا سمر ابْنا سمير أَي: أبدا. وَيُقَال: السمر الدَّهْر، وابناه اللَّيْل وَالنَّهَار. وَلَا أَفعلهُ سمير اللَّيَالِي، وسجين اللَّيَالِي، أَي مَا دَامَ النَّاس يسمرون فِي لَيْلَة قَمْرَاء.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول الْعلم والعظة بِاللَّيْلِ، وَقد كَانَ التحدث بعد الْعشَاء مَنْهِيّا، وَهُوَ السمر. وَالْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب هُوَ السمر بِالْعلمِ، وَنبهَ بهما على أَن السمر الْمنْهِي عَنهُ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا لَا يكون من الْخَيْر، وَأما السمر بِالْخَيرِ فَلَيْسَ بمنهي بل مَرْغُوب. فَافْهَم.
116 -
حدّثنا سَعِيدُ بنُ غُفَيْرٍ قَالَ: حدّثني اللَّيْثُ قَالَ: حدّثني عَبْدُ الرَّحْمن بنُ خالِدٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ سالِمٍ وَأبي بَكْرِ بن سُلَيْمَانَ بنِ أبي حَثْمَةَ أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بنَ عُمَرَ قالَ: صلَّى بنَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم العِشَاءَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قامَ فَقَالَ:(أرأيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ؟ فإنَّ رَأْسَ مائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلى ظَهْرِ الأرْض أحَدٌ) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهُوَ أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم حدث الصَّحَابَة بِهَذَا الحَدِيث بعد صَلَاة الْعشَاء وَهُوَ سمر بِالْعلمِ.
بَيَان رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: سعيد بن عفير، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْفَاء، وَقد مر. الثَّانِي: اللَّيْث بن سعد. الثَّالِث: عبد الرَّحْمَن بن خَالِد بن مُسَافر أَبُو خَالِد، وَيُقَال: أَبُو الْوَلِيد الفهمي، مولى اللَّيْث بن سعد أَمِير مصر لهشام بن عبد الْملك. قَالَ ابْن سعد: كَانَت ولَايَته على مصر سنة ثَمَان عشرَة وَمِائَة، وَقَالَ يحيى بن معِين: كَانَ عِنْده من الزُّهْرِيّ كتاب فِيهِ مِائَتَا حَدِيث أَو ثَلَاثمِائَة، كَانَ اللَّيْث يحدث بهَا عَنهُ، وَكَانَ جده شهد فتح بَيت الْمُقَدّس مَعَ عمر بن الْخطاب، رضي الله عنه. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: صَالح. وَقَالَ ابْن يُونُس: كَانَ ثبتا فِي الحَدِيث، توفّي سنة سبع وَعشْرين وَمِائَة، روى لَهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: سَالم بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب، وَقد تقدم. السَّادِس: أَبُو بكر بن سُلَيْمَان بن أبي حثْمَة، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الثَّاء الْمُثَلَّثَة، واسْمه عبد الله بن حُذَيْفَة، وَقيل: عدي بن كَعْب بن حُذَيْفَة بن غَانِم بن عبد الله بن عويج
بن عدي بن كَعْب القريشي الْعَدوي. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: أَبُو بكر هَذَا لَيْسَ لَهُ اسْم، أخرج لَهُ البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث خَاصَّة مَقْرُونا بسالم كَمَا ترى، وَمُسلم غير مقرون، وَكَانَ من عُلَمَاء قُرَيْش، روى عَن سعيد بن زيد وَأبي هُرَيْرَة أَيْضا، وروى عَنهُ الزُّهْرِيّ وَغَيره. أخرجُوا لَهُ خلا ابْن مَاجَه. وَقَالَ ابْن حبَان: ثِقَة، وَلَيْسَ لَهُ حَدِيث عِنْد مُسلم وَالتِّرْمِذِيّ أَيْضا سواهُ. السَّابِع: عبد الله بن عمر بن الْخطاب، رضي الله عنهما.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع وَصِيغَة الْإِفْرَاد والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ أَرْبَعَة من التَّابِعين، وهم: عبد الرَّحْمَن وَابْن شهَاب وَسَالم وَأَبُو بكر. وَمِنْهَا: أَن أَبَا بكر لَيْسَ لَهُ حَدِيث عِنْد البُخَارِيّ غير هَذَا، وَمَعَ هَذَا روى لَهُ مَقْرُونا بسالم.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن عبد الله عَن ابْن الْمُبَارك عَن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم، وَعَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم وَأبي بكر بن أبي حثْمَة. وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب، وَعَن أبي رَافع وَعبد بن حميد عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر، قَالَ: وَرَوَاهُ اللَّيْث عَن عبد الرَّحْمَن بن خَالِد.
بَيَان الْإِعْرَاب والمعاني: قَوْله: (حَدثنِي اللَّيْث قَالَ: حَدثنِي عبد الرَّحْمَن) وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: (حَدثنِي اللَّيْث حَدثهُ عبد الرَّحْمَن) أَي: أَنه حَدثهُ عبد الرَّحْمَن. قَوْله: (صلى لنا، عليه الصلاة والسلام وَفِي رِوَايَة: (صلى بِنَا) وَمعنى اللَّام: صلى إِمَامًا لنا وإلَاّ فَالصَّلَاة لله لَا لَهُم. قَوْله: (الْعشَاء) أَي: صَلَاة الْعشَاء، وَهِي الصَّلَاة الَّتِي وَقتهَا بعد غرُوب الشَّفق، وَهُوَ بِكَسْر الْعين وبالمد، وَالْعشَاء بِالْفَتْح وبالمد: الطَّعَام. قَوْله: (فِي آخر حَيَاته) ، وَجَاء فِي رِوَايَة جَابر أَن ذَلِك كَانَ قبل مَوته، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، بِشَهْر. قَوْله:(قَامَ) جَوَاب: لما. قَوْله: (أَرَأَيْتكُم؟) بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام وَفتح الرَّاء وبالخطاب للْجمع وَالْكَاف ضمير ثَان وَلَا مَحل لَهَا من الْإِعْرَاب، والرؤية بِمَعْنى الإبصار، و (ليلتكم) بِالنّصب مَفْعُوله، وَلَيْسَت الرُّؤْيَة هَهُنَا بِمَعْنى الْعلم لِأَنَّهَا إِذا كَانَت بِمَعْنى الْعلم تَقْتَضِي مفعولين، وَلَيْسَ هَهُنَا إلَاّ مفعول وَاحِد وَهُوَ اللَّيْلَة كَمَا ذكرنَا، و: كم، لَا تصلح أَن تكون مَفْعُولا آخر حَتَّى تكون بِمَعْنى الْعلم لِأَنَّهُ حرف لَا مَحل لَهَا من الْإِعْرَاب كَمَا ذكرنَا، وَلَو كَانَ اسْما لوَجَبَ أَن يُقَال: أرأيتموكم لِأَن الْخطاب لجَماعَة، فَإِذا كَانَ لجَماعَة يجب أَن يكون بِالتَّاءِ وَالْمِيم كَمَا فِي علمتموكم، رِعَايَة للمطابقة. فَإِن قلت: فَهَذَا يلزمك أَيْضا فِي التَّاء، فَإِن التَّاء اسْم فَيَنْبَغِي أَن يكون: أرأيتموكم. قلت: لما كَانَ الْكَاف وَالْمِيم لمُجَرّد الْخطاب اختصرت عَن التَّاء وَالْمِيم بِالتَّاءِ وَحدهَا للْعلم بِأَنَّهُ جمع، تَقول: كم، وَالْفرق بَين حرف الْخطاب وَاسم الْخطاب أَن الِاسْم يَقع مُسْندًا وَمُسْندًا إِلَيْهِ، والحرف عَلامَة تسْتَعْمل مَعَ اسْتِقْلَال الْكَلَام واستغنائه عَنْهَا بِاعْتِبَار الْمسند والمسند إِلَيْهِ، فوزانها وزان التَّنْوِين وياء النِّسْبَة، وَأَيْضًا اسْم الْخطاب يدل على عين وَمعنى الْخطاب، وحرفه لَا يدل إلَاّ على الثَّانِي. وَقَالَ بَعضهم: الرُّؤْيَة بِمَعْنى الْعلم أَو الْبَصَر، وَالْمعْنَى: أعلمتم، أَو أبصرتم ليلتكم؟ قلت: قد بَينا أَنه لَا يَصح أَن تكون من الرُّؤْيَة بِمَعْنى الْعلم، وَهَذَا تصرف من لَا يَد لَهُ فِي الْعَرَبيَّة، وَيُقَال: أَرَأَيْتكُم كلمة تَقُولهَا الْعَرَب إِذا أَرَادَت الاستخبار، وَهُوَ بِفَتْح التَّاء للمذكر والمؤنث وَالْجمع والمفرد، تَقول: أرأيتَكَ، أرأيتَكِ، وأرأيتَكُما وأرأيتَكُم. وَالْمعْنَى: أخبر وأخبري وأخبراني وأخبروني، فَإِن أردْت معنى الرُّؤْيَة أنثت وجمعت. وَقَالَ بَعضهم: الْجَواب مَحْذُوف تَقْدِيره: قَالُوا نعم، قَالَ: فاضبطوه. قلت: كَأَن هَذَا الْقَائِل أَخذ كَلَامه من الزَّرْكَشِيّ فِي حَوَاشِيه، فَإِنَّهُ قَالَ: وَالْجَوَاب مَحْذُوف تَقْدِيره: أَرَأَيْتكُم ليلتكم هَذِه احفظوها، أَو احْفَظُوا تاريخها، فَإِن بعد انْقِضَاء مائَة سنة لَا يبْقى مِمَّن هُوَ على ظهر الأَرْض أحد، انْتهى، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء، لِأَن الْمَعْنى: أبصرتم ليلتكم هَذِه، وَلَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى جَوَاب لِأَن هَذَا لَيْسَ باستفهام حَقِيقِيّ. قَوْله:(فَإِن رَأس) وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: (فَإِن على رَأس مائَة) . فَإِن قلت: مَا اسْم إِن؟ قلت: فِيهِ ضمير الشَّأْن. وَقَوله: (لَا يبْقى) خَبَرهَا. قَوْله: (مِنْهَا) أَي: من تِلْكَ اللَّيْلَة، وَقد اسْتدلَّ بعض اللغويين بقوله: مِنْهَا، أَن: من، تكون لابتداء الْغَايَة فِي الزَّمَان: كمنذ، وَهُوَ قَول الْكُوفِيّين. وَقَالَ البصريون: لَا تدخل: من إلَاّ على الْمَكَان ومنذ، فِي الزَّمَان نظيرة: من، فِي الْمَكَان، وتأولوا مَا جَاءَ بِخِلَافِهِ، وَاحْتج من نصر قَول الْكُوفِيّين بقوله تَعَالَى:{من أول يَوْم} (التَّوْبَة: 108) وَبقول عَائِشَة رضي الله عنها: (وَلم يجلس عِنْدِي من يَوْم قيل فيَّ مَا قيل) . وَقَول أنس، رضي الله عنه:(وَمَا زلت أحب الدُّبَّاء من يَوْمئِذٍ) . وَقَول بعض الصَّحَابَة: (مُطِرْنَا من الْجُمُعَة إِلَى الْجُمُعَة) . وَأجَاب أَبُو عَليّ الْفَارِسِي عَن قَوْله: {من أول يَوْم} (التَّوْبَة: 108) بِأَن
التَّقْدِير، من تأسيس أول يَوْم، وَضَعفه بَعضهم بِأَن التأسيس لَيْسَ بمَكَان. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: التَّقْدِير من أول يَوْم من أَيَّام وجوده. قلت: هَذَا جنوح إِلَى مَذْهَب الْكُوفِيّين. وَقَالَ النَّوَوِيّ: المُرَاد أَن كل من كَانَ تِلْكَ اللَّيْلَة على الأَرْض لَا يعِيش بعْدهَا أَكثر من مائَة سنة، سَوَاء قل عمره قبل ذَلِك أم لَا، وَلَيْسَ فِيهِ نفي عَيْش أحد بعد تِلْكَ اللَّيْلَة فَوق مائَة سنة. وَيُقَال: معنى الحَدِيث أَنه صلى الله عليه وسلم وعظهم بقصر أعمارهم بِخِلَاف غَيرهم من سالف الْأُمَم، وَقد احْتج البُخَارِيّ وَمن قَالَ بقوله على موت الْخضر، وَالْجُمْهُور على خِلَافه. وَمن قَالَ بِهِ أجَاب عَن الحَدِيث بِأَنَّهُ من سَاكِني الْبَحْر فَلَا يدْخل فِي الحَدِيث. وَمن قَالَ: إِن معنى الحَدِيث: لَا يبْقى مِمَّن تَرَوْنَهُ وتعرفونه، فَالْحَدِيث عَام أُرِيد بِهِ الْخُصُوص. وَقيل: أَرَادَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِالْأَرْضِ الْبَلدة الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَقد قَالَ تَعَالَى:{ألم تكن أَرض الله وَاسِعَة} (النِّسَاء: 97) يُرِيد الْمَدِينَة. وَقَوله: مِمَّن هُوَ على وَجه الأَرْض احْتِرَاز عَن الْمَلَائِكَة. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا تَقول فِي عِيسَى عليه السلام؟ قلت: فَهُوَ لَيْسَ على وَجه الأَرْض بل فِي السَّمَاء، أَو هُوَ من النَّوَادِر. فَإِن قلت: فَمَا قَوْلك فِي إِبْلِيس؟ قلت: هُوَ لَيْسَ على ظهر الأَرْض بل فِي الْهَوَاء أَو فِي النَّار، أَو المُرَاد من لفظ من هُوَ الْإِنْس وَالله أعلم. قلت: هَذِه كلهَا تعسفات، وَلَا يرد على هَذَا لَا بِعِيسَى، عليه الصلاة والسلام، وَلَا بإبليس. فَإِن مُرَاده صلى الله عليه وسلم مِمَّن هُوَ على ظهر الأَرْض أمته، والقرائن تدل على ذَلِك، مِنْهَا قَوْله:(أَرَأَيْتكُم ليلتكم هَذِه؟) ، وكل من على وَجه الأَرْض من الْمُسلمين وَالْكفَّار أمته، أما الْمُسلمُونَ فَإِنَّهُم أمة إِجَابَة، وَأما الْكفَّار فَإِنَّهُم أمة دَعْوَة. وَعِيسَى وَالْخضر، عليهما السلام، ليسَا داخلين فِي الْأمة. وَأما الشَّيْطَان فَإِنَّهُ لَيْسَ من بني آدم. وَقَالَ ابْن بطال: إِنَّمَا أَرَادَ، عليه الصلاة والسلام، أَن هَذِه الْمدَّة تخترم الجيل الَّذِي هم فِيهِ، فوعظهم بقصر أعمارهم، وأعلمهم أَن أعمارهم لَيست كأعمار من تقدم من الْأُمَم ليجتهدوا فِي الْعِبَادَة. وَقد أخرج البُخَارِيّ، فِيمَا انْفَرد بِهِ عَن أبي بَرزَة الْأَسْلَمِيّ: أَن رَسُول الله، عليه الصلاة والسلام، كَانَ يكره النّوم قبل الْعشَاء والْحَدِيث بعْدهَا، فَهَذَا يدل على الْمَنْع مُطلقًا، والْحَدِيث الْمُتَقَدّم يدل على جَوَاز السمر فِي الْعلم وَالْخَيْر، فنخص الْعُمُوم فِيمَا عداهما. وَأما مَا عدا ذَلِك فَذهب الْأَكْثَر إِلَى كَرَاهَته، مِنْهُم أَبُو هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس، وَكتب عمر، رضي الله عنه، أَن لَا ينَام قبل أَن يُصليهَا فَمن نَام فَلَا نَامَتْ عينه. وَهُوَ قَول عَطاء وَطَاوُس وَإِبْرَاهِيم، وَقَول مُجَاهِد وَمَالك والكوفيين وَالشَّافِعِيّ، وَرخّص طَائِفَة فِيهِ، رُوِيَ ذَلِك عَن عَليّ، رضي الله عنه، أَنه كَانَ رُبمَا غفى قبل الْعشَاء، وَكَانَ ابْن عمر ينَام ويوكل من يوقظه، وَعَن أبي مُوسَى مثله، وَعَن عُرْوَة وَابْن سِيرِين أَنَّهُمَا كَانَا ينامان نومَة قبل الْعشَاء، وَاحْتج لَهُم بِأَن الْكَرَاهَة إِنَّمَا كرهت لمن خشِي عَلَيْهِ تفويتها، أَو تَفْوِيت الْجَمَاعَة فِيهَا. وَقَالَ ابْن بطال: اخْتلف قَول مَالك، فَقَالَ مرّة: الصَّلَاة أحب إِلَيّ من مذاكرة الْفِقْه. وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: الْعِنَايَة بِالْعلمِ، إِذا صحت النِّيَّة، أفضل. وَقَالَ سَحْنُون: يلْتَزم أثقلهما عَلَيْهِ.
117 -
حدّثنا آدمُ قَالَ: حَدثنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدثنَا الحَكَمُ قالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بنَ جُبَيْرٍ عَنِ ابنَ عَبَّاسٍ قَالَ: بِتُّ فِي بَيْتِ خالَتِي مَيْمُونَةَ بِنْتِ الحارِثِ زَوْجِ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، وكانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَها فِي لَيْلَتِهَا، فَصَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم العِشَاءَ ثُمَّ جَاءَ إِلَى مَنْزِلهِ فَصَلَّى أرْبَعَ رَكَعاتٍ، ثُمَّ قَامَ ثُمَّ قالَ:(نامَ الغُلَيِّمُ؟) أوْ كَلِمَةُ تُشْبِهُهَا، ثُمَّ قَامَ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَصَلَّى خَمسَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ نامَ حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ أوْ خَطِيطَهُ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (نَام الغليم) ، قَالَه ابْن الْمُنِير، وَيُقَال: ارتقاب ابْن عَبَّاس، رضي الله عنهما، لأحوال النَّبِي، عليه الصلاة والسلام، إِذْ لَا فرق بَين التَّعَلُّم من القَوْل والتعلم من الْفِعْل، فقد سمر ابْن عَبَّاس ليلته فِي طلب الْعلم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الَّذِي فِيهِ من الدّلَالَة على التَّرْجَمَة هُوَ مَا يفهم من جعله على يَمِينه كَأَنَّهُ، عليه السلام، قَالَ لِابْنِ عَبَّاس: قف على يَمِيني. فَقَالَ: وقفت. وَيجْعَل الْفِعْل بِمَنْزِلَة القَوْل، أَو أَن الْغَالِب أَن الْأَقَارِب إِذا اجْتَمعُوا لَا بُد أَن يجْرِي بَينهمَا حَدِيث للمؤانسة، وَحَدِيث النَّبِي، عليه الصلاة والسلام، كُله فَائِدَة وَعلم، ويعد من مكارمه أَن يدْخل بَيته بعد صَلَاة الْعشَاء بِأَصْحَابِهِ، ويجد ابْن عَبَّاس مبايتا لَهُ وَلَا يكلمهُ أصلا. وَاعْترض بَعضهم على هَذَا كُله، فَقَالَ: كل مَا ذَكرُوهُ معترض، لِأَن من يتَكَلَّم بِكَلِمَة وَاحِدَة لَا يُسمى سامرا، وصنيع ابْن عَبَّاس
يُسمى سهرا لَا سمرا إِذْ السمر لَا يكون إِلَّا بتحدث وأبعدها الْأَخير لِأَن مَا يَقع بعد الانتباه من النّوم لَا يُسمى سمرا، ثمَّ قَالَ: وَالْأولَى من هَذَا كُله أَن مُنَاسبَة التَّرْجَمَة مستفادة من لفظ آخر فِي هَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه من طَرِيق أُخْرَى، وَهَذَا يصنعه المُصَنّف كثيرا، يُرِيد بِهِ تَنْبِيه النَّاظر فِي كِتَابه على الاعتناء بتتبع طرق الحَدِيث، وَالنَّظَر فِي مواقع أَلْفَاظ الروَاة، لِأَن تَفْسِير الحَدِيث بِالْحَدِيثِ أولى من الْخَوْض فِيهِ بِالظَّنِّ، وَإِنَّمَا أَرَادَ البُخَارِيّ هُنَا مَا وَقع فِي بعض طرق هَذَا الحَدِيث مِمَّا يدل صَرِيحًا على حَقِيقَة السمر بعد الْعشَاء وَهُوَ مَا أخرجه فِي التَّفْسِير وَغَيره من طَرِيق كريب عَن ابْن عَبَّاس قَالَ:(بت فِي بَيت مَيْمُونَة، فَتحدث رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَعَ أَهله سَاعَة ثمَّ رقد) فَصحت التَّرْجَمَة بِحَمْد الله تَعَالَى من غير حَاجَة إِلَى تعسف وَلَا رجم بِالظَّنِّ انْتهى. قلت: اعْتِرَاض هَذَا الْمُعْتَرض كُله معترض، أما قَوْله: لِأَن من يتَكَلَّم بِكَلِمَة وَاحِدَة لَا يُسمى سامرا، فَغير صَحِيح، لِأَن حَقِيقَة السمر التحدث بِاللَّيْلِ، وَيُطلق ذَلِك على التحدث بِكَلِمَة، وَقد بَين ذَلِك ابْن الْمُنِير بقوله: إِن أصل السمر ثَبت بِهَذِهِ الْكَلِمَة وَهِي قَوْله: (نَام الغليم) . وَالَّذِي قَالَه صَحِيح، لِأَن أحدا لم يشْتَرط أَن لَا يكون السمر إلَاّ بِكَلِمَات مُتعَدِّدَة، وَأهل اللُّغَة قاطبة لم يَقُولُوا إلَاّ أَن السمر هُوَ التحدث بِاللَّيْلِ، وَهُوَ يُطلق على الْقَلِيل وَالْكثير. وَأما قَوْله: وصنيع ابْن عَبَّاس يُسمى سهرا لَا سمرا، فَنَقُول: إِن السمر كَمَا يُطلق على القَوْل يُطلق على الْفِعْل يُقَال: سمر الْقَوْم الْخمر إِذا شَرِبُوهَا. قَالَ الْقطَامِي:
(ومصرَّعين من الكلال وَإِنَّمَا
…
سمروا الغبوق من الطلاء المعرق)
وسامر الْإِبِل مَا رعى مِنْهَا بِاللَّيْلِ، يُقَال: إِن إبلنا تسمر أَي ترعى لَيْلًا. وَأما قَوْله: وأبعدها الْأَخير، فَهُوَ أبعد اعتراضاته، بل هُوَ الْأَقْرَب، لِأَن قَوْله: لِأَن مَا يَقع بعد الانتباه من النّوم لَا يُسمى سمرا، مُخَالف لما قَالَه أهل اللُّغَة، وَبَيَان قرب الْأَخير الَّذِي ادّعى أَنه أبعدها أَن النَّبِي، عليه الصلاة والسلام، كَانَ وَقت جعله ابْن عَبَّاس عَن يَمِينه فِي مقَام التَّعْلِيم لَهُ، وَلَا شكّ أَنه لم يكتف وقتئذ بِمُجَرَّد الْفِعْل، بل علمه أَيْضا بالْقَوْل لزِيَادَة الْبَيَان، وَلَا سِيمَا كَانَ ابْن عَبَّاس حِينَئِذٍ صَغِيرا وَلم يكن عَالما بموقف الْمُقْتَدِي من الإِمَام. وَأما قَوْله: وَالْأولَى من هَذَا كُله أَن مُنَاسبَة التَّرْجَمَة إِلَى آخِره
…
فَكَلَام لَيْسَ لَهُ تَوْجِيه أصلا، فضلا عَن أَن يكون أولى من غَيره، لِأَن من يعْقد بَابا بترجمة وَيَضَع فِيهِ حَدِيثا، وَكَانَ قد وضع هَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه فِي بَاب آخر، وَلَكِن بطرِيق أُخْرَى وألفاظ مُتَغَايِرَة، هَل يُقَال مُنَاسبَة التَّرْجَمَة فِي هَذَا الْبَاب يُسْتَفَاد من ذَلِك الحَدِيث الْمَوْضُوع فِي الْبَاب الآخر؟ فَمَا أبعد هَذَا الْكَلَام وَأبْعد من هَذَا الْبعيد أَنه علل مَا قَالَ بقوله: لِأَن تَفْسِير الحَدِيث بِالْحَدِيثِ أولى من الْخَوْض فِيهِ بِالظَّنِّ فسبحان الله، هَؤُلَاءِ مَا فسروا الحَدِيث هَهُنَا، بل ذكرُوا مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة بالتقارب، وَمَا ذكره هُوَ الرَّجْم بِالظَّنِّ.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة. ذكرُوا مَا عدا الحكم بَين عتيبة، وَهُوَ بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالْكَاف المفتوحتين. وعتيبة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره هَاء، ابْن النهاس. واسْمه عبد الْكِنْدِيّ، يُقَال: كنيته أَبُو عبد الله، وَقيل: أَبُو عمر الْكُوفِي مولى عدي بن عدي الْكِنْدِيّ، وَيُقَال: مولى امْرَأَة من كِنْدَة. قَالَ يحيى بن معِين وَعبد الرَّحْمَن بن مهْدي وَأَبُو حَاتِم: ثِقَة. وَكَانَ فَقِيه الْكُوفَة مَعَ حَمَّاد. روى عَن ابْن أبي أوفى وَأبي جُحَيْفَة، وَعنهُ شُعْبَة وَغَيره، وَكَانَ عابدا قَانِتًا ثِقَة صَاحب سنة، مَاتَ سنة أَربع عشرَة، وَقيل: خمس عشرَة وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث وَالسَّمَاع والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم أَئِمَّة أجلاء. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ، وَالْحكم الْمَذْكُور من التَّابِعين الصغار.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ هَهُنَا عَن آدم، وَفِي الصَّلَاة أَيْضا عَن سُلَيْمَان بن حَرْب، كِلَاهُمَا عَن شُعْبَة عَن الحكم عَن سعيد بن جُبَير عَنهُ بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن ابْن الْمثنى عَن ابْن أبي عدي عَن شُعْبَة بِهِ، وَعَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن وَكِيع عَن مُحَمَّد بن قيس الْأَسدي عَنهُ بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَمْرو بن يزِيد عَن بهز بن أَسد عَن شُعْبَة بِهِ. وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي مَوَاضِع فِي كِتَابه عَن كريب وَعَطَاء ابْن أبي رَبَاح وَأبي جَمْرَة وطاووس وَغَيرهم عَن ابْن عَبَّاس، رضي الله عنهما.
بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب: قَوْله: (بت) بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق من البيتوتة، أَصله: بيتت، بِفَتْح الْبَاء وَالْيَاء فقلبت الْيَاء ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا، فَصَارَ: باتت، فَالتقى ساكنان فحذفت الْألف فَصَارَ: بتت، فأدغمت التَّاء فِي التَّاء، ثمَّ أبدلت كسرة من فَتْحة الْبَاء ليدل على الْيَاء المحذوفة، فَصَارَ: بت على وزن: قلت. وَهَذِه جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَقعت مقول القَوْل. قَوْله: (مَيْمُونَة) عطف بَيَان من قَوْله: (خَالَتِي) . قَوْله: (بنت الْحَارِث) مجرور لِأَنَّهُ صفة مَيْمُونَة، وَهُوَ مجرور، وَلكنه غير منصرف للعلمية والتأنيث. قَوْله:(زوح النَّبِي، عليه الصلاة والسلام مجرور أَيْضا لِأَنَّهُ صفة بعد صفة. قَوْله: (وَكَانَ النَّبِي، عليه الصلاة والسلام الْوَاو فِيهِ للْحَال. وَقَوله: (عِنْدهَا) خبر: كَانَ. قَوْله: (فصلى النَّبِي، عليه الصلاة والسلام الْفَاء، فِيهِ هِيَ الْفَاء الَّتِي تدخل بَين الْمُجْمل والمفصل، لِأَن التَّفْصِيل إِنَّمَا هُوَ عقيب الْإِجْمَال، لِأَن صَلَاة النَّبِي، عليه الصلاة والسلام، ومجيئه إِلَى منزله كَانَت قبل كَونه عِنْد مَيْمُونَة، وَلم يَكُونَا بعد الْكَوْن عِنْدهَا. قَوْله: (الْعشَاء) بِالنّصب، وَفِيه حذف الْمُضَاف تَقْدِيره: صَلَاة الْعشَاء. قَوْله: (فصلى أَربع رَكْعَات) الْفَاء فِيهِ للتعقيب، ثمَّ عطف عَلَيْهِ بقوله:(ثمَّ نَام) بِكَلِمَة: ثمَّ، ليدل على أَن نَومه لم يكن عقيب الصَّلَاة على الْفَوْر. قَوْله:(أَو كلمة) مَنْصُوب بِفعل مَحْذُوف أَي: أَو قَالَ كلمة، فَإِن قلت: مقول القَوْل يجب أَن يكون كلَاما لَا كلمة. قلت: قد تطلق الْكَلِمَة على الْكَلَام مجَازًا نَحْو: كلمة الشَّهَادَة. قَوْله: (فَقُمْت) . عطف على قَوْله: (ثمَّ قَامَ) . قَوْله: (عَن يسَاره) بِفَتْح الْيَاء وَكسرهَا. وَقَالَ ابْن عَرَبِيّ: لَيْسَ فِي كَلَام الْعَرَب كلمة أَولهَا يَاء مَكْسُورَة. وَفِي (الْعباب) قَالَ ابْن دُرَيْد: الْيَد الْيَسَار ضد الْيَمين بِفَتْح الْيَاء وَكسرهَا، قَالَ: وَزَعَمُوا أَن الْكسر أفْصح. قَالَ: وَقَالَ بعض أهل اللُّغَة الْيَسَار بِكَسْر الْيَاء شبهوها بالشمال، إِذْ لَيْسَ فِي كَلَامهم كلمة مَكْسُورَة الْيَاء إلَاّ: يسَار، وَقَالَ ابْن عباد: الْيَسَار، بِالتَّشْدِيدِ لُغَة فِي الْيَسَار. قَوْله:(حَتَّى سَمِعت) حَتَّى هَهُنَا للغاية تَقْدِيره: إِلَى أَن سَمِعت. قَوْله: (غَطِيطه) بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَكسر الطَّاء على وزن: فعيل، هُوَ صَوت يُخرجهُ النَّائِم مَعَ نَفسه عِنْد استثقاله. وَفِي (الْعباب) غطيط النَّائِم والمخنوق: نخيرهما. قلت: هَذَا يرد تَفْسِير بَعضهم الغطيط: نفس النَّائِم، والنخير: أقوى مِنْهُ، فَإِنَّهُ جعل النخير غير الغطيط، وَصَاحب (الْعباب) جعله عينه:
إِذا قَالَت حذام فصدقوها
وَأَيْضًا: فَإِن الغطيط لَا بُد فِيهِ من الصَّوْت، وَمَا فسره بِهِ بَعضهم لَيْسَ فِيهِ صَوت، لِأَن مُجَرّد النَّفس لَا صَوت فِيهِ. قَوْله:(أَو خطيطه) بِفَتْح الْمُعْجَمَة وَكسر الطَّاء، وَقَالَ الدَّاودِيّ: هُوَ بِمَعْنى الغطيط. وَقَالَ ابْن بطال: لم أَجِدهُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة عِنْد أهل اللُّغَة، وَتَبعهُ القَاضِي عِيَاض، فَقَالَ: هُوَ هُنَا وهم. قلت: الصَّوَاب مَعَ الدَّاودِيّ، فَإِن صَاحب (الْعباب) قَالَ: وَخط فِي نَومه خطيطا أَي: غط. وَفِي حَدِيث النَّبِي، عليه الصلاة والسلام:(إِنَّه أوتر بِسبع أَو تسع ثمَّ اضْطجع حَتَّى سمع خطيطه) . ويروى: (غَطِيطه)، ويروى:(فخيخه)، ويروى:(ضفيزه)، ويروى:(صفيره) . وَمعنى الْخَمْسَة وَاحِد وَهُوَ: نخير النَّائِم. قلت: الضفيز، بالضاد وَالزَّاي المعجمتين وبالفاء والصفير: بالصَّاد وَالرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ، والفخيخ، بِالْفَاءِ والخاءين المعجمتين.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (فِي لَيْلَتهَا) أَي: المختصة بهَا بِحَسب قسم النَّبِي، عليه الصلاة والسلام بَين الْأزْوَاج. قَوْله:(ثمَّ جَاءَ) أَي من الْمَسْجِد إِلَى منزله فِي تِلْكَ اللَّيْلَة المُرَاد بِهِ: بَيت مَيْمُونَة بنت الْحَارِث الْهِلَالِيَّة، أم الْمُؤمنِينَ، تزَوجهَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم سنة سِتّ أَو سبع من الْهِجْرَة، وَتوفيت سنة إِحْدَى وَخمسين، وَقيل: سنة سِتّ وَسِتِّينَ بسرف، فِي الْمَكَان الَّذِي تزَوجهَا فِيهِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ بِفَتْح السِّين وَكسر الرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ وبالفاء. وَصلى عَلَيْهَا عبد الله بن عَبَّاس قيل: إِنَّهَا آخر أَزوَاج النَّبِي صلى الله عليه وسلم، إِذْ لم يتَزَوَّج بعْدهَا. وَهِي أُخْت لبَابَة، بِضَم اللَّام وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة وَبعد الْألف بَاء أُخْرَى، بنت الْحَارِث زَوْجَة الْعَبَّاس وَأم أَوْلَاده عبد الله وَالْفضل وَغَيرهمَا، وَهِي أول امْرَأَة أسلمت بعد خَدِيجَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَكَانَ النَّبِي، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، يزورها، وَهِي لبَابَة الْكُبْرَى وَأُخْتهَا لبَابَة الصُّغْرَى أم خَالِد بن الْوَلِيد، رضي الله عنه. قَوْله:(نَام الغليم) يتَحَمَّل الْإِخْبَار لميمونة، وَيحْتَمل الِاسْتِفْهَام عَن مَيْمُونَة، وَحذف الْهمزَة بِقَرِينَة الْمقَام، وَهَذَا أظهر. و (الغليم) بِضَم الْغَيْن وَفتح اللَّام وَتَشْديد الْيَاء، تَصْغِير غُلَام، من بَاب تَصْغِير الشَّفَقَة، نَحْو: يَا بني، وَأَرَادَ بِهِ عبد الله بن عَبَّاس، وَرُوِيَ: يَا أم الغليم، بالنداء وَالْأول هُوَ الصَّوَاب، وَلم تثبت بِالثَّانِي الرِّوَايَة. قَوْله:(أَو كلمة) شكّ من الرَّاوِي. وَقَالَ الْكرْمَانِي: شكّ من ابْن عَبَّاس. قلت: لَا يلْزم التَّعْيِين لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون من أحد مِمَّن دونه، أَي أَو قَالَ كلمة تشبه قَوْله: نَام الغليم، وَالثَّانيَِة بِاعْتِبَار الْكَلِمَة أَو بِاعْتِبَار كَونهَا جملَة، وَفِي رِوَايَة:(نَام الْغُلَام) . قَوْله: (فصلى أَربع رَكْعَات) ، الْجُمْلَة فِي هَذِه الطَّرِيق أَنه صلى إِحْدَى عشرَة رَكْعَة