الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَفِي هَذَا الَّذِي دَبَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَصْرِيحٌ بِآيَةٍ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي كَانَتْ فِي يُوسُفَ- عليه السلام وَإِخْوَته.
[23- 29]
[سُورَة يُوسُف (12) : الْآيَات 23 إِلَى 29]
وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ مَا جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَاّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)
فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29)
عَطْفُ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْقِصَّةُ حَاصِلَةً فِي الْوُجُودِ بَعْدَ الَّتِي قَبْلَهَا. وَقَدْ كَانَ هَذَا الْحَادِثُ قَبْلَ إِيتَائِهِ النُّبُوءَةَ لِأَنَّ إِيتَاءَ النُّبُوءَةِ غَلَبَ أَنْ يَكُونَ فِي سِنِّ الْأَرْبَعِينَ. وَالْأَظْهَرُ أَنه أُوتِيَ النبوءة وَالرِّسَالَةَ بَعْدَ دُخُولِ أَهْلِهِ إِلَى مِصْرَ وَبَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ. وَقَدْ تَعَرَّضَتِ الْآيَاتُ لِتَقْرِيرِ ثَبَاتِ يُوسُفَ- عليه السلام عَلَى الْعَفَافِ وَالْوَفَاءِ وَكَرَمِ الْخُلُقِ.
فَالْمُرَاوَدَةُ الْمُقْتَضِيَةُ تَكْرِيرَ الْمُحَاوَلَةِ بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ، وَالْمُفَاعَلَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّكْرِيرِ.
وَقِيلَ: الْمُفَاعَلَةُ تَقْدِيرِيَّةٌ بِأَنِ اعْتَبَرَ الْعَمَلَ مِنْ جَانِبٍ وَالْمُمَانَعَةَ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ مِنَ الْعَمَلِ بِمَنْزِلَةِ مُقَابَلَةِ الْعَمَلِ بِمِثْلِهِ. وَالْمُرَاوَدَةُ: مُشْتَقَّةٌ مِنْ رَادَ يَرُودُ، إِذَا جَاءَ وَذَهَبَ. شَبَّهَ حَالَ الْمُحَاوِلِ أَحَدًا عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ مُكَرِّرًا ذَلِكَ. بِحَالِ مَنْ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ فِي الْمُعَاوَدَةِ إِلَى الشَّيْءِ الْمَذْهُوبِ عَنْهُ، فَأَطْلَقَ رَاوَدَ بِمَعْنَى حَاوَلَ.
وعَنْ لِلْمُجَاوَزَةِ، أَيْ رَاوَدَتْهُ مُبَاعَدَةً لَهُ عَنْ نَفْسِهِ، أَيْ بِأَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ لَهَا.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ، فَالنَّفْسُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ غَرَضِ الْمُوَاقَعَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، أَيْ فَالنَّفْسُ أُرِيدَ بِهَا عَفَافُهُ وَتَمْكِينُهَا مِنْهُ لِمَا تُرِيدُ، فَكَأَنَّهَا تُرَاوِدُهُ عَنْ أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهَا إِرَادَتَهُ وَحُكْمَهُ فِي نَفْسِهِ.
وَأَمَّا تَعْدِيَتُهُ بِ (عَلَى) فَذَلِكَ إِلَى الشَّيْءِ الْمَطْلُوبِ حُصُولُهُ. وَوَقَعَ فِي قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيءَ صلى الله عليه وسلم يُرَاوِدُ عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ عَلَى الْإِسْلَامِ:
وَفِي حَدِيث الإسلاء «فَقَالَ لَهُ مُوسَى:
قد وَالله رَاوَدْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ فَتَرَكُوهُ»
. وَالتَّعْبِيرُ عَنِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها لِقَصْدِ مَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنْ تَقْرِيرِ عِصْمَةِ يُوسُفَ- عليه السلام لِأَنَّ كَوْنَهُ فِي بَيْتِهَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُطَوِّعَهُ لِمُرَادِهَا.
وبَيْتِها بَيْتُ سُكْنَاهَا الَّذِي تَبِيتُ فِيهِ. فَمَعْنَى هُوَ فِي بَيْتِها أَنَّهُ كَانَ حِينَئِذٍ فِي الْبَيْتِ الَّذِي هِيَ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْبَيْتِ: الْمَنْزِلَ كُلَّهُ، وَهُوَ قَصْرُ الْعَزِيزِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: رَبَّةُ الْبَيْتِ، أَيْ زَوْجَةُ صَاحِبِ الدَّارِ وَيَكُونُ مَعْنَى هُوَ فِي بَيْتِها أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ أَتْبَاعِ ذَلِكَ الْمَنْزِلِ.
وَغَلْقُ الْأَبْوَابِ: جَعْلُ كُلَّ بَابٍ سَادًّا لِلْفُرْجَةِ الَّتِي هُوَ بِهَا.
وَتَضْعِيفُ غَلَّقَتِ لِإِفَادَةِ شِدَّةِ الْفِعْلِ وَقُوَّتِهِ، أَيْ أُغْلِقَتْ إِغْلَاقًا مُحْكَمًا.
وَالْأَبْوَابُ: جَمْعُ بَابٍ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ [سُورَة الْمَائِدَة: 23] .
وهَيْتَ اسْمُ فِعْلِ أَمْرٍ بِمَعْنَى بَادِرْ. قِيلَ أَصْلُهَا مِنَ اللُّغَةِ الْحَوْرَانِيَّةِ، وَهِيَ نَبَطِيَّةٌ.
وَقِيلَ: هِيَ مِنَ اللُّغَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ.
وَاللَّامُ فِي لَكَ لِزِيَادَةِ بَيَانِ الْمَقْصُودِ بِالْخِطَابِ، كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: سُقْيًا لَكَ وَشُكْرًا لَكَ. وَأَصْلُهُ: هِيتَكَ. وَيَظْهَرُ أَنَّهَا طَلَبَتْ مِنْهُ أَمْرًا كَانَ غَيْرَ بِدْعٍ فِي قُصُورِهِمْ بِأَنْ تَسْتَمْتِعَ الْمَرْأَةُ بِعَبْدِهَا كَمَا يَسْتَمْتِعُ الرَّجُلُ بِأَمَتِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ تَتَقَدَّمْ إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ بِتَرْغِيبٍ بَلِ ابْتَدَأَتْهُ بِالتَّمْكِينِ مِنْ نَفْسِهَا. وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَا يَزِيدُهُ بَيَانًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَتْ مَا جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً.
وَفِي هَيْتَ لُغَاتٌ. قَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ ذِكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِكَسْرِ الْهَاءِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ-. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ- بِفَتْحِ الْهَاءِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ وَضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ-. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ- بِفَتْحِ الْهَاءِ وَسُكُون التَّحْتِيَّة وَضم التَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ، وَالْفَتْحَةُ وَالضَّمَّةُ حَرَكَتَا بِنَاءٍ.
ومَعاذَ مَصْدَرٌ أُضِيفَ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ إِضَافَةَ الْمَصْدَرِ إِلَى مَعْمُولِهِ. وَأَصْلُهُ: أَعُوذُ عَوذًا بِاللَّهِ، أَيْ أَعْتَصِمُ بِهِ مِمَّا تُحَاوِلِينَ. وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ [سُورَة يُوسُف: 79] فِي هَذِهِ السُّورَةِ.
وَ (إِنَّ) مُفِيدَةٌ تَعْلِيلَ مَا أَفَادَهُ مَعاذَ اللَّهِ مِنَ الِامْتِنَاعِ وَالِاعْتِصَامِ مِنْهُ بِاللَّهِ الْمُقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِذَلِكَ الِاعْتِصَامِ.
وَضَمِيرُ إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ، وَيَكُونُ رَبِّي بِمَعْنَى خَالِقِي.
وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ وَهُوَ زَوْجُهَا الَّذِي لَا يَرْضَى بِأَنْ يَمَسَّهَا غَيْرُهُ، فَهُوَ مَعْلُومٌ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ، وَيَكُونُ رَبِّي بِمَعْنَى سَيِّدِي وَمَالِكِي.
وَهَذَا مِنَ الْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ تَوْجِيهًا بَلِيغًا حُكِيَ بِهِ كَلَامُ يُوسُفَ- عليه السلام إِمَّا لِأَنَّ يُوسُفَ- عليه السلام أَتَى بِمِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي لُغَةِ
الْقِبْطِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ أَتَى بِتَرْكِيبَيْنِ عُذْرَيْنِ لِامْتِنَاعِهِ فَحَكَاهُمَا الْقُرْآنُ بِطَرِيقَةِ الْإِيجَازِ وَالتَّوْجِيهِ.
وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْكَلَامُ تَعْلِيلٌ لِامْتِنَاعِهِ وَتَعْرِيضٌ بِهَا فِي خِيَانَةِ عَهْدِهَا.
وَفِي هَذَا الْكَلَامِ عِبْرَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ الْعَفَافِ وَالتَّقْوَى وَعِصْمَةُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَ النُّبُوءَةِ مِنَ الْكَبَائِرِ.
وَذِكْرُ وَصْفِ الرَّبِّ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ مِنْ وُجُوبِ طَاعَتِهِ وَشُكْرِهِ عَلَى نِعْمَةِ الْإِيجَادِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ، وَنِعْمَةِ التَّرْبِيَةِ بِالنِّسْبَةِ لِمَوْلَاهُ الْعَزِيزِ.
وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِوَصْفِهِ بِجُمْلَةِ أَحْسَنَ مَثْوايَ، أَيْ جَعَلَ آخِرَتِي حُسْنَى، إِذْ أَنْقَذَنِي مِنَ الْهَلَاكِ، أَوْ أَكْرَمَ كَفَالَتِي. وَتَقَدَّمَ آنِفًا تَفْسِيرُ الْمَثْوَى.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ تَعْلِيلٌ ثَانٍ لِلِامْتِنَاعِ. وَالضَّمِيرُ الْمَجْعُولُ اسْمًا لِ (إِنَّ) ضَمِيرُ الشَّأْنِ يُفِيدُ أَهَمِّيَّةَ الْجُمْلَةِ الْمَجْعُولَةِ خَبَرًا عَنْهُ لِأَنَّهَا مَوْعِظَةٌ جَامِعَةٌ. وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ إِجَابَتَهَا لِمَا رَاوَدَتْهُ ظُلْمٌ، لِأَنَّ فِيهَا ظُلْمُ كِلَيْهِمَا نَفْسَهُ بِارْتِكَابِ مَعْصِيَةٍ مِمَّا اتَّفَقَتِ الْأَدْيَانُ عَلَى أَنَّهَا كَبِيرَةٌ، وَظُلْمُ سَيِّدِهِ الَّذِي آمنهُ على بَينه وَآمَنَهَا عَلَى نَفْسِهَا إِذِ اتَّخَذَهَا زَوَجًا وَأَحْصَنَهَا.
وَالْهَمُّ: الْعَزْمُ عَلَى الْفِعْلِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [74] . وَأَكَّدَ هَمَّهَا ب لَقَدْ وَلَامِ الْقَسَمِ لِيُفِيدَ أَنَّهَا عَزَمَتْ عَزْمًا مُحَقَّقًا.
وَجُمْلَةُ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهَا كَانَتْ جَادَّةً فِيمَا رَاوَدَتْهُ لَا مُخْتَبِرَةً. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَمِّهَا بِهِ التَّمْهِيدُ إِلَى ذِكْرِ انْتِفَاءِ هَمِّهِ بِهَا لِبَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ حَالَيْهِمَا فِي الدِّينِ فَإِنَّهُ مَعْصُومٌ.
وَجُمْلَةُ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ كُلِّهَا. وَلَيْسَتْ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ هَمَّتْ الَّتِي هِيَ جَوَابُ الْقَسَمِ
الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِاللَّامِ، لِأَنَّهُ لَمَّا أُرْدِفَتْ جُمْلَةُ وَهَمَّ بِها بِجُمْلَةِ شَرْطِ لَوْلا الْمُتَمَحَّضِ لِكَوْنِهِ مِنْ أَحْوَالِ يُوسُفَ- عليه السلام وَحْدَهُ لَا مِنْ أَحْوَالِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ تَعَيَّنَ أَنَّهُ لَا عَلَاقَةَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الثَّانِيَةَ مُسْتَقِلَّةٌ لِاخْتِصَاصِ شَرْطِهَا بِحَالِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِيهَا. فَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ لَهَمَّ بِهَا، فَقَدَّمَ الْجَوَابَ عَلَى شَرْطِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ. وَلَمْ يَقْرِنِ الْجَوَابَ بِاللَّامِ الَّتِي يَكْثُرُ اقْتِرَانُ جَوَابِ لَوْلا بِهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ لَازِمًا وَلِأَنَّهُ لَمَّا قُدِّمَ عَلَى لَوْلا كُرِهَ قَرْنُهُ بِاللَّامِ قَبْلَ ذِكْرِ حَرْفِ الشَّرْطِ، فَيَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ لِيَظْهَرَ مَعْنَى الِابْتِدَاءِ بِجُمْلَةِ وَهَمَّ بِها وَاضِحًا. وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ أَنَّ يُوسُفَ- عليه السلام لَمْ يُخَالِطْهُ هَمٌّ بِامْرَأَةِ
الْعَزِيزِ لِأَنَّ اللَّهَ عَصَمَهُ مِنَ الْهَمِّ بِالْمَعْصِيَةِ بِمَا أَرَاهُ مِنَ الْبُرْهَانِ.
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: كُنْتُ أَقْرَأُ غَرِيبَ الْقُرْآنِ عَلَى أَبِي عُبَيْدَةَ فَلَمَّا أَتَيْتُ عَلَى قَوْلِهِ: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها الْآيَةَ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هَذَا عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، أَيْ تَقْدِيمِ الْجَوَابِ وَتَأْخِيرِ الشَّرْطِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَلَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ لَهَمَّ بِهَا.
وَطَعَنَ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ الطَّبَرِيُّ بِأَنَّ جَوَابَ لَوْلا لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهَا. وَيَدْفَعُ هَذَا الطَّعْنَ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ لَمَّا قَالَ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يَرَى مَنْعَ تَقْدِيمِ جَوَابِ لَوْلا، عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَجْعَلُ الْمَذْكُورَ قَبْلَ لَوْلا دَلِيلًا لِلْجَوَابِ وَالْجَوَابُ مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَ لَوْلا عَلَيْهِ. وَلَا مَفَرَّ مِنْ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَإِنَّ لَوْلا وَشَرْطَهَا تَقْيِيدٌ لِقَوْلِهِ: وَهَمَّ بِها عَلَى جَمِيعِ التَّأْوِيلَاتِ، فَمَا يُقَدَّرُ مِنَ الْجَوَابِ يُقَدَّرُ عَلَى جَمِيعِ التَّأْوِيلَاتِ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هَمَّ يُوسُفُ بِأَنْ يُجِيبَهَا لِمَا دَعَتْهُ إِلَيْهِ ثُمَّ ارْعَوى وَانْكَفَّ عَلَى ذَلِكَ لَمَّا رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَثَعْلَبٌ. وَبَيَانُ هَذَا أَنَّهُ انْصَرَفَ عَمَّا هَمَّ بِهِ بِحِفْظِ اللَّهِ أَوْ بِعِصْمَتِهِ، وَالْهَمُّ بِالسَّيِّئَةِ مَعَ الْكَفِّ عَنْ إِيقَاعِهَا لَيْسَ بِكَبِيرَةٍ فَلَا يُنَافِي عِصْمَةَ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْكَبَائِرِ قَبْلَ النُّبُوءَةِ عَلَى قَوْلِ مَنْ رَأَى عِصْمَتَهُمْ مِنْهَا قَبْلَ النُّبُوءَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ،
وَفِيهِ خِلَافٌ، وَلِذَلِكَ جَوَّزَ ابْنُ عَبَّاسٍ ذَلِكَ عَلَى يُوسُفَ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هَمَّ يُوسُفُ وَأَخَذَ فِي التَّهَيُّؤِ لِذَلِكَ فَرَأَى بُرْهَانًا صَرَفَهُ عَنْ ذَلِكَ فَأَقْلَعَ عَنْ ذَلِكَ.
وَهَذَا قَوْلُ السُّدِّيِّ، وَرِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَا بَيَّنَاهُ فِي الْقَوْلِ الَّذِي قَبْلَهُ.
وَقَدْ خَبَطَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي إِلْصَاقِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ بِمَنْ يُسَمِّيهِمُ الْحَشْوِيَّةَ وَالْمُجَبِّرَةَ، وَهُوَ يَعْنِي الْأَشَاعِرَةَ، وَغَضَّ بَصَرَهُ عَنْ أَسْمَاءِ مَنْ عُزِيَتْ إِلَيْهِمْ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ (رَمَتْنِي بِدَائِهَا وَانْسَلَّتْ) وَلَمْ يَتَعَجَّبْ مِنْ إِجْمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَى مُحَاوَلَةِ إِخْوَةِ يُوسُفَ- عليه السلام قَتْلَهُ وَالْقَتْلُ أَشَدُّ.
وَالرُّؤْيَةُ: هُنَا عِلْمِيَّةٌ لِأَنَّ الْبُرْهَانَ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي لَا تُرَى بِالْبَصَرِ.
وَالْبُرْهَانُ: الْحُجَّةُ. وَهَذَا الْبُرْهَانُ مِنْ جُمْلَتِهِ صَرْفُهُ عَنِ الْهَمِّ بِهَا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ حَالُ الْبَشَرِيَّةِ لَا يَسْلَمُ مِنَ الْهَمِّ بِمُطَاوَعَتِهَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِتَوَفُّرِ دَوَاعِي الْهَمِّ مِنْ حُسْنِهَا، وَرَغْبَتِهَا فِيهِ، وَاغْتِبَاطِ أَمْثَالِهِ بِطَاعَتِهَا، وَالْقُرْبِ مِنْهَا، وَدَوَاعِي الشَّبَابِ الْمُسَوِّلَةِ لِذَلِكَ، فَكَانَ بُرْهَانُ اللَّهِ هُوَ الْحَائِلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْهَمِّ بِهَا دُونَ شَيْءٍ آخَرَ.
وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَا هُوَ هَذَا الْبُرْهَانُ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ نَظَرِيَّةٌ
قَبَّحَتْ لَهُ هَذَا الْفِعْلَ، وَقِيلَ: هُوَ وَحْيٌ إِلَهِيٌّ، وَقِيلَ: حِفْظٌ إِلَهِيٌّ، وَقِيلَ: مُشَاهَدَاتٌ تَمَثَّلَتْ لَهُ.
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِلَى شَيْءٍ مَفْهُومٍ مِمَّا قبله بتضمنه قَوْلُهُ: رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ، وَهُوَ رَأْيُ الْبُرْهَانِ، أَيْ أَرَيْنَاهُ كَذَلِكَ الرَّأْيِ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ.
وَالصَّرْفُ: نَقْلُ الشَّيْءِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ عَنِ الْحِفْظِ مِنْ حُلُولِ الشَّيْءِ بِالْمَحَلِّ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَحِلَّ فِيهِ. عَبَّرَ بِهِ عَنِ الْعِصْمَةِ مِنْ شَيْءٍ
يُوشِكُ أَنْ يُلَابِسَ شَيْئًا. وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْعِصْمَةِ بِالصَّرْفِ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ أَسْبَابَ حُصُولِ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ مَوْجُودَةٌ وَلَكِنَّ اللَّهَ صَرَفَهُمَا عَنْهُ.
وَالسُّوءُ: الْقَبِيحُ، وَهُوَ خِيَانَةُ مَنِ ائْتَمَنَهُ. وَالْفَحْشَاءُ: الْمعْصِيَة، وَهِي الزِّنَى. وَتَقَدَّمَ السُّوءُ وَالْفَحْشَاءُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [169] . وَمَعْنَى صَرَفَهُمَا عَنْهُ صَرَفَ مُلَابَسَتَهُ إِيَّاهُمَا.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ تَعْلِيلٌ لِحِكْمَةِ صَرْفِهِ عَنِ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ الصَّرْفَ الْخَارِقَ لِلْعَادَةِ لِئَلَّا يُنْتَقَصَ اصْطَفَاءُ اللَّهِ إِيَّاهُ فِي هَذِهِ الشِّدَّةِ عَلَى النَّفْسِ.
قَرَأَ نَافِعٌ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَخَلَفٌ الْمُخْلَصِينَ- بِفَتْحِ اللَّامِ- أَيِ الَّذِينَ أَخْلَصَهُمُ اللَّهُ وَاصْطَفَاهُمْ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ، وَيَعْقُوبُ- بِكَسْرِ اللَّامِ- عَلَى مَعْنَى الْمُخْلِصِينَ دِينَهُمْ لِلَّهِ. وَمَعْنَى التَّعْلِيلِ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ.
وَالِاسْتِبَاقُ: افْتِعَالٌ مِنَ السَّبْقِ. وَتَقَدَّمَ آنِفًا، وَهُوَ هُنَا إِشَارَةٌ إِلَى تَكَلُّفِهِمَا السَّبْقُ، أَيْ إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُحَاوِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ السَّابِقُ إِلَى الْبَابِ.
وَانْتَصَبَ الْبابَ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ. وَأَصْلُهُ: وَاسْتَبَقَا إِلَى الْبَابِ، مِثْلَ وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا [سُورَة الْأَعْرَاف: 155] ، أَيْ مِنْ قَوْمِهِ، أَوْ عَلَى تَضْمِينِ اسْتَبَقَا مَعْنَى ابْتَدَرَا.
وَالتَّعْرِيفُ فِي (الْبَابَ) تَعْرِيفُ الْجِنْسِ إِذْ كَانَتْ عِدَّةَ أَبْوَابٍ مُغْلَقَةٍ. وَذَلِكَ أَنَّ يُوسُفَ- عليه السلام فَرَّ مِنْ مُرَاوَدَتِهَا إِلَى الْبَابِ يُرِيدُ فَتْحَهُ وَالْخُرُوجَ وَهِيَ تُرِيدُ أَنْ تَسْبِقَهُ إِلَى الْبَابِ لِتَمْنَعَهُ مِنْ فَتْحِهِ.
وَجُمْلَةُ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وقَدَّتْ أَيْ قَطَعَتْ، أَيْ قَطَعَتْ مِنْهُ قَدًّا، وَذَلِكَ قَبْلَ الِاسْتِبَاقِ لَا مَحَالَةَ. لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَمْزِيقُ الْقَمِيصِ فِي حَالِ الِاسْتِبَاقِ لَمْ تَكُنْ فِيهِ قَرِينَةٌ عَلَى صِدْقِ يُوسُفَ- عليه السلام أَنَّهَا رَاوَدَتْهُ، إِذْ لَا يَدُلُّ التَّمْزِيقُ فِي حَالِ الِاسْتِبَاقِ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ أَنَّ يُوسُفَ- عليه السلام سَبَقَهَا مُسْرِعًا إِلَى الْبَابِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا أَمْسَكَتْهُ مِنْ قَمِيصِهِ حِينَ أَعْرَضَ عَنْهَا تُرِيدُ
إِكْرَاهَهُ عَلَى مَا رَاوَدَتْهُ فَجَذَبَ نَفْسَهُ فَتَخَرَّقَ الْقَمِيصُ مِنْ شِدَّةِ الْجَذْبَةِ. وَكَانَ قَطْعُ الْقَمِيصِ مِنْ دُبُرٍ لِأَنَّهُ كَانَ مُوَلِّيًا عَنْهَا مُعْرِضًا فَأَمْسَكَتْهُ مِنْهُ لِرَدِّهِ عَنْ إِعْرَاضِهِ.
وَقَدْ أَبْدَعَ إِيجَازُ الْآيَةِ فِي جَمْعِ هَذِهِ الْمَعَانِي تَحْتَ جُمْلَةِ اسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ.
وَصَادَفَ أَنْ أَلْفَيَا سَيِّدَهَا، أَيْ زَوْجَهَا، وَهُوَ الْعَزِيزُ، عِنْدَ الْبَابِ الْخَارِجِيِّ يُرِيدُ الدُّخُولَ إِلَى الْبَيْتِ مِنَ الْبَابِ الْخَارِجِيِّ. وَإِطْلَاقُ السَّيِّدِ عَلَى الزَّوْجِ قِيلَ: إِنَّ الْقُرْآنَ حَكَى بِهِ عَادَةَ الْقِبْطِ حِينَئِذٍ، كَانُوا يَدْعُونَ الزَّوْجَ سَيِّدًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُسْتَعْمَلًا فِي عَادَةِ الْعَرَبِ، فَالتَّعْبِيرُ بِهِ هُنَا مِنْ دَقَائِقِ التَّارِيخِ مِثْلَ قَوْلِهِ الْآتِي مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ [سُورَة يُوسُف: 76] . وَلَعَلَّ الزَّوَاجَ فِي مِصْرَ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ كَانَ بِطَرِيقِ الْمِلْكِ غَالِبًا. وَقَدْ عُلِمَ مِنَ الْكَلَامِ أَنَّ يُوسُفَ- عليه السلام فَتَحَ الْأَبْوَابَ الَّتِي غَلَّقَتْهَا زَلِيخَا بَابًا بَابًا حَتَّى بَلَغَ الْخَارِجِيَّ، كُلُّ ذَلِكَ فِي حَالِ اسْتِبَاقِهِمَا، وَهُوَ إِيجَازٌ.
وَالْإِلْفَاءُ: وِجْدَانُ شَيْءٍ عَلَى حَالَةٍ خَاصَّةٍ مِنْ غَيْرِ سَعْيٍ لِوِجْدَانِهِ، فَالْأَكْثَرُ أَنْ يَكُونَ مُفَاجِئًا، أَوْ حَاصِلًا عَنْ جَهْلٍ بِأَوَّلِ حُصُولٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا [سُورَة الْبَقَرَة: 170] .
وَجُمْلَةُ قالَتْ مَا جَزاءُ إِلَخْ مُسْتَأْنَفَةٌ بَيَانِيًّا، لِأَنَّ السَّامِعَ يَسْأَلُ: مَاذَا حَدَثَ عِنْدَ مُفَاجَأَةِ سَيِّدِهَا وَهُمَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ.
وَابْتَدَرَتْهُ بِالْكَلَامِ إِمْعَانًا فِي الْبُهْتَانِ بِحَيْثُ لَمْ تَتَلَعْثَمْ، تُخَيِّلُ لَهُ أَنَّهَا عَلَى الْحَقِّ، وَأَفْرَغَتِ الْكَلَامَ فِي قَالَبٍ كُلِّيٍّ لِيَأْخُذَ صِيغَةَ الْقَانُونِ، وَلِيَكُونَ قَاعِدَةً لَا يُعْرَفُ الْمَقْصُودُ مِنْهَا فَلَا يَسْعُ الْمُخَاطَبُ إِلَّا الْإِقْرَارَ لَهَا. وَلَعَلَّهَا كَانَتْ تَخْشَى أَنْ تَكُونَ مَحَبَّةُ الْعَزِيزِ لِيُوسُفَ- عليه السلام مَانِعَةً لَهُ مِنْ عِقَابِهِ، فَأَفْرَغَتْ كَلَامَهَا فِي قَالَبٍ كُلِّيٍّ. وَكَانَتْ تُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ لَا يَشْعُرَ زَوْجُهَا بِأَنَّهَا تَهْوَى غَيْرَ سَيِّدِهَا، وَأَنْ تُخِيفَ يُوسُفَ- عليه السلام مِنْ كَيْدِهَا لِئَلَّا يَمْتَنِعَ مِنْهَا مَرَّةً أُخْرَى.
وَرَدَّدَتْ يُوسُفَ- عليه السلام بَيْنَ صِنْفَيْنِ مِنَ الْعِقَابِ، وَهُمَا: السِّجْنُ، أَيِ الْحَبْسُ. وَكَانَ الْحَبْسُ عِقَابًا قَدِيمًا فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ، وَاسْتَمَرَّ إِلَى زَمَنِ مُوسَى- عليه السلام، فَقَدْ قَالَ فِرْعَوْنُ لِمُوسَى- عليه السلام: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [سُورَة الشُّعَرَاء: 29] .
وَأَمَّا الْعَذَابُ فَهُوَ أَنْوَاعٌ، وَهُوَ عِقَابٌ أَقْدَمُ فِي اصْطِلَاحِ الْبَشَرِ. وَمِنْهُ الضَّرْبُ وَالْإِيلَامُ بِالنَّارِ وَبِقَطْعِ الْأَعْضَاءِ. وَسَيَأْتِي ذِكْرُ السِّجْنِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِرَارًا.
وَجُمْلَةُ قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي مِنْ قَوْلِ يُوسُفَ- عليه السلام، وَفُصِلَتْ لِأَنَّهَا جَاءَتْ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَةِ مَعَ كَلَامِهَا. وَمُخَالَفَةُ التَّعْبِيرِ بَيْنَ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ دُونَ أَنْ يَقُولَ: إِلَّا السَّجْنُ أَوْ عَذَابٌ، لِأَنَّ لَفْظَ السَّجْنِ يُطْلَقُ عَلَى الْبَيْتِ الَّذِي يُوضَعُ فِيهِ الْمَسْجُونُ وَيُطْلَقُ عَلَى مَصْدَرِ سَجَنَ، فَقَوْلُهُ: أَنْ يُسْجَنَ أَوْضَحُ فِي تَسَلُّطِ مَعْنَى الْفِعْلِ عَلَيْهِ.
وَتَقْدِيمُ الْمُبْتَدَأِ عَلَى خَبَرِهِ الَّذِي هُوَ فِعْلٌ يُفِيدُ الْقَصْرَ، وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ لِلرَّدِّ عَلَيْهَا.
وَكَانَ مَعَ الْعَزِيزِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ امْرَأَتِهِ، وَهُوَ الَّذِي شَهِدَ وَكَانَ فَطِنًا عَارِفًا بِوُجُوهِ الدَّلَالَةِ.
وَسُمِّيَ قَوْلُهُ شَهَادَة لِأَنَّهُ يؤول إِلَى إِظْهَارِ الْحَقِّ فِي إِثْبَاتِ اعْتِدَاءِ يُوسُفَ- عليه السلام عَلَى سَيِّدَتِهِ أَوْ دَحْضِهِ. وَهَذَا مِنَ الْقَضَاءِ بِالْقَرِينَةِ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ أَمْسَكَتْ ثَوْبَهُ لِأَجْلِ الْقَبْضِ عَلَيْهِ لِعِقَابِهِ لَكَانَ ذَلِكَ فِي حَالِ اسْتِقْبَالِهِ لَهُ إِيَّاهَا فَإِذَا أَرَادَ الِانْفِلَاتَ مِنْهَا تَخَرَّقَ قَمِيصُهُ مِنْ قُبُلٍ، وَبِالْعَكْسِ إِنْ كَانَ إِمْسَاكُهُ فِي حَالِ فِرَارٍ وَإِعْرَاضٍ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِكَيْفِيَّةِ تَمْزِيقِ الْقَمِيصِ نَشَأَ عَنْ ذِكْرِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ وُقُوعُ تَمْزِيقِ الْقَمِيصِ تُحَاوِلُ أَنْ تَجْعَلَهُ حُجَّةً عَلَى أَنَّهَا أَمْسَكَتْهُ لِتُعَاقِبَهُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا خَطَرَ بِبَالِ الشَّاهِد أَنَّ تَمْزِيقًا وَقَعَ وَإِلَّا فَمِنْ أَيْنَ عَلِمَ الشَّاهِدُ تَمْزِيقَ الْقَمِيصِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الشَّاهِدَ كَانَ يَظُنُّ صِدْقَهَا فَأَرَادَ أَنْ يُقِيمَ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِهَا فَوَقَعَ عَكْسُ ذَلِكَ كَرَامَةً لِيُوسُفَ- عليه السلام.
وَجُمْلَةُ إِنْ كانَ قَمِيصُهُ مُبَيِّنَةٌ لِفِعْلِ شَهِدَ.
وَزِيَادَةُ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ بَعْدَ فَصَدَقَتْ، وَزِيَادَةُ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ بَعْدَ فَكَذَبَتْ تَأْكِيدٌ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ الْحَقِّ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْأَحْكَامِ.
وَأَدَوَاتُ الشَّرْطِ لَا تَدُلُّ عَلَى أَكْثَرِ مِنَ الرَّبْطِ وَالتَّسَبُّبِ بَيْنَ مَضْمُونِ شَرْطِهَا وَمَضْمُونِ جَوَابِهَا مِنْ دُونِ تَقْيِيدٍ بِاسْتِقْبَالٍ وَلَا مُضِيٍّ. فَمَعْنَى إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ
وَمَا بَعْدَهَا: أَنَّهُ إِنْ كَانَ ذَلِكَ حَصَلَ فِي الْمَاضِي فَقَدْ حَصَلَ صِدْقُهَا فِي الْمَاضِي.
وَالَّذِي رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ وَقَالَ: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ، هُوَ الْعَزِيزُ لَا مَحَالَةَ. وَقَدِ اسْتَبَانَ لَدَيْهِ بَرَاءَةُ يُوسُفَ- عليه السلام مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمَرْأَةِ فَاكْتَفَى بِلَوْمِ زَوْجِهِ بِأَنَّ ادِّعَاءَهَا عَلَيْهِ مِنْ كَيْدِ النِّسَاءِ فَضَمِيرُ جَمْعِ الْإِنَاثِ خِطَابٌ لَهَا فَدَخَلَ فِيهِ مَنْ هُنَّ مِنْ صِنْفِهَا بِتَنْزِيلِهِنَّ مَنْزِلَةَ الْحَوَاضِرِ.
وَالْكَيْدُ: فِعْلُ شَيْءٍ فِي صُورَةٍ غَيْرِ الْمَقْصُودَةِ لِلتَّوَصُّلِ إِلَى مَقْصُودٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [183] .
ثُمَّ أَمَرَ يُوسُفَ- عليه السلام بِالْإِعْرَاضِ عَمَّا رَمَتْهُ بِهِ، أَيْ عَدَمُ مُؤَاخَذَتِهَا بِذَلِكَ، وَبِالْكَفِّ عَنْ إِعَادَةِ الْخَوْضِ فِيهِ. وَأَمَرَ زَوْجَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ مِنْ ذَنْبِهَا، أَيْ فِي اتِّهَامِهَا يُوسُفَ- عليه السلام بِالْجُرْأَةِ وَالِاعْتِدَاءِ عَلَيْهَا.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَكَانَ الْعَزِيزُ قَلِيلَ الْغَيْرَةِ. وَقِيلَ: كَانَ حَلِيمًا عَاقِلًا. وَلَعَلَّهُ كَانَ مُولَعًا بِهَا، أَوْ كَانَتْ شُبْهَةُ الْمُلْكِ تُخَفِّفُ مُؤَاخَذَةَ الْمَرْأَةِ بِمُرَاوَدَةِ مَمْلُوكِهَا. وَهُوَ الَّذِي يُؤْذِنُ بِهِ حَالُ مُرَاوَدَتِهَا يُوسُفَ- عليه السلام حِينَ بَادَرَتْهُ بِقَوْلِهَا: هَيْتَ لَكَ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.