الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوسوسة في الطهارة
المجيب د. يوسف بن أحمد القاسم
عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء
التصنيف الفهرسة/ الآداب والسلوك والتربية/ استشارات نفسية وتربوية/
وساوس قهرية
التاريخ 26/12/1425هـ
السؤال
لي أختان أكبر منى سنًّا، ولهما تصرفات مزعجة بعض الشيء، حيث يبالغان في أمر النظافة، فمثلاً إذا توضآ يقومان بغسل أقدامهما جيدًا بالصابون، ويرتديان أردية خاصة يقومان بغسلها أيضًا بالصابون والماء الساخن، ولا ينزعانها إلا عند موضع الصلاة الذي هو أيضًا موضع خاص، كما أنهما حين تجلسان معنا على الفرش ثم ينزعاه عندما يذهبا إلى فراشهما الخاص، كل هذا لأن أبي يذهب إلى المسجد يصلي ويقول بأن الفئران تجرى بالمسجد، وأيضًا لأن حذاءه يأتي فيه بعض تراب الشارع، حيث إن الطرق عندنا غير مرصوفة، ويمشي على السجاد دون غسل قدمه كما أنهما ليس لديهما ثقة في أي شيء، فإذا خرجت أمي من الحمام، وهى امرأة كبيرة، ولم تصل قدمها إلى الحذاء الخاص بالحمام ولامست البلاط المجاور للحذاء تقوم الدنيا ولا تقعد، وغير ذلك مما يطول شرحه، فما نصيحتكم لهما ولأمثالهما من الموسوسين؟.
الجواب
الحمد لله وحده، وبعد:
فما تقوم به الأختان الكريمتان اللتان هما أكبر سنّاً منك، هو من التنطع المذموم الذي جاءت النصوص الشرعية بالتحذير منه، ومن مغبة الوقوع في شركه، ومنها قول نبينا - صلى الله عليه ونسلم-:"هلك المتنطعون هلك المتنطعون، هلك المتنطعون" أخرجه مسلم في صحيحه (2670) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال النووي في شرح صحيح مسلم (16/220)، تعليقاً على هذا الحديث:"أي: المتعمقون، الغالون، المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم" ا. هـ، ولا شك أن ما تقوم به هاتان الأختان هو من التنطع في الأفعال، وهو من الوسواس الذي ابتُلى به كثير من الناس، ومما قيل في تفسير التنطع الوارد في الحديث المتقدم ما ذكره المناوي في فيض القدير (6/355)، حيث قال:"الغالون في عبادتهم، بحيث تخرج عن قوانين الشريعة، ويسترسل مع الشيطان في الوسوسة" ا. هـ. فالمبالغة في التنظف والتحرز من النجاسة على هذا النحو الذي تقومان به في البيت من الوسواس المذموم، ولو كانت الوسوسة فضيلة لما ادخرها الله عن رسوله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم، وهم خير الخلق وأفضلهم، ولذا قال العلامة ابن القيم في إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان (1/136)، ما نصه:"ولو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم الموسوسين لمقتهم ولو أدركهم عمر رضي الله عنه لضربهم وأدبهم ولو أدركهم الصحابة- رضي الله عنهم لبدعوهم". ثم ذكر ابن القيم رحمه الله بعضاً من هدى النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم فيما يتعلق بالتحرز من النجاسة والنظافة من الأقذار، خلافاً لما عليه المتشددون وأهل الوسوسة، فقال في إغاثة اللهفان (1/144-159) :"ومن ذلك أشياء سهَّل فيها المبعوث بالحنيفية السمحة، فشدد فيها هؤلاء، فمن ذلك المشي حافياً في الطرقات، ثم يصلي ولا يغسل رجليه، فقد روى أبو داود في سننه عَنْ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لَنَا طَرِيقًا إِلَى الْمَسْجِدِ مُنْتِنَةً - من النتن أي ذات نجاسة- فَكَيْفَ نَفْعَلُ إِذَا مُطِرْنَا؟ قَالَ: أَلَيْسَ بَعْدَه طَرِيقٌ هِيَ أَطْيَبُ - أي أطهر- مِنْهَا؟ ". قَالَتْ: بَلَى. قَالَ: "فَهَذِهِ بِهَذِهِ". وقال حفص: أقبلت مع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عامدين إلى المسجد فلما انتهينا عدلت إلى المطهرة لأغسل قدمي من شيء أصابها، فقال عبد الله رضي الله عنه: لا تفعل، فإنك تطأ الموطيء الرديء - يعني النجس- ثم تطأ بعده الموطئ الطيب- يعني الطاهر - أو قال: النظيف، فيكون ذلك طهوراً، فدخلنا المسجد جميعاً فصلينا"، وقال أبو الشعثاء: "كان ابن عمر رضي الله عنهما يمشي بمنى في الفروث والدماء اليابسة حافياً، ثم يدخل المسجد فيصلي فيه، ولا يغسل قدميه"، ا. هـ، ثم ذكر ابن القيم مثالاً آخر فقال: "ومن ذلك أن الخف والحذاء إذا أصابت النجاسة أسفله أجزأ دلكه بالأرض، وجازت الصلاة فيه - يعني في الحذاء- بالسنة الثابتة؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور". وفي لفظ: "إذا وطئ الأذى بخفيه فطهورهما التراب"، رواهما أبو
داود. ثم ذكر ابن القيم مثالاً آخر فقال: "وكذلك ذيل المرأة على الصحيح، وقالت امرأة لأم سلمة رضي الله عنها إني أطيل ذيلي - يعني ذيل العباءة أو الثوب- وأمشي في المكان القذر، فقالت- رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يطهره ما بعده" رواه أحمد وأبو داود، وقد رخص النبي عليه الصلاة والسلام للمرأة أن ترخي ذيلها ذراعاً. ومعلوم أنه يصيبه القذر، ولم يأمرها بغسل ذلك، بل أفتاهن بأنه تطهره الأرض"، ثم ذكر مثالاً آخر فقال:"ومن ذلك أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة حيث كان، وفي أي مكان اتفق، سوى ما نهى عنه من المقبرة والحمام، وأعطان الإبل، فصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فحيثما أدركت رجلاً من أمتي الصلاة فليصل". وكان عليه الصلاة والسلام يصلي في مرابض الغنم، وأمر بذلك، ولم يشترط حائلاً - يعني سترة بين المصلي وبين الأرض
…
"، فأين هذا الهدي من فعل من لا يصلي إلا على سجادة تفرش فوق البساط، فوق الحصير، ويضع عليها المنديل، ولا يمشي على الحصير ولا على البساط، بل يمشي عليها نقراً كالعصفور، فما أحق هؤلاء بقول ابن مسعود رضي الله عنه: "لأنتم أهدى من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أو أنتم على شعبة ضلالة! ". وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم على حصير قد اسود من طول ما لبس، فنضحه بالماء، وصلى عليه، ولم يفرش فوقه سجادة ولا منديل، وكان يسجد على التراب تارة، وعلى الحصى تارة، وفي الطين تارة، حتى يرى أثره على جبهته وأنفه، وقال ابن عمر رضي الله عنهما: " كَانَتْ الْكِلَابُ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ وتَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ، ولَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ" رواه البخاري
…
ثم ذكر رحمه الله مثالاً آخر فقال: "ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة بنت ابنته زينب رضي الله عنها، فإذا ركع وضعها، وإذا قام حملها"متفق عليه، وهو دليل على جواز الصلاة في ثياب المربية، والمرضع، والحائض، والصبي ما لم يتحقق نجاستها" ا. هـ، هذا غيض من فيض، مما ذكره الإمام ابن القيم في كتابه القيم إغاثة اللهفان، وهو -كاسمه- يغيث اللهفان عن مصائد الشيطان وحبائله. وبكل حال، فعلى الأخت السائلة أن تناصح أختيها الكريمتين بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن توضح لهما بأن الله عز وجل غني عن هذا التشديد الذي ما أنزل الله به من سلطان، وبأن الدين - ولله الحمد- يسر، لا عسر فيه ولا حرج، لا في باب الطهارة وإزالة النجاسة، ولا في غيره من الأبواب، وهذا واضح جلي للعامة فضلاً عن خاصة أهل العلم، ولكن عدو الله - إبليس- لم يزل ولا يزال يوسوس على كل بحسبه، فإذا لم يستطع أن يوقع الرجل أو المرأة في الشرك أو في المعاصي الظاهرة، فإنه يفسد عليه عمله الصالح بالغلو فيه أو في كثرة الشكوك، ونحو ذلك، كما قال بعض السلف: "ما أمر الله - تعالى- بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وتقصير، وإما إلى مجاوزة وغلو، ولا يبالي بأيهما ظفر" قال ابن القيم في الإغاثة (1/116) :"وقد اقتطع أكثر الناس إلا أقل القليل في هذين الواديين؛ وادي التقصير، ووادي المجاوزة والتعدي، والقليل منهم جداً الثابت على الصراط الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم -وأصحابه رضي الله عنهم فقوم قصَّر بهم عن الإتيان بواجبات الطهارة، وقوم تجاوز بهم إلى مجاوزة الحد بالوسواس.." ا. هـ، فاللهم، اجعلنا من أقل القليل ممن هديتهم - بفضلك - إلى صراطك المستقيم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.