الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَيَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَ كَافَ التَّشْبِيهِ مُفِيدَةً مَعْنَى التَّعْلِيلِ كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ [الْبَقَرَة: 198] فَيُفِيدُ التَّفَاوُتَ بَيْنَ السُّخْرِيَتَيْنِ، لِأَنَّ السُّخْرِيَةَ الْمُعَلَّلَةَ أَحَقُّ مِنَ الْأُخْرَى، فَالْكُفَّارُ سَخِرُوا مِنْ نُوحٍ- عليه السلام لِعَمَلٍ يَجْهَلُونَ غَايَتَهُ، وَنُوحٌ- عليه السلام وَأَتْبَاعُهُ سَخِرُوا مِنَ الْكُفَّارِ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ جَاهِلُونَ فِي غُرُورٍ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ فَهُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ أَيْ سَيَظْهَرُ مَنْ هُوَ الْأَحَقُّ بِأَنْ يُسْخَرَ مِنْهُ.
وَفِي إِسْنَادِ (الْعِلْمِ) إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ دُونَ الضَّمِيرِ الْمُشَارِكِ بِأَنْ يُقَالَ: فَسَوْفَ نَعْلَمُ، إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ هُمُ الْأَحَقُّ بِعِلْمِ ذَلِكَ. وَهَذَا يُفِيدُ أَدَبًا شَرِيفًا بِأَنَّ الْوَاثِقَ بِأَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ لَا يُزَعْزِعُ ثِقَتَهُ مُقَابَلَةُ السُّفَهَاءِ أَعْمَالَهُ النَّافِعَةَ بِالسُّخْرِيَةِ، وَأَنَّ عَلَيْهِ وَعَلَى أَتْبَاعِهِ أَنْ يَسْخَرُوا مِنَ السَّاخِرِينَ.
وَالْخِزْيُ: الْإِهَانَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ فِي آخِرِ سُورَةِ آلَ عِمْرَانَ [192] .
وَالْعَذَابُ الْمُقِيمُ: عَذَابُ الْآخِرَةِ، أَيْ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابُ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَالْعَذَابُ الْخَالِدُ فِي الْآخِرَةِ.
ومَنْ اسْتِفْهَامِيَّةٌ مُعَلِّقَةٌ لِفِعْلِ الْعِلْمِ عَنِ الْعَمَلِ، وَحُلُولُ الْعَذَابِ: حُصُولُهُ شَبَّهَ الْحُصُولَ بِحُلُولِ الْقَادِمِ إِلَى الْمَكَانِ وَهُوَ إِطْلَاقٌ شَائِعٌ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَة.
[40]
[سُورَة هود (11) : آيَة 40]
حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَاّ قَلِيلٌ (40)
حَتَّى غَايَةٌ لِ يَصْنَعُ الْفُلْكَ [هود: 38] أَيْ يَصْنَعُهُ إِلَى زَمَنِ مَجِيءِ أَمْرِنَا، فَ إِذا ظَرْفٌ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ وَلِذَلِكَ جِيءَ لَهُ بِجَوَابٍ. وَهُوَ جُمْلَةُ قُلْنَا احْمِلْ.
وَجَعَلَ الشَّرْطَ وَجَوَابَهُ غَايَةً بِاعْتِبَارِ مَا فِي حَرْفِ الشَّرْطِ مِنْ مَعْنَى الزَّمَانِ وَإِضَافَتِهِ إِلَى جُمْلَةِ الشَّرْطِ، فَحَصَلَ مَعْنَى الْغَايَةِ عِنْدَ حُصُولِ مَضْمُونِ جُمْلَةِ الْجَزَاءِ، وَهُوَ نَظْمٌ بَدِيعٌ بِإِيجَازِهِ.
وحَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ.
وَالْأَمْرُ هُنَا يَحْتَمِلُ أَمْرَ التَّكْوِينِ بِالطُّوفَانِ، وَيَحْتَمِلُ الشَّأْنَ وَهُوَ حَادِثُ الْغَرَقِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِتَهْوِيلِهِ بِأَنَّهُ فَوْقَ مَا يَعْرِفُونَ.
وَمَجِيءُ الْأَمْرِ: حُصُولُهُ.
وَالْفَوَرَانُ: غَلَيَانُ الْقِدْرِ، وَيُطْلِقُ عَلَى نَبْعِ الْمَاءِ بِشِدَّةٍ، تَشْبِيهًا بِفَوَرَانِ مَاءٍ فِي الْقِدْرِ إِذَا غَلِيَ، وَحَمَلُوهُ عَلَى مَا جَاءَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ- عليه السلام مِثْلَ قَوْلِهِ:
وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً [الْقَمَر: 12] . وَلِذَلِكَ لَمْ يَتَّضِحْ لَهُمْ إِسْنَادُهُ إِلَى التَّنُّورِ، فَإِنَّ التَّنُّورَ هُوَ الْمَوْقِدُ الَّذِي يَنْضَجُ فِيهِ الْخُبْزُ، فَكَثُرَتِ الْأَقْوَالُ فِي تَفْسِيرِ التَّنُّورِ، بَلَغَتْ نِسْبَةُ أَقْوَالٍ مِنْهَا مَا لَا يَنْبَغِي قَبُولُهُ. وَمِنْهَا مَا لَهُ وَجْهٌ وَهُوَ مُتَفَاوِتٌ.
فَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ أَبْقَى التَّنُّورَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَجَعَلَ الْفَوَرَانَ خُرُوجَ الْمَاءِ مِنْ أَحَدِ التَّنَانِيرِ وَأَنَّهُ عَلَامَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ لِنُوحٍ- عليه السلام إِذَا فَارَ الْمَاءُ مِنْ تَنُّورِهِ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مَبْدَأَ الطُّوفَانِ فَرَكِبَ الْفُلْكَ وَأَرْكَبَ مَنْ مَعَهُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ التَّنُّورَ عَلَى الْمَجَازِ الْمُفْرَدِ فَفَسَّرَهُ بِسَطْحِ الْأَرْضِ، أَيْ فَارَ الْمَاءُ مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ حَتَّى صَارَ بِسَطْحِ الْأَرْضِ كَفُوَّهَةِ التَّنُّورِ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِأَعْلَى الْأَرْضِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ فارَ والتَّنُّورُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَأَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ التَّمْثِيلِ لِاشْتِدَادِ الْحَالِ، كَمَا يُقَالُ: حَمِيَ الْوَطِيسُ. وَقَعَ حِكَايَةُ ذَلِكَ فِي
تَفْسِيرُ ابْنِ عَطِيَّةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي الْكَشَّافِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ: وَأَنْشَدَ الطَّبَرْسِيُّ قَوْلَ الشَّاعِرِ. وَهُوَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ:
تَفُورُ عَلَيْنَا قِدْرُهُمْ فَنُدِيمُهَا
…
وَنَفْثَأُهَا عَنَّا إِذَا قِدْرُهَا غَلَى
يُرِيدُ بِالْقِدْرِ الْحَرْبَ، وَنَفْثَأُهَا، أَيْ نُسَكِّنُهَا، يُقَالُ: فَثَأَ الْقِدْرُ إِذَا سَكَنَ غَلَيَانُهَا بِصَبِّ الْمَاءِ فِيهَا. وَهَذَا أَحْسَنُ مَا حُكِيَ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ قَوْلَهُ: وَفارَ التَّنُّورُ مَثَلٌ لِبُلُوغِ الشَّيْءِ إِلَى أَقْصَى مَا يُتَحَمَّلُ مِثْلُهُ، كَمَا يُقَالُ: بَلَغَ السَّيْلُ الزُّبَى، وَامْتَلَأَ الصَّاعُ، وَفَاضَتِ الْكَأْسُ وَتَفَاقَمَ.
وَالتَّنُّورُ: مَحْفِلُ الْوَادِي، أَيْ ضَفَّتُهُ، فَيَكُونُ مِثْلَ طَمَا الْوَادِي مِنْ قَبِيلِ بَلَغَ السَّيْلُ الزُّبَى. وَالْمَعْنَى: بِأَنَّ نَفَاذَ أَمْرِنَا فِيهِمْ وَبَلَغُوا مِنْ طُولِ مُدَّةِ الْكُفْرِ مَبْلَغًا لَا يُغْتَفَرُ لَهُمْ بَعْدُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ [الزخرف: 55] .
وَالتَّنُّورُ: اسْمٌ لِمَوْقِدِ النَّارِ لِلْخُبْزِ. وَزَعَمَهُ. اللَّيْثُ مِمَّا اتَّفَقَتْ فِيهِ اللُّغَاتُ، أَيْ كَالصَّابُونِ وَالسَّمُّورِ. وَنَسَبَ الْخَفَاجِيُّ فِي شِفَاءِ الْغَلِيلِ هَذَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ أَبُو مَنْصُورٍ: كَلَامُ اللَّيْثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي الْأَصْلِ أَعْجَمِيٌّ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ فَعُّولٌ مِنْ تَنَرَ وَلَا نَعْرِفُ تَنَرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِأَنَّهُ مُهْمَلٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ نُونٌ قَبْلَ رَاءٍ فَإِنَّ نَرْجِسَ مُعَرَّبٌ أَيْضًا. وَقَدْ عُدَّ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُعَرَّبَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الْقُرْآنِ. وَنَظَمَهَا ابْنُ السُّبْكِيِّ فِي شَرْحِهِ عَلَى مُخْتَصَرِ ابْنِ الْحَاجِبِ الْأَصْلِيِّ وَنَسَبَ ذَلِكَ إِلَى ابْنِ دُرَيْدٍ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَزْنُهُ فَعَّولٌ. وَعَنْ ثَعْلَبٍ أَنَّهُ عَرَبِيٌّ، قَالَ: وَزْنُهُ تَفْعُولٌ مِنَ النُّورِ (أَيْ فَالتَّاءُ زَايِدَةٌ) وَأَصْلُهُ تَنُوُورٌ بِوَاوَيْنِ، فَقُلِبَتِ الْوَاوُ الْأُولَى هَمْزَةً لِانْضِمَامِهَا ثُمَّ حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ تَخْفِيفًا ثُمَّ شُدِّدَتِ النُّونُ عِوَضًا عَمَّا حُذِفَ أَيْ مِثْلَ قَوْلِهِ: تَقَضَّى الْبَازِيُّ بِمَعْنَى تَقَضَّضَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ بِإِضَافَةِ كُلٍّ إِلَى زَوْجَيْنِ.
وَالزَّوْجُ: شَيْءٌ يَكُونُ ثَانِيًا لِآخَرَ فِي حَالِةٍ. وَأَصْلُهُ اسْمٌ لِمَا يَنْضَمُّ إِلَى فَرْدٍ فَيَصِيرُ زَوْجًا لَهُ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا زَوْجٌ للْآخر. وَالْمرَاد ب زَوْجَيْنِ هُنَا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى مِنَ النَّوْعِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ إِضَافَةُ كُلٍّ إِلَى زَوْجَيْنِ، أَيِ احْمِلْ فِيهَا مِنْ أَزْوَاجِ جَمِيعِ الْأَنْوَاعِ.
ومِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ، واثْنَيْنِ مَفْعُولُ احْمِلْ، وَهُوَ بَيَانٌ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ أَنْ يَحْمِلَ كُلَّ زَوْجَيْنِ وَاحِدًا مِنْهُمَا لِأَنَّ الزَّوْجَ هُوَ وَاحِدٌ مِنِ اثْنَيْنِ مُتَّصِلَيْنِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [143] . وَلِئَلَّا يَحْمِلَ أَكْثَرَ مِنَ اثْنَيْنِ مِنْ نَوْعٍ لِتَضِيقَ السَّفِينَةُ وَتَثْقُلَ.
وَقَرَأَهُ حَفْصٌ مِنْ كُلٍّ بِتَنْوِينِ كُلٍّ فَيَكُونُ تَنْوِينَ عِوَضٍ عَنْ مُضَافٍ إِلَيْهِ، أَيْ مِنْ كُلِّ الْمَخْلُوقَاتِ، وَيَكُونُ زَوْجَيْنِ مَفْعُولَ احْمِلْ، وَيَكُونُ اثْنَيْنِ صِفَةً لِ زَوْجَيْنِ أَيْ لَا تَزِدْ عَلَى اثْنَيْنِ.
وَأَهْلُ الرَّجُلِ قَرَابَتُهُ وَأَهْلُ بَيْتِهِ وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ. وَزَوْجُهُ أَوَّلُ مَنْ يُبَادَرُ مِنَ اللَّفْظِ، وَيُطْلَقُ لَفْظُ الْأَهْلِ عَلَى امْرَأَةِ الرَّجُلِ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ [الْقَصَص: 29]، وَقَالَ: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ [آل عمرَان: 121] أَيْ مِنْ عِنْدِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها.
ومَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ أَيْ مَنْ مَضَى قَوْلُ اللَّهِ عَلَيْهِ، أَيْ وَعِيدُهُ. فَالتَّعْرِيفُ فِي الْقَوْلُ لِلْعَهْدِ، يَعْنِي إِلَّا مَنْ كَانَ مِنْ أهلك كَافِرًا.، وَمَا صدق هَذَا إِحْدَى امْرَأَتَيْهِ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ وَابْنُهُ مِنْهَا الْمَذْكُورُ فِي آخِرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ. وَكَانَ لِنُوحٍ- عليه السلام امْرَأَتَانِ.
وَعُدِّيَ سَبَقَ بِحَرْفِ عَلَى لِتَضْمِينِ سَبَقَ مَعْنَى: حَكَمَ، كَمَا عُدِّيَ بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ [الصافات: 171] لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الِالْتِزَامِ النَّافِعِ.