الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لَهُمْ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ الْأَشْهَادِ وُقُوعُ نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [44] مُصَرَّحًا فِيهِ بِذَلِكَ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الْآيَةَ.
وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [45] .
وَضَمِيرُ الْمُؤَنَّثِ فِي قَوْلِهِ: (يَبْغُونَهَا) عَائِدٌ إِلَى سَبِيلِ الله لأنّ السَّبِيل يَجُوزُ اعْتِبَارُهُ مُؤَنَّثًا.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَبْغُونَ أَنْ تَصِيرَ سَبِيلُ اللَّهِ عَوْجَاءَ، فَعُلِمَ أَنَّ سَبِيلَ اللَّهِ مُسْتَقِيمَةٌ وَأَنَّهُمْ
يُحَاوِلُونَ أَنْ يُصَيِّرُوهَا عَوْجَاءَ لِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَتْبَعَ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم دِينَهُمْ وَيَغْضَبُونَ مِنْ مُخَالَفَتِهِ إِيَّاهُ. وَهُنَا انْتَهَى كَلَامُ الْأَشْهَادِ لِأَنَّ نَظِيرَهُ الَّذِي فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [44] فِي قَوْلِهِ: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الْآيَةَ انْتَهَى بِمَا يُمَاثِلُ آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَاخْتُصَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى نَظِيرِهَا فِي الْأَعْرَافِ بِزِيَادَةِ (هُمْ) فِي قَوْلِهِ: هُمْ كافِرُونَ وَهُوَ تَوْكِيدٌ يُفِيدُ تَقَوِّي الْحُكْمَ لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَا مَقَامُ تَسْجِيلِ إِنْكَارِهِمْ الْبَعْثَ وَتَقْرِيرِهِ إِشْعَارًا بِمَا يَتَرَقَّبُهُمْ مِنَ الْعِقَابِ الْمُنَاسِبِ فَحُكِيَ بِهِ مِنْ كَلَامِ الْأَشْهَادِ مَا يُنَاسِبُ هَذَا، وَمَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ حِكَايَةٌ لِمَا قِيلَ فِي شَأْنِ قَوْمٍ أُدْخِلُوا النَّارَ وَظَهَرَ عِقَابُهُمْ فَلَا غَرَضَ لِحِكَايَةِ مَا فِيهِ تَأْكِيدٌ مِنْ كَلَامِ الْأَشْهَادِ، وَكِلَا الْمَقَالَتَيْنِ وَاقِعٌ وَإِنَّمَا يَحْكِي الْبَلِيغُ فِيمَا يَحْكِيهِ مَا لَهُ مُنَاسِبَةٌ لِمَقَامِ الْحِكَايَةِ.
[20]
[سُورَة هود (11) : آيَة 20]
أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (20)
أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ.
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ نَاشِئٌ عَنْ الِاقْتِصَارِ فِي تَهْدِيدِهِمْ عَلَى وَصْفِ بَعْضِ عِقَابِهِمْ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُثِيرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ أَنْ يَسْأَلَ: هَلْ هُمْ سَالِمُونَ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا. فَأُجِيبَ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الدُّنْيَا، أَيْ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ مَقْدِرَةِ اللَّهِ عَلَى تَعْذِيبِهِمْ فِي الدُّنْيَا إِذَا اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ تَعْجِيلَ عَذَابِهِمْ.
وَإِعَادَةُ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ بَعْدَ أَنْ أُشِيرَ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ [هود: 18] لِتَقْرِيرِ فَائِدَةِ اسْمِ الْإِشَارَةِ السَّابِقِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ إِلَى حُكْمِ رَبِّهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِيهِ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا مَتَى شَاءَ تَعْذِيبَهُمْ وَلَكِنَّهُ أَرَادَ إِمْهَالَهُمْ.
وَالْمُعْجِزُ هُنَا الَّذِي أَفْلَتَ مِمَّنْ يَرُومُ إِضْرَارَهُ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [134] .
وَالْأَرْضُ: الدُّنْيَا. وَفَائِدَةُ ذِكْرِهِ أَنَّهُمْ لَا مَلْجَأَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ لَوْ أَرَادَ الِانْتِقَامَ مِنْهُمْ فَلَا يَجِدُونَ مَوْضِعًا مِنَ الْأَرْضِ يَسْتَعْصِمُونَ بِهِ. فَهَذَا نفي للملاجيء وَالْمَعَاقِلِ الَّتِي يَسْتَعْصِمُ فِيهَا الْهَارِبُ. وَعِنْدِي أَنَّ مُقَارَنَةَ (فِي الْأَرْضِ) بِ (مُعْجِزِينَ) جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ فِي الْقُرْآنِ
كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ لَا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ [الْأَحْقَاف: 32] وَلَعَلَّهُ مِمَّا جَرَى كَذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُ إِيَاسِ بن قُبَيْصَةَ الطَّائِيِّ مِنْ شُعَرَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْأَرْضَ رَحْبٌ فَسِيحَةٌ
…
فَهَلْ تُعْجِزَنِّي بُقْعَةٌ مِنْ بِقَاعِهَا
وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ.
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ الْأَنْصَارُ، أَيْ مَا لَهُمْ نَاصِرٌ يَنْصُرُهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
فَجَمَعَ لَهُمْ نَفْيَ سَبَبَيْ النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ الْقَادِرِ وَهُمَا الْمَكَانُ الَّذِي لَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْقَادِرُ أَوْ مُعَارَضَةُ قَادِرٍ آخَرَ إِيَّاهُ يَمْنَعُهُ مِنْ تَسْلِيطِ عِقَابِهِ. ومِنْ دُونِ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِ (أَوْلِيَاءَ) لِمَا فِي الْوَلِيِّ هُنَا مِنْ مَعَانِي الْحَائِلِ وَالْمُبَاعِدِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً [النِّسَاء: 119] .
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْأَوْلِيَاءِ الْأَصْنَامُ الَّتِي تَوَلَّوْهَا، أَيْ أَخْلَصُوا لَهَا الْمَحَبَّةَ وَالْعِبَادَةَ.
وَمَعْنَى نَفْيِ الْأَوْلِيَاءِ عَنْهُمْ بِهَذَا الْمَعْنَى نَفْيُ أَثَرِ هَذَا الْوَصْفِ، أَيْ لَمْ تَنْفَعْهُمْ أَصْنَامُهُمْ وَآلِهَتُهُمْ.
ومِنْ دُونِ اللَّهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِمَعْنَى مِنْ غَيْرِ اللَّهِ، فَ (دُونِ) اسْمٌ غير ظرف، و (من) الْجَارَّةُ لِ (دُونِ) زَائِدَةٌ تُزَادُ فِي الظُّرُوفِ غير المتصرفة، و (من) الْجَارَّةُ لِ (أَوْلِيَاءَ) زَائِدَةٌ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ الْمَنْفِيِّ، أَيْ مَا كَانَ لَهُمْ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ جِنْسِ الْأَوْلِيَاءِ.
وَالْعَذَابُ الْمُضَاعَفُ هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ الْمُشْعِرِ بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا لَا عَنْ عَجْزٍ.
يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ.
خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ خَبرا أوّلا وَجُمْلَةُ يُضاعَفُ خَبَرًا ثَانِيًا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ حَالًا وَجُمْلَةُ يُضاعَفُ خَبَرًا أَوَّلَ.
مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ.
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا خَبَرًا عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ أَوْ حَالًا مِنْهُ فَتَكُونُ اسْتِطَاعَةُ السَّمْعِ
الْمَنْفِيَّةُ عَنْهُمْ مُسْتَعَارَةٌ لِكَرَاهِيَتِهِمْ سَمَاعَ الْقُرْآنِ وَأَقْوَالَ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم كَمَا نُفِيَتْ الْإِطَاقَةُ فِي قَوْلِ الْأَعْشَى:
وَهَلْ تُطِيقُ وَدَاعًا أَيُّهَا الرَّجُلُ أَرَادَ بِنَفْيِ إِطَاقَةِ الْوَدَاعَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يَحْزَنُ لِذَلِكَ الْحُزْنِ مِنَ الْوَدَاعِ فَأَشْبَهَ الشَّيْءَ غَيْرَ الْمُطَاقِ وَعَبَّرَ هُنَا بِالِاسْتِطَاعَةِ لِأَنَّ النَّبِيءَ صلى الله عليه وسلم كَانَ
يَدْعُوهُمْ إِلَى اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ فَيُعْرِضُونَ لِأَنَّهُمْ يَكْرَهُونَ أَنْ يَسْمَعُوهُ. قَالَ تَعَالَى: يْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها
[الجاثية: 8] وَقَالَ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: 26] لِأَنَّهُمْ لَوْ سَمِعُوا وَوَعَوْا لَاهْتَدَوْا لَأَنَّ الْكَلَامَ الْمَسْمُوعَ مُشْتَمِلٌ عَلَى تَرْكِيبِ الْأَدِلَّةِ وَنَتَائِجِهَا فَسَمَاعُهُ كَافٍ فِي حُصُولِ الِاهْتِدَاءِ.
وَالْإِبْصَارُ الْمَنْفَيُّ هُوَ النَّظَرُ فِي الْمَصْنُوعَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ، أَيْ مَا كَانُوا يُوَجِّهُونَ أَنْظَارَهُمْ إِلَى الْمَصْنُوعَاتِ تَوْجِيهَ تَأَمُّلٍ وَاعْتِبَارٍ بَلْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا نَظَرَ الْغَافِلِ عَمَّا فِيهَا مِنَ الدَّقَائِقِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ هُنَا: وَمَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُبْصِرُوا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُبْصِرُونَهَا وَلَكِنَّ مُجَرَّدَ الْإِبْصَارِ غَيْرُ كَافٍ فِي حُصُولِ الِاسْتِدْلَالِ حَتَّى يُضَمَّ إِلَيْهِ عَمَلُ الْفِكْرِ بِخِلَافِ السَّمْعِ فِي قَوْلِهِ: مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ حَالًا لِ (أَوْلِيَاءَ)، وَسَوَّغَ كَوْنَهَا حَالًا مِنَ النَّكِرَةِ أَنَّ النَّكِرَةَ وَقَعَتْ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ جَعَلُوهَا آلِهَةً لَهُمْ فِي حَالِ أَنَّهَا لَا تَسْتَطِيعُ السَّمْعَ وَلَا الْإِبْصَارَ.
وَإِعَادَةُ ضَمِيرِ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ عَلَى الْأَصْنَامِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ اعْتَقَدُوهَا تَعْقِلُ، فَفِي هَذَا الْإِضْمَارِ مَعَ نَفْيِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ عَنْهَا ضَرْبٌ مِنَ التَّهَكُّمِ بِهِمْ.
وَالْإِتْيَانُ بِأَفْعَالِ الْكَوْنِ فِي هَذِهِ الْجُمَلِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ إِلَى قَوْلِهِ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ لِإِفَادَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فِعْلُ الْكَوْنِ مِنْ تَمَكُّنِ الْحَدَثِ الْمُخْبَرِ بِهِ فَقَوْلُهُ: لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ آكُدُ مِنْ: لَا يُعْجِزُونَ وَكَذَلِكَ أَخَوَاتُهُ.
وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ صِيَغِ أَفْعَالِ الْكَوْنِ إِذْ جَاءَ أَوَّلُهَا بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ وَالثَّلَاثَةُ بَعْدَهُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِأَنَّ الْمُضَارِعَ الْمَجْزُومَ بِحَرْفِ (لَمْ) لَهُ مَعْنَى الْمُضِيِّ فَلَيْسَ الْمُخَالَفَةُ مِنْهَا إلّا تفننا.