الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأَشْتَاتٌ: جَمْعُ شَتٍّ بِفَتْحِ الشِّينِ وَتَشْدِيدِ الْفَوْقِيَّةِ وَهُوَ الْمُتَفَرِّقُ، وَالْمُرَادُ: يَصْدُرُونَ مُتَفَرِّقِينَ جَمَاعَاتٍ كُلٌّ إِلَى جِهَةٍ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ وَمَا عُيِّنَ لَهُمْ مِنْ مَنَازِلِهِمْ.
وَأُشِيرَ إِلَى أَنَّ تَفَرُّقَهُمْ عَلَى حَسَبِ تَنَاسُبِ كُلِّ جَمَاعَةٍ فِي أَعْمَالِهَا مِنْ مَرَاتِبِ الْخَيْرِ وَمَنَازِلِ الشَّرِّ بِقَوْلِهِ: لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ، أَيْ يَصْدُرُونَ لِأَجْلِ تَلَقِّي جَزَاءِ الْأَعْمَالِ الَّتِي عَمِلُوهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَيُقَالُ لِكُلِّ جَمَاعَةٍ: انْظُرُوا أَعْمَالَكُمْ، أَوِ انْظُرُوا مَآلَكُمْ.
وَبُنِيَ فِعْلُ لِيُرَوْا إِلَى النَّائِبِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ رُؤْيَتُهُمْ أَعْمَالَهَمْ لَا تَعْيِينُ مَنْ يُرِيهِمْ إِيَّاهَا. وَقَدْ أَجْمَعَ الْقُرَّاءُ عَلَى ضَمِّ التَّحْتِيَّةِ.
فَالرُّؤْيَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي رُؤْيَةِ الْبَصَرِ وَالْمَرْئِيُّ هُوَ مَنَازِلُ الْجَزَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ مُسْتَعْمَلَةً فِي الْعِلْمِ بِجَزَاءِ الْأَعْمَالِ فَإِنَّ الْأَعْمَالَ لَا تُرَى وَلَكِنْ يَظْهَرُ لأَهْلهَا جزاؤها.
[7، 8]
[سُورَة الزلزلة (99) : الْآيَات 7 إِلَى 8]
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ [الزلزلة: 6] تَفْرِيعَ الْفَذْلَكَةِ، انْتِقَالًا لِلتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ إِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَالتَّفْرِيعُ قَاضٍ بِأَنَّ هَذَا يَكُونُ عَقِبَ مَا يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا.
وَالْمِثْقَالُ: مَا يُعْرَفُ بِهِ ثِقْلُ الشَّيْءِ، وَهُوَ مَا يُقَدَّرُ بِهِ الْوَزْنُ وَهُوَ كَمِيزَانٍ زِنَةً وَمَعْنًى.
وَالذَّرَّةُ: النَّمْلَةُ الصَّغِيرَةُ فِي ابْتِدَاءِ حَيَاتِهَا.
ومِثْقالَ ذَرَّةٍ مَثَلٌ فِي أَقَلِّ الْقِلَّةِ وَذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ظَاهَرٌ وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكَافِرِينَ فَالْمَقْصُودُ مَا عَمِلُوا مِنْ شَرٍّ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَعْمَالِهِمْ مِنَ الْخَيْرِ فَهِيَ كَالْعَدَمِ فَلَا تُوصَفُ بِخَيْرٍ عِنْدَ اللَّهِ لِأَنَّ عَمَلَ الْخَيْرِ مَشْرُوطٌ بِالْإِيمَانِ قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً [النُّور: 39] .
وَإِنَّمَا أُعِيدَ قَوْلُهُ: وَمَنْ يَعْمَلْ دُونَ الِاكْتِفَاءِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ لِتَكُونَ كُلُّ جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُرَادِ لِتَخْتَصَّ كُلُّ جُمْلَةٍ بِغَرَضِهَا مِنَ التَّرْغِيبِ أَوِ التَّرْهِيبِ فَأَهَمِّيَّةُ ذَلِكَ تَقْتَضِي التَّصْرِيحَ وَالْإِطْنَابَ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ مَعْدُودَةٌ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ وَقَدْ وَصَفَهَا النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم بِالْجَامِعَةِ الْفَاذَّةِ
فَفِي «الْمُوَطَّأِ» أَنَّ النَّبِيءَ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْخَيْلُ لِثَلَاثَةٍ»
الْحَدِيثَ.
فَسُئِلَ عَنِ الْحُمُرِ فَقَالَ: لَمْ يُنْزَلْ عَلَيَّ فِيهَا إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ الْجَامِعَةُ الْفَاذَّةُ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: هَذِهِ أَحْكَمُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: قَدِمَ صَعْصَعَةُ بْنُ نَاجِيَةَ جَدُّ الْفَرَزْدَقِ على النبيء صلى الله عليه وسلم يستقرىء النَّبِيءِ الْقُرْآنَ فَقَرَأَ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ صَعْصَعَةُ: حَسْبِي فَقَدِ انْتَهَتِ الْمَوْعِظَةُ لَا أُبَالِي أَنْ لَا أَسْمَعَ مِنَ الْقُرْآنِ غَيْرَهَا. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: «لَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ آيَتَيْنِ أَحْصَتَا مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالصُّحُفِ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ وَإِذْ قَدْ كَانَ الْكَلَامُ مَسُوقًا لِلتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ مَعًا أُوثِرَ جَانِبُ التَّرْغِيبِ بِالتَّقْدِيمِ فِي التَّقْسِيمِ تَنْوِيهًا بِأَهْلِ الْخَيْرِ.
وَفِي «الْكَشَّافِ» : يُحْكَى أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَخَّرَ خَيْرًا يَرَهُ فَقِيلَ قَدَّمْتَ وَأَخَّرْتَ فَقَالَ:
خُذَا بَطْنَ هَرْشَى أَوْ قَفَاهَا فَإِنَّهُ
…
كِلَا جَانِبَيْ هَرْشَى لَهُنَّ طَرِيقُ اهـ
وَقَدْ غَفَلَ هَذَا الْأَعْرَابِيُّ عَنْ بَلَاغَةِ الْآيَةِ الْمُقْتَضِيَةِ التَّنْوِيهَ بِأَهْلِ الْخَيْرِ.
رَوَى الْوَاحِدِيُّ عَنْ مُقَاتِلٍ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي رَجُلَيْنِ كَانَا بِالْمَدِينَةِ أَحَدُهُمَا لَا يُبَالِي مِنَ الذُّنُوبِ الصَّغَائِرِ وَيَرْكَبُهَا، وَالْآخَرُ يُحِبُّ أَنْ يَتَصَدَّقَ فَلَا يَجِدُ إِلَّا الْيَسِيرَ فَيَسْتَحْيِي مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِيهِمَا.
وَمِنْ أَجْلِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ قَالَ جَمْعٌ: إِنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ. وَلَوْ صَحَّ هَذَا الْخَبَرُ لَمَا كَانَ مُقْتَضِيًا أَنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا تَلَوْا آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ شَاهِدًا يَظُنُّهَا بَعْضُ السَّامِعِينَ نَزَلَتْ فِي تِلْكَ الْقِصَّةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْخَامِسَةِ.