الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَمُتَعَلِّقُ نَجَّيْنا الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، أَيْ مِنَ الْعَذَابِ الدَّالِّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا. وَكَيْفِيَّةُ إِنْجَاءِ هُودٍ- عليه السلام وَمَنْ مَعَهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَالْبَاءُ فِي بِرَحْمَةٍ مِنَّا لِلسَّبَبِيَّةِ، فَكَانَتْ رَحْمَةُ اللَّهِ بِهِمْ سَبَبًا فِي نَجَاتِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِالرَّحْمَةِ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرْحَمْهُمْ لِشَمِلَهُمُ الِاسْتِئْصَالُ فَكَانَ نِقْمَةً لِلْكَافِرِينَ وَبَلْوًى لِلْمُؤْمِنِينَ.
وَجُمْلَةُ وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا.
وَالتَّقْدِيرُ وَأَيْضًا نَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ وَهُوَ الْإِنْجَاءُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَهُوَ الْعَذَابُ الْغَلِيظُ. فَفِي هَذَا مِنَّةٌ ثَانِيَةٌ عَلَى إِنْجَاءٍ ثَانٍ، أَيْ نَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ فِي الْآخِرَةِ، وَلِذَلِكَ عَطَفَ فِعْلَ نَجَّيْناهُمْ عَلَى نَجَّيْنا، وَهَذَانِ الْإِنْجَاءَانِ يُقَابِلَانِ جَمْعَ الْعَذَابَيْنِ لِعَادٍ فِي قَوْلِهِ: وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ [هود: 60] . وَقَدْ ذُكِرَ هُنَا مُتَعَلِّقُ الْإِنْجَاءِ وَحُذِفَ السَّبَبُ عَكْسُ مَا فِي الْجُمْلَةِ الْأَوْلَى لِظُهُورِ أَنَّ الْإِنْجَاءَ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ كَانَ بِسَبَبِ الْإِيمَانِ وَطَاعَةِ اللَّهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مُقَابَلَتُهُ بِقَوْلِهِ: وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ [هود: 59] .
وَالْغَلِيظُ حَقِيقَتُهُ: الْخَشِنُ ضِدُّ الرَّقِيقِ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ لِلشَّدِيدِ. وَاسْتَعْمَلَ الْمَاضِي فِي وَنَجَّيْناهُمْ فِي مَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ لِتَحَقُّقِ الْوَعْد بِوُقُوعِهِ.
[59، 60]
[سُورَة هود (11) : الْآيَات 59 إِلَى 60]
وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
الْإِشَارَةُ بِ تِلْكَ حَاضِرٍ فِي الذِّهْنِ بِسَبَبِ مَا أُجْرِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَدِيثِ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ حَاضِرٌ فِي الْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَةِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها [الْأَعْرَاف: 101]
وَكَقَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] ، وَهُوَ أَيْضًا مِثْلُهُ فِي أَنَّ الْإِتْيَانَ بِهِ عَقِبَ الْأَخْبَارِ الْمَاضِيَةِ عَنِ الْمُشَارِ إِلَيْهِمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ جَدِيرُونَ بِمَا يَأْتِي بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْخَبَرِ لِأَجْلِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
وَتَأْنِيثُ اسْمِ الْإِشَارَةِ بِتَأْوِيلِ الْأُمَّةِ.
وعادٌ بَيَانٌ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ.
وَجُمْلَةُ جَحَدُوا خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَهُوَ وَمَا بَعْدَهُ تَمْهِيدٌ لِلْمَعْطُوفِ وَهُوَ وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً لِزِيَادَةِ تَسْجِيلِ التَّمْهِيدِ بِالْأَجْرَامِ السَّابِقَةِ، وَهُوَ الَّذِي اقْتَضَاهُ اسْمُ الْإِشَارَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ جَمْعِ الْعَذَابَيْنِ لَهُمْ.
وَالْجَحْدُ: الْإِنْكَارُ الشَّدِيدُ، مِثْلَ إِنْكَارِ الْوَاقِعَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هُودًا أَتَاهُمْ بِآيَاتٍ فَأَنْكَرُوا دَلَالَتَهَا. وَعُدِّيَ جَحَدُوا بِالْبَاءِ مَعَ أَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ لِتَأْكِيدِ التَّعْدِيَةِ، أَوْ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى كَفَرُوا فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قِيلَ: جَحَدُوا آيَاتِ رَبِّهِمْ وَكَفَرُوا بِهَا، كَقَوْلِهِ: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [النَّمْل: 14] .
وَجَمَعَ الرُّسُلَ فِي قَوْلِهِ: وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَإِنَّمَا عَصَوْا رَسُولًا وَاحِدًا، وَهُوَ هُودٌ- عليه السلام لِأَنَّ الْمُرَادَ ذِكْرُ إِجْرَامِهِمْ فَنَاسَبَ أَنْ يُنَاطَ الْجُرْمُ بِعِصْيَانِ جِنْسِ الرُّسُلِ لِأَنَّ تَكْذِيبَهُمْ هُودًا لَمْ يَكُنْ خَاصًّا بِشَخْصِهِ لِأَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ: وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ [هود: 53]، فَكُلُّ رَسُولٍ جَاءَ بِأَمْرِ تَرْكِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فَهُمْ مُكَذِّبُونَ بِهِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ [الشُّعَرَاء: 123] .
وَمَعْنَى اتِّبَاعِ الْأَمْرِ: طَاعَةُ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ، فَالِاتِّبَاعُ تَمْثِيلٌ لِلْعَمَلِ بِمَا يُمْلَى عَلَى الْمُتَّبِعِ،
لِأَنَّ الْأَمَرَ يُشْبِهُ الْهَادِيَ لِلسَّائِرِ فِي الطَّرِيقِ، وَالْمُمْتَثِلَ يُشْبِهُ الْمُتَّبِعَ لِلسَّائِرِ.
وَالْجَبَّارُ: الْمُتَكَبِّرُ. وَالْعَنِيدُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْمُعَانَدَةِ. يُقَالُ: عَنَدَ- مُثَلَّثُ النُّونِ- إِذَا طَغَى، وَمَنْ كَانَ خُلُقُهُ التَّجَبُّرُ، وَالْعُنُودُ لَا يَأْمُرُ بِخَيْرٍ وَلَا يَدْعُو إِلَّا إِلَى بَاطِلٍ، فَدَلَّ اتِّبَاعُهُمْ أَمْرَ الْجَبَابِرَةِ الْمُعَانِدِينَ عَلَى أَنَّهُمْ أَطَاعُوا دُعَاةَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ وَالظُّلْمِ.
وكُلِّ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، فَإِنْ أُرِيدَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْ قَوْمِهِمْ فَالْعُمُومُ حَقِيقِيٌّ، وَإِنْ أُرِيدَ جِنْسُ الْجَبَابِرَةِ فَ كُلِّ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْكَثْرَةِ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
بِهَا كُلُّ ذَيَّالٍ وَخَنْسَاءَ تَرْعَوِي وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [27] .
وَإِتْبَاعُ اللَّعْنَةِ إِيَّاهُمْ مُسْتَعَارٌ لِإِصَابَتِهَا إِيَّاهُمْ إِصَابَةً عَاجِلَةً دُونَ تَأْخِيرٍ كَمَا يُتْبَعُ الْمَاشِي بِمَنْ يَلْحَقُهُ. وَمِمَّا يَزِيدُ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةَ حُسْنًا مَا فِيهَا من الْمُشَاركَة وَمن مُمَاثَلَةِ الْعِقَابِ لِلْجُرْمِ لِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا الْمَلْعُونِينَ فَأُتْبِعُوا بِاللَّعْنَةِ.
وَبُنِيَ فِعْلُ اتَّبَعُوا لِلْمَجْهُولِ إِذْ لَا غَرَضَ فِي بَيَانِ الْفَاعِلِ، وَلَمْ يُسْنَدِ الْفِعْلُ إِلَى اللَّعْنَةِ مَعَ اسْتِيفَائِهِ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ إِتْبَاعَهَا لَهُمْ كَانَ بِأَمْرٍ فَاعِلٍ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهَا تَبِعَتْهُمْ عِقَابًا مِنَ اللَّهِ لَا مُجَرَّدَ مُصَادَفَةٍ.
وَاللَّعْنَةُ: الطَّرْدُ بِإِهَانَةٍ وَتَحْقِيرٍ.
وَقَرَنَ الدُّنْيَا بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِقَصْدِ تَهْوِينِ أَمْرِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى لَعْنَةِ الْآخِرَةِ، كَمَا فِي قَوْلِ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ:
مَتَّى يَأْتِ هَذَا الْمَوْتُ لَا يُلْفِ حَاجَةً
…
لِنَفْسِيَ إِلَّا قَدْ قَضَيْتُ قَضَاءَهَا
أَوْمَأَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَكْتَرِثُ بِالْمَوْتِ وَلَا يَهَابُهُ.
وَجُمْلَةُ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ افْتُتِحَتْ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ لِتَهْوِيلِ الْخَبَرِ وَمُؤَكَّدَةٌ بِحَرْفِ إِنَّ لِإِفَادَةِ التَّعْلِيلِ بِجُمْلَةِ وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ لِيَعْتَبِرُوا بِمَا أَصَابَ عَادًا.