الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
35 -
(بابُ مَنْ سَمِعَ شَيْئاً فَرَاجَعَهُ حَتَّى يَعْرِفَهُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من سمع شَيْئا فراجع الَّذِي سَمعه مِنْهُ حَتَّى يعرف مَا سَمعه كَمَا هُوَ حَقه، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر:(بَاب من سمع شَيْئا فَلم يفهمهُ فَرَاجعه) . وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: (فراجع فِيهِ) .
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق وعظ النِّسَاء وتعليمهن، وَفِي فهمهن قُصُور: وَرُبمَا يحتجن إِلَى مُرَاجعَة الْعَالم، وَهَذَا الْبَاب أَيْضا فِي مُرَاجعَة الْعَالم لعدم الْفَهم فِيمَا سمع مِنْهُ، وَمن هَذِه الْحَيْثِيَّة تنَاسبا.
103 -
حدّثنا سَعيدُ بنُ أبي مَرْيَمَ قالَ: أخْبرنا نافِعُ بنُ عُمَرَ قالَ: حدّثني ابنُ أبي مُلَيْكَةَ أَن عَائِشَة زوْجَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَتْ لَا تَسْمَعُ شَيْئاً لَا تَعْرِفُهُ إِلَاّ رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ، وَأَن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ:(مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ) قالَتْ عائِشَةُ: فَقُلْتُ: أوَ لَيْسَ يَقُولُ الله تَعالى: {فَسوفَ يُحاسَبُ حِساباً يِسيراً} (الانشقاق: 8) قالَتْ: فَقَالَ: (إِنَّما ذَلِكَ العَرْضُ، ولكِنْ مَنْ نُوقِشَ الحِسابَ يَهْلكْ) ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لَا تسمع شَيْئا لَا تعرفه إلَاّ راجعت فِيهِ حَتَّى تعرفه) .
بَيَان رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: سعيد بن أبي مَرْيَم، هُوَ سعيد بن الحكم بن مُحَمَّد ابْن أبي مَرْيَم الجُمَحِي أَبُو مُحَمَّد الْمصْرِيّ، سمع مَالِكًا وَغَيره، وروى عَنهُ البُخَارِيّ هُنَا وَغَيره، وروى بَقِيَّة الْجَمَاعَة عَن رجل عَنهُ، وروى البُخَارِيّ فِي تَفْسِير سُورَة الْكَهْف عَن مُحَمَّد بن عبد اللَّه عَنهُ عَن أبي غَسَّان مُحَمَّد بن مطرف وَسليمَان بن بِلَال وَمُحَمّد بن أبي كثير. قَالَ الْحَاكِم النَّيْسَابُورِي: يُقَال: إِن مُحَمَّد بن عبد اللَّه هَذَا هُوَ مُحَمَّد بن يحيى الذهلي، وروى عَنهُ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ، وَقَالَ: ثِقَة. وَقَالَ ابْن معِين: ثِقَة الثِّقَات، توفّي سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: نَافِع بن عمر بن عبد اللَّه الْقرشِي الجُمَحِي الْمَكِّيّ، قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: ثَبت ثَبت صَحِيح الحَدِيث. وَقَالَ يحيى بن معِين: ثِقَة. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: ثِقَة يحْتَج بحَديثه، مَاتَ بِمَكَّة سنة تسع وَسِتِّينَ وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الثَّالِث: عبد اللَّه بن عبيد اللَّه بن أبي مليكَة، بِضَم الْمِيم، وَقد تقدم. الرَّابِع: الصديقة عَائِشَة، رضي الله عنها.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع وَصِيغَة الْإِفْرَاد والإخبار. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين مصري ومكي. وَمِنْهَا: أَنه رباعي صَحِيح. فَإِن قلت: هَذَا الْإِسْنَاد مِمَّا استدركه الدَّارَقُطْنِيّ على البُخَارِيّ وَمُسلم، فَقَالَ: اخْتلفت الرِّوَايَة فِيهِ عَن ابْن أبي مليكَة فَروِيَ عَنهُ عَن عَائِشَة، وَرُوِيَ عَنهُ عَن الْقَاسِم عَن عَائِشَة، وَقد اخْتلف النَّاس فِي الحَدِيث إِذا رُوِيَ مَوْصُولا، وَرُوِيَ مُنْقَطِعًا هَل عِلّة فِيهِ؟ فالمحدثون يثبتونه عِلّة، وَالْفُقَهَاء ينفون الْعلَّة عَنهُ، وَيَقُولُونَ: يجوز أَن يكون سَمعه عَن وَاحِد عَن آخر ثمَّ سَمعه عَن ذَلِك الآخر بِغَيْر وَاسِطَة. قلت: هَذَا هُوَ الْجَواب عَن اسْتِدْرَاك الدَّارَقُطْنِيّ، وَهُوَ اسْتِدْرَاك مُسْتَدْرك لِأَنَّهُ مَحْمُول على أَنه سَمعه عَنْهَا بالواسطة، وَبِدُون الْوَاسِطَة فَرَوَاهُ بِالْوَجْهَيْنِ، وَأكْثر استدراكات الدَّارَقُطْنِيّ على البُخَارِيّ وَمُسلم من هَذَا الْبَاب.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير والرقاق عَن عَمْرو بن عَليّ عَن يحيى عَن عُثْمَان بن الْأسود، وَفِي الرقَاق أَيْضا عَن عبيد اللَّه بن مُوسَى عَن عُثْمَان بن الْأسود، وَفِي التَّفْسِير عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب، وَقَالَ فِي عقب حَدِيث عَمْرو بن عَليّ: تَابعه ابْن جريج مُحَمَّد بن سليم وَصَالح وَأَيوب بن رستم عَن ابْن أبي مليكَة سَمِعت عَائِشَة. وَأخرجه مُسلم فِي أَوَاخِر الْكتاب عَن أبي بكر وَابْن حجر عَن ابْن علية عَن أَيُّوب، وَعَن أبي الرّبيع وَأبي كَامِل عَن حَمَّاد عَن أَيُّوب، وَعَن عبد الرَّحْمَن بن بشر عَن يحيى الْقطَّان عَن عُثْمَان بن الْأسود، كِلَاهُمَا عَن ابْن أبي مليكَة، وَأخرجه فِي التَّفْسِير عَن مُسَدّد عَن يحيى، وَفِي الرقَاق عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن روح، وَأخرجه أَيْضا عَن عبد الرَّحْمَن بن بشر عَن يحيى، كِلَاهُمَا عَن أبي يُونُس حَاتِم عَن ابْن أبي مليكَة عَن الْقَاسِم عَن عَائِشَة، وَزَاد فِيهِ الْقَاسِم بن أبي مليكَة وَعَائِشَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن الْعَبَّاس بن مُحَمَّد بن يُونُس عَن مُحَمَّد عَن نَافِع بن عمر بِإِسْنَادِهِ:(من حُوسِبَ يومئذٍ عذب) . فَذكره وَلم يذكر أول الحَدِيث.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (زوج النَّبِي، عليه السلام زوج الرجل امْرَأَته، وَزوج الْمَرْأَة بَعْلهَا، قَالَ الله تَعَالَى: {اسكن أَنْت وزوجك الْجنَّة} (الْبَقَرَة: 35، الْأَعْرَاف: 19) وَيُقَال أَيْضا: هِيَ زَوجته. وَالْأول هُوَ الْأَفْصَح. قَوْله: (الْعرض) بِفَتْح الْعين، من عرضت إِلَيْهِ أَمر كَذَا، وَعرضت لَهُ الشَّيْء أَي أظهرته وأبرزته إِلَيْهِ. قَوْله:(من نُوقِشَ) من المناقشة وَهِي الِاسْتِقْصَاء فِي الْحساب حَتَّى لَا يُترك مِنْهُ شَيْء. وَقَالَ ابْن دُرَيْد: أصل النقش استقصاؤك الْكَشْف عَن الشَّيْء، وَمِنْه نقش الشَّوْكَة إِذا استخرجها. وَقَالَ الْهَرَوِيّ: انتقشت مِنْهُ حَتَّى استقصيته مِنْهُ.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (أَن عَائِشَة)، بِفَتْح الْهمزَة: وَأَصله بِأَن عَائِشَة، ظَاهر هَذَا الْإِرْسَال لِأَن ابْن أبي مليكَة تَابِعِيّ لم يدْرك مُرَاجعَة عَائِشَة زوج النَّبِي صلى الله عليه وسلم، لَكِن ظهر وَصله بعد فِي قَوْله: قَالَت عَائِشَة: فَقلت. قَوْله: (زوج النَّبِي، عليه الصلاة والسلام كَلَام إضافي فِي مَنْصُوب لِأَنَّهُ صفة عَائِشَة. قَوْله: (كَانَت) فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ خبر: أَن. قَوْله: (لَا تسمع) إِلَى آخِره فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ خبر: كَانَ. قَوْله: (لَا تعرفه) جملَة فِي مَحل النصب لِأَنَّهَا صفة لقَوْله: (شَيْئا) . قَوْله: (إلَاّ راجعت فِيهِ) اسْتثِْنَاء مُتَّصِل. وَقَوله: (راجعت) صفة لموصوف مَحْذُوف، وَالتَّقْدِير: لَا تسمع شَيْئا مَجْهُولا مَوْصُوفا بِصفة إلَاّ مَوْصُوفا بِأَنَّهُ مرجوع فِيهِ. قَوْله: (حَتَّى) للغاية بِمَعْنى: إِلَى. وَقَوله: (تعرفه) مَنْصُوب بِأَن الْمقدرَة. قَوْله: (وَأَن النَّبِي، عليه الصلاة والسلام،) عطف على قَوْله: (أَن عَائِشَة) . قَالَ الْكرْمَانِي: وَاعْلَم أَن هَذَا الْقدر من كَلَام ابْن أبي مليكَة مُرْسل، إِذْ لم يسْندهُ إِلَى صَحَابِيّ. قلت: قد ذكرت أَن قَول عَائِشَة: فَقلت، يدل على الْوَصْل، وَإِن كَانَ ذَاك بِحَسب الظَّاهِر يدل على الْإِرْسَال. قَوْله:(قَالَ) فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ خبر: أَن. قَوْله: (من حُوسِبَ عذب) مقول القَوْل و: من، مَوْصُولَة، و: حُوسِبَ، جملَة صلتها. وَقَوله:(عذب) خبر: من، لِأَنَّهُ مُبْتَدأ. قَوْله:(فَقلت) عطف على قَوْله: (قَالَ: من حُوسِبَ عذب) . وَقَوله: (قَالَت عَائِشَة) معترض بَينهمَا من كَلَام الرَّاوِي. قَوْله: (أَو لَيْسَ يَقُول الله؟) الْهمزَة للاستفهام. فَإِن قلت: همزَة الِاسْتِفْهَام تَقْتَضِي الصدارة، وحرف الْعَطف يَقْتَضِي تقدم الصدارة، فَمَا تَقْدِيره؟ قلت: هَهُنَا وَفِي أَمْثَاله يقدر الْمَعْطُوف عَلَيْهِ هُوَ مَدْخُول الْهمزَة نَحْو: أَكَانَ كَذَلِك وَلَيْسَ يَقُول الله تَعَالَى؟ وَفِي بعض النّسخ: أَو لَيْسَ الله يَقُول؟ فلفظة الله اسْم لَيْسَ وَخَبره يَقُول. فَإِن قلت: مَا اسْم لَيْسَ فِي الرِّوَايَة الْمَشْهُورَة؟ قلت: إِمَّا أَن يكون لَيْسَ بِمَعْنى: لَا، فَكَأَنَّهُ قيل: أَو لَا يَقُول الله؟ وَإِمَّا أَن يكون فِيهِ ضمير الشَّأْن. قَوْله: (حسابا) نصب على أَنه مفعول مُطلق. و (يَسِيرا)، صفته. قَوْله:(قَالَت) أَي: عَائِشَة. فَقَالَ: أَي النَّبِي، عليه الصلاة والسلام. قَوْله:(إِنَّمَا ذَلِك) بِكَسْر الْكَاف لِأَنَّهُ خطاب للمؤنث، وَالْأَصْل فِيهِ: ذَا، وَهُوَ اسْم يشار بِهِ إِلَى الْمُذكر، فَإِن خاطبت جِئْت بِالْكَاف، فَقلت: ذَاك وَذَلِكَ، فَاللَّام زَائِدَة وَالْكَاف للخطاب وَفِيهِمَا دَلِيل على أَن مَا يومىء إِلَيْهِ بعيد وَلَا مَوضِع لَهُ من الْإِعْرَاب، وَهُوَ هَهُنَا مُبْتَدأ وَخَبره قَوْله:(الْعرض) . قَوْله: (وَلَكِن) للاستدراك. قَوْله: (من) مَوْصُولَة تَتَضَمَّن معنى الشَّرْط. وَقَوله: (نُوقِشَ) فعل الشَّرْط. قَوْله: (يهْلك)، بِكَسْر اللَّام: جَوَاب الشَّرْط، وَيجوز فِيهِ الرّفْع والجزم، وَذَلِكَ لِأَن الشَّرْط إِذا كَانَ مَاضِيا يجوز الْوَجْهَانِ فِي الْجَواب، وَهُوَ من: هلك يهْلك، لَازم. وتيم تَقول: هلكه يهلكه هلكاً بِمَعْنى أهلكه، وَالْمعْنَى هَهُنَا على اللُّزُوم، وَإِن احْتمل التَّعَدِّي أَيْضا. قَوْله:(الْحساب) نصب لِأَنَّهُ مفعول ثَان لناقش، لِأَن أصل بَاب المفاعلة لنسبة أصل الْفِعْل إِلَى أحد الْأَمريْنِ مُتَعَلقا بِالْآخرِ صَرِيحًا، وَيَجِيء عكس ذَلِك ضمنا، فلأجل تعلقه بِالْآخرِ جَاءَ غير الْمُتَعَدِّي إِذا نقل إِلَى فَاعل مُتَعَدِّيا نَحْو: كارمته، فَإِن أَصله لَازم وَقد تعدى هَهُنَا، والمتعدي إِلَى مفعول وَاحِد إِذا نقل إِلَى فَاعل يتَعَدَّى إِلَى مفعولين نَحْو: جاذبته الثَّوْب، لَكِن بِشَرْط أَن لَا يصلح مفعول أصل الْفِعْل أَن يكون مشاركاً للْفَاعِل كَمَا فِي الْمِثَال الْمَذْكُور، فَإِن الثَّوْب لمَّا لم يصلح لِأَن يكون مشاركاً للْفَاعِل فِي المجاذبة احْتِيجَ إِلَى مفعول آخر يكون مشاركاً لَهُ فِيهَا، فيتعدى إِلَى اثْنَيْنِ، وَأما إِذا صلح مَفْعُوله للمشاركة فَلَا يتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، بل يَكْتَفِي بمفعول كَمَا فِي: شاتمت زيدا. فَإِن قلت: أَيْن الْمَفْعُول الأول هَهُنَا؟ قلت: الضَّمِير الَّذِي نُوقِشَ فَإِنَّهُ مفعول نَاب عَن الْفَاعِل، وَالْمعْنَى: من ناقشه الله الْحساب يهْلك. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الظَّاهِر أَن الْحساب مَنْصُوب بِنَزْع الْخَافِض، أَي: فِي الْحساب، أَي: من جرى فِي حسابه المضايقة يهْلك. قلت: الظَّاهِر مَا ذَكرْنَاهُ.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (كَانَت لَا تسمع) إِنَّمَا جمع بَين: كَانَت، الَّذِي هُوَ الْمَاضِي، وَبَين: لَا تسمع، الَّذِي هُوَ الْمُضَارع لِأَن كَانَت هُنَا لثُبُوت خَبَرهَا والمضارع للاستمرار فيتناسبان، أَو جِيءَ بِلَفْظ الْمُضَارع استحضاراً للصورة الْمَاضِيَة وحكاية عَنْهَا، فلفظه، وَإِن كَانَ مضارعاً، لَكِن مَعْنَاهُ على الْمَاضِي. قَوْله:(عذب) لَهُ مَعْنيانِ: أَحدهمَا: إِن نفس مناقشة الْحساب يَوْم