الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السَّنَنِ فِيمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ مُشْكِلَاتِ الْقُرْآنِ اهـ» . وَلَمْ يَأْتِ كَلَامُ «الْكَشَّافِ» بِأَزْيَدَ مِنْ تَقْرِيرِ الْإِشْكَالِ.
وَقَوْلُهُ: مَتاعاً لَكُمْ حَالٌ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ يَعُودُ إِلَى جَمِيعِهَا عَلَى قَاعِدَةِ وُرُودِ الْحَالِ بَعْدَ مُفْرَدَاتٍ مُتَعَاطِفَةٍ، وَهَذَا نَوْعٌ مِنَ التَّنَازُعِ.
وَقَوْلُهُ: وَلِأَنْعامِكُمْ عَطْفُ قَوْلِهِ: لَكُمْ وَالْمَتَاعُ: مَا يُنْتَفَعُ بِهِ زَمَنًا ثُمَّ يَنْقَطِعُ، وَفِيهِ لَفٌّ وَنَشْرٌ مُشَوِّشٌ، وَالسَّامِعُ يُرْجِعُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ إِلَى مَا يَصْلُحُ لَهُ لِظُهُورِهِ. وَهَذِهِ الْحَالُ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْإِدْمَاجِ أُدْمِجَتِ الْمَوْعِظَةُ وَالْمِنَّةُ فِي خلال الِاسْتِدْلَال.
[33- 42]
[سُورَة عبس (80) : الْآيَات 33 إِلَى 42]
فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى اللَّوْمِ وَالتَّوْبِيخِ فِي قَوْلِهِ: قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ [عبس: 17] وَمَا تَبِعَهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ إِلَى قَوْلِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا [عبس: 18- 25] ، فَفُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ إِنْذَارٌ بِيَوْمِ الْجَزَاءِ، مَعَ مُنَاسَبَةِ وُقُوعِ هَذَا الْإِنْذَارِ عَقِبَ التَّعْرِيضِ وَالتَّصْرِيحِ بِالِامْتِنَانِ فِي قَوْلِهِ: إِلى طَعامِهِ [عبس: 24] وَقَوْلِهِ:
مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ [عبس: 32] عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى مِنْ سُورَةِ النَّازِعَاتِ [34] .
والصَّاخَّةُ: صَيْحَةٌ شَدِيدَةٌ مِنْ صَيْحَاتِ الْإِنْسَانِ تَصُخُّ الْأَسْمَاعَ، أَيْ تُصِمُّهَا.
يُقَالُ: صَخَّ يَصُخُّ قَاصِرًا وَمُتَعَدِّيًا، وَمُضَارِعُهُ يَصُخُّ بِضَمِّ عَيْنِهِ فِي الْحَالَيْنِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي اشْتِقَاقِهَا اخْتِلَافًا لَا جَدْوَى لَهُ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ خُلَاصَةُ قَوْلِ الْخَلِيلِ وَالرَّاغِبِ وَهُوَ أَحْسَنُ وَأَجْرَى عَلَى قِيَاسِ اسْمِ الْفَاعِلِ مِنَ الثُّلَاثِيِّ، فَالصَّاخَّةُ صَارَتْ فِي الْقُرْآنِ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى حَادِثَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَانْتِهَاءِ
هَذَا الْعَالَمِ، وَتَحْصُلُ صَيْحَاتٌ مِنْهَا أَصْوَاتٌ تُزَلْزِلُ الْأَرْضَ وَاصْطِدَامُ بَعْضِ الْكَوَاكِبِ بِالْأَرْضِ مَثَلًا، وَنَفْخَةُ الصُّورِ الَّتِي تُبْعَثُ عِنْدَهَا النَّاسُ.
وَ (إِذَا) ظَرْفٌ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِ جاءَتِ الصَّاخَّةُ وَجَوَابُهُ قَوْلُهُ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ الْآيَاتِ.
وَالْمَجِيءُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْحُصُولِ مَجَازًا، شُبِّهَ حُصُولُ يَوْمِ الْجَزَاءِ بِشَخْصٍ جَاءَ مِنْ مَكَانٍ آخَرَ.
ويَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ بَدَلٌ مِنْ إِذَا جاءَتِ الصَّاخَّةُ بَدَلًا مُطَابِقًا.
وَالْفِرَارُ: الْهُرُوبُ لِلتَّخَلُّصِ مِنْ مُخِيفٍ.
وَحَرْفُ (مِنْ) هُنَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى التَّعْلِيلِ الَّذِي يُعَدَّى بِهِ فِعْلُ الْفِرَارِ إِلَى سَبَبِ الْفِرَارِ حِينَ يُقَالُ: فَرَّ مِنَ الْأَسَدِ، وَفَرَّ مِنَ الْعَدُوِّ، وَفَرَّ مِنَ الْمَوْتِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمُجَاوَزَةِ مِثْلَ (عَنْ) .
وَكَوْنُ أَقْرَبِ النَّاسِ لِلْإِنْسَانِ يَفِرُّ مِنْهُمْ يَقْتَضِي هَوْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِحَيْثُ إِذَا رَأَى مَا يَحِلُّ مِنَ الْعَذَابِ بِأَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيْهِ تَوَهَّمَ أَنَّ الْفِرَارَ مِنْهُ يُنْجِيهِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِهِ، إِذْ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ مُمَاثِلًا لَهُمْ فِيمَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الْأَعْمَالِ فَذُكِرَتْ هُنَا أَصْنَافٌ مِنَ الْقَرَابَةِ، فَإِنَّ الْقَرَابَةَ آصِرَةٌ تَكُونُ لَهَا فِي النَّفْسِ مَعَزَّةٌ وَحِرْصٌ عَلَى سَلَامَةِ صَاحِبِهَا وَكَرَامَتِهِ. وَالْإِلْفُ يُحْدِثُ فِي النَّفْسِ حِرْصًا عَلَى الْمُلَازَمَةِ وَالْمُقَارَنَةِ. وَكِلَا هَذَيْنِ الْوِجْدَانَيْنِ يَصُدُّ صَاحِبَهُ عَنِ الْمُفَارَقَةِ فَمَا ظَنُّكَ بِهَوْلٍ يَغْشَى على هذَيْن الواجدين فَلَا يَتْرُكُ لَهُمَا مَجَالًا فِي النَّفْسِ.
وَرُتِّبَتْ أَصْنَافُ الْقَرَابَةِ فِي الْآيَةِ حَسَبَ الصُّعُودِ مِنَ الصِّنْفِ إِلَى مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ تَدَرُّجًا فِي تَهْوِيلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
فَابْتُدِئَ بِالْأَخِ لِشِدَّةِ اتِّصَالِهِ بِأَخِيهِ مِنْ زَمَنِ الصِّبَا فَيَنْشَأُ بِذَلِكَ إِلْفٌ بَيْنَهُمَا يَسْتَمِرُّ طُولَ الْحَيَاةِ، ثُمَّ ارْتُقِيَ مِنَ الْأَخِ إِلَى الْأَبَوَيْنِ وَهُمَا أَشَدُّ قُرْبًا لِابْنَيْهِمَا، وَقُدِّمَتِ الْأُمُّ فِي الذِّكْرِ لِأَنَّ إِلْفَ ابْنِهَا بِهَا أَقْوَى مِنْهُ بِأَبِيهِ وَلِلرَّعْيِ عَلَى الْفَاصِلَةِ، وَانْتُقِلَ إِلَى الزَّوْجَةِ وَالْبَنِينَ وَهُمَا مُجْتَمَعُ عَائِلَةِ الْإِنْسَانِ وَأَشَدُّ النَّاسِ قُرْبًا بِهِ وَمُلَازَمَةً.
وَأُطْنِبَ بِتَعْدَادِ هَؤُلَاءِ الْأَقْرِبَاءِ دُونَ أَنْ يُقَالَ: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَقْرَبِ قَرَابَتِهِ مَثَلًا لِإِحْضَارِ صُورَةِ الْهَوْلِ فِي نَفْسِ السَّامِعِ.
وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَرَابَةِ إِذَا قَدَّرْتَهُ هُوَ الْفَارَّ كَانَ مَنْ ذُكِرَ مَعَهُ مَفْرُورًا مِنْهُ إِلَّا قَوْلَهُ:
وَصاحِبَتِهِ لِظُهُورِ أَنَّ مَعْنَاهُ: وَالْمَرْأَةِ مِنْ صَاحِبِهَا، فَفِيهِ اكْتِفَاءٌ، وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ بِوَصْفِ الصَّاحِبَةِ الدَّالِّ عَلَى الْقُرْبِ وَالْمُلَازَمَةِ دُونَ وَصْفِ الزَّوْجِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَكُونُ غَيْرَ حَسَنَةِ الْعِشْرَةِ لِزَوْجِهَا فَلَا يَكُونُ فِرَارُهُ مِنْهَا كِنَايَةً عَنْ شِدَّةِ الْهَوْلِ فَذُكِرَ بِوَصْفِ الصَّاحِبَةِ.
وَالْأَقْرَبُ أَنَّ هَذَا فِرَارُ الْمُؤْمِنِ مِنْ قَرَابَتِهِ الْمُشْرِكِينَ خَشْيَةَ أَنْ يُؤَاخَذَ بِتَبِعَتِهِمْ إِذْ بَقُوا عَلَى الْكُفْرِ.
وَتَعْلِيقُ جَارِ الْأَقْرِبَاءِ بِفِعْلِ: يَفِرُّ الْمَرْءُ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ قَدْ وَقَعُوا فِي عَذَابٍ يَخْشَوْنَ تَعَدِّيَهُ إِلَى مَنْ يَتَّصِلُ بِهِمْ.
وَقَدِ اجْتَمَعَ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ إِلَى آخِرِهِ أَبْلَغُ مَا يُفِيدُ هَوْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِحَيْثُ لَا يَتْرُكُ هَوْلُهُ لِلْمَرْءِ بَقِيَّةً مِنْ رُشْدِهِ فَإِنَّ نَفْسَ الْفِرَارِ لِلْخَائِفِ مَسَبَّةٌ فِيمَا تَعَارَفُوهُ لِدِلَالَتِهِ عَلَى جُبْنِ صَاحِبِهِ وَهُمْ يَتَعَيَّرُونَ بِالْجُبْنِ وَكَوْنَهُ يَتْرُكُ أَعَزَّ الْأَعِزَّةِ عَلَيْهِ مَسَبَّةٌ عُظْمَى.
وَجُمْلَةُ: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِزِيَادَةِ تَهْوِيلِ الْيَوْمِ، وَتَنْوِينُ شَأْنٌ لِلتَّعْظِيمِ.
وَحَيْثُ كَانَ فِرَارُ الْمَرْءِ مِنَ الْأَقْرِبَاءِ الْخَمْسَةِ يَقْتَضِي فِرَارَ كُلِّ قَرِيبٍ مِنْ أُولَئِكَ مِنْ مِثْلِهِ كَانَ الِاسْتِئْنَافُ جَامِعًا لِلْجَمِيعِ تَصْرِيحًا بِذَلِكَ الْمُقْتَضَى، فَقَالَ: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ أَيْ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِغَيْرِهِ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ بَلْهَ الِاشْتِغَالَ عَمَّنْ هُوَ دُونَ أُولَئِكَ فِي الْقَرَابَةِ وَالصُّحْبَةِ.
وَالشَّأْنُ: الْحَالُ الْمُهِمُّ.
وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ: لِكُلِّ امْرِئٍ عَلَى الْمُبْتَدَأِ لِيَتَأَتَّى تَنْكِيرُ شَأْنٌ الدَّالِّ عَلَى التَّعْظِيمِ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا يَبْتَدِئُونَ بِالنَّكِرَةِ فِي جُمْلَتِهَا إِلَّا بِمُسَوِّغٍ مِنْ مُسَوِّغَاتٍ عَدَّهَا النُّحَاةُ بِضْعَةَ عَشَرَ مُسَوِّغًا، وَمِنْهَا تَقْدِيمُ الْخَبَرِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ.
وَالْإِغْنَاءُ: جَعْلُ الْغَيْرِ غَنِيًّا، أَيْ غَيْرَ مُحْتَاجٍ لِشَيْءٍ فِي غَرَضِهِ. وَأَصْلُ الْإِغْنَاءِ وَالْغِنَى:
حُصُولُ النَّافِعِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [يُوسُف: 67]
وَقَالَ: مَا أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ [الحاقة: 28] . وَقَدِ اسْتُعْمِلَ هُنَا فِي مَعْنَى الْإِشْغَالِ وَالْإِشْغَالُ أَعَمُّ.
فَاسْتُعْمِلَ الْإِغْنَاءُ الَّذِي هُوَ نَفْعٌ فِي مَعْنَى الْإِشْغَالِ الْأَعَمِّ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ أَوِ الِاسْتِعَارَةِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَشْغَلُهُمْ عَنْ قَرَابَتِهِمُ الْمُشْرِكِينَ فَرْطُ النَّعِيمِ وَرَفْعُ الدَّرَجَاتِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.
وَجُمْلَةُ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ جَوَابُ (إِذَا) ، أَيْ إِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ كَانَ النَّاسُ صِنْفَيْنِ صِنْفٌ وُجُوهُهُمْ مُسْفِرَةٌ وَصِنْفٌ وُجُوهُهُمْ مُغْبَرَّةٌ.
وَقُدِّمَ هُنَا ذِكْرُ وُجُوهِ أَهْلِ النَّعِيمِ عَلَى وُجُوهِ أَهْلِ الْجَحِيمِ خِلَافَ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ [37] فَأَمَّا مَنْ طَغى ثُمَّ قَوْلِهِ: وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ [النازعات: 40] إِلَى آخِرِهِ لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ أُقِيمَتْ عَلَى عِمَادِ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ رَجُلٍ مِنْ أَفَاضِلِ الْمُؤْمِنِينَ وَالتَّحْقِيرِ لِشَأْنِ عَظِيمٍ مِنْ صَنَادِيدِ الْمُشْرِكِينَ فَكَانَ حَظُّ الْفَرِيقَيْنِ مَقْصُودًا مَسُوقًا إِلَيْهِ الْكَلَامُ وَكَانَ حَظُّ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ الْمُلْتَفَتَ إِلَيْهِ ابْتِدَاءً، وَذَلِكَ من قَوْلِهِ: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [عبس: 3] إِلَى آخِرِهِ، ثُمَّ قَوْلِهِ: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى [عبس: 5، 6] .
وَأَمَّا سُورَةُ النَّازِعَاتِ فَقَدْ بُنِيَتْ عَلَى تَهْدِيدِ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ [النازعات: 6- 8] فَكَانَ السِّيَاقُ لِلتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ وَتَهْوِيلِ مَا يَلْقَوْنَهُ يَوْمَ الْحَشْرِ، وَأَمَّا ذِكْرُ حَظِّ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ دَعَا إِلَى ذِكْرِهِ الِاسْتِطْرَادُ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ مِنْ تَعْقِيبِ التَّرْهِيبِ بِالتَّرْغِيبِ.
وَتَنْكِيرُ وُجُوهٌ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي لِلتَّنْوِيعِ، وَذَلِكَ مُسَوِّغُ وُقُوعِهِمَا مُبْتَدَأً.
وَإِعَادَةُ يَوْمَئِذٍ لِتَأْكِيدِ الرَّبْطِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ وَلِطُولِ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا وَالتَّقْدِيرُ:
وُجُوهٌ مُسْفِرَةٌ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ إِلَى آخِرِهِ.
وَقَدْ أَغْنَتْ إِعَادَةُ يَوْمَئِذٍ عَنْ رَبْطِ الْجَوَابِ بِالْفَاءِ.
وَالْمُسْفِرَةُ ذَاتُ الْإِسْفَارِ، وَالْإِسْفَارُ النُّورُ وَالضِّيَاءُ يُقَالُ: أَسْفَرَ الصُّبْحُ، إِذَا ظَهَرَ ضَوْءُ الشَّمْسِ فِي أُفُقِ الْفَجْرِ، أَيْ وُجُوهٌ مُتَهَلِّلَةٌ فَرَحًا وَعَلَيْهَا أَثَرُ النَّعِيمِ.
وَ (ضاحِكَةٌ) أَيْ كِنَايَةٌ عَنِ السُّرُورِ.
وَ (مُسْتَبْشِرَةٌ) مَعْنَاهُ فَرِحَةٌ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلَ: اسْتَجَابَ، وَيُقَالُ: بَشَرَ،
أَيْ فَرِحَ وَسُرَّ، قَالَ تَعَالَى: قالَ يَا بُشْرى هَذَا غُلامٌ [يُوسُف: 19] أَيْ يَا فَرْحَتِي.
وَإِسْنَادُ الضَّحِكِ وَالِاسْتِبْشَارِ إِلَى الْوُجُوهِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ الْوُجُوهَ مَحَلُّ ظُهُورِ الضَّحِكِ وَالِاسْتِبْشَارِ، فَهُوَ مِنْ إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى مَكَانِهِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْوُجُوهَ كِنَايَةً عَنِ الذَّوَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ [الرَّحْمَن: 27] .
وَهَذِهِ وُجُوهُ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْمُطْمَئِنِّينَ بَالًا الْمُكْرَمِينَ عَرْضًا وَحُضُورًا.
وَالْغَبَرَةُ بِفَتْحَتَيْنِ الْغُبَارُ كُلُّهُ، وَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّهَا مُعَفَّرَةٌ بِالْغُبَارِ إِهَانَةً وَمِنْ أَثَرِ الْكَبَوَاتِ.
وتَرْهَقُها تَغْلِبُ عَلَيْهَا وَتَعْلُوهَا.
وَالْقَتَرَةُ: بِفَتْحَتَيْنِ شِبْهُ دُخَانٍ يَغْشَى الْوَجْهَ مِنَ الْكَرْبِ وَالْغَمِّ، كَذَا قَالَ الرَّاغِبُ، وَهُوَ غَيْرُ الْغَبَرَةِ كَمَا تَقْتَضِيهِ الْآيَةُ لِئَلَّا يَكُونَ مِنَ الْإِعَادَةِ، وَهِيَ خِلَافُ الْأَصْلِ وَلَا دَاعِيَ إِلَيْهَا.
وَسَوَّى بَيْنَهُمَا الْجَوْهَرِيُّ وَتَبِعَهُ ابْنُ مَنْظُورٍ وَصَاحِبُ «الْقَامُوسِ» .
وَهَذِهِ وُجُوهُ أَهْلِ الْكُفْرِ، يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ سِيَاقِ هَذَا التَّنْوِيعِ، وَقَدْ صُرِّحَ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ زِيَادَةً فِي تَشْهِيرِ حَالِهِمُ الْفَظِيعِ لِلسَّامِعِينَ.
وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ الْإِيضَاحِ تَشْهِيرًا بِالْحَالَةِ الَّتِي سَبَّبَتْ لَهُمْ ذَلِكَ.
وَضَمِيرُ الْفَصْلِ هُنَا لِإِفَادَةِ التَّقْوَى.
وَأُتْبِعَ وَصْفُ الْكَفَرَةُ بِوَصْفِ الْفَجَرَةُ مَعَ أَنَّ وَصْفَ الْكُفْرِ أَعْظَمُ مِنْ وَصْفِ الْفُجُورِ لِمَا فِي مَعْنَى الْفُجُورِ مِنْ خَسَاسَةِ الْعَمَلِ فَذُكِرَ وصفاهم الدالان على مَجْمُوعِ فَسَادِ الِاعْتِقَادِ وَفَسَادِ الْعَمَلِ.
وَذِكْرُ وَصْفِ الْفَجَرَةُ بِدُونِ عَاطِفٍ يُفِيدُ أَنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْفُجُورِ.