الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صَارَ بِمَنْزِلَةِ: مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ مُتَصَرِّفٌ فِيهَا.
وَمِنْ بَدِيعِ هَذَا الْمَثَلِ أَنَّهُ أَشَدُّ اخْتِصَاصًا بِالنَّوْعِ الْمَقْصُودِ مِنْ بَيْنِ عُمُومِ الدَّوَابِّ، وَهُوَ نَوْعُ الْإِنْسَانِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ الْمَالِكُ الْقَاهِرُ لِجَمِيعِ مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ، فَكَوْنُهُ مَالِكًا لِلْكُلِّ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَفُوتَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَكَوْنُهُ قَاهِرًا لَهُمْ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُعْجِزَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، أَيْ تَوَكَّلْتُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِتَوَكُّلِي عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِإِجْرَاءِ أَفْعَالِهِ عَلَى طَرِيقِ الْعَدْلِ وَالتَّأْيِيدِ لِرُسُلِهِ.
وعَلى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ، مِثْلَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] مُسْتَعَارَةٌ لِلتَّمَكُّنِ الْمَعْنَوِيِّ، وَهُوَ الِاتِّصَافُ الرَّاسِخُ الَّذِي لَا يَتَغَيَّرُ.
وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ مُسْتَعَارٌ لِلْفِعْلِ الْجَارِي عَلَى مُقْتَضَى الْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ لِأَنَّ الْعَدْلَ يُشَبَّهُ بِالِاسْتِقَامَةِ وَالسَّوَاءِ. قَالَ تَعَالَى: فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا [مَرْيَم: 43] . فَلَا جَرَمَ لَا يُسْلِمُ الْمُتَوَكَّلُ عَلَيْهِ للظّالمين.
[57]
[سُورَة هود (11) : آيَة 57]
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)
تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ [هود: 54] . وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ أَوْجَبَهُ قَصْدُ الْمُبَادَرَةِ بِإِبْطَالِ بَاطِلِهِمْ لِأَنَّ مَضْمُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَفْصِيلٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ [هود: 54] بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ هُودٍ- عليه السلام.
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ أَصْلُ تَوَلَّوْا تَتَوَلَّوْا فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ اخْتِصَارًا، فَهُوَ مُضَارِعٌ، وَهُوَ خِطَابُ هُودٍ- عليه السلام لِقَوْمِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ إِجْرَاءِ الضَّمَائِرِ عَلَى وَتِيرَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِعْلًا مَاضِيًا، وَالْوَاوُ لِأَهْلِ مَكَّةَ فَيَكُونُ كالاعتراض فِي إِجْرَاء الْقِصَّةِ لِقَصْدِ الْعِبْرَةِ بِمَنْزِلَةِ الِاعْتِرَاضِ الْوَاقِعِ فِي قِصَّةِ نُوحٍ- عليه السلام بِقَوْلِهِ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ [هود: 35] الْآيَةَ. خَاطَبَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ: فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ. وَالْفَاءُ الْأُولَى لِتَفْرِيعِ الِاعْتِبَارِ عَلَى الْمَوْعِظَةِ وَتَكُونُ جُمْلَةُ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ من كَلَام النبيء صلى الله عليه وسلم مَقُولَ قَوْلٍ مَأْمُورٍ بِهِ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ. وَالتَّقْدِيرُ: فَقُلْ قَدْ أَبْلَغْتُكُمْ. وَهَذَا الْأُسْلُوبُ مِنْ قَبِيلِ الْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ الْمُحْتَمَلِ مَعْنَيَيْنِ غَيْرِ مُتَخَالِفَيْنِ، وَهُوَ مِنْ بَدِيعِ أَسَالِيبِ الْإِعْجَازِ، وَلِأَجَلِهِ جَاءَ فِعْلُ تَوَلَّوْا بِتَاءٍ وَاحِدَةٍ بِخِلَافِ مَا فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ [مُحَمَّد: 38] .
وَالتَّوَلِّي: الْإِعْرَاضُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً، فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [80] .
وَجُعِلَ جَوَابُ شَرْطِ التَّوَلِّي قَوْلَهُ: فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَعَ أَنَّ الْإِبْلَاغَ سَابِقٌ عَلَى التَّوَلِّي الْمَجْعُولِ شَرْطًا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا الْجَوَابِ هُوَ لَازِمُ ذَلِكَ الْإِبْلَاغِ، وَهُوَ انْتِفَاءُ تَبِعَةِ تَوَلِّيهِمْ عَنْهُ وَبَرَاءَتِهِ مِنْ جُرْمِهِمْ لِأَنَّهُ أَدَّى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِبْلَاغِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ كَلَامِ هُودٍ- عليه السلام فَ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ هُوَ مَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَ من كَلَام النبيء صلى الله عليه وسلم فَمَا أُرْسِلَ بِهِ هُوَ الْمَوْعِظَةُ بِقِصَّةِ قَوْمِ هُودٍ- عليه السلام.
وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِنْذَارِ بِتَبِعَةِ التَّوَلِّي عَلَيْهِمْ وَنُزُولِ الْعِقَابِ بِهِمْ، وَلِذَلِكَ عَطَفَ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ أَيْ يُزِيلُكُمْ وَيُخْلِفُكُمْ بِقَوْمٍ آخَرِينَ لَا يَتَوَلَّوْنَ عَنْ رَسُولِهِمْ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [مُحَمَّد: 38] .
وَارْتِفَاعُ يَسْتَخْلِفُ فِي قِرَاءَةِ الْكَافَّةِ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْجَوَابِ مُجَازٌ فِيهِ الرَّفْعُ وَالْجَزْمُ. وَإِنَّمَا كَانَ الرَّفْعُ هُنَا أَرْجَحَ لِإِعْطَاءِ الْفِعْلِ حُكْمَ الْكَلَامِ