الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قول الصحابي إذا خالف صحابة آخرين
المجيب د. صالح بن عبد العزيز المنصور
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام سابقاً
التصنيف الفهرسة/ السيرة والتاريخ والتراجم/الصحابة الكرام
التاريخ 15/8/1423هـ
السؤال
هل مذهب الصحابي الذي خالفه صحابة آخرون جدير بالاتباع أم لا؟
الجواب
الجواب وبالله التوفيق:
إذا قال الصحابي قولاً وخالفه صحابي غيره فإنه يجب على المجتهد أن يسلك مسلك الترجيح بين هذه الأقوال، فيأخذ ما أيده الدليل من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قياس صحيح أو أثر صحيح، أو نظر صحيح، أو مقصد من مقاصد الشريعة أو غير ذلك من وسائل الترجيح، فإن لم يجد ما يؤيد أحد هذه الأقوال على غيرها قدَّم قول الخلفاء الراشدين الأربعة على قول غيرهم إن اجتمعوا، فإن لم يجتمعوا قدَّم قول أبي بكر وعمر، ثم عمر على قول غيره، ثم من ذكرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بصفة من صفات المدح في العلم، فإن لم يجد ما يرجح به قول أحدهم على الآخر بوجه من وجوه الترجيح حكى الخلاف في المسألة ولم يجزم بصحة قول أحد منهم.
قال الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله حينما ذكر أصول مذهب الإمام أحمد، وذلك في كتابه (إعلام الموقعين صـ21/1) :"الأصل الثالث من أصوله: إذا اختلف الصحابة - رضوان الله عليهم - تخيّر من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنة، ولم يخرج عن أقوالهم، فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال حكى الخلاف فيها ولم يجزم بقولٍ".
قلت: وهذا بالنسبة للعلماء المجتهدين، أما بالنسبة للمقلد وعوام الناس فإنه يقلد في ذلك الخلاف العلماء المجتهدين، وأعني بالعلماء المجتهدين: علماء السلف الصالح المتبعين لأدلة الكتاب والسنة وإجماع الأمة والأدلة الشرعية، دون أئمة البدع الذين يُعرضون عن أدلة الشرع ويقدمون القياس والعقل على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعمل الصحابة، بل يقعون في أعراضهم، فمثل هؤلاء الذين يخالفون أدلة الشرع يجب على المسلم أن يحذرهم ولا يثق بأقوالهم، وقد قال السلف الصالح في مثل هؤلاء: إذا رأيتم الرجل صاحب هوى ويسب الصحابة والسلف الصالح فاعلموا أنه صاحب بدعة، ولا شك أن قول الصحابي أو مذهبه أولى من غيره مع عدم الدليل؛ لأن الصحابة -رضوان الله عليهم- أعدل الناس وأبرُّ الناس وأتقاهم، وقد بلغوا الذروة في التقوى، ومن كان كذلك فقد وعده الله العلم، ووعْدُه -تعالى- حق، ومن أصدق من الله قيلاً، يقول الله -عز شأنه-:"واتقوا الله ويعلمكم الله"، ثم إن الصحابة -رضوان الله عليهم- لديهم من الصفات والوسائل ما يجعلهم جديرين بأن يكون قولهم صواباً يجب تقديمه على قول غيرهم لملازمتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يجعلهم يعرفون مراده في إشاراته وكلامه ونغمات ونبرات صوته وما يظهر على وجهه من سرور وفرح، أو كراهة وبغض، وحضروا نزول القرآن وعرفوا أسباب نزول الآيات ومناسبات نزولها، ووقتها وما يراد منها، وعرفوا الناسخ والمنسوخ، والمنطوق، والمفهوم، والمطلق والمقيد، والعام والخاص، كيف لا وهم أرباب الفصاحة والبيان، لم تخالطهم عجمة ولم يتأثروا بمجتمعات أخرى غير المجتمع الذي نزل فيهم القرآن، إنك لو أتيت برجل أعجمي وجعلته ملازماً لك يخدمك أو يقوم بعمل لديك لوجدته أعرف الناس بكلامك وإشاراتك، ومرادك من غيره حتى من العرب، فكيف بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
إن الكلام الذي تتكلم به وأنت واحد فيفهم من سمعه منك من المعاني غير ما سمعه شخص آخر ممن نقله عنك، وربما تكلم طفلاً بكلام فيضحك، وربما تكلمه بنفس الكلام مرة أخرى فينفر منك أو يبكي، وذلك لما صاحب الكلام من انفعال وحدّة وغضب، ومثل هذا المعنى الذي يوجد في نبرات الصوت وقسمات الوجه لا يدركها إلا من سمع من المتكلم مباشرة، لذا قلنا إن قول الصحابي الذي سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدم على قول غيره لهذه الاعتبارات التي ذكرناها وغيرها، فهل يليق بمسلم يؤمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم أن يقدم قول غيره في شرع الله مع عدم الدليل؟ وإنما يسوغ ترك قول الصحابي إذا كان مخالفاً للدليل، أما إذا لم يكن هناك دليل فلا وألف لا، كيف نترك قول الصحابة وهم الذين عدلهم الله -تعالى- وزكاهم وجعلهم حملةً لرسالة نبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بعده إلى من بعدهم؟ فالقدح فيهم قدح في الله -تعالى- وعلمه، ووصف له سبحانه وتعالى بالجهل، حيث يختار لصحبة نبيه عليه الصلاة والسلام وحمل رسالته أناساً جهالاً، أو خونة كما يقوله بعض الطوائف المبتدعة -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً-، أرأيتم لو أن ملكاً من ملوك الدنيا أراد أن يختار رجلاً لمنصب ولاية ويحمله مسؤولية كبيرة، وأمانة عظيمة وأراد أن يرسل معه أنصاراً وأعواناً وأصحاباً لمساندته فما ظنكم فيمن يختار له من الأنصار والأصحاب؟ أيختار له جهالاً أو خونة أو منافقين؟ كلا، ولئن حصل اختيار غير مناسب في بعضهم فهذا راجع لقصور علم هذا الملك، ولو علم ذلك منه لما اختاره، هذا مثل يقرب لنا اختيار الله للصحابة -رضوان الله عليهم- ولله المثل الأعلى، فاتهام الصحابة أو القدح فيهم قدح في علم الله وذات الله -تعالى الله عمَّا يقول الظالمون علواً كبيراً، وقد أجمع التابعون على اتباع الصحابة فيما ورد عنهم والأخذ بقولهم والفتيا به من غير نكير من أحد منهم وكانوا من أهل الاجتهاد، قال العلائي - في كتابه (الإصابة في أقوال الصحابة صـ67) -:"ومن أمعن النظر في كتب الآثار وجد التابعين لا يختلفون في الرجوع إلى أقوال الصحابة فيما ليس فيه كتاب ولا سنة ولا إجماع" انتهى كلام العلائي.
وما ذكرته هنا هو مذهب الإمام مالك وأصحابه، وهو قول إسحاق بن راهويه وأبي عبيد وهو منصوص الإمام أحمد بن حنبل في غير موضع عنه، واختيار جمهور أصحابه، وهو مذهب الإمام أبي حنيفة، صرح به محمد بن الحسن وذُكر عن أبي حنيفة نصاً، وهو مذهب جمهور الحنفية، وهو ما نص عليه الشافعي في القديم، وكذلك الجديد، ذكر ذلك الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله.
وقد بسطت واستطردت في جواب هذا السؤال لأهميته وشدة الحاجة إلى معرفته؛ لما رأيناه وسمعناه في وسائل الإعلام المرئية والسمعية من قدح في الصحابة - رضوان الله عليهم - وأقوالهم من أصحاب النوايا السيئة، ومن أهل البدع، نسأل الله أن يرد شارد المسلمين ويهدي الضالين إلى الصراط المستقيم، ويجمع كلمة عباده المؤمنين، إنه سميع قريب مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وأصحابه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.