الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سُورَة المطففين (83) : الْآيَات 29 إِلَى 35]
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33)
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35)
هَذِه مِنْ جُمْلَةِ الْقَوْلِ الَّذِي يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْفُجَّارِ الْمَحْكِيِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [المطففين: 17] لِأَنَّهُ مُرْتَبِطٌ بِقَوْلِهِ فِي آخِرِهِ: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ إِذْ يتَعَيَّن أَن يكون قَوْله: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ حِكَايَةَ كَلَام يصدر فِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِذْ تَعْرِيفُ «الْيَوْمِ» بِاللَّامِ وَنَصْبُهُ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ يَقْتَضِيَانِ أَنَّهُ يَوْمٌ حَاضِرٌ مُوَقَّتٌ بِهِ الْفِعْلُ الْمُتَعَلِّقُ هُوَ بِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْيَوْمَ الَّذِي يَضْحَكُ فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْكُفَّارِ وَهُمْ عَلَى الْأَرَائِكِ هُوَ يَوْمٌ حَاضِرٌ حِينَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَسَيَأْتِي مَزِيدُ إِيضَاحٍ لِهَذَا وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ حِكَايَةُ كَوْنٍ مَضَى، وَكَذَلِكَ مَعْطُوفَاتُهُ مِنْ قَوْلِهِ:«وَإِذَا مَرُّوا، وَإِذَا انْقَلَبُوا، وَإِذَا رَأَوْهُمْ» فَدَلَّ السِّيَاقُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ
حِكَايَةُ قَوْلٍ يُنَادِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ حَضْرَةِ الْقُدس على رُؤُوس الْأَشْهَادِ.
فَإِذَا جَرَيْتَ عَلَى ثَانِي الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فِي مَوْقِعِ جُمَلٍ كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين: 18] الْآيَاتِ، مِنْ أَنَّهَا مَحْكِيَّةٌ بِالْقَوْلِ الْوَاقِعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [المطففين: 17] إِلَى هُنَا فَهَذِهِ مُتَّصِلَةٌ بِهَا. وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِالَّذِينَ أَجْرَمُوا إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ إِذْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا تَضْحَكُونَ، وَهَكَذَا عَلَى طَرِيقِ الْخِطَابِ وَإِنْ جَرَيْتَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بِجَعْلِ تِلْكَ الْجُمَلِ اعْتِرَاضًا، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَبْدَأُ كَلَامٍ مُتَّصِلٍ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ [المطففين: 16] وَاقِعٌ مَوْقِعَ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ لِمَضْمُونِ جملَة: إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ [المطففين:
16] بِاعْتِبَارِ مَا جَاءَ فِي آخِرِ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ فَالتَّعْبِيرُ بِالَّذِينَ أَجْرَمُوا إِذَنْ جَارٍ عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ وَلَيْسَ بِالْتِفَاتٍ.
وَقَدِ اتَّضَحَ بِمَا قَرَّرْنَاهُ تَنَاسُبُ نَظْمِ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ قَوْلِهِ: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين: 18]
إِلَى هُنَا مَزِيدَ اتِّضَاحٍ، وَذَلِكَ مِمَّا أَغْفَلَ الْمُفَسِّرُونَ الْعِنَايَةَ بِتَوْضِيحِهِ، سِوَى أَنَّ ابْنَ عَطِيَّةَ أَوْرَدَ كَلِمَةً مُجْمَلَةً فَقَالَ: «وَلَمَّا كَانَتِ الْآيَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ قَدْ نِيطَتْ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَنَّ الْوَيْلَ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ سَاغَ أَنْ يَقُولَ: فَالْيَوْمَ عَلَى حِكَايَةِ مَا يُقَالُ اهـ.
وإِذا
فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ مُسْتَعْمَلٌ لِلزَّمَانِ الْمَاضِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً [التَّوْبَة: 92] وَقَوْلِهِ: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ [النِّسَاء: 83] .
وَالْمَقْصُود من ذِكْرِهِ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ حَالَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى حِدَةٍ، وَذَكَرَ حَالَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حِدَةٍ، أَعْقَبَ بِمَا فِيهِ صِفَةٌ لِعَاقِبَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي مُعَامَلَتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا لِيَعْلَمُوا جَزَاءَ الْفَرِيقَيْنِ مَعًا.
وَإِصْدَارُ ذَلِكَ الْمَقَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْدِيمِ وَالتَّشْمِيتِ كَمَا اقْتَضَتْهُ خُلَاصَتُهُ مِنْ قَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.
وَالِافْتِتَاحُ بِ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا بِصُورَةِ الْكَلَامِ الْمُؤَكَّدِ لِإِفَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِالْكَلَامِ وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي افْتِتَاحِ الْكَلَامِ الْمُرَادِ إِعْلَانُهُ لِيَتَوَجَّهَ بِذَلِكَ الِافْتِتَاحِ جَمِيعُ السَّامِعِينَ إِلَى اسْتِمَاعِهِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ خَبَرٌ مُهِمٌّ. وَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ أَجْرَمُوا الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَخَاصَّةً صَنَادِيدُهُمْ.
وَهُمْ أَبُو جَهْلٍ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ، وَالْعَاصُ بْنُ هِشَامٍ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، كَانُوا يَضْحَكُونَ مِنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَخِبَابِ بْنِ الْأَرَتِّ، وَبِلَالٍ، وَصُهَيْبٍ، وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِمْ.
وَعَبَّرَ بِالْمَوْصُولِ وَهَذِهِ الصِّلَةِ: الَّذِينَ أَجْرَمُوا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَن مَا أخبر بِهِ عَنْهُمْ هُوَ إِجْرَامٌ، وَلِيَظْهَرَ مَوْقِعُ قَوْلِهِ: هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ [المطففين: 36] .
وَالْإِجْرَامُ: ارْتِكَابُ الْجُرْمِ وَهُوَ الْإِثْمُ الْعَظِيمُ، وَأَعْظِمْ بالإجرام الْكفْر وَيُؤذن تَرْكِيبُ «كَانُوا يَضْحَكُونَ» بِأَنَّ ذَلِكَ صِفَةٌ مُلَازِمَةٌ لَهُمْ فِي الْمَاضِي، وَصَوْغُ يَضْحَكُونَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَأَنَّهُ دَيْدَنٌ لَهُمْ.
وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ يَضْحَكُونَ إِلَى الْبَاعِثِ عَلَى الضَّحِكِ بِحَرْفِ مِنَ هُوَ الْغَالِبُ فِي تَعْدِيَةِ أَفْعَالِ هَذِهِ الْمَادَّةِ عَلَى أَنَّ (مِنِ) ابْتِدَائِيَّةٌ تُشَبِّهُ الْحَالَةَ الَّتِي تَبْعَثُ عَلَى الضَّحِكِ بِمَكَانٍ يَصْدُرُ عَنْهُ الضَّحِكُ، وَمِثْلُهُ أَفْعَالُ: سَخِرَ مِنْهُ، وَعَجِبَ مِنْهُ.
وَمَعْنَى يَضْحَكُونَ مِنْهُمْ: يَضْحَكُونَ مِنْ حَالِهِمْ فَكَانَ الْمُشْركُونَ لبطرهم يهزأوون بِالْمُؤْمِنِينَ وَمُعْظَمُهُمْ ضِعَافُ أَهْلِ مَكَّةَ فَيَضْحَكُونَ مِنْهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا يَحْصُلُ فِي نَوَادِيهِمْ حِينَ يَتَحَدَّثُونَ بِحَالِهِمْ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ
وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ سَبَبُ الضَّحِكِ حَالَةً خَاصَّةً مِنْ أَحْوَالٍ كَانَ الْمَجْرُور اسْم تِلْكَ الْحَالَةِ نَحْوَ: فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها [النَّمْل: 19] وَإِذَا كَانَ مَجْمُوعُ هَيْئَةِ الشَّيْءِ كَانَ الْمَجْرُورُ اسْمَ الذَّاتِ صَاحِبَةِ الْأَحْوَالِ لِأَنَّ اسْمَ الذَّاتِ أَجْمَعُ لِلْمَعْرُوفِ مِنْ أَحْوَالِهَا نَحْوَ:
وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 110] . وَقَوْلِ عَبْدِ يَغُوثَ الْحَارِثِ:
وَتَضْحَكُ مِنِّي شَيْخَةٌ عَبْشَمِيَّةٌ
…
كَأَن لم ترى قَبْلِي أَسِيرًا يَمَانِيًّا
وَالتَّغَامُزُ: تَفَاعُلٌ مِنَ الْغَمْزِ وَيُطْلَقُ عَلَى جَسِّ الشَّيْءِ بِالْيَدِ جَسًّا مَكِينًا، وَمِنْهُ غَمْزُ الْقَنَاةِ لِتَقْوِيمِهَا وَإِزَالَةُ كُعُوبِهَا.
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وَأَنَا مُضْطَجِعَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ غَمْزَ رِجْلِي فَقَبَضْتُهُمَا»
. وَيُطْلَقُ الْغَمْزُ عَلَى تَحْرِيكِ الطَّرْفِ لِقَصْدِ تَنْبِيهِ النَّاظِرِ لِمَا عَسَى أَنْ يَفُوتَهُ النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنْ أَحْوَالٍ فِي الْمَقَامِ وَكِلَا الْإِطْلَاقَيْنِ يَصِحُّ حَمْلُ الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ عَلَيْهِ.
وَضَمِيرُ مَرُّوا
يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الَّذِينَ أَجْرَمُوا فَيَكُونُ ضَمِيرُ بِهِمْ
عَائِدًا إِلَى
الَّذِينَ آمَنُوا، وَيَجُوزُ الْعَكْسُ، وَأَمَّا ضَمِيرُ يَتَغامَزُونَ
فَمُتَمَحِّضٌ لِلْعَوْدِ إِلَى الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَالْمَعْنَى: وَإِذَا مَرَّ الْمُؤْمِنُونَ بِالَّذِينَ أَجْرَمُوا وَهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ يَتَغَامَزُ الْمُجْرِمُونَ حِينَ مُرُورِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ وَإِذَا مَرَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا بِالَّذِينَ آمَنُوا وَهُمْ فِي عَمَلِهِمْ وَفِي عُسْرِ حَالِهِمْ يَتَغَامَزُ الْمُجْرِمُونَ حِينَ مُرُورِهِمْ، وَإِنَّمَا يَتَغَامَزُونَ مِنْ دُونِ إِعْلَانِ السُّخْرِيَةِ بِهِمُ اتِّقَاءً لَتَطَاوُلِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ بِالسَّبِّ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ كَانُوا كَثِيرًا بِمَكَّةَ حِينَ نُزُولِ
هَذِهِ السُّورَةِ، فَكَانَ هَذَا دَأْبُ الْمُشْرِكِينَ فِي مُعَامَلَتِهِمْ وَهُوَ الَّذِي يُقَرَّعُونَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَالِانْقِلَابُ: الرُّجُوعُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي جِيءَ مِنْهُ. يُقَالُ: انْقَلَبَ الْمُسَافِرُ إِلَى أَهْلِهِ وَفِي دُعَاءِ السَّفَرِ: «أَعُوذُ بِكَ مِنْ كَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ» . وَأَصْلُهُ مُسْتَعَارٌ مَنْ قَلْبِ الثَّوْبِ، إِذَا صَرَفَهُ من وَجه إِلَى وَجْهٍ آخَرَ، يُقَالُ: قَلَبَ الشَّيْءَ، إِذَا أَرْجَعَهُ.
وَأَهْلُ الرَّجُلِ: زَوْجُهُ وَأَبْنَاؤُهُ، وَذُكِرَ الْأَهْلُ هُنَا لِأَنَّهُمْ يَنْبَسِطُ إِلَيْهِمْ بِالْحَدِيثِ فَلِذَلِكَ قِيلَ: إِلى أَهْلِهِمُ دُونَ: إِلَى بُيُوتِهِمْ.
وَالْمَعْنَى: وَإِذَا رَجَعَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا إِلَى بُيُوتِهِمْ وَخَلَصُوا مَعَ أَهْلِهِمْ تَحَدَّثُوا أَحَادِيثَ الْفُكَاهَةِ مَعَهُمْ بِذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَذَمِّهِمْ.
وَتَكْرِيرُ فِعْلِ: انْقَلَبُوا بِقَوْلِهِ: انْقَلَبُوا فَكِهِينَ مِنَ النَّسْجِ الْجَزْلِ فِي الْكَلَامِ كَانَ يَكْفِي أَنْ يَقُولَ: وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ فَكِهُوا، أَوْ إِذا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ كَانُوا فَاكِهِينَ.
وَذَلِكَ لِمَا فِي إِعَادَةِ الْفِعْلِ مِنْ زِيَادَةِ تَقْرِيرِ مَعْنَاهُ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ لِأَنَّهُ مِمَّا يَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِهِ، وَلِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ مَا فِي الْفِعْلِ مِنْ إِفَادَةِ التَّجَدُّدِ حَتَّى يَكُونَ فِيهِ اسْتِحْضَارُ الْحَالَةِ. قَالَ ابْنُ جِنِّي فِي كِتَابِ «التَّنْبِيهِ عَلَى إِعْرَابِ الْحَمَاسَةِ» عِنْدَ قَوْلِ الْأَحْوَصِ:
فَإِذَا تَزُولُ عَنْ مُتَخَمِّطٍ
…
تُخْشَى بَوَادِرُهُ عَلَى الْأَقْرَانِ
مُحَالٌ أَنْ تَقُولَ إِذَا قُمْتُ قُمْتُ وَإِذَا أَقْعُدُ أَقْعُدُ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الثَّانِي غَيْرُ مَا فِي الْأَوَّلِ، أَيْ فَلَا يَسْتَقِيمُ جَعْلُ الثَّانِي جَوَابًا لِلْأَوَّلِ. وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يَقُولَ فَإِذَا تَزُولُ تَزُولُ لِمَا اتَّصَلَ بِالْفِعْلِ الثَّانِي مِنْ حرف الْجَرّ المفادة مِنْهُ الْفَائِدَةُ مثله قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا [الْقَصَص: 63] وَلَوْ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ لَمْ يُفِدِ الْقَوْلُ شَيْئًا لِأَنَّهُ كَقَوْلِكَ الَّذِي ضَرَبْتُهُ ضَرَبْتُهُ وَالَّتِي أَكْرَمْتُهَا أَكْرَمْتُهَا وَلَكِنْ لَمَّا اتَّصَلَ
بِ أَغْوَيْناهُمْ الثَّانِيَةِ قَوْلُهُ: كَما غَوَيْنا أَفَادَ الْكَلَام كَقَوْلِك الَّذِي ضَرَبْتُهُ ضَرَبْتُهُ لِأَنَّهُ جَاهِلٌ. وَقَدْ كَانَ أَبُو عَلِيٍّ امْتَنَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِمَّا أَخَذْنَاهُ غَيْرَ أَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا عِنْدِي عَلَى مَا عَرَّفْتُكَ اهـ.
وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ وَفِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ.
وَفَاكِهِينَ اسْمُ فَاعِلِ فَاكَهَ، وَهُوَ مِنْ فَكِهِ مِنْ بَابِ فَرِحَ إِذَا مَزَحَ وَتَحَدَّثَ فَأَضْحَكَ، وَالْمعْنَى: فاكهين بالتحدث عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، فَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ فَاكِهِينَ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ مُتَعَلِّقَاتِ الْأَفْعَالِ الْمَذْكُورَةِ مَعَهُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَاكِهِينَ بِصِيغَة الْفَاعِل. وقرأه حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ «فَكِهِينَ» بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدِ الْفَاءِ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ فَكِهَ، وَهُوَ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ مِثْلَ فَارِحٍ وَفَرح. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُمَا لُغَتَانِ.
وَجُمْلَةُ: وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ حَكَتْ مَا يَقُولُهُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا فِي الْمُؤْمِنِينَ إِذَا شَاهَدُوهُمْ أَيْ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْأَذَى بِالْإِشَارَاتِ وَبِالْهَيْئَةِ وَبِسُوءِ الْقَوْلِ فِي غَيْبَتِهِمْ وَسُوءِ الْقَوْلِ إِعْلَانًا بِهِ عَلَى مَسَامِعِ الْمُؤْمِنِينَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَى الْكُفْرِ، أَمْ كَانَ قَوْلًا يَقُولُهُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إِذَا رَأَوُا الْمُؤْمِنِينَ كَمَا يَفْكَهُونَ بِالْحَدِيثِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ فِي خَلَوَاتِهِمْ، وَبِذَلِكَ أَيْضًا فَارَقَ مَضْمُونُ هَذِه الْجُمْلَة مَضْمُون الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا مَعَ مَا فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ عُمُومِ أَحْوَالِ رُؤْيَتِهِمْ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي حَالِ الْمُرُورِ بِهِمْ أَوْ مُشَاهَدَةً فِي مَقَرِّهِمْ.
وَمُرَادُهُمْ بِالضَّلَالِ: فَسَادُ الرَّأْيِ. لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَعْرِفُونَ الضَّلَالَ الشَّرْعِيَّ، أَي هَؤُلَاءِ سيئوا الرَّأْيِ إِذِ اتَّبَعُوا الْإِسْلَامَ وَانْسَلَخُوا عَنْ قَوْمِهِمْ، وَفَرَّطُوا فِي نَعِيمِ الْحَيَاةِ طَمَعًا فِي نَعِيمٍ بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَقْبَلُوا عَلَى الصَّلَاةِ وَالتَّخَلُّقِ بِالْأَخْلَاقِ الَّتِي يَرَاهَا الْمُشْرِكُونَ أَوْهَامًا وَعَنَتَا لِأَنَّهُمْ بِمَعْزِلٍ عَنْ مَقْدِرَةِ قَدْرِ الْكَمَالِ النَّفْسَانِيِّ وَمَا هَمَّهُمْ إِلَّا التَّلَذُّذَ الْجُثْمَانِيَّ.
وَكَلِمَةُ إِذا
فِي كُلِّ جملَة من الْجمل الثَّلَاث ظرف متعلّق بِالْفِعْلِ الموَالِي لَهُ فِي كل جُمْلَةٍ.
وَلَمْ يُعَرِّجْ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى بَيَانِ مُفَادِ جُمْلَةِ: وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ مَعَ مَا قَبْلَهَا. وَقَالَ الْمَهَايِمِيُّ فِي «تبصرة الرحمان» : «وَإِذَا رَأَوْهُمْ يُؤْثِرُونَ الْكَمَالَاتِ الْحَقِيقِيَّةَ عَلَى الْحِسِّيَّةِ» فَقَدَّرَ مَفْعُولًا مَحْذُوفًا لِفِعْلِ رَأَوْهُمْ لِإِبْدَاءِ الْمُغَايَرَةِ بَيْنَ مَضْمُونِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَمَضْمُونِ الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا وَقَدْ عَلِمْتَ عَدَمَ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ وَلَقَدْ أَحْسَنَ
فِي التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ لِقَصْدِ تَحْقِيقِ الْخَبَرِ.
وَجُمْلَةُ: وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ يَلْمِزُوهُمْ بِالضَّلَالِ فِي حَالِ أَنَّهُمْ لَمْ يُرْسِلْهُمْ مُرْسَلٌ لِيَكُونُوا مُوَكَّلِينَ بِأَعْمَالِهِمْ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ حَالَهُمْ كَحَالِ الْمُرْسَلِ وَلِذَلِكَ نُفِيَ أَنْ يَكُونُوا أُرْسِلُوا حَافِظِينَ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحِرْصِ عَلَى أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ، كُلَّمَا رَأَوْهُمْ يُشْبِهُ حَالَ الْمُرْسَلِ لِيَتَتَبَّعَ أَحْوَالَ أَحَدٍ وَمِنْ شَأْنِ الرَّسُولِ الْحِرْصُ عَلَى التَّبْلِيغِ.
وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهَكُّمِ بِالْمُشْرِكِينَ، أَيْ لَمْ يَكُونُوا مُقَيَّضِينَ لِلرِّقَابَةِ عَلَيْهِمْ والاعتناء بصلاحهم.
وَالْخَبَر مُسْتَعْمل فِي التهكم بالمشركين، أَي لم يَكُونُوا مقيّضين للرقابة عَلَيْهِم وَالِاعْتِنَاءِ بِصَلَاحِهِمْ.
فَمَعْنَى الْحِفْظِ هُنَا الرِّقَابَةُ وَلِذَلِكَ عُدِّيَ بِحَرْفِ (عَلَى) لِيَتَسَلَّطَ النَّفْيُ عَلَى الْإِرْسَالِ وَالْحِفْظِ وَمَعْنَى الِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ الَّذِي أَفَادَهُ حَرْفُ (عَلَى) فَيَنْتَفِي حَالُهُمُ الْمُمَثَّلُ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُور على متعلّقه لِلِاهْتِمَامِ بِمُفَادِ حَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ وَبِمَجْرُورِهِ مَعَ الرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ.
وَأَفَادَتْ فَاءُ السَّبَبِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ، أَنَّ اسْتِهْزَاءَهُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا كَانَ سَبَبًا فِي جَزَائِهُمْ بِمَا هُوَ مِنْ نَوْعِهِ فِي الْآخِرَةِ إِذْ جَعَلَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَكَانَ جَزَاءً وِفَاقًا.
وَتَقْدِيمُ «الْيَوْمِ» عَلَى يَضْحَكُونَ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِأَنَّهُ يَوْمُ الْجَزَاءِ الْعَظِيمِ الْأَبَدِيِّ وَقَوْلُهُ:
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ فِي اتِّصَالِ نَظْمِهِ بِمَا قَبْلَهُ غُمُوضٌ. وَسَكَتَ عَنْهُ جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ عَدَا ابْنَ عَطِيَّةَ. ذَلِكَ أَنَّ تَعْرِيفَ الْيَوْمِ بِاللَّامِ مَعَ كَوْنِهِ ظَرْفًا مَنْصُوبًا يَقْتَضِي أَنَّ الْيَوْمَ مُرَادٌ بِهِ يَوْمٌ حَاضِرٌ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ نَظِيرَ وَقْتِ كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ إِذَا قَالَ: الْيَوْمَ يَكُونُ كَذَا، يَتَعَيَّنُ أَنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ يَوْمِهِ الْحَاضِرِ، فَلَيْسَ ضَحِكُ الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى الْكُفَّارِ بِحَاصِلٍ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ يَوْمَ الْجَزَاءِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ بِمَعْنَى: فَيَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ مِنَ الْكُفَّارِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ مُقْتَضَى النَّظْمِ أَنْ يُقَالَ فَيَوْمَئِذٍ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ. وَابْنُ عَطِيَّةَ اسْتَشْعَرَ إِشْكَالَهَا فَقَالَ