الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مُعيَّنَاً؛ فهو مُخْطِئٌ خطَأً فاحِشَاً قَبيحَاً
…
إلخ).
(1)
صدقاتُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وما خلَّفَه:
قال القاضى عياض المالكي (ت 544 هـ) رحمه الله: (تفسير صدقات النبى صلى الله عليه وسلم للمذكور فى هذه للأحاديث، وذلك أن صدقاته التي تخلفها صلى الله عليه وسلم تصيَّرت إليه بثلاثة حقوق:
أحدها: ما وهبه النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك في وصية مخيريق اليهودي
(2)
عند إسلامه يوم أُحد، وكانت سبعة حوائط فى بني النضير، وما أعطاه الأنصار من أراضيهم، وذلك ما لم يبلغه الماء، وكان منه موضع بسوق المدينة، وكان هذا ملكاً له صلى الله عليه وسلم.
ومن هذا ـ والله أعلم ـ أقطع الزبير بالمدينة ما جاء من مال بني النضير ـ واللَّهُ أعلم ـ إذْ لا يقطع إلا ما يملك لا ملك غيره.
(1)
«رفع الملام عن الأئمة الأعلام» ـ ط. دار الإفتاء ـ (ص 8). وقد نقله تلميذه ابن القيم في «الصواعق المرسلة» (2/ 542)، وانظر أيضاً:«الصواعق المرسلة» (2/ 520)، وفي بعض المسائل التي خفيت على كبار الصحابة رضي الله عنهم:«إعلام الموقعين» ـ ط. دار ابن الجوزي ـ (4/ 19).
(2)
كذا في المطبوعة، والمراد: ما وهبَهُ مخيريق اليهوديُّ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم.
الثاني: حقه من الفئ من سائر أرض بني النضير حين أجلاهم، كانت له خاصة؛ لأنه لم يُوجف عليها بخيل ولا ركاب، وقسَّم بين المسلمين أموالهم إلا ما حملته الإبل غير السلاح، حسبما كان وافقهم عليه عند إجلائهم، وحبس الأرض لنفسه ولنوائب المسلمين.
وكذلك نصف أرض فدك، صالح أهلها بعد خيبر على نصفها، فكان خالصاً لها.
وكذلك ثلث أرض وادى القرى، أخذه فى الصلح مع يهود أهلها، وكان لهم ثلثا الأرض.
وكذلك حصنان من حصون خيبر: الوطيح، والسلالم، أخذهما صلحاً على أن إجلاء من فيه عنهما.
الثالث: سهم من خمس خيبر وما افتتح منها عنوة، وهو حصن الكتيبة، كان من خمس الغنيمة منها، واقتسم الناس سائر ما أخذه منها عنوة.
قال أكثرهم: فكان هذا خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم لم يستأثر به، وصرفه في مصالح المسلمين بعد إخراج حاجته وحاجة عياله وآله، ووضع ذلك حيث شاء مما فيه المنفعة للمسلمين.
وكافة العلماء على أنها صدقات محرمات التمليك بعده.
فأما ما كان من ذلك بالمدينة من أموال بني النضير ووصيته مخيريق في
جملتها، فهي التي وضع عمرُ العباسَ وعلياً رضي الله عنهم ليقوما عليها ويصرفاها في مصالح بني هاشم، وأما ما عداها فأمسكها عمر عنهما لنوائب المسلمين، وصرفها في المصالح التي كان صلى الله عليه وسلم يصرف بقية صدقاته فيها.
وأما أبو بكر رضي الله عنه فكان يرى أنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم القائم مقامه في جميع ذلك، ففعل ما كان يفعل في مصالح قرابته وغيرهم،
…
ولم يَرَ إخراجَ ذلك عن نظره
…
).
(1)
قال ابن حجر العسقلاني رحمه الله بعد بيانها: (وقد ظهر بهذا أن صدقة النبي صلى الله عليه وسلم تختص بما كان من بني النضير، وأما سهمه من «خيبر» و «فدك» ، فكان حكمُه إلى من يقوم بالأمر بعده.
وكان أبو بكر يُقدِّم نفقة نساء النبي صلى الله عليه وسلم وغيرها مما
(1)
«إكمال المعلم بفوائد مسلم» للقاضي عياض (6/ 87 ـ 88)، وعنه: القرطبي في
…
«المفهم» (3/ 567).
وانظر بحثاً مطولاً عن صدقات النبي وأمواله صلى الله عليه وسلم في كتاب: «تركة النبي صلى الله عليه وسلم والسبل التي وجهها فيها» لأبي إسماعيل حماد بن إسحاق الأزدي البغدادي المالكي (ت 267 هـ)، و «فتح الباري» لابن حجر (6/ 203)، وانظر:«أوجز السير لخير البشر صلى الله عليه وسلم» لابن فارس (ص 99).
كان يَصرِفُه؛ فيصرفه من «خيبر» و «فدك» ، وما فضُل من ذلك جعلَه في المصالح.
وعمِل عمرُ بعده بذلك، فلما كان عثمان تَصَرَّف في «فدك» بحسب ما رآه
…
).
(1)
قال أبو إسماعيل حماد بن إسحاق الأزدي البغدادي (ت 267 هـ) رحمه الله: في كلام طويل مُفحِم للخصم، تحدَّثَ فيه عن صدقات النبي صلى الله عليه وسلم، وأنها صدقة لا ملك له، وأبطل إقطاعه فاطمة فدكاً
(2)
، وبيَّنَ أنه صلى الله عليه وسلم كان زاهداً راغباً عن الدنيا فكيف يحوز الأموال الطائلة، ويموت وهي في مُلكِه؟ !
ومن كلامه رحمه الله: (ولم يَستَأثرْ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بشيءٍ من الأموال، ولا اعتقدَ ذلك لنفسِهِ، ولا لابنتِه عليهما السلام، بل كان قصدُه لأمْرِ الآخرة، والزهدِ في الدنيا، ورفضِهَا والإعراضِ عنها.
وكذلك كان اختيارُه لفاطمةَ عليها السلام تركَ الدُّنيا والزهدَ فيها، حتى لم يُعطِهَا خادِمَاً من السَّبْيِّ الذي أتاه، مع ما شكَتْ هِيَ وعَليٌّ عليهما السلام من شِدَّة الحاجَة إلى ذلك؛ ووَكَلَهُمْ إلى التسبيح والتحميد والتكبير، وأن ذلك خيرٌ
(1)
«فتح الباري» لابن حجر (6/ 203).
(2)
سبق بيان هذه المسألة في المبحث الرابع.
لهما من الخادم، وأنَّ أمرَ الآخرة أولى بهما من الدنيا.
وامتنعَ مِن الدخول إليها حين قدم من تبوك ـ وقد بدأَ بها كما كان يفعل إذا قدِمَ مِن سَفَرٍ ـ مِن أجل مُقَيْنِعَة صبغَتْهَا بشيء من زعفران، وسِتْرٍ اتخذَتْهُ وبِسَاطٍ، حتَّى نزعَتْ ذلك، ولَبِسَتْ أطمارَها؛ فدَخَلَ إليها، وقال:«كذلك كوني فداك أبي وأمي» .
وامتنعَ في الحديث الآخر من الدخول إليها من أجل مَسْحٍ أو سِتْرٍ وقُلْبَيْنِ من فِضَّةٍ حلَّتْ بهما الحسن والحسين، وفَجَعَهُمَا بهما وهما يبكيان على القُلْبَيْن، وبَعث بذلك إلى أهل بيتٍ بالمدينة وقال:«إنَّ هؤلاء أهل بيتي، أكرَهُ أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا، يا ثوبان، اشتَرْ لفاطمة قلادة من عَصبٍ وسِوَارَين من عَاج» .
(1)
فكيف يمنعُهَا القليلَ الحقِيرَ مِن أمرِ الدنيا، ولا يرضاه لها، ويقطعُهَا فَدَكَ؟ !
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الله عز وجل أن يجعلَ رِزْقَ آل محمد قُوْتَاً، فكيف كانت هذه دعوتُه ومسألتُه ربَّه لهم، ويزعم هؤلاء أنه اتَّخَذَ الأموال الجليلة لنفسِه وابنتِه؟ !
وقد برأه الله عز وجل من ذلك، فأعرضَ عن الدنيا، فلم يلْتَفِتْ إليها
(1)
سيأتي تخريجه في الحديث رقم (78).
حتَّى لَقِيَ الله عز وجل.
فهذه كانت سبيلُ رسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في أهلِه: الزهدَ في الدنيا، والقصدَ لأَمْرِ الآخرة؛ وبه نزَلَ القرآن في أمرِ أزواجِهِ قال الله عز وجل:
…
{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ
…
تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} (سورة الأحزاب، آية 29) فخيَّرَهُنَّ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في ذلك، وبدأَ بعائشة، فاختَرْنَ اللَّهَ ورسولَه، والدارَ الآخرة.
فهذا كانَ مذهبُهُ صلى الله عليه وسلم في نفسِهِ وأهلِهِ، وقد بيَّنَاه مِن
…
كتابِ اللَّهِ عز وجل، ومن الروايةِ عن رسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
ولو كان أقطعَهَا فدَك كما ذكروا، لكانت من أيسرِ امرأةٍ في العَرَب؛ لجلالَةِ قدْرِهَا، وكثَرَةِ ثمَنِهَا، فقد كانت قيمتُهَا القيمةَ الجليلة التي لم يمْلِكْ حجازِيٌّ ما يُقَارِبَها.
وكذلك ادَّعَوا أيضاً في سائر الأموال التي أفاءَها اللَّهُ على رسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ ملَكَهَا لنفسِهِ، حتَّى خلَّفَهَا مِيراثَاً، ولم يجعَلْهَا صَدَقَةً! ! طعنَاً منهم على أئمة السلَف! فلَو كان الأمرُ على ما ذكروا؛ لم يكُن فيهِم أكثرَ أموَالاً، ولا أعظَمَ مُلْكَاً مِنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وابنتِهِ فاطمةَ عليها السلام، وقد برَّأَهُ الله وابنتَهُ صلى الله عليه وسلم مِن ذلك؛ وكان أزهدَ الناسِ في الدنيا حتَّى لَقِيَ اللهَ عز وجل، حتَّى كان ينالُه ما ينالُه مِن سهَرِ الليل، والغَمِّ،
والاهتمام، في أُوقِيَّةٍ تبقَى عنده، ويقول:«هذه التي فعَلَتْ ما تَرَيْنَ يا عائشة، إنِّي خشيتُ أن يَحدُثَ أمرٌ مِن أمرِ الله، ولم أُمْضِهَا» .
ويقول لبلال في أوقيتين، أو أوقية ونصف فضُلَتْ عندَه:«انظُر أنْ تُريحَنِي منها، فإني لستُ داخِلاً على أحَدٍ مِن أهلي حتَّى تُريحَنِي منه» .
وأقام في المسجد يومين وليلة لا يدخل منزلاً حتَّى أنفذَهَا بلال، فكبَّر وحمِدَ اللهَ؛ شفَقَاً من أن يُدرِكَهُ الموتُ وعنده ذلك، ثمَّ دخلَ إلى أزواجه ويقول صلى الله عليه وسلم:«ما يَسُرُّنِي أنَّ أحداً تحول لآل محمدٍ ذهبَاً أُنفِقُهُ في سبيل الله، أموتُ يومَ أمُوتُ وأدعُ منه دينَارَين، إلا دينارَين أُعدُّهُمَا لِدَيْنٍ إنْ كان» .
وإذ كان رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لا يسرُّه أنْ ينفِقَ مثلَ أُحُدٍ ذهبَاً في سبيل الله، والحسنةُ في سبيل اللَّهِ بسبعِ مئةِ ضِعْفٍ قال الله عز وجل:
…
{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ
…
حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ
…
سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ
…
لِمَنْ يَشَاءُ} (سورة البقرة، آية 261) على أن يبقى له من ذلك ديناران إلا لغريم، فكيف يحوز الأموال الكثيرة على ما زعموا لنفسه وابنته؟ ! وهُوَ صلى الله عليه وسلم يقول:«لا تتخذوا الضَّيْعَةَ، فترغبوا في الدنيا» .
ينهاهم عن ذلك ويُقَلِّلُ الدنيا في أعينهم، ويُزَهِّدَهُم فيها، وهي في عينِهِ صلى الله عليه وسلم أقلَّ، وهُوَ فيها أزْهَدُ، ثمَّ يتخِذُ كمَا زعَمُوا هذه الضياعَ الكثيرةَ،
والأموالَ الجليلةَ لنفسِهِ وابنَتِهِ؟ !
وأنه صلى الله عليه وسلم ماتَ، وما تركَ دينارَاً، ولا دِرْهَمَاً، ولا عَبْدَاً، ولا وَلِيْدَةً، ولا شَاةً، ولا بعيرَاً؛ لأنَّ جميعَ ما صَارَ لهُ صلى الله عليه وسلم جعَلَهُ صدَقَةً، كما ثبتت به الرواية التي ذكرنا.
ولَو رَغِبَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا، لَقَبِلَ مِن خَزائنِ الأرْضِ مَا لمْ يُعْطَهُ أحَدٌ قبلَهُ، ولا يُعطَاه أحدٌ بعدَه؛ كما عُرِضَتْ عليه عَلَى أنْ لا يُنْقِصَهُ ذلك مما عندَ اللَّهِ ـ جَلَّ ذِكْرُهُ ـ في الآخرةِ شيئَاً، وجعلَ ذلك لنفسِه وابنَتِهِ وأهْلِهِ، بَلْ قال: يجمع هذا كلَّه لي في الآخرة، وجعلَ لَه بِهِ العِوضَ من ذلك:{جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} (سورة الفرقان، آية 10) ففي هذا أبين الحجة وأوضحها لدفع ما قالوا .. ).
(1)
وقال أيضاً رحمه الله: (فَلْيَتَّقِ الله قومٌ، ولا يحمِلَهُمْ مَا يُريدُونَ مِن الطعنِ عَلى مَنْ تقدَّمَ مِنْ الأئمةِ أنْ يُخرِجَهُمْ ذلكَ إلى الطعنِ عَلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم! ! يُثبِتُوا كما زَعَمُوا بقولهم أنَّه صلى الله عليه وسلم كان نَبيَّاً مَلِكَاً، لا نَبيَّاً زاهِدَاً! لأنه متى ثبتَ قولُهم فيما ذكروا، مما حوَاهُ لنفسهِ، وتركَهُ مِيراثَاً، وأنكروا أنْ يكونَ تركَهُ صدَقَةً، وخرَجَ مِنهُ للَّهِ عز وجل، حتَّى خَلَّفَ خَيبَر مع
(1)
«تركة النبي صلى الله عليه وسلم والسبل التي وجهها فيها» لحماد بن إسحاق (ص 90 ـ 93).
عَظيمِ قدْرِهَا، وأموالَ بني النضير، وهي الحوائطُ السَّبْعُ بالمدينة، لم يُخرِجْ
…
إلى الله عز وجل منه، وأقطعَ ابنَتَهُ فاطمةَ دون جميع المسلمين فَدَكَ معَ كثرتِهِا وجلالَتِهَا! !
فلو كان الأمرُ على ما قالوا أنَّ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وابنتَهُ حازَا جميعَ هذه الأموال لأنفسِهِمَا دونَ جميعِ المسلمين؛ لكان صلى الله عليه وسلم أحَدَ مُلوكِ الدُّنْيَا مِنَ الأنبياء! ! وهُوَ أزْهَدُ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ مِن النَّبِيِّينَ وَالمرْسَلَيْنَ، لا نَعْلَمُ أحدَاً مِن الأنبياء عُرِضَتْ عليه خَزَائنُ الأرضِ عَلى أنْ لا يُنْقَصَهُ ذلك مما عند اللَّهِ عز وجل في الآخرة؛ فَأبَى ذلك، وقال:«بل اجمَعُوهُ لي في الآخرة» غيرَهُ صلى الله عليه وسلم.
ولمْ يزَلْ مُعْرِضَاً عن الدُّنيَا، لا يَعْبَأُ بشيءٍ مِنهَا، حتَّى لَقِيَ اللَّهَ عز وجل، وقد ذكرنَا قليلاً مِن كثيرٍ مِنْ زُهْدِهِ في الدُّنيَا في هذا الكتاب).
(1)
ويحسن هنا إ يراد الحديث الطويل الكافي، الذي تضمن تفصيلات مهمة حول تركة النبي صلى الله عليه وسلم
عَنِ ابنِ شِهَابٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بنِ الحَدَثَانِ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بنُ جُبَيْرٍ، ــ ذَكَرَ لِي ذِكْرَاً مِنْ حَدِيثِهِ ذَلِكَ، فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى مَالِكِ بنِ أَوْسٍ،
(1)
«تركة النبي صلى الله عليه وسلم والسبل التي وجهها فيها» لحماد بن إسحاق (ص 94).
فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ الحَدِيثِ، فَقَالَ مَالِكٌ ــ بَيْنَا أَنَا جَالِسٌ فِي أَهْلِي حِينَ مَتَعَ
(1)
النَّهَارُ، إِذَا رَسُولُ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ يَأْتِينِي، فَقَالَ: أَجِبْ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى عُمَرَ، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى رِمَالِ سَرِيرٍ،
(2)
لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِرَاشٌ، مُتَّكِئٌ عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ جَلَسْتُ، فَقَالَ: يَا مَالِ، إِنَّهُ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ قَوْمِكَ أَهْلُ أَبْيَاتٍ، وَقَدْ أَمَرْتُ فِيهِمْ بِرَضْخٍ
(3)
، فَاقْبِضْهُ فَاقْسِمْهُ بَيْنَهُمْ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، لَوْ أَمَرْتَ بِهِ غَيْرِي، قَالَ: اقْبِضْهُ أَيُّهَا المَرْءُ.
فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَهُ أَتَاهُ حَاجِبُهُ يَرْفَا، فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِي عُثْمَانَ،
…
وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرِ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ يَسْتَأْذِنُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَدَخَلُوا، فَسَلَّمُوا وَجَلَسُوا.
ثُمَّ جَلَسَ يَرْفَا يَسِيرَاً، ثُمَّ قَالَ: هَلْ لَكَ فِي عَلِيٍّ، وَعَبَّاسٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَذِنَ لَهُمَا، فَدَخَلا، فَسَلَّمَا فَجَلَسَا، فَقَالَ عَبَّاسٌ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا، وَهُمَا يَخْتَصِمَانِ فِيمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَالِ بَنِي النَّضِيرِ، فَقَالَ الرَّهْطُ، عُثْمَانُ وَأَصْحَابُهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ اقْضِ بَيْنَهُمَا، وَأَرِحْ
(1)
متَع النهار مُتُوعاً: إذا ارتفع حتى بلغ غاية ارتفاعه، قبل أن يزول. «تهذيب اللغة»
…
(2/ 176)، «مشارق الأنوار» (1/ 372).
(2)
الرمال: ما رمل أي نسج
…
والمراد: أنه كان السرير قد نسج وجهه بالسعف، ولم يكن على السرير وطاء سوى الحصير. «النهاية» (2/ 265).
(3)
العطية القليلة. «النهاية» (2/ 228).
أَحَدَهُمَا مِنَ الآخَرِ.
قَالَ عُمَرُ: تَيْدَكُمْ
(1)
أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«لا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَفْسَهُ؟ قَالَ الرَّهْطُ: قَدْ قَالَ: ذَلِكَ.
فَأَقْبَلَ عُمَرُ عَلَى عَلِيٍّ، وَعَبَّاسٍ، فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا اللَّهَ، أَتَعْلَمَانِ
…
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالا: قَدْ قَالَ ذَلِكَ.
قَالَ عُمَرُ: فَإِنِّي أُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا الأَمْرِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ خَصَّ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الفَيْءِ بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا
…
رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} سورة الحشر: 6
فَكَانَتْ هَذِهِ خَالِصَةً لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وَاللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ، وَلا اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ، قَدْ أَعْطَاكُمُوهَا وَبَثَّهَا فِيكُمْ، حَتَّى بَقِيَ مِنْهَا هَذَا المَالُ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا المَالِ، ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ، فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ، فَعَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ حَيَاتَهُ، أَنْشُدُكُمْ بِالله، هَلْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ.
(1)
أي: على رِسلكم، وهو من التؤدة، كأنه قال: الزموا تؤدتكم. «النهاية» لابن الأثير
…
(1/ 178).
ثُمَّ قَالَ لِعَلِيٍّ، وَعَبَّاسٍ، أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ، هَلْ تَعْلَمَانِ ذَلِكَ؟ قَالَ عُمَرُ: ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا وَلِيُّ
…
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَبَضَهَا أَبُو بَكْرٍ، فَعَمِلَ فِيهَا بِمَا عَمِلَ
…
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَاللَّهُ يَعْلَمُ: إِنَّهُ فِيهَا لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ، ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ، فَكُنْتُ أَنَا وَلِيَّ أَبِي بَكْرٍ، فَقَبَضْتُهَا سَنَتَيْنِ مِنْ إِمَارَتِي، أَعْمَلُ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَا عَمِلَ فِيهَا
…
أَبُو بَكْرٍ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ: إِنِّي فِيهَا لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ.
ثُمَّ جِئْتُمَانِي تُكَلِّمَانِي، وَكَلِمَتُكُمَا وَاحِدَةٌ، وَأَمْرُكُمَا وَاحِدٌ:
جِئْتَنِي يَا عَبَّاسُ، تَسْأَلُنِي نَصِيبَكَ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ.
وَجَاءَنِي هَذَا ــ يُرِيدُ عَلِيَّاً ــ يُرِيدُ نَصِيبَ امْرَأَتِهِ مِنْ أَبِيهَا.
فَقُلْتُ لَكُمَا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» ، فَلَمَّا بَدَا لِي أَنْ أَدْفَعَهُ إِلَيْكُمَا، قُلْتُ: إِنْ شِئْتُمَا دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا، عَلَى أَنَّ عَلَيْكُمَا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ: لَتَعْمَلانِ فِيهَا بِمَا عَمِلَ فِيهَا
…
رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، وَبِمَا عَمِلَ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ، وَبِمَا عَمِلْتُ فِيهَا مُنْذُ وَلِيتُهَا، فَقُلْتُمَا: ادْفَعْهَا إِلَيْنَا، فَبِذَلِكَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا، فَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ، هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْهِمَا بِذَلِكَ؟ قَالَ الرَّهْطُ: نَعَمْ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ، وَعَبَّاسٍ، فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ، هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا بِذَلِكَ؟ قَالا: نَعَمْ.
قَالَ: فَتَلْتَمِسَانِ مِنِّي قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ، فَوَاللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ، لا أَقْضِي فِيهَا قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِنْ عَجَزْتُمَا عَنْهَا فَادْفَعَاهَا إِلَيَّ، فَإِنِّي أَكْفِيكُمَاهَا.
أخرجه: البخاري في «صحيحه» (ص 592)، كتاب فرض الخُمُس، باب فرض الخُمُس، حديث (3094)، واللفظ له، وأخرجه في مواضع أخرى، المطولة منها برقم (4033) و (5358) و (6728) و (7305)، وأخرجه مسلم في «صحيحه» ، (ص 728)، كتاب الجهاد والسِّيَر، حديث (1757)، من طريق الزهري، به.
(1)
وأخرج: أبو داوود في «سننه» (ص 336)، كتاب الخراج، باب في صفايا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأموال، حديث (2972)، ومن طريقه:[البيهقي في «السنن الكبرى» (6/ 301)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (45/ 178)]، البلاذري في «فتوح البلدان» (ص 41)، وابن عبدالبر في «التمهيد» (8/ 169) من طريق جرير بن عبدالحميد، عن المغيرة بن مقسم الضبي، قال: جمع عمر بن عبدالعزيز بني مروان حين استخلف، فقال: إنَّ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كانت له فدك، فكان ينفق منها ويعود
(1)
وانظر متون هذا الحديث وطرُقَه من غالب كتُب السُّنَّة في: «المسند المصنف المعلل» لبشار عواد، وجماعة (22/ 295 ـ 306، و 434).
منها على صغير بني هاشم، ويزوج منها أيمهم، وإن فاطمة سألته أن يجعلها لها فأبى»، فكانت كذلك في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى مضى لسبيله، فلما أنْ وليَ أبو بكر رضي الله عنه عَمِلَ فيها بما عَمِلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في حياتِه حتى مضَى لِسَبيلِه، فلما أنْ وليَ عمر عَمِل فيها بمثل ما عَمِلا حتى مضى لسبيله، ثم أقطعَها مروانُ، ثم صارت لعمرَ بنِ عبدالعزيز.
قال عمر ـ يعني ابنُ عبد العزيز ـ: فرأيتُ أمراً منَعَه رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فاطمةَ عليها السلام، ليس لي بحق، وأنا أُشهِدُكم أني قد رددتها على ما كانت يعني على عَهْدِ رسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قال أبو داود رحمه الله: (ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة، وغَلَّتُه أربعون ألف دينار، وتوفي وغَلَّتُه أربع مئة دينار، ولو بقي لكان أقل).
وهذا أثر صحيح، رجاله ثقات.
قال الخطابي رحمه الله ـ عقب الحديث ـ: (إنما أقطعها مروان في أيام حياة عثمان بن عفان، وكان ذلك مما عابوه وتعلقوا به عليه، وكان تأويله في ذلك ـ واللهُ أعلم ـ ما بلَغَهُ عن رسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم من قوله:«إذا أطعم الله نبياً طُعمة فهي للذي يقوم من بعده» .
وكان رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يأكل منها، وينفق على عياله قوت سنة، ويَصرفُ الباقي مَصرِف الفيء؛ فاستغنَى عثمان عنها بماله، فجعلها
لأقربَائِهِ، ووصَلَ بها أرحَامَهُم، وقد روى أبو داود هذا الحديث).
(1)
قال البيهقي (ت 458 هـ) رحمه الله ـ عقب الحديث ـ: (إنما أقطع مروان فدكا فى أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكأنه تأول فى ذلك ما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم:«إذا أطعم الله نبياً طعمة فهى للذي يقوم من بعده» .
وكان مستغنياً عنها بماله، فجعلها لأقربائه، ووصل بها رحمهم، وكذلك تأويله عند كثير من أهل العلم.
وذهب آخرون إلى أن المراد بذلك: التولية، وقطع جريان الإرث فيه، ثم تُصرف في مصالح المسلمين، كما كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يفعلان،
…
وكما رآه عمر بن عبد العزيز حين ردَّ الأمر فى «فدك» إلى ما كان، واحتجَّ مَن ذهب إلى هذا بما روينا فى حديث الزهري، وأما «خيبر، وفدك» فأمسكها
…
عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: هما صدقة رسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كانت لحقوقه التي تعرُوه ونوائبه، وأمرُهما إلى ولي الأمر، فهما على ذلك إلى الآن).
(2)
(1)
«معالم السنن» (3/ 20)، وانظر:«الأوائل» للعسكري (ص 258).
(2)
«السنن الكبرى» (6/ 301).
وانظر: «تركة النبي صلى الله عليه وسلم» لحماد بن إسحاق (ص 86)، «الأوسط» لابن المنذر
…
(11/ 93)، «التمهيد» لابن عبدالبر (8/ 170)، «منهاج السنة» لابن تيمية
…
(6/ 104)، و «الإنجاد في أبواب الجهاد» لابن المناصف ـ تحقيق: مشهور سلمان ـ
…
(ص 514)، «فتح الباري» لابن حجر (6/ 202)، «البداية والنهاية» (8/ 179، 185، 191)، «جامع الآثار» لابن ناصر الدين (7/ 346 ـ 366).
وانظر: ما سبق، المبحث الرابع من هذا الفصل: الدراسة الموضوعية.
قال ابن كثير رحمه الله: (وأما تغضب فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، على أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، فما أدري ما وجهه؟ !
فإن كان لمنعه إياها ما سألته من الميراث، فقد اعتذر إليها بعذر يجب قبوله
(1)
،
وهو ما رواه عن أبيها رسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(1)
يأبى الأستاذ الأديب: عباس العقاد في كتابه «فاطمة الزهراء والفاطميون» (ص 61) إلا البيان الساحر الذي يدور بالقارئ حتى يُخفِيَ عليه المدخل والمخرج! ليقف بين الصفين: السنة والشيعة، فتأمل قولَه الفاتن ـ بعد ذكره أحاديث مكذوبة ـ: (والحديث في مسألة «فدك» من الأحاديث التي لا تنتهي إلى مقطع للقول مُتَّفَقٍ عليه! ! غير أن الصدق فيه لا مراء: أنَّ الزهراءَ أجلُّ من أن تطلب ما ليس لها بحق، وأن الصديق أجل من أن يسلبها حقها الذي تقوم البينة عليه
…
إلخ
قلت: لأن المؤلف أديب فحسب، لا يقصد البحث والتحري فيما توجه إليه، وقد وضع في خلده الانتصار إلى كل مسألة ذُكر فيها شئ عن آل البيت ــ كما ذكر ذلك في مقدمته ـ قلت: ولو كان المنقول كذباً ــ، مع عنايته بما تجيش به عاطفته تجاه أهل البيت وتأثير ذلك على بحثه ــ كما ذكر ذلك في مقدمته ــ، والموضوع الذي تصدى له كبير، كبير جداً، عن فاطمة رضي الله عنها ـ وليس عنها إلا الأحاديث النبوية والآثار السلفية وشرح أئمة الإسلام عليها ـ وهذا كلُّه بَعيدٌ كل البعد عن العقاد، وكان باستطاعته الوقوف على شئ منه بمراجعة كتب يسيرة في التاريخ والتراجم و «فتح الباري» ، لكنه فيما أرى يريد الوقوف بين الصفين، والتوسط بين السنة والرافضة، وتحكيم عقله وعاطفته فيما جرى! !
وإن مقالتَه السابقة مخالفةٌ لما أجمع عليه المسلمون من صحَّةِ حُكمِ أبي بكر رضي الله عنه في فدك وغيرها، وهنا العقاد ينفي الجزم بشئ في موضوع «فدك» ، ويشير إلى أحقية فاطمة بما طلبت، وبناء على ما سبق، يصدق على العقاد تمام الصدق المقولة الحكيمة:«من تكلَّم في غير فنِّه؛ أتى بالعجائب» .
وانظر الحديث عن العقاد في عند إيراد كتابه في التمهيد: المبحث الأول: الدراسات السابقة.
«لا نورث، ما تركنا صدقة» . وهي ممن تنقاد لنص الشارع الذي خفي عليها قبل سؤالها الميراث
(1)
، كما خفي على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حتى أخبرتهن عائشة بذلك، ووافقنها عليه.
وليس يُظَنُّ بفاطمة رضي الله عنها أنها اتَّهمَت الصديق رضي الله عنه فيما أخبرها به، حاشاها وحاشاه من ذلك، كيف وقد وافَقَهُ على رواية هذا الحديث: عمر
(1)
قال السيوطي في «اللآلئ المصنوعة» (2/ 367): (وفي «تاريخ ابن النجار» بسنده عن أبي جعفر بن المهتدي قال: لا شك أن فاطمة والعباس عَلِمَا أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:
…
«نحنُ معاشِرَ الأنبياءِ لا نُورَثُ، ما تركنا صدقة» . فتأوَّلَتْ فاطمةُ والعباسُ أنَّ ذلكَ في الكراع، والسلاح، وآلة الجهاد، دون المال، وأخبرَهُما أبو بكر أنَّ المرادَ جميعُ ما يَمْلِكُهُ، والله أعلم).
بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عُبيدالله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وأبو هريرة، وعائشة؟ ! رضي الله عنهم أجمعين، كما سنبينه قريباً.
(1)
ولو تفرَّد بروايته الصديق رضي الله عنه؛ لوجب على جميع أهل الأرض قبول روايته، والانقياد له في ذلك.
وإن كان غضبها لأجل ما سألتِ الصديقَ ــ إذ كانت هذه الأراضي صدقةً لا ميراثاً ــ أن يكون زوجها ينظر فيها، فقد اعتذر بما حاصله أنه لما كان خليفةَ رسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فهو يرى أنَّ فرضاً عليه أن يعمل بما كان يعمله رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ويلي ما كان يليه رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: «وإني واللَّهِ لا أدَعُ أمرَاً كان يصنَعُه فيه
…
رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلا صنَعتُه». قال: فهجرته فاطمة، فلم تُكلِّمه حتى ماتت.
(1)
حديث لا نورث، مروي أيضاً في كتب الرافضة كما في «الأصول من الكافي»
…
(1/ 32 ـ 34)، وانظر:«تسديد الملك لحكم أبي بكر في فدك» للشيخ: عبدالفتاح سرور (ص 125)، و «الشيعة وأهل البيت» للشيخ: إحسان إلهي ظهير (ص 87).
وتارة ينكرون الحديث ويرون أن أبا بكر رضي الله عنه وضعَه، كما في:«حق اليقين» للمجلسي (ص 191)، «تفسير القمي» (2/ 155). وانظر:«المرأة عند الشيعة الإمامية ـ عرض ونقد ـ» حسن عوض أحمد حسن (ص 521).
وهذا الهجران ـ والحالة هذه ـ فَتَحَ على فِرقة الرافضة شرَّاً عرِيضَاً، وجَهْلاً طويلاً، وأدخلوا أنفسَهم بسببِه فيما لا يعنِيهم، ولو تفهَّمُوا الأمورَ على ما هي عليه؛ لَعرفوا للصدِّيقِ فضلَه، وقبلوا منه عُذرَه الذي يجب على كُلِّ أحدٍ قبولُه، ولكنهم طائفةٌ مخْذُولَةٌ، وفِرقَةٌ مَرذُولَةٌ، يتمسَّكُون بالمتشابه، ويتركون الأمور المحكمة المقرَّرَة عند أئمة الإسلام، مِن الصحابة والتابعين فمَنْ بعدَهم من العلماء المعتبرين في سائر الأعصار والأمصار، رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين).
(1)
وقال ابن كثير ـ أيضاً ـ: (وقد روينا أن فاطمة رضي الله عنها احتجَّت أولاً بالقياس، وبالعموم في الآية الكريمة، فأجابها الصديق بالنص على الخصوص بالمنع في حق النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأنها سلَّمَت له ما قال. وهذا هو المظنون بها، رضي الله عنها).
(2)
وقال ابن كثير ـ أيضاً ـ رحمه الله: (فَصْلٌ: وقد تكلَّمَت الرافضة في هذا المقام بِجَهلٍ، وتكلَّفُوا ما لا عِلْمَ لهم به، وكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله، وأدخلوا أنفسهم فيما لا يعنيهم، وحاول بعضهم أن يرِدَ خَبرُ
(1)
«البداية والنهاية» (8/ 189)، وانظر:«التوضيح لشرح الجامع الصحيح» لابن الملقن
…
(18/ 372).
(2)
«البداية والنهاية» (8/ 194).
أبي بكر رضي الله عنه فيما ذكرناه بأنه مخالف للقرآن حيث يقولُ اللهُ تعالى:
…
{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ}
…
الآية. (النمل: 16).
وحيث قال تعالى إخباراً، عن زكريا أنه قال:{فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} (مريم: 5 ــ 6) إنما يعني بذلك في الملك والنبوة؛ أي جعلناه قائماً بعده فيما كان يليه من الملك وتدبير الرعايا، والحكم بين بني إسرائيل، وجعلناه نبيا كريماً كأبيه، فكما جمع لأبيه الملك والنبوة كذلك جعل ولده بعده، وليس المراد بهذا وراثة المال؛ لأن داود كما ذكره كثيرُ من المفسرين كان له أولادٌ كثيرون يقال: مئةُ ولَدٍ. فلِمَ اقتصَرَ على ذكر سليمان من بينهم لو كان المراد وراثة المال؟
إنما المراد وراثة القيام بعده في النبوة والملك، ولهذا قال:{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} (سورةالنمل، آية: 16). وما بعدها من الآيات. وقد أشبعنا الكلام على هذا في كتابنا «التفسير»
(1)
بما فيه كفاية، وللَّهِ الحمدُ والمنة كثيراً.
وأما قصة زكريا فإنه عليه السلام من الأنبياء الكرام، والدنيا كانت عنده أحقر من أن يسأل اللهَ ولداً ليرثه في ماله، كيف وإنما كان نجاراً يأكل من كسب يده؟ ! كما رواه البخاري.
(1)
«تفسير ابن كثير» (6/ 182).
ولم يكن ليدِّخر منها فوق قوته حتى يسأل ولداً يرث عنه ماله ـ أن لو كان له مال ـ وإنما سأل ولداً صالحا يرثه في النبوة والقيام بمصالح بني إسرائيل، وحملهم على السداد، ولهذا قال تعالى:
…
{كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي
…
وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا
…
} (سورة مريم: 1 ـ 6)
يعني: النبوة كما قررنا ذلك في «التفسير»
(1)
ولله الحمد والمنة.
وقد تقدم في رواية أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن أبي بكر، أنَّ
…
رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: «النبيُّ لا يُورث» وهذا اسم جنس يَعمُّ كُلَّ الأنبياء. وقد حسَّنَه الترمذيُّ.
وفي الحديث الآخر: «نحنُ مَعشر الأنبياء لا نُورث» .
الوجه الثاني: أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قد خُصَّ من بين الأنبياء بأحكام لا يشاركونه فيها، كما سنعقد له باباً مفرداً في آخر السيرة
…
ـ إن شاء اللَّهُ ـ، فلو قُدِّرَ أن غيرَه من الأنبياءِ يورثون ـ وليس الأمرُ كذلك ـ
(1)
«تفسير ابن كثير» (5/ 213).
لكان ما رواهُ مَن ذكرناه من الصحابة الذين منهم الأئمة الأربعة؛ أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، مبيناً لِتَخصيصِه بهذا الحكم دون ما سواه.
الوجه الثالث: أنه يجب العملُ بهذا الحديث والحكمُ بمقتضاه، كما حكَمَ به الخلفاءُ، واعترفَ بصحته العلماء، سواء كان من خصائصهِ أم لا، فإنه قال:«لا نُورث، ما تركنَا صَدَقةٌ» . إذْ يحتمل من حيث اللفظ أن يكون قوله عليه الصلاة والسلام: «ما تركنا صَدقةٌ» أن يكون خبراً عن حكمه أو حكم سائر الأنبياء معه، على ما تقدم، وهو الظاهر.
ويحتمل أن يكون إنشاء وصية، كأنه يقول: لا نورث؛ لأن جميع ما تركناه صدقة. ويكون تخصيصه من حيث جواز جعله ماله كله صدقة، والاحتمال الأول أظهر، وهو الذي سلكه الجمهور.
وقد يقوى المعنى الثاني بما تقدم من حديث مالك وغيره، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال «لا يقتسمُ ورثتي ديناراً، ما تركتُ بعد نفقة نسائي ومؤنة عامِلي فهو صَدقةٌ» .
وهذا اللفظ مخرَّج في «الصحيحين» ، وهو يردُّ تحريفَ مَن قال مِن الجهلةِ من طائفة الشيعة في رواية هذا الحديث:«ما تركنا صَدقةً» بالنصب؛ جعل «ما» نافيةً! ! فكيف يصنع بأول الحديث وهو قوله: «لا نورث» ؟ !
وبهذه الرواية: «ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة» ؟ !
(1)
وما شأن هذا إلا كما حُكي عن بعض المعتزلة أنه قرأ على شيخ من أهل السنة: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (النساء: 164) بنصب الجلالة، فقال له الشيخ: ويحك! ! كيف تصنع بقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} (الأعراف: 143)).
(2)
هذا، وقد أجاد كثيراً شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأفاد، في بيان دعوى الرافضة ظلم أبي بكر فاطمةَ رضي الله عنهم بمنعها من الميراث، أتى على جميع شبههم ثم نقضَها واحدةً واحدةً، بما لا مَزيد عليه، فليُراجع.
(3)
(1)
قال ابن عثيمين رحمه الله: فيه رد على الرافضة الذين يقولون بأن المراد بالحديث ما تركنا صدقةً أي ما تركَ مالاً، وليس المراد ما تركنا فهو صدقةٌ! انظر:«التعليق على صحيح البخاري» للشيخ ابن عثيمين (7/ 506) رقم (3712)، و (8/ 111) رقم (4033).
(2)
«البداية والنهاية» (8/ 197).
(3)
«منهاج السنة» (4/ 193 ـ 264)، و (6/ 345 ـ 347). =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وانظر أيضاً في «قضية فدك» : «الشيعة وأهل البيت» لإحسان إلهي ظهير (ص 84)، و «دفاعاً عن الآل والأصحاب» إعداد قسم الدراسات في جمعية الآل والأصحاب في البحرين (ص 260 ـ 303).
وتَروي الرافضة أن علياً فعل بِـ «فدك» كما فعل أبو بكر وعمر. انظر: «شرح نهج البلاغة» لابن أبي الحديد (4/ 81 ـ 82).
وقد أجمعت الرافضة أن النبي صلى الله عليه وسلم نحل فاطمة فدك. انظر: «الكافي» للكليني (1/ 456)، «تفسير القمي» (2/ 155)، «تفسير العياشي» (2/ 287). أفاده الأستاذ: حسن عوض أحمد حسن في كتابه: «المرأة عند الشيعة الإمامية ـ عرض ونقد ـ» (ص 519).
ومن الأجوبة أنه كيف يهب لها فدكَ وغيرَها، دون بقية أخواتها! أين العدل بين الأولاد، والنبي صلى الله عليه وسلم إمام العادلين؟ !
وتارة يقولون بأن فدك إرث، ورَدَّ عليهم بعضُ أهل السنة بأن كونها ميراث، يعارض ما يقررونه بأن المرأة لا ترث العقار والدور. ذكر ذلك الشيخُ: إحسان إلهي ظهير رحمه الله في كتابه «الشيعة وأهل البيت» (ص 89)، وكثيرٌ ممن جاء بعده، ومنهم: الأستاذ: حسن عوض أحمد حسن في كتابه: «المرأة عند الشيعة الإمامية ـ عرض ونقد ـ» (ص 518 و 524، و 534).
قلت: لم يظهر لي ذلك، هم يمنعون الزوجة من ميراث العقار والدور من زوجها، لأنه لا نسب لها بزوجها حتى ترث منه العقار، بخلاف البنت من أبيها. انظر:«الاستبصار» (4/ 152).
* * *