الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سُورَة النبإ (78) : الْآيَات 17 إِلَى 18]
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18)
هَذَا بَيَانٌ لِمَا أَجْمَلَهُ قَوْلُهُ: عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ [النبأ: 2- 3] وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ سِيَاقِ الْفَاتِحَةِ الَّتِي افْتُتِحَتْ بِهَا السُّورَةُ وَهَيَّأَتْ لِلِانْتِقَالِ مُنَاسَبَةُ ذِكْرِ الْإِخْرَاجِ مِنْ قَوْلِهِ: لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً [النبأ: 15] إِلَخْ، لِأَنَّ ذَلِكَ شُبِّهَ بِإِخْرَاجِ أَجْسَادِ النَّاسِ لِلْبَعْثِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ إِلَى قَوْلِهِ: كَذلِكَ الْخُرُوجُ فِي سُورَةِ ق [9- 11] .
وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ أَعْقَبَ بِهِ قَوْلَهُ: لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً [النبأ: 15] الْآيَةَ فِيمَا قُصِدَ بِهِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى دَلِيلِ الْبَعْثِ.
وَأُكِّدَ الْكَلَامُ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِأَنَّ فِيهِ إِبْطَالًا لِإِنْكَارِ الْمُشْرِكِينَ وَتَكْذِيبِهِمْ بِيَوْمِ الْفَصْلِ.
وَيَوْمُ الْفَصْلِ: يَوْمُ الْبَعْثِ لِلْجَزَاءِ.
وَالْفَصْلُ: التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِطَةِ، وَشَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمَعَانِي
الْمُتَشَابِهَةِ وَالْمُلْتَبِسَةِ فَلِذَلِكَ أُطْلِقَ عَلَى الْحُكْمِ، وَقَدْ يُضَافُ إِلَيْهِ فَيُقَالُ: فَصْلُ الْقَضَاءِ، أَيْ نَوْعٌ مِنَ الْفَصْلِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يُمَيِّزُ الْحَقَّ مِنَ الظُّلْمِ.
فَالْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ فَصْلٌ بَيْنَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ.
وَأُوثِرَ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِيَوْمِ الْفَصْلِ لِإِثْبَاتِ شَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَيْنَ ثُبُوتِ مَا جَحَدُوهُ مِنَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَذَلِكَ فَصْلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَكَذِبِهِمْ.
وَثَانِيهِمَا: الْقَضَاءُ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَمَا اعْتَدَى بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ.
وَإِقْحَامُ فِعْلِ كانَ لِإِفَادَةِ أَنَّ تَوْقِيتَهُ مُتَأَصِّلٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ لِمَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ تَعَالَى الَّتِي هُوَ أَعْلَمُ بِهَا وَأَنَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِهِ لَا يُقَدِّمُهُ عَلَى مِيقَاتِهِ.
وَتَقَدَّمَ يَوْمَ الْفَصْلِ غَيْرَ مَرَّةٍ أُخْرَاهَا فِي سُورَةِ الْمُرْسَلَاتِ [14] .
وَوَصْفُ الْقُرْآنِ بِالْفَصْلِ يَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ فِي سُورَةِ الطَّارِقِ [13] .
وَالْمِيقَاتُ: مِفْعَالٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَقْتِ، وَالْوَقْتُ: الزَّمَانُ الْمُحَدَّدُ فِي عَمَلٍ مَا، وَلِذَلِكَ لَا يُسْتَعْمَلُ لَفْظُ وَقْتٍ إِلَّا مُقَيَّدًا بِإِضَافَةٍ أَوْ نَحْوِهَا نَحْوَ وَقْتِ الصَّلَاةِ.
فَالْمِيقَاتُ جَاءَ عَلَى زِنَةِ اسْمِ الْآلَةِ وَأُرِيدَ بِهِ نَفْسُ الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ بِهِ شَيْءٌ مِثْلَ مِيعَادٍ وَمِيلَادٍ، فِي الْخُرُوجِ عَنْ كَوْنِهِ اسْمَ آلَةٍ إِلَى جَعْلِهِ اسْمًا لِنَفْسِ مَا اشْتُقَّ مِنْهُ. وَالسِّيَاقُ دَلَّ عَلَى مُتَعَلَّقِ مِيقَاتٍ، أَيْ كَانَ مِيقَاتًا لِلْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ.
فَكَوْنُهُ مِيقاتاً كِنَايَةٌ تَلْوِيحِيَّةٌ عَنْ تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ إِذِ التَّوْقِيتُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِزَمَنٍ مُحَقَّقِ الْوُقُوعِ وَلَوْ تَأَخَّرَ وَأَبْطَأَ.
وَهَذَا رَدٌّ لِسُؤَالِهِمْ تَعْجِيلَهُ وَعَنْ سَبَبِ تَأْخِيرِهِ، سُؤَالًا يُرِيدُونَ مِنْهُ الِاسْتِهْزَاءَ بِخَبَرِهِ.
وَالْمَعْنَى: أَنْ لَيْسَ تَأَخُّرُ وُقُوعِهِ دَالًّا عَلَى انْتِفَاءِ حُصُولِهِ.
وَالْمَعْنَى: لَيْسَ تَكْذِيبُكُمْ بِهِ مِمَّا يَحْمِلُنَا عَلَى تَغْيِيرِ إِبَانِهِ الْمُحَدَّدِ لَهُ وَلَكِنَّ اللَّهَ مُسْتَدْرِجُكُمْ مُدَّةً.
وَفِي هَذَا إِنْذَارٌ لَهُمْ بِأَنَّهُ لَا يُدْرَى لَعَلَّهُ يَحْصُلُ قَرِيبًا قَالَ تَعَالَى: لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [الْأَعْرَاف: 187] وَقَالَ: قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً [الْإِسْرَاء: 51] .
ويَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ الْفَصْلِ وَأُضِيفَ يَوْمَ إِلَى جُمْلَةِ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَانْتَصَبَ يَوْمَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ وَفَتْحَتُهُ فَتْحَةُ إِعْرَابٍ لِأَنَّهُ أُضِيفَ إِلَى جُمْلَةٍ أَوَّلُهَا مُعْرَبٌ وَهُوَ الْمُضَارِعُ.
وَفَائِدَةُ هَذَا الْبَدَلِ حُصُولُ التَّفْصِيلِ لِبَعْضِ أَحْوَالِ الْفَصْلِ وَبَعْضِ أَهْوَالِ يَوْمِ الْفَصْلِ.
وَالصُّورُ: الْبُوقُ، وَهُوَ قَرْنُ ثَوْرٍ فَارِغُ الْوَسَطِ مُضَيَّقٌ بَعْضُ فَرَاغِهِ وَيُتَّخَذُ مِنَ
الْخَشَبِ أَوْ مِنَ النُّحَاسِ، يَنْفُخُ فِيهِ النَّافِخُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الصَّوْتُ قَوِيًّا لِنِدَاءِ النَّاسِ إِلَى الِاجْتِمَاعِ، وَأَكْثَرُ مَا يُنَادَى بِهِ الْجَيْشُ وَالْجُمُوعُ الْمُنْتَشِرَةُ لِتَجْتَمِعَ إِلَى عَمَلٍ يُرِيدُهُ الْآمِرُ بِالنَّفْخِ.
وَبُنِيَ يُنْفَخُ إِلَى النَّائِبِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْغَرَضِ بِمَعْرِفَةِ النَّافِخِ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ مَعْرِفَةُ هَذَا الْحَادِثِ الْعَظِيمِ وَصُورَةِ حُصُولِهِ.
وَالنَّفْخُ فِي الصُّورِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا لِهَيْئَةِ دُعَاءِ النَّاسِ وَبَعْثِهِمْ إِلَى الْحَشْرِ بِهَيْئَةِ جَمْعِ الْجَيْشِ الْمُتَفَرِّقِ لِرَاحَةٍ أَوْ تَتَبُّعِ عَدُوٍّ فَلَا يَلْبَثُونَ أَنْ يَتَجَمَّعُوا عِنْدَ مَقَرِّ أَمِيرِهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَفْخٌ يَحْصُلُ بِهِ الْإِحْيَاءُ لَا تُعْلَمُ صِفَتُهُ فَإِنَّ أَحْوَالَ الْآخِرَةِ لَيْسَتْ عَلَى أَحْوَالِ الدُّنْيَا، فَيَكُونُ النَّفْخُ هَذَا مُعَبَّرًا بِهِ عَنْ أَمْرِ التَّكْوِينِ الْخَاصِّ وَهُوَ تَكْوِينُ الْأَجْسَادِ بَعْدَ بِلَاهَا وَبَثُّ أَرْوَاحِهَا فِي بَقَايَاهَا. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْآثَارِ أَنَّ الْمَلَكَ الْمُوَكَّلَ بِهَذَا النَّفْخِ هُوَ إِسْرَافِيلُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَعَطْفُ (تَأْتُونَ) بِالْفَاءِ لِإِفَادَةِ تَعْقِيبِ النَّفْخِ بِمَجِيئِهِمْ إِلَى الْحِسَابِ.
وَالْإِتْيَانُ: الْحُضُورُ بِالْمَكَانِ الَّذِي يَمْشِي إِلَيْهِ الْمَاشِي فَالْإِتْيَانُ هُوَ الْحُصُولُ.
وَحَذْفُ مَا يَحْصُلُ بَيْنَ النَّفْخِ فِي الصُّورِ وَبَيْنَ حُضُورِهِمْ لِزِيَادَةِ الإيذان بِسُرْعَة حصور الْإِتْيَانِ حَتَّى كَأَنَّهُ يَحْصُلُ عِنْدَ النَّفْخِ فِي الصُّور وَإِن كَانَ الْمَعْنى: ينْفخ فِي الصُّورِ فَتَحْيَوْنَ فَتَسِيرُونَ فَتَأْتُونَ.
وأَفْواجاً حَالٌ من ضمير فَتَأْتُونَ، وَالْأَفْوَاجُ: جَمْعُ فَوْجٍ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْوَاوِ، وَالْفَوْجُ: الْجَمَاعَةُ الْمُتَصَاحِبَةُ مِنْ أُنَاسٍ مُقَسَّمِينَ بِاخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ، فَتَكُونُ الْأُمَمُ أَفْوَاجًا، وَيَكُونُ الصَّالِحُونَ وَغَيْرُهُمْ أَفْوَاجًا قَالَ تَعَالَى: كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها [الْملك: 8] الْآيَةَ.
وَالْمَعْنَى: فَتَأْتُونَ مُقَسَّمِينَ طَوَائِفَ وَجَمَاعَاتٍ، وَهَذَا التَّقْسِيمُ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ
كَالْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَكُلُّ أُولَئِكَ أَقسَام ومراتب.