الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
47 -
(بابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلَاّ قَلِيلاً} )
أَي: هَذَا بَاب قَول الله تَعَالَى: {وَمَا أُوتِيتُمْ من الْعلم إِلَّا قَلِيلا} (الْإِسْرَاء: 85) وَأَرَادَ بإيراد هَذَا الْبَاب المترجم بِهَذِهِ الْآيَة التَّنْبِيه على أَن من الْعلم أَشْيَاء لم يطلع الله عَلَيْهَا نَبيا وَلَا غَيره.
وَوجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن كلا مِنْهُمَا مُشْتَمل على سُؤال عَن عَالم، غير أَن المسؤول قد بيَّن فِي الأول لكَونه مِمَّا يحْتَاج إِلَى علمه السَّائِل، وَلم يبين فِي هَذَا لعدم الْحَاجة إِلَى بَيَانه لكَونه مِمَّا اخْتصَّ الله سُبْحَانَهُ فِيهِ، وَلِأَن فِي عدم بَيَانه تَصْدِيقًا لنبوة النَّبِي، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم. حَيْثُ قَالَ الواحدي: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ إِن الْيَهُود اجْتَمعُوا فَقَالُوا: نسْأَل مُحَمَّدًا عَن الرّوح، وَعَن فتية فقدوا فِي أول الزَّمَان، وَعَن رجل بلغ مشرق الشَّمْس وَمَغْرِبهَا، فَإِن أجَاب فِي ذَلِك كُله فَلَيْسَ بِنَبِي وَإِن لم يجب فِي ذَلِك كُله فَلَيْسَ بِنَبِي، وَإِن أجَاب عَن بعض وَأمْسك عَن بعض فَهُوَ نَبِي فَسَأَلُوهُ عَنْهَا فَأنْزل الله تَعَالَى فِي شَأْن الْفتية:{أم حسبت أَن أَصْحَاب الْكَهْف} (الْكَهْف: 9) إِلَى آخر الْقِصَّة. وَأنزل فِي شَأْن الرجل الَّذِي بلغ مشرق الأَرْض وَمَغْرِبهَا: {ويسألونك عَن ذِي القرنين} (الْكَهْف: 83) إِلَى آخر الْقِصَّة، وَأنزل فِي الرّوح قَوْله تَعَالَى:{ويسألونك عَن الرّوح قل الرّوح من أَمر رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ من الْعلم إِلَّا قَلِيلا} (الْإِسْرَاء: 85) . قَوْله: {وَمَا أُوتِيتُمْ} (الْإِسْرَاء: 85) الْخطاب عَام، وَرُوِيَ أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لما قَالَ لَهُم ذَلِك قَالُوا: نَحن مختصون بِهَذَا الْخطاب أم أَنْت مَعنا فِيهِ؟ فَقَالَ: (بل نَحن وَأَنْتُم لم نُؤْت من الْعلم إلَاّ قَلِيلا) . فَقَالُوا: مَا أعجب شَأْنك؟ سَاعَة تَقول: {وَمن يُؤْت الْحِكْمَة فقد أُوتِيَ خيرا كثيرا} (الْبَقَرَة: 269) وَسَاعَة تَقول هَذَا {فَنزلت: {وَلَو أَن مَا فِي الأَرْض من شَجَرَة أَقْلَام وَالْبَحْر يمده من بعده سَبْعَة أبحر مَا نفذت كَلِمَات الله} (لُقْمَان: 27) وَلَيْسَ مَا قَالُوهُ بِلَازِم، لِأَن الْقلَّة وَالْكَثْرَة يدوران مَعَ الْإِضَافَة، فيوصف الشَّيْء بالقلة مُضَافا إِلَى مَا فَوْقه، وَالْكَثْرَة مُضَافا إِلَى مَا تَحْتَهُ، فالحكمة الَّتِي أوتيها العَبْد خير كثير فِي نَفسهَا، إِلَّا أَنَّهَا إِذا أضيفت إِلَى علم الله تَعَالَى فَهِيَ قَليلَة. وَقيل: هُوَ خطاب للْيَهُود خَاصَّة لأَنهم قَالُوا للنَّبِي صلى الله عليه وسلم: قد أوتينا التَّوْرَاة فِيهَا الْحِكْمَة، وَقد تَلَوت:{وَمن يُؤْت الْحِكْمَة فقد أُوتِيَ خيرا كثيرا} (الْبَقَرَة: 269) فَقيل لَهُم: إِن علم التَّوْرَاة قَلِيل فِي جنب علم الله تَعَالَى. قَوْله: {إِلَّا قَلِيلا} (الْإِسْرَاء: 85) اسْتثِْنَاء من الْعلم، أَي: إِلَّا علما قَلِيلا، أَو من الإيتاء، أَي إِلَّا إيتَاء قَلِيلا، أَو من الضَّمِير أَي إلَاّ قَلِيلا مِنْكُم.
125 -
حدّثنا قَيْسُ بنُ حَفْصٍ قالَ: حدّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ قَالَ: حدّثنا الأَعْمَشُ سُلَيْمَانُ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَيْننَا أنَا أَمْشِي مَعَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فِي خَرِبِ المَدِينَةِ، وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عسيبٍ مَعَهُ، فَمَرَّ بِنَفَرٍ مِنَ اليَهُودِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عنِ الرُّوحِ؟ وقالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَسْألُوهُ} لَا يجيءُ فِيهِ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ. فقالَ بَعْضُهمْ: ولنَسْألَنَّهُ. فقامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فقالَ: يَا أَبَا القاسِمِ! مَا الرُّوحُ؟ فَسَكَت، فَقُلْتُ: إنَّهُ يُوحَى إلَيْهِ فَقُمْتُ، فَلَمَّا انْجَلَى عَنْهُ فقالَ:{ويَسْألُونَكَ عَنْ الروحِ قلِ الرُّوحُ مِنْ أمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتُوا مِنَ العِلْمِ إلَاّ قَلِيلاً} (الْإِسْرَاء: 85) قالَ الأعْمَشُ: هَكَذا فِي قِرَاءَتِنَا.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهَا بعض آيَة من الْقُرْآن، والْحَدِيث يبين سَبَب نُزُولهَا مَعَ مَا فِيهَا من التَّنْبِيه على أَن علم الرّوح علم قد اسْتَأْثر الله بِهِ وَلم يطلع عَلَيْهِ أحدا، كَمَا قد ذَكرْنَاهُ.
بَيَان رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: قيس بن حَفْص بن الْقَعْقَاع الدَّارمِيّ، أَبُو مُحَمَّد الْبَصْرِيّ، روى عَنهُ أَحْمد بن سعيد الدَّارمِيّ وأبوزرعة وَأَبُو حَاتِم. قَالَ يحيى بن معِين: ثِقَة. وَقَالَ أَحْمد بن عبد الله: لَا بَأْس بِهِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: شيخ، وَهُوَ شيخ البُخَارِيّ، انْفَرد بِالْإِخْرَاجِ عَنهُ عَن أَئِمَّة الْكتب الْخَمْسَة، وَلَيْسَ فِي مشايخهم من اسْمه قيس سواهُ، توفّي سنة سبع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عبد الْوَاحِد بن زِيَاد أَبُو بشر الْبَصْرِيّ. الثَّالِث: سُلَيْمَان بن مهْرَان الْأَعْمَش الْكُوفِي. الرَّابِع: إِبْرَاهِيم بن يزِيد النَّخعِيّ. الْخَامِس: عَلْقَمَة بن قيس النَّخعِيّ. السَّادِس: عبد الله بن مَسْعُود، رضي الله عنه.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين بصريين وَثَلَاثَة كوفيين. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ ثَلَاثَة من التَّابِعين الْحفاظ المتقنين يروي بَعضهم عَن بعض. وهم: الْأَعْمَش وَإِبْرَاهِيم وعلقمة. وَمِنْهَا: أَن رِوَايَة الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة أصلح الْأَسَانِيد فِيمَا قيل.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه
البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن عبد الْوَاحِد أَيْضا، وَفِي التَّفْسِير عَن عمر بن حَفْص عَن أَبِيه، وَفِي الِاعْتِصَام فِي: بَاب مَا يكره من كَثْرَة السُّؤَال وتكليف مَا لَا يعنيه، عَن مُحَمَّد بن عبيد بن مَيْمُون عَن عِيسَى بن يُونُس وَفِي التَّوْحِيد عَن يحيى عَن وَكِيع وَأخرجه مُسلم فِي الرقَاق عَن عمر بن حَفْص عَن أَبِيه وَعَن أبي بكر والأشج عَن وَكِيع وَعَن إِسْحَاق وَابْن خشرم عَن عِيسَى كلهم عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ جَمِيعًا فِي التَّفْسِير عَن عَليّ بن خشرم بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حسن صَحِيح.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (فِي خرب)، بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة: جمع خربة، وَيُقَال بِالْعَكْسِ: أَعنِي الْخَاء وَكسر الرَّاء، هَكَذَا ضبط بَعضهم أخذا عَن بعض الشَّارِحين. قلت: هَذَا مُخَالف لما قَالَه أهل اللُّغَة. فَقَالَ الْجَوْهَرِي: الخراب ضد الْعِمَارَة، وَقد خرب الْموضع بِالْكَسْرِ فَهُوَ خرب، وَفِي (الْعباب) : وَقد خرب الْموضع، بِالْكَسْرِ: فَهُوَ خرب، وَدَار خربة، وَالْجمع خرب مِثَال: كلمة وكلم، وخرَّب الدَّار وأخربها وخرَّبها، فَعلم من هَذَا أَن الخرب، بِفَتْح الْخَاء وَكسر الرَّاء تَارَة تكون مُفْردَة، كَمَا يُقَال: مَكَان خرب، وَتارَة تكون جمعا كَمَا يُقَال: أَمَاكِن خرب، جمع خربة. وَأما خرب، بِكَسْر الْخَاء وَفتح الرَّاء: فَلَيْسَ بِجمع خربة. كَمَا زعم هَؤُلَاءِ الشارحون، وَإِنَّمَا جمع خربة: خرب ككلمة وكلم، كَمَا ذكره الصغاني. وَقَالَ القَاضِي: رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي غير هَذَا الْموضع: (حرث) ، بِالْحَاء الْمُهْملَة والثاء الْمُثَلَّثَة، وَكَذَا رَوَاهُ مُسلم فِي جَمِيع طرقه. وَقَالَ بَعضهم: هُوَ الصَّوَاب. قَوْله: (يتَوَكَّأ) أَي: يعْتَمد، ومادته: وَاو وكاف وهمزة، وَمِنْه يُقَال: رجل تكأة، مِثَال: تؤدة، كثير الاتكاء، وَأَصلهَا: وكأة أَيْضا. والمتكأة مَا يتكأ عَلَيْهِ، هِيَ المتكأ، قَالَ الله تَعَالَى:{وأعتدت لَهُنَّ متكأ} (يُوسُف: 31) . قَوْله: (على عسيب)، بِفَتْح الْعين وَكسر السِّين الْمُهْمَلَتَيْنِ وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة. قَالَ الصغاني: العسيب من السعف فويق الكرب لم ينْبت عَلَيْهِ الخوص، وَمَا ينْبت عَلَيْهِ الخوص فَهُوَ السعف، وَالْجمع: عسب. وَقَالَ غَيره: العسيب جريد النّخل وَهُوَ عود قضبان النّخل، كَانُوا يكشطون خوصها ويتخذونها عصيا، وَكَانُوا يَكْتُبُونَ فِي طرفه العريض مِنْهُ، وَمِنْه قَوْله: فِي الحَدِيث: (فَجعلت أتتبعه فِي العسيب) يُرِيد الْقُرْآن. قَوْله: (بِنَفر)، بِفَتْح الْفَاء: عدَّة رجال من ثَلَاثَة إِلَى عشرَة، والنفير مثله، وَكَذَلِكَ النَّفر والنفرة بالإسكان. قَوْله:(من الْيَهُود) هَذَا اللَّفْظ مَعَ اللَّام وَدون اللَّام معرفَة، وَالْمرَاد بِهِ: اليهوديون، وَلَكنهُمْ حذفوا يَاء النِّسْبَة كَمَا قَالُوا: زنجي وزنج، للْفرق بَين الْمُفْرد وَالْجَمَاعَة.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (بَينا أَنا) قد مر غير مرّة أَن أصل: بَينا، بَين، فأشبعت الفتحة بِالْألف، وَالْعَامِل فِيهِ جَوَابه، وَهُوَ قَوْله:(فَمر بِنَفر من الْيَهُود) لَا يُقَال الْفَاء الجزائية تمنع عمل مَا بعْدهَا فِيمَا قبلهَا، فَلَا يعْمل: مر، فِي: بَينا، لأَنا نقُول: لَا نسلم أَن الْفَاء هُنَا جزائية إِذْ لَيْسَ فِي: بَين، معنى المجازاة الصَّرِيحَة، بل فِيهَا رَائِحَة مِنْهَا، وَلَئِن سلمنَا، وَلَكِن لَا نسلم مَا ذكرْتُمْ من الْمَنْع، لِأَن النُّحَاة قَالُوا فِي: أما زيدا فَأَنا ضَارب، أَن الْعَامِل فِي: زيدا، هُوَ: ضَارب، سلمنَا ذَلِك، فَنَقُول: الْعَامِل فِيهِ مر مُقَدرا، وَالْمَذْكُور يفسره. وَلنَا أَن نقُول بَين الْفَاء وَإِذا أخوة، حَيْثُ اسْتعْملت الْفَاء هَهُنَا مَوضِع إِذا. وَالْغَالِب أَن جَوَاب: بَينا، يكون: بإذا وَإِذ. وَإِن كَانَ الْأَصْمَعِي يستفصح تَركهمَا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: السُّؤَال مُشْتَرك الْإِلْزَام إِذْ هُوَ بِعَيْنِه وَارِد فِي إِذْ وَإِذا حَيْثُ يَقع شي مِنْهُمَا جَوَابا لبين. لِأَن إِذْ وَإِذا أنَّى كَانَ هُوَ مُضَاف إِلَى مَا بعده، والمضاف إِلَيْهِ لَا يعْمل فِي الْمُضَاف، فبالطريق الأولى لَا يعْمل فِي الْمُقدم على الْمُضَاف، فَمَا هُوَ جوابكم فِي إِذْ، فَهُوَ جَوَابنَا فِي الْفَاء. قَوْله:(مَعَ النَّبِي) حَال، أَي: مصاحبا مَعَه. قَوْله: (وَهُوَ يتَوَكَّأ) جملَة إسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (مَعَه) صفة لعسيب قَوْله: (من الْيَهُود) بَيَان للنفر لعسيب. قَوْله: (سلوه) أَصله: اسألوه، أَي النَّبِي صلى الله عليه وسلم. قَوْله:(لَا تسلوه) أَصله: لَا تسألوه. قَوْله: (لَا يَجِيء فِيهِ) يجوز فِيهِ ثَلَاثَة أوجه. الأول: الْجَزْم على جَوَاب النَّهْي، أَي: لَا تسألوه لَا يجىء بمكروه. الثَّانِي: النصب على معنى: لَا تسألوه إِرَادَة أَن لَا يَجِيء فِيهِ، وَلَا زَائِدَة، وَهَذَا ماشٍ على مَذْهَب الْكُوفِيّين. وَقَالَ السُّهيْلي: النصب فِيهِ بعيد لِأَنَّهُ على معنى: أَن. الثَّالِث: الرّفْع على الْقطع، أَي: لَا يَجِيء فِيهِ بِشَيْء تكرهونه. قلت: المُرَاد أَنه رفع على الِاسْتِئْنَاف. قَوْله: (لنسألنه) جَوَاب لقسم مَحْذُوف. قَوْله: (يابا الْقَاسِم) أَصله يَا أَبَا الْقَاسِم، حذفت الْهمزَة من الْأَب تَخْفِيفًا. قَوْله:(فَسكت)، أَي: رَسُول الله صلى الله عليه وسلم. قَوْله: (فَقُمْت) عطف على: فَقلت. قَوْله: (قَالَ) جَوَاب قَوْله: (فَلَمَّا انجلى) .
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (فَقُمْت) : أَي: حَتَّى لَا أكون مشوشا عَلَيْهِ، أَو قُمْت حَائِلا بَينه وَبينهمْ. قَوْله:(فَلَمَّا انجلى) أَي: فحين انْكَشَفَ الكرب الَّذِي كَانَ يتغشاه حَال الْوَحْي، قَالَ:{ويسألونك عَن الرّوح} (الْإِسْرَاء: 85) وسؤالهم عَن الرّوح بقَوْلهمْ: مَا الرّوح؟ مُشكل إِذْ لَا يعلم
مُرَادهم، لِأَن الرّوح جَاءَ فِي الْقُرْآن على معَان. قَالَ الله تَعَالَى:{نزل بِهِ الرّوح الْأمين} (الشُّعَرَاء: 193) وَقَالَ: {تنزل الْمَلَائِكَة وَالروح فِيهَا} (الْقدر: 4) وَقَالَ: {روحا من أمرنَا} (الشورى: 52){يَوْم يقوم الرّوح} (النبإ: 38) فَلَو عينوا سُؤَالهمْ لأمكنه أَن يُجِيبهُمْ. قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَيُمكن أَن يكون سُؤَالهمْ عَن روح بني آدم، لِأَنَّهُ مَذْكُور فِي التَّوْرَاة أَنه لَا يُعلمهُ: إِلَّا الله. وَقَالَت الْيَهُود: إِن فسر الرّوح فَلَيْسَ بِنَبِي، فَلذَلِك لم يجبهم. قَالَ عِيَاض وَغَيره: اخْتلف الْمُفَسِّرُونَ فِي الرّوح المسؤول عَنْهَا، فَقيل: سَأَلُوهُ عَن عِيسَى، عليه الصلاة والسلام. فَقَالَ لَهُم: الرّوح من أَمر الله، يَعْنِي: إِنَّمَا هُوَ شَيْء من أَمر الله تَعَالَى، كَمَا تَقول النَّصَارَى، وَكَانَ ابْن عَبَّاس يكتم تَفْسِير الرّوح. وَعَن ابْن عَبَّاس وَعلي رضي الله عنهم: هُوَ ملك من الْمَلَائِكَة يقوم صفا، وَتقوم الْمَلَائِكَة صفا. قَالَ تَعَالَى:{يَوْم يقوم الرّوح وَالْمَلَائِكَة صفا} (النبإ: 38) وَقيل: جِبْرَائِيل، عليه السلام وَقيل: الْقُرْآن، لقَوْله تَعَالَى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَينَا إِلَيْك روحا من أمرنَا} (الشورى: 52) وَقَالَ أَبُو صَالح: هُوَ خلق كخلق بني آدم لَيْسُوا ببني آدم لَهُم أيد وأرجل. وَقيل: طَائِفَة من الْخلق لَا ينزل ملك إِلَى الأَرْض إلَاّ نزل مَعَه أحدهم. وَقيل: ملك لَهُ أحد عشر ألف جنَاح وَألف وَجه يسبح الله تَعَالَى إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَقيل: علم الله أَن الْأَصْلَح لَهُم أَن لَا يُخْبِرهُمْ مَا هُوَ، لِأَن الْيَهُود قَالُوا: إِن فسر الرّوح فَلَيْسَ بِنَبِي، وَهَذَا معنى قَوْله:(لَا تسألوه لَا يَجِيء فِيهِ بِشَيْء تكرهونه) ، فقد جَاءَهُم بذلك لِأَن عِنْدهم فِي التَّوْرَاة كَمَا ذكره لَهُم أَنه من أَمر الله تَعَالَى، لن يطلع عَلَيْهِ أحد. وَذكر ابْن إِسْحَاق أَن نَفرا من الْيَهُود قَالُوا: يَا مُحَمَّد {أخبرنَا عَن أَربع نَسْأَلك عَنْهُن
…
وَذكر الحَدِيث، وَفِيه:(فَقَالُوا يَا مُحَمَّد} أخبرنَا عَن الرّوح. قَالَ: أنْشدكُمْ بِاللَّه هَل تعلمُونَ جِبْرَائِيل، عليه الصلاة والسلام، وَهُوَ الَّذِي يأتيني؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نعم، وَلكنه يَا مُحَمَّد هُوَ لنا عَدو وَهُوَ ملك يَأْتِي بالشدة وَسَفك الدِّمَاء، وَلَوْلَا ذَلِك لاتبعناك. فَأنْزل الله تَعَالَى: {من كَانَ عدوا لجبريل} (الْبَقَرَة: 97) قَالَ بَعضهم: هَذَا يدل على أَن سُؤَالهمْ عَن الرّوح الَّذِي هُوَ جِبْرِيل، وَالله أعلم.
وَأما روح بني آدم فَقَالَ الْمَازرِيّ: الْكَلَام على الرّوح مِمَّا يدق، وَقد ألفت فِيهِ التآليف، وأشهرها مَا قَالَه الْأَشْعَرِيّ: إِنَّه النَّفس الدَّاخِل وَالْخَارِج. وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر: هُوَ مُتَرَدّد بَين مَا قَالَه الْأَشْعَرِيّ وَبَين الْحَيَاة. وَقيل: جسم مشارك للأجسام الظَّاهِرَة والأعضاء الظَّاهِرَة. وَقيل: جسم لطيف خلقه الْبَارِي سُبْحَانَهُ، وأجرى الْعَادة بِأَن الْحَيَاة لَا تكون مَعَ فَقده فَإِذا شَاءَ الله مَوته أعدم هَذَا الْجِسْم مِنْهُ عِنْد انعدام الْحَيَاة، وَهَذَا الْجِسْم وَإِن كَانَ حَيا فَلَا يحيى إِلَّا بحياة تخْتَص بِهِ، وَهُوَ مِمَّا يَصح عَلَيْهِ الْبلُوغ إِلَى جسمٍ مَا من الْأَجْسَام، وَيكون فِي مَكَان فِي الْعَالم، أَو فِي حواصل طير خضر إِلَى غير ذَلِك مِمَّا وَقع فِي الظَّوَاهِر، إِلَى غَيره من جَوَاهِر الْقلب، والجسم الْحَيَاة. وَقَالَ غَيرهمَا: هُوَ الدَّم. وَقد ذكر بَعضهم فِي الرّوح سبعين قولا.
وَاخْتلف هَل الرّوح وَالنَّفس وَاحِد أم لَا؟ وَالأَصَح أَنَّهُمَا متغايران، فَإِن النَّفس الإنسانية هِيَ الْأَمر الَّذِي يُشِير إِلَيْهِ كل وَاحِد منا بقوله: أَنا، وَأكْثر الفلاسفة لم يفرقُوا بَينهمَا. قَالُوا: النَّفس هُوَ الْجَوْهَر البُخَارِيّ اللَّطِيف الْحَامِل لقُوَّة الْحَيَاة والحس وَالْحَرَكَة الإرادية، ويسمونها: الرّوح الحيوانية، وَهِي الْوَاسِطَة بَين الْقلب الَّذِي هُوَ النَّفس الناطقة،، وَبَين الْبدن. وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء وَالْغَزالِيّ: النَّفس مُجَرّدَة، أَي: غير جسم وَلَا جسماني. وَقَالَ الْغَزالِيّ: الرّوح جَوْهَر مُحدث قَائِم بِنَفسِهِ غير متحيز، وَإنَّهُ لَيْسَ بداخل الْجِسْم وَلَا خَارِجا عَنهُ، وَلَيْسَ مُتَّصِلا بِهِ وَلَا مُنْفَصِلا عَنهُ، وَذَلِكَ لعدم التحيز الَّذِي هُوَ شَرط الْكَوْن فِي الْجِهَات، وَاعْترض عَلَيْهِ بِوُجُوه قد عرفت فِي موضعهَا. وَقيل: الرّوح عرض لِأَنَّهُ لَو كَانَ جوهرا، والجواهر مُتَسَاوِيَة فِي الجوهرية، للَزِمَ أَن يكون للروح روح آخر وَهُوَ فَاسد. وَقيل: إِنَّه جَوْهَر فَرد متحيز وَإنَّهُ خلاف الْحَيَاة الْقَائِمَة بالجسم الحيواني، وَإنَّهُ حَامِل للصفات المعنوية. وَقيل: إِنَّه صُورَة لَطِيفَة على صُورَة الْجِسْم لَهَا عينان وأذنان ويدان ورجلان فِي دَاخل الْجِسْم يُقَابل كل جُزْء مِنْهُ عُضْو نَظِيره من الْبدن وَهُوَ خيال. وَقيل: إِنَّه جسم لطيف فِي الْبدن سَار فِيهِ سريان مَاء الْورْد فِيهِ، وَعَلِيهِ اعْتمد عَامَّة الْمُتَكَلِّمين من أهل السّنة.
وَقد كثر الِاخْتِلَاف فِي أَمر الرّوح بَين الْحُكَمَاء وَالْعُلَمَاء الْمُتَقَدِّمين قَدِيما وحديثا، وأطلقوا أَعِنَّة النّظر فِي شَرحه، وخاضوا فِي غَمَرَات ماهيته، فأكثرهم تاهوا فِي التيه، فالأكثرون مِنْهُم على أَن الله تَعَالَى أبهم علم الرّوح على الْخلق واستأثره لنَفسِهِ حَتَّى قَالُوا: إِن النَّبِي صلى الله عليه وسلم لم يكن عَالما بِهِ. قلت: جلّ منصب النَّبِي صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ حبيب الله وَسيد خلقه، أَن يكون غير عَالم بِالروحِ، وَكَيف وَقد منَّ الله عَلَيْهِ بقوله:{وعلمك مَا لم تكن تعلم وَكَانَ فضل الله عَلَيْك عَظِيما} (النِّسَاء: 113) . وَقد قَالَ أَكثر الْعلمَاء: لَيْسَ فِي الْآيَة دَلِيل على أَن الرّوح لَا يعلم وَلَا على أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلمهَا.
قَوْله: (قَالَ الْأَعْمَش) أَي: سُلَيْمَان بن مهْرَان. قَوْله: (هَكَذَا فِي قراءتنا) رِوَايَة الْكشميهني وَفِي رِوَايَة غَيره: كَذَا فِي قراءتنا، يَعْنِي أُوتُوا بِصِيغَة الْغَائِب، وَلَيْسَت هَذِه
الْقِرَاءَة فِي السَّبْعَة وَلَا فِي الْمَشْهُورَة فِي غَيرهَا، وَقد أغفلها أَبُو عبيد فِي كتاب الْقرَاءَات لَهُ من قِرَاءَة الْأَعْمَش. وَقَالَ النَّوَوِيّ: أَكثر نسخ البُخَارِيّ وَمُسلم: وَمَا أُوتُوا. وَذكر مُسلم الِاخْتِلَاف فِي هَذِه اللَّفْظَة عَن الْأَعْمَش، فَرَوَاهُ وَكِيع على الْقِرَاءَة الْمَشْهُورَة. وَرَوَاهُ عِيسَى بن يُونُس عَنهُ: وَمَا أُوتُوا. قَالَ القَاضِي عِيَاض: اخْتلف المحدثون فِيمَا وَقع من ذَلِك، فَذهب بَعضهم إِلَى أَن الْإِصْلَاح على الصَّوَاب، وَاحْتج أَنه إِنَّمَا قصد بِهِ الِاسْتِدْلَال على مَا سيقت بِسَبَبِهِ، وَلَا حجَّة إلَاّ فِي الصَّحِيح الثَّابِت فِي الْمُصحف. وَقَالَ قوم: تتْرك على حَالهَا وينبه عَلَيْهَا، لِأَن من الْبعيد خَفَاء ذَلِك على الْمُؤلف وَمن نقل عَنهُ وهلم جرا، فلعلها قِرَاءَة شَاذَّة. قَالَ عِيَاض: هَذَا لَيْسَ بِشَيْء لِأَنَّهُ لَا يحْتَج بِهِ فِي حكم وَلَا يقْرَأ فِي صَلَاة. قَالَ: وَاخْتلف أَصْحَاب الْأُصُول فِيمَا نقل آحادا، وَمِنْه الْقِرَاءَة الشاذة كمصحف ابْن مَسْعُود وَغَيره، هَل هُوَ حجَّة أم لَا؟ فنفاه الشَّافِعِي، وأثبته أَبُو حنيفَة وَبنى عَلَيْهِ وجوب التَّتَابُع فِي صَوْم كَفَّارَة الْيَمين بِمَا نقل عَن مصحف ابْن مَسْعُود من قَوْله:(ثَلَاث أَيَّام مُتَتَابِعَات) . وَبقول الشَّافِعِي قَالَ الْجُمْهُور، وَاسْتَدَلُّوا بِأَن الرَّاوِي لَهُ إِن ذكره على أَنه قُرْآن فخطأ وإلَاّ فَهُوَ مُتَرَدّد بَين أَن يكون خَبرا أَو مذهبا لَهُ، فَلَا يكون حجَّة بِالِاحْتِمَالِ وَلَا خَبرا، لِأَن الْخَبَر مَا صرح الرَّاوِي فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم، فَيحمل على أَنه مَذْهَب لَهُ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة، إِذا لم يثبت كَونه قُرْآنًا فَلَا أقل من كَونه خَبرا. وَقَالَ الْغَزالِيّ وَالْفَخْر الرَّازِيّ: خبر الْوَاحِد لَا دَلِيل على كَونه كذبا، وَهَذَا خطأ قطعا، وَالْخَبَر الْمَقْطُوع بكذبه لَا يجوز أَن يعْمل بِهِ، وَنَقله قُرْآنًا خطأ. قلت: لَا نسلم أَن هَذَا خطأ قطعا، لِأَنَّهُ خبر صَحَابِيّ أَو خبر عَنهُ، وَأي دَلِيل قَامَ على أَنه خبر مَقْطُوع بكذبه، وَقَول الصَّحَابِيّ حجَّة عِنْده؟ .
48 -
بابُ مَنْ تَرَكَ بَعْضَ الإِخْتِيَارِ مَخَافَةَ أنْ يَقْصُرَ فَهْمُ بَعْض النَّاسِ عَنْهُ فَيقعُوا فِي أشَدَّ مِنْهُ
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من ترك
…
الخ. وَكلمَة: من، مَوْصُولَة، وَأَرَادَ بِالِاخْتِيَارِ: الْمُخْتَار، وَالْمعْنَى: من ترك فعل الشَّيْء الْمُخْتَار أَو الْإِعْلَام بِهِ، و: مَخَافَة، نصب على التَّعْلِيل أَي لأجل خوف أَن يقصر. و: أَن، مَصْدَرِيَّة فِي مَحل الْجَرّ بِالْإِضَافَة، و: فهم بعض النَّاس، بِالرَّفْع فَاعل يقصر. قَوْله:(فيقعوا) عطف على قَوْله: (يقصر)، فَلذَلِك سقط مِنْهُ النُّون عَلامَة للنصب. قَوْله:(فِي أَشد مِنْهُ) أَي من ترك الِاخْتِيَار، وَفِي بعض النّسخ:(فِي أشر مِنْهُ) وَفِي بَعْضهَا: (فِي شَرّ مِنْهُ) .
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول ترك الْجَواب للسَّائِل لحكمة اقْتَضَت ذَلِك، وَهَهُنَا أَيْضا ترك بعض الْمُخْتَار لحكمة اقْتَضَت ذَلِك، وَهُوَ أَن بِنَاء الْكَعْبَة كَانَ جَائِزا، وَلكنه ترك إِعْلَام جَوَازه لكَوْنهم قريب الْعَهْد بالْكفْر، فخشي أَن تنكر ذَلِك قُلُوبهم، فَتَركه.
67 -
(حَدثنَا عبيد الله بن مُوسَى عَن إِسْرَائِيل عَن أبي إِسْحَاق عَن الْأسود قَالَ قَالَ لي ابْن الزبير كَانَت عَائِشَة تسر إِلَيْك كثيرا فَمَا حدثتك فِي الْكَعْبَة قلت قَالَت لي قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَا عَائِشَة لَوْلَا قَوْمك حَدِيث عَهدهم قَالَ ابْن الزبير بِكفْر لنقضت الْكَعْبَة فَجعلت لَهَا بَابَيْنِ بَاب يدْخل النَّاس وَبَاب يخرجُون فَفعله ابْن الزبير الحَدِيث مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة من جِهَة الْمَعْنى وَهُوَ أَنه صلى الله عليه وسلم ترك نقض الْكَعْبَة الَّذِي هُوَ الِاخْتِيَار مَخَافَة أَن تَتَغَيَّر عَلَيْهِ قُرَيْش لأَنهم كَانُوا يعظمونها جدا فيقعون بِسَبَب ذَلِك فِي أَمر أَشد من ذَلِك الِاخْتِيَار (بَيَان رِجَاله) وهم سِتَّة تقدم ذكرهم مَا خلا إِسْرَائِيل وَالْأسود أما إِسْرَائِيل فَهُوَ ابْن يُونُس بن أبي اسحق السبيعِي الْهَمدَانِي الْكُوفِي أَبُو يُوسُف قَالَ أَحْمد كَانَ شَيخا ثِقَة وَجعل يتعجب من حفظه سمع جده أَبَا إِسْحَق عَمْرو بن عبد الله السبيعِي بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة نِسْبَة إِلَى سبيع ابْن سبع بن صَعب بن مُعَاوِيَة بن كثير بن مَالك بن جشم بن حاشد ولد إِسْرَائِيل فِي سنة مائَة وَمَات فِي سنة سِتِّينَ وَمِائَة وَأما الْأسود فَهُوَ ابْن يزِيد بن قيس النَّخعِيّ خَال إِبْرَاهِيم أدْرك زمن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَلم يره مَاتَ سنة خمس وَسبعين بِالْكُوفَةِ سَافر ثَمَانِينَ حجَّة وَعمرَة وَلم يجمع بَينهمَا وَكَذَا ابْنه عبد الرَّحْمَن بن الْأسود سَافر ثَمَانِينَ حجَّة وَعمرَة وَلم يجمع بَينهمَا قَالَ ابْن قُتَيْبَة كَانَ يَقُول فِي تلبيته لبيْك أَنا الْحَاج ابْن الْحَاج وَكَانَ يُصَلِّي كل يَوْم سَبْعمِائة رَكْعَة وَصَارَ عظما وجلدا وَكَانُوا يسمون آل الْأسود أهل الْجنَّة مَاتَ سنة خمس وَتِسْعين روى لَهُ الْجَمَاعَة وَفِي الصَّحِيحَيْنِ الْأسود جمَاعَة غير هَذَا مِنْهُم الْأسود بن عَامر شَاذان.
(بَيَان لطائف إِسْنَاده) وَمِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا أَن رُوَاته إِلَى الْأسود كوفيون. وَمِنْهَا أَن فِيهِ صحابيين والْحَدِيث دائر بَينهمَا (بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْحَج وَفِي التَّمَنِّي عَن مُسَدّد عَن أبي الْأَحْوَص. وَمُسلم فِي الْحَج عَن سعيد بن مَنْصُور عَن أبي الْأَحْوَص وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن عبيد الله بن مُوسَى عَن شَيبَان كِلَاهُمَا عَن أَشْعَث بن أبي الشعْثَاء عَن الْأسود عَن عَائِشَة. وَأخرجه ابْن ماجة فِي الْحَج عَن أبي بكر بن أبي شيبَة بِهِ. وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا من حَدِيث عُرْوَة وَحَدِيث عبد الله بن الزبير وَفِيه سَمِعت عَائِشَة رضي الله عنها. وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِيمَا انْفَرد بِهِ أَن عبد الْملك بن مَرْوَان بَيْنَمَا هُوَ يطوف بِالْبَيْتِ قَالَ قَاتل الله ابْن الزبير حَيْثُ يكذب على أم الْمُؤمنِينَ يَقُول سَمعتهَا تَقول قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَا عَائِشَة لَوْلَا حدثان قَوْمك بالْكفْر لنقضت الْبَيْت حَتَّى أَزِيد فِيهِ من الْحجر فَإِن قَوْمك اقتصروا فِي الْبناء فَقَالَ الْحَارِث بن عبد الله ابْن أبي ربيعَة لَا تقل هَذَا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنِّي سَمعتهَا تحدث بِهَذَا قَالَ لَو كنت سمعته قبل أَن أهدمه لتركته على بِنَاء ابْن الزبير (بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب) قَوْله تسر من الْإِسْرَار خلاف الإعلان فَإِن قلت قَوْله كَانَت للماضي وتسر للمضارع فَكيف اجْتمعَا قلت تسر بِمَعْنى أسررت وَذكر بِلَفْظ الْمُضَارع استحضارا لصورة الْإِسْرَار وَهُوَ جملَة فِي مَحل النصب لِأَنَّهَا خبر كَانَت قَوْله كثيرا نصب على أَنه صفة لمصدر مَحْذُوف اي إسرارا كثيرا قَوْله مَا حدثتك كلمة مَا استفهامية فِي مَحل الرّفْع على الِابْتِدَاء وحدثتك جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَهُوَ الضَّمِير الَّذِي فِيهِ الرَّاجِع إِلَى عَائِشَة وَالْمَفْعُول هُوَ الْكَاف وَهِي أَيْضا فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر الْمُبْتَدَأ قَوْله فِي الْكَعْبَة أَي فِي شَأْن الْكَعْبَة واشتقاقها من الكعوب وَهُوَ النُّشُوز وَهِي أَيْضا نَاشِرَة من الأَرْض وَقَالَ الْجَوْهَرِي سميت بذلك لتربيعها يُقَال برد مكعب أَي فِيهِ وشى مربع قَوْله قلت قائلة الْأسود وَقَوله قَالَت لي مقول القَوْل قَوْله لَوْلَا قَوْمك كلمة لَوْلَا هَهُنَا لربط امْتنَاع الثَّانِيَة بِوُجُود الأولى نَحْو لَوْلَا زيد لأكرمتك أَي لَوْلَا زيد مَوْجُود لأكرمتك وَقَوله قَوْمك كَلَام إضافي مُبْتَدأ وَقَوله حَدِيث عَهدهم خبر الْمُبْتَدَأ فَإِن قلت قَالَت النُّحَاة يجب كَون خبر لَوْلَا كونا مُطلقًا محذوفا فَمَا باله هَهُنَا لم يحذف قلت إِنَّمَا يجب الْحَذف إِذا كَانَ الْخَبَر عَاما وَإِمَّا إِذا كَانَ خَاصّا فَلَا يجب حذفه قَالَ الشَّاعِر
(وَلَوْلَا الشّعْر بالعلماء يزري
…
لَكُنْت الْيَوْم أشعر من لبيد)
وَقَوله حَدِيث بِالتَّنْوِينِ وَعَهْدهمْ كَلَام إضافي مَرْفُوع بِإِسْنَاد حَدِيث إِلَيْهِ لِأَن حَدِيثا صفة مشبهة وَهُوَ أَيْضا يعْمل عمل فعله وَفِي بعض النّسخ لَوْلَا أَن قَوْمك بِزِيَادَة أَن وَلَيْسَ بِمَشْهُور قَوْله قَالَ ابْن الزبير جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل قَوْله بِكفْر يتَعَلَّق بقوله حَدِيث عَهدهم وَلكنه من كَلَام ابْن الزبير قَوْله لنقضت الْكَعْبَة جَوَاب لَوْلَا قَوْله فَجعلت عطف على نقضت قَوْله بَاب يجوز فِيهِ الْوَجْهَانِ أَحدهمَا النصب على أَنه بدل أَو بَيَان لبابين وَهُوَ رِوَايَة أبي ذَر فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَالْآخر رفع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره أَحدهمَا بَاب قَوْله يدْخل النَّاس جملَة وَقعت صفة لباب وَضمير الْمَفْعُول مَحْذُوف تَقْدِيره يدْخلهُ النَّاس وَفِي بعض النّسخ يدْخل النَّاس مِنْهُ فعلى هَذَا لَا يقدر شَيْء وَكَذَا يخرجُون مِنْهُ فِي بعض النّسخ. (بَيَان الْمعَانِي) قَوْله قَالَ ابْن الزبير وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ فَقَالَ ابْن الزبير بِكفْر أَرَادَ أَنه أذكرهُ ابْن الزبير بقولِهَا بِكفْر كَأَن الْأسود نسي ذَلِك وَأما مَا بعْدهَا وَهُوَ قَوْله لنقضت إِلَى آخِره فَيحْتَمل أَن يكون مِمَّا نسي أَيْضا أَو مِمَّا ذكر وَقد رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من طَرِيق شُعْبَة عَن أبي إِسْحَاق عَن الْأسود بِتَمَامِهِ إِلَّا قَوْله بِكفْر فَقَالَ بدلهَا بجاهلية وَكَذَا البُخَارِيّ فِي الْحَج من طَرِيق أُخْرَى عَن الْأسود وَرَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق زُهَيْر بن مُعَاوِيَة عَن أبي إِسْحَاق وَلَفظه قلت حَدَّثتنِي حَدِيثا حفظت أَوله ونسيت آخِره ورجحها الْإِسْمَاعِيلِيّ على رِوَايَة إِسْرَائِيل وعَلى قَوْله يكون فِي رِوَايَة شُعْبَة أدراج وَقَالَ الْكرْمَانِي فِي قَوْله قَالَ ابْن الزبير فَإِن قلت هَذَا الْكَلَام لَا دخل لَهُ فِي الْبَيَان لصِحَّة أَن يُقَال لَوْلَا قَوْمك حَدِيث عَهدهم بِكفْر لنقضت بل ذكره مخل لعدم انضباط الْكَلَام مَعَه قلت لَيْسَ مخلا إِذْ غَرَض الْأسود إِنِّي كَمَا وصلت إِلَى لفظ عَهدهم فسر ابْن الزبير الحداثة بالحداثة إِلَى الْكفْر فَيكون لفظ بِكفْر فَقَط من كَلَام ابْن الزبير وَالْبَاقِي