الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْمَبْثُوثَةُ: الْمُنْتَشِرَةُ عَلَى الْأَرْضِ بِكَثْرَةٍ وَذَلِكَ يُفِيدُ كِنَايَةً عَنِ الْكَثْرَةِ.
وَقَدْ قُوبِلَتْ صِفَاتُ وُجُوهِ أَهْلِ النَّارِ بِصِفَاتِ وُجُوهِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَقُوبِلَتْ صِفَات خاشِعَةٌ [الغاشية: 2] ، عامِلَةٌ، ناصِبَةٌ [الغاشية: 3] بِصِفَاتِ ناعِمَةٌ لِسَعْيِها راضِيَةٌ
[الغاشية: 8، 9]، وَقُوبِلَ قَوْلُهُ: تَصْلى نَارا حامِيَةً [الغاشية: 4] بِقَوْلِهِ: فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ [الغاشية: 10] . وَقُوبِلَ: تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ [الغاشية: 5] بِقَوْلِهِ: فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ [الغاشية:
12] ، وَقُوبِلَ شَقَاءُ عَيْشِ أَهْلِ النَّارِ الَّذِي أَفَادَهُ قَوْله: يْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لَا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ
[الغاشية: 6، 7] ، بِمَقَاعِدِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْمُشْعِرَةِ بِتَرَفِ الْعَيْشِ مِنْ شَرَابٍ وَمَتَاعٍ.
وَهَذَا وَعْدٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ مَا يَعْرِفُونَ مِنَ النَعِيمِ فِي الدُّنْيَا وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ تَرَفَ الْجَنَّةِ لَا يَبْلُغُهُ الْوَصْفُ بِالْكَلَامِ وَجُمِعَ ذَلِكَ بِوَجْهِ الْإِجْمَالِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ [الزخرف: 71] ، وَلَكِنَّ الْأَرْوَاحَ تَرْتَاحُ بمألوفاتها فتعطاها فَيكون نَعِيمَ أَرْوَاحِ النَّاسِ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِنْ كُلِّ مِصْرٍ فِي الدَّرَجَةِ الْقُصْوَى مِمَّا أَلِفُوهُ وَلَا سِيَّمَا مَا هُوَ مَأْلُوفٌ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْحَضَارَةِ وَالتَّرَفِ وَكَانُوا يَتَمَنَّوْنَهُ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ يُزَادُونَ مِنَ النَعِيمِ «مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قلب بشر» .
[17- 20]
[سُورَة الغاشية (88) : الْآيَات 17 إِلَى 20]
أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)
لَمَّا تَقَدَّمَ التَّذْكِيرُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَوَصْفُ حَالِ أَهْلِ الشَّقَاءِ بِمَا وُصِفُوا بِهِ، وَكَانَ قَدْ تَقَرَّرُ فِيمَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ أَنَّ أَهْلَ الشَّقَاءِ هُمْ أَهْلُ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ، فُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ إِعْرَاضَهُمْ عَنِ النَّظَرِ فِي دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ، فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: أَفَلا يَنْظُرُونَ تَفْرِيعُ التَّعْلِيلِ عَلَى الْمُعَلَّلِ لِأَنَّ فَظَاعَةَ ذَلِكَ الْوَعِيدِ تَجْعَلُ الْمَقَامَ مَقَامَ اسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّهُمْ مَحْقُوقُونَ بِوُجُوبِ النَّظَرِ فِي دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ الَّتِي هِيَ أَصِلُ الِاهْتِدَاءِ إِلَى تَصْدِيقِ مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ الْقُرْآنُ مِنَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَإِلَى الِاهْتِدَاءِ إِلَى أَن منشىء النَّشْأَةِ الْأَوْلَى عَنْ عَدَمٍ بِمَا فِيهَا مِنْ عَظِيمِ الْمَوْجُودَاتِ كَالْجِبَالِ وَالسَّمَاءِ، لَا يُسْتَبْعَدُ فِي جَانِبِ قُدْرَتِهِ إِعَادَةُ إِنْشَاءِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ فَنَائِهِ عَنْ عَدَمٍ، وَهُوَ دُونَ
تِلْكَ الْمَوْجُودَاتِ الْعَظِيمَةِ الْأَحْجَامِ، فَكَانَ إِعْرَاضُهُمْ عَنِ النَّظَرِ مَجْلَبَةً لِمَا يُجَشِّمُهُمْ مِنَ الشَّقَاوَةِ وَمَا وَقَعَ بَيْنَ هَذَا التَّفْرِيعِ، وَبَيْنَ الْمُفَرَّعِ عَنْهُ مِنْ جُمْلَةِ:
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ [الغاشية: 8] كَانَ فِي مَوْقِعِ الِاعْتِرَاضِ كَمَا عَلِمْتَ.
فَضَمِيرُ يَنْظُرُونَ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ.
وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ إِنْكَارًا عَلَيْهِمْ إِهْمَالَ النَّظَرِ فِي الْحَالِ إِلَى دَقَائِقِ صُنْعِ اللَّهِ فِي بَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ.
وَالنَّظَرُ: نَظَرُ الْعَيْنِ الْمُفِيدِ الِاعْتِبَارَ بِدَقَائِقِ الْمَنْظُورِ، وَتَعْدِيَتُهُ بِحَرْفِ (إِلَى) تَنْبِيهٌ عَلَى إِمْعَانِ النَّظَرِ لِيَشْعُرَ النَّاظِرُ مِمَّا فِي الْمَنْظُورِ مِنَ الدَّقَائِقِ، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ نَظَرَ إِلَى كَذَا أَشَدُّ فِي تَوْجِيهِ النَّظَرِ مِنْ نَظَرَ كَذَا، لِمَا فِي (إِلَى) مِنْ مَعْنَى الِانْتِهَاءِ حَتَّى كَأَنَّ النَّظَرَ انْتَهَى عِنْدَ الْمَجْرُورِ بِ (إِلَى) انْتِهَاءَ تَمَكُّنٍ وَاسْتِقْرَارٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ [الْأَحْزَاب: 19] وَقَوْلُهُ: إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [الْقِيَامَة: 23] .
وَلِزِيَادَةِ التَّنْبِيهِ عَلَى إِنْكَارِ هَذَا الْإِهْمَالِ قُيِّدَ فِعْلُ يَنْظُرُونَ بِالْكَيْفِيَّاتِ الْمَعْدُودَةِ فِي قَوْلِهِ: كَيْفَ خُلِقَتْ، كَيْفَ رُفِعَتْ، كَيْفَ نُصِبَتْ، كَيْفَ سُطِحَتْ أَيْ لَمْ يَنْظُرُوا إِلَى دَقَائِقِ هَيْئَاتِ خَلْقِهَا.
وَجُمْلَةُ: كَيْفَ خُلِقَتْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ الْإِبِلِ وَالْعَامِلُ فِيهِ هُوَ الْعَامِلُ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَهُوَ فِعْلُ يَنْظُرُونَ لَا حَرْفُ الْجَرِّ، فَإِنَّ حَرْفَ الْجَرِّ آلَةٌ لِتَعْدِيَةِ الْفِعْلِ إِلَى مَفْعُولِهِ فَالْفِعْلُ إِنِ احْتَاجَ إِلَى حَرْفِ الْجَرِّ فِي التَّعْدِيَةِ إِلَى الْمَفْعُولِ لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْعَمَلِ فِي الْبَدَلِ، وَشَتَّانَ بَيْنَ مَا يَقْتَضِيهِ إِعْمَالُ الْمَتْبُوعِ وَمَا يَقْتَضِيهِ إِعْمَالُ التَّابِعِ فَكُلٌّ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ مَعْنَاهُ وَمَوْقِعُهُ، فَكَيْفَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ بِالْفِعْلِ الَّذِي يَلِيهِ.
وَالْمَعْنَى وَالتَّقْدِيرُ: أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ هَيْئَةَ خَلْقِهَا.
وَقَدْ عُدَّتْ أَشْيَاءُ أَرْبَعَةٌ هِيَ مِنَ النَّاظِرِينَ عَنْ كَثَبٍ لَا تَغِيبُ عَنْ أَنْظَارِهِمْ، وَعُطِفَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَكَانَ اشْتِرَاكُهَا فِي مَرْآهُمْ جِهَةً جَامِعَةً بَيْنَهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ، فَإِنَّهُمُ الْمَقْصُودُونَ بِهَذَا الْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ، فَالَّذِي حَسَّنَ اقْتِرَانَ الْإِبِلِ مَعَ
السَّمَاءِ وَالْجِبَالِ وَالْأَرْضِ فِي الذِّكْرِ هُنَا، هُوَ أَنَّهَا تَنْتَظِمُ فِي نَظَرِ جُمْهُورِ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ وَالْحِجَازِ وَنَجِدٍ وَأَمْثَالِهَا مِنْ بِلَادِ أَهْلِ الْوَبَرِ وَالِانْتِجَاعِ.
فَالْإِبِلُ أَمْوَالُهُمْ وَرَوَاحِلُهُمْ، وَمِنْهَا عَيْشُهُمْ وَلِبَاسُهُمْ وَنَسْجُ بُيُوتِهِمْ وَهِيَ حَمَّالَةُ أَثْقَالِهِمْ، وَقَدْ خَلَقَهَا اللَّهُ خَلْقًا عَجِيبًا بِقُوَّةِ قَوَائِمِهَا وَيُسْرِ بَرُوكِهَا لِتَيْسِيرَ حَمْلِ الْأَمْتِعَةِ عَلَيْهَا، وَجَعَلَ أَعْنَاقَهَا طَوِيلَةً قَوِيَّةً لِيُمْكِنَهَا النُّهُوضُ بِمَا عَلَيْهَا مِنَ الْأَثْقَالِ بَعْدَ تَحْمِيلِهَا أَوْ بَعْدَ اسْتِرَاحَتِهَا فِي الْمَنَازِلِ وَالْمَبَارَكِ، وَجَعَلَ فِي بُطُونِهَا أَمْعَاءً تَخْتَزِنُ الطَّعَامَ وَالْمَاءَ بِحَيْثُ تَصْبِرُ عَلَى الْعَطَشِ إِلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ فِي السَّيْرِ فِي الْمَفَاوِزِ مِمَّا يَهْلِكُ فِيمَا دُونَهُ غَيْرُهَا مِنَ الْحَيَوَانِ.
وَكَمْ قَدْ جَرَى ذِكْرُ الرَّوَاحِلِ وَصِفَاتِهَا وَحَمْدِهَا فِي شِعْرِ الْعَرَبِ وَلَا تَكَادُ تَخْلُو قصيدة من طوالهم عَنْ وَصْفِ الرَّوَاحِلِ وَمَزَايَاهَا. وَنَاهِيكَ بِمَا فِي الْمُعَلَّقَاتِ وَمَا فِي قَصِيدَةِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ.
والْإِبِلِ: اسْمُ جَمْعٍ لِلْبُعْرَانِ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [146] .
وَعَنِ الْمُبَرِّدِ أَنَّهُ فَسَّرَ الْإِبِلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْأَسْحِبَةِ وَتَأَوَّلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّ الْإِبِلَ مِنْ أَسْمَاءِ السَّحَابِ وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ التَّشْبِيهِ» ، أَيْ هُوَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِ عَنْتَرَةَ:
جَادَتْ عَلَيْهِ كل بكر حُرَّةٍ
…
فَتَرْكَنُ كُلُّ قَرَارَةٍ كَالدِّرْهَمِ
وَنُقِلَ بِهِمْ إِلَى التَّدَبُّرِ فِي عَظِيمِ خَلْقِ السَّمَاءِ إِذْ هُمْ يَنْظُرُونَهَا نَهَارَهُمْ وَلَيْلَهُمْ فِي إِقَامَتِهِمْ وَظَعْنِهِمْ، يَرْقُبُونَ أَنْوَاءَ الْمَطَرِ وَيَشِيمُونَ لَمْعَ الْبُرُوقِ، فَقَدْ عُرِفَ الْعَرَبُ بِأَنَّهُمْ بَنُو مَاءِ السَّمَاءِ، قَالَ زِيَادَةُ الْحَارِثِيُّ (عَلَى تَرَدُّدٍ لِشُرَّاحِ الْحَمَاسَةِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ، بَنُو مَاءِ السَّمَاءِ) :
وَنَحْنُ بَنُو مَاءِ السَّمَاءِ فَلَا نَرَى
…
لِأَنْفُسِنَا مِنْ دُونِ مَمْلَكَةٍ قَصْرُ
وَفِي كَلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَدْ ذَكَرَ قِصَّةَ هَاجَرَ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي آخِرِهَا: «إِنَّهَا لَأُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ» وَيَتَعَرَّفُونَ مِنَ النُّجُومِ وَمَنَازِلِ الشَّمْسِ أَوْقَاتَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَوِجْهَةَ السَّيْرِ.