الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُكَذِّبُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ عَلَى الِالْتِفَاتِ.
وَفِي صِيغَةِ الْمُضَارِعِ مِنْ قَوْلِهِ: تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ إِفَادَةُ أَنَّ تَكْذِيبَهُمْ بِالْجَزَاءِ مُتَجَدِّدٌ لَا
يُقْلِعُونَ عَنْهُ، وَهُوَ سَبَبُ اسْتِمْرَارِ كُفْرِهِمْ.
وَفِي الْمُضَارِعِ أَيْضًا اسْتِحْضَارُ حَالَةِ هَذَا التَّكْذِيبِ اسْتِحْضَارًا يَقْتَضِي التَّعْجِيبَ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ لِأَنَّ مَعَهُمْ مِنَ الدَّلَائِلِ مَا لَحِقَهُ أَنْ يُقْلِعَ تَكْذِيبُهُمْ بِالْجَزَاءِ.
وَالدّين: الْجَزَاء.
[10- 12]
[سُورَة الانفطار (82) : الْآيَات 10 إِلَى 12]
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)
عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ [الانفطار: 9] تَأْكِيدًا لِثُبُوتِ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ.
وَأُكِّدَ الْكَلَامُ بِحَرْفِ إِنَّ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ، لِأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ إِنْكَارًا قَوِيًّا.
ولَحافِظِينَ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: لَمَلَائِكَةٌ حَافِظِينَ، أَيْ مُحْصِينَ غَيْرَ مُضَيِّعِينَ لِشَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِكُمْ.
وَجُمِعَ الْمَلَائِكَةُ بِاعْتِبَارِ التَّوْزِيعِ عَلَى النَّاسِ: وَإِنَّمَا لِكُلِّ أَحَدٍ مَلَكَانِ قَالَ تَعَالَى: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:
17، 18] ، وَقَدْ
رُوِيَ عَنِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم: «أَنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ مَلَكَيْنِ يَحْفَظَانِ أَعْمَالَهُ»
وَهَذَا بِصَرِيحِ مَعْنَاهُ يُفِيدُ أَيْضًا كِفَايَةً عَنْ وُقُوعِ الْجَزَاءِ إِذْ لَوْلَا الْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ لَكَانَ الِاعْتِنَاءُ بِإِحْصَائِهَا عَبَثًا.
وَأُجْرِيَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِإِحْصَاءِ أَعْمَالِهِمْ أَرْبَعَةُ أَوْصَافٍ هِيَ: الْحِفْظُ، وَالْكَرَمُ، وَالْكِتَابَةُ، وَالْعلم بِمَا يُعلمهُ النَّاسُ.
وَابْتُدِئَ مِنْهَا بِوَصْفِ الْحِفْظِ لِأَنَّهُ الْغَرَضُ الَّذِي سَبَقَ لِأَجْلِهِ الْكَلَامُ الَّذِي هُوَ إِثْبَاتُ الْجَزَاءِ عَلَى جَمِيعِ الْأَعْمَالِ، ثُمَّ ذُكِرَتْ بَعْدَهُ صِفَاتٌ ثَلَاثٌ بِهَا كَمَالُ الْحِفْظِ وَالْإِحْصَاءِ وَفِيهَا تَنْوِيهٌ بِشَأْنِ الْمَلَائِكَةِ الْحَافِظِينَ.
فَأَمَّا الْحِفْظُ: فَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى الرِّعَايَةِ وَالْمُرَاقَبَةِ، وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى يَتَعَدَّى إِلَى الْمَعْمُولِ بِحَرْفِ الْجَرِّ، وَهُوَ (عَلَى) لِتَضَمُّنِهُ مَعْنَى الْمُرَاقَبَةِ. وَالْحَفِيظُ: الرَّقِيبُ، قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ [الشورى: 6] .
وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ هُوَ غَيْرُ اسْتِعْمَالِ الْحِفْظِ الْمُعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ بِمَعْنَى الْحِرَاسَةِ نَحْوَ قَوْلِهِ: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرَّعْد: 11] . فَالْحِفْظُ بِهَذَا الْإِطْلَاق يجمع
مَعْنَى الرِّعَايَةِ وَالْقِيَامِ عَلَى مَا يُوكل إِلَى الْحَفِيظِ، وَالْأَمَانَةِ عَلَى مَا يُوكَلُ إِلَيْهِ.
وَحَرْفُ (عَلَى) فِيهِ لِلِاسْتِعْلَاءِ لِتَضَمُّنِهُ مَعْنَى الرِّقَابَةِ وَالسُّلْطَةِ.
وَأَمَّا وَصْفُ الْكَرَمِ فَهُوَ النَّفَاسَةُ فِي النَّوْعِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [29] .
فَالْكَرَمُ صِفَتُهُمُ النَّفْسِيَّةُ الْجَامِعَةُ لِلْكَمَالِ فِي الْمُعَامَلَةِ وَمَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَأَمَّا صِفَةُ الْكِتَابَةِ فَمُرَادٌ بِهَا ضَبْطُ مَا وُكِّلُوا عَلَى حِفْظِهِ ضَبْطًا لَا يَتَعَرَّضُ لِلنِّسْيَانِ وَلَا لِلْإِجْحَافِ وَلَا لِلزِّيَادَةِ، فَالْكِتَابَةُ مُسْتَعَارَةٌ لِهَذَا الْمَعْنَى، عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْكِتَابَةِ بِمَعْنَى الْخَطِّ غَيْرُ مُمْكِنَةٍ بِكَيْفِيَّةٍ مُنَاسِبَةٍ لِأُمُورِ الْغَيْبِ.
وَأَمَّا صِفَةُ الْعِلْمِ بِمَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ فَهُوَ الْإِحَاطَةُ بِمَا يَصْدُرُ عَنِ النَّاسِ مِنْ أَعْمَالٍ وَمَا يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ مِنْ تَفْكِيرٍ مِمَّا يُرَادُ بِهِ عَمَلُ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَهُوَ الْهَمُّ.
وَمَا تَفْعَلُونَ يَعُمُّ كُلَّ شَيْءٍ يَفْعَلُهُ النَّاسُ وَطَرِيقُ عِلْمِ الْمَلَائِكَةِ بِأَعْمَالِ النَّاسِ مِمَّا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةَ الْمُوَكَّلِينَ بِذَلِكَ.
وَدَخَلَ فِي مَا تَفْعَلُونَ: الْخَوَاطِرُ الْقَلْبِيَّةُ لِأَنَّهَا مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ أَيِ الْعَقْلُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يُعْمِلُ عَقْلَهُ وَيَعْزِمُ وَيَتَرَدَّدُ، وَإِنْ لَمْ يَشِعْ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ إِطْلَاقُ مَادَّةِ الْفِعْلِ عَلَى الْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُنْتَزَعُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْأَرْبَعَ هِيَ عِمَادُ الصِّفَاتِ الْمَشْرُوطَةِ فِي كُلِّ مَنْ يَقُومُ بِعَمَلٍ لِلْأُمَّةِ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الْوُلَاةِ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّهُمْ حَافِظُونَ لِمَصَالِحِ مَا اسْتُحْفِظُوا عِلْيَهِ وَأَوَّلُ الْحِفْظِ الْأَمَانَةُ وَعَدَمُ التَّفْرِيطِ.
فَلَا بُدَّ فِيهِمْ مِنَ الْكَرم وَهُوَ زكاء الْفِطْرَةِ، أَيْ طَهَارَةُ النَّفْسِ.