الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سُورَة يُوسُف (12) : الْآيَات 11 إِلَى 12]
قالُوا يَا أَبانا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ سَوْقَ الْقِصَّةِ يَسْتَدْعِي تَسَاؤُلَ السَّامِعِ عَمَّا جَرَى بَعْدَ إِشَارَةِ أَخِيهِمْ عَلَيْهِمْ، وَهَلْ رَجَعُوا عَمَّا بَيَّتُوا وَصَمَّمُوا عَلَى مَا أَشَارَ بِهِ أَخُوهُمْ.
وَابْتِدَاءُ الْكَلَامِ مَعَ أَبِيهِمْ بِقَوْلِهِمْ: يَا أَبانا يَقْضِي أَنَّ تِلْكَ عَادَتُهُمْ فِي خِطَابِ الِابْنِ أَبَاهُ.
وَلَعَلَّ يَعْقُوبَ- عليه السلام كَانَ لَا يَأْذَنُ لِيُوسُفَ- عليه السلام بِالْخُرُوجِ مَعَ إِخْوَتِهِ لِلرَّعْيِ أَوْ لِلسَّبْقِ خَوْفًا عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يُصِيبَهُ سُوءٌ مِنْ كَيْدِهِمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ يُصَرِّحُ لَهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُهُمْ عَلَيْهِ وَلَكِنَّ حَالَهُ فِي مَنْعِهِ مِنَ الْخُرُوجِ كَحَالِ مَنْ لَا يَأْمَنُهُمْ عَلَيْهِ فَنَزَّلُوهُ مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يَأْمَنُهُمْ، وَأَتَوْا بِالِاسْتِفْهَامِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى نَفْيِ الِائْتِمَانِ.
وَفِي التَّوْرَاةِ أَنَّ يَعْقُوبَ- عليه السلام أَرْسَلَهُ إِلَى إِخْوَتِهِ وَكَانُوا قَدْ خَرَجُوا يَرْعَوْنَ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ تَحْرِيفًا فَلَعَلَّ يَعْقُوبَ- عليه السلام بَعْدَ أَنِ امْتَنَعَ مِنْ خُرُوجِ يُوسُفَ- عليه السلام مَعَهُمْ سَمَحَ لَهُ بِذَلِكَ، أَوْ بَعْدَ أَنْ سَمِعَ لَوْمَهُمْ عَلَيْهِ سَمَحَ لَهُ بِذَلِكَ.
وَتَرْكِيبُ مَا لَكَ لَا تَفْعَلُ. تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [35]، وَانْظُرْ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [38] . وَقَوْلُهُ: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [88] .
وَاتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى قِرَاءَةِ لَا تَأْمَنَّا بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ مُدْغَمَةٍ مِنْ نُونِ أَمِنَ وَنُونِ جَمَاعَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَهِيَ مَرْسُومَةٌ فِي الْمُصْحَفِ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ. وَاخْتَلَفُوا
فِي كَيْفِيَّةِ النُّطْقِ بِهَذِهِ النُّونِ بَيْنَ إِدْغَامٍ مَحْضٍ، وَإِدْغَامٍ بِإِشْمَامٍ، وَإِخْفَاءٍ بِلَا إِدْغَامٍ، وَهَذَا الْوَجْهُ الْأَخِيرُ مَرْجُوحٌ، وَأَرْجَحُ الْوَجْهَيْنِ الْآخَرَيْنِ الْإِدْغَامُ بِإِشْمَامٍ، وَهُمَا طَرِيقَتَانِ لِلْكُلِّ وَلَيْسَا مَذْهَبَيْنِ.
وَحَرْفُ عَلى الَّتِي يَتَعَدَّى بِهَا فِعْلُ الْأَمْنِ الْمَنْفِيِّ لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ بِمَعْنَى التَّمَكُّنِ مِنْ تَعَلُّقِ الِائْتِمَانِ بِمَدْخُولِ عَلى.
وَالنُّصْحُ عَمَلٌ أَوْ قَوْلٌ فِيهِ نَفْعٌ لِلْمَنْصُوحِ، وَفِعْلُهُ يَتَعَدَّى بِاللَّامِ غَالِبًا وَبِنَفْسِهِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [62] .
وَجُمْلَةُ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَتَيْ مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا وَجُمْلَةِ أَرْسِلْهُ. وَالْمَعْنَى هُنَا: أَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ مَا فِيهِ نَفْعٌ لِيُوسُفَ- عليه السلام.
وَجُمْلَةُ أَرْسِلْهُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ الْإِنْكَارَ الْمُتَقَدِّمَ يُثِيرُ تَرَقُّبَ يَعْقُوبَ- عليه السلام لِمَعْرِفَةِ مَا يُرِيدُونَ مِنْهُ لِيُوسُفَ- عليه السلام.
ويَرْتَعْ قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ- بِيَاءِ الْغَائِبِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ-. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ- بِنُونِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ- وَهُوَ على قراءتي هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ مُضَارِعُ ارْتَعَى وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنَ الرَّعْيِ لِلْمُبَالَغَةِ فِيهِ.
فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي أَكْلِ الْمَوَاشِي وَالْبَهَائِمِ وَاسْتُعِيرَ فِي كَلَامِهِمْ لِلْأَكْلِ الْكَثِيرِ لِأَنَّ النَّاسَ إِذَا خَرَجُوا إِلَى الرِّيَاضِ وَالْأَرْيَافِ لِلَّعِبِ وَالسَّبْقِ تَقْوَى شَهْوَةُ الْأَكْلِ فِيهِمْ فَيَأْكُلُونَ أَكْلًا ذَرِيعًا فَلِذَلِكَ شَبَّهَ أَكْلَهُمْ بِأَكْلِ الْأَنْعَامِ. وَإِنَّمَا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَسُرُّ أَبَاهُمْ أَنْ يَكُونُوا فَرِحِينَ.
وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ- بِنُونٍ وَسُكُونِ الْعَيْنِ-. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِيَاءِ الْغَائِبِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ- وَهُوَ عَلَى قِرَاءَتَيْ هَؤُلَاءِ السِّتَّةِ مُضَارِعُ رَتَعَ إِذَا أَقَامَ فِي خِصْبٍ وَسَعَةٍ مِنَ الطَّعَامِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ
هَذَا مُسْتَعَارٌ مِنْ رَتَعَتِ الدَّابَّةُ إِذَا أَكَلَتْ فِي الْمَرْعَى حَتَّى شَبِعَتْ. فَمُفَادُ الْمَعْنَى عَلَى التَّأْوِيلَيْنِ وَاحِدٌ.
وَاللَّعِبُ: فِعْلٌ أَوْ كَلَامٌ لَا يُرَادُ مِنْهُ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُرَادَ بِمِثْلِهِ نَحْوَ الْجَرْيِ والقفز والسّبق والمراماة، نَحْوَ قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
فَظَلَّ الْعَذَارَى يَرْتَمِينَ بِشَحْمِهَا يَقْصِدُ مِنْهُ الِاسْتِجْمَامَ وَدَفْعَ السَّآمَةِ. وَهُوَ مُبَاحٌ فِي الشَّرَائِعِ كُلِّهَا إِذَا لَمْ يَصِرْ دَأَبًا. فَلَا وَجْهَ لِتَسَاؤُلِ صَاحب «الْكَشَّاف» على اسْتِجَازَةِ يَعْقُوبَ- عليه السلام لَهُمُ اللَّعِبَ.
وَالَّذِينَ قَرَأُوا نَرْتَعْ بِنُونِ الْمُشَارَكَةِ قَرَأُوا وَنَلْعَبْ بِالنُّونِ أَيْضًا.
وَجُمْلَةُ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِثْلَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ [سُورَة يُوسُف: 10] . وَالتَّأْكِيدُ فِيهِمَا لِلتَّحْقِيقِ تَنْزِيلًا لِأَبِيهِمْ مَنْزِلَةَ الشَّاكِّ فِي أَنَّهُمْ يَحْفَظُونَهُ وَيَنْصَحُونَهُ كَمَا نَزَّلُوهُ مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يَأْمَنُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ كَانَ لَا يَأْذَنُ لَهُ بِالْخُرُوجِ مَعَهُمْ لِلرَّعْيِ وَنَحْوِهِ.
وَتَقْدِيمُ لَهُ فِي لَهُ لَناصِحُونَ ولَهُ لَحافِظُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ الرِّعَايَةِ
لِلْفَاصِلَةِ وَالِاهْتِمَامِ بِشَأْنِ يُوسُفَ- عليه السلام فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْقَصْرِ الِادِّعَائِيِّ جَعَلُوا أَنْفُسَهُمْ لِفَرْطِ عِنَايَتِهِمْ بِهِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يَحْفَظُ غَيْرَهُ وَلَا يَنْصَحُ غَيْرَهُ.
وَفِي هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي تَوَاطَأُوا عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِيهِمْ عِبْرَة من تواطئ أَهْلِ الْغَرَضِ الْوَاحِدِ عَلَى التَّحَيُّلِ لِنَصْبِ الْأَحَابِيلِ لِتَحْصِيلِ غَرَضٍ دَنِيءٍ، وَكَيْفَ ابْتَدَأُوا بِالِاسْتِفْهَامِ عَنْ عَدَمِ أَمْنِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى أَخِيهِمْ وَإِظْهَارُ أَنَّهُمْ نُصَحَاءُ لَهُ، وَحَقَّقُوا ذَلِكَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ وَبِحَرْفِ التَّوْكِيدِ، ثُمَّ أَظْهَرُوا أَنَّهُمْ مَا حَرَصُوا إِلَّا عَلَى فَائِدَةِ أَخِيهِمْ وَأَنَّهُمْ حَافِظُونَ لَهُ وَأَكَّدُوا ذَلِك أَيْضا.