الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْكُفْرِ بِالْإِسْلَامِ بَعْدَ أَنْ بُلِّغَتْ دَعْوَتُهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَقَلَّدَ أَعْمَالَ الْبَاطِلِ الَّتِي حَذَّرَ الْإِسْلَامُ الْمُسْلِمِينَ
مِنْهَا.
وَعَلَى إِثْبَاتِ نَجَاةِ وَفَوْزِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَالدَّاعِينَ مِنْهُمْ إِلَى الْحَقِّ.
وَعَلَى فَضِيلَةِ الصَّبْرِ عَلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَدَعْوَةِ الْحَقِّ.
وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اتَّخَذُوهَا شِعَارًا لَهُمْ فِي مُلْتَقَاهُمْ. رَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدِهِ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُصَيْنِ الْأَنْصَارِيِّ (مِنَ التَّابِعَيْنِ) أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ الرَّجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ إِذَا الْتَقَيَا لَمْ يَفْتَرِقَا إِلَّا عَلَى أَنْ يَقْرَأَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ سُورَةَ الْعَصْرِ إِلَى آخِرِهَا ثُمَّ يُسَلِّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ (أَيْ سَلَامُ التَّفَرُّقِ وَهُوَ سُنَّةٌ أَيْضًا مِثْلَ سَلَامِ الْقُدُومِ) .
وَعَنِ الشَّافِعِيِّ: لَوْ تَدَبَّرَ النَّاسُ هَذِهِ السُّورَةَ لَوَسِعَتْهُمْ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: لَوْ لَمْ يَنْزِلْ إِلَى النَّاسِ إِلَّا هِيَ لَكَفَتْهُمْ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّهَا شَمِلَتْ جَمِيعَ عُلُومِ الْقُرْآنِ. وَسَيَأْتِي بَيَانه.
[1- 3]
[سُورَة الْعَصْر (103) : الْآيَات 1 إِلَى 3]
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعَصْرِ قَسَمًا يُرَادُ بِهِ تَأْكِيدُ الْخَبَرِ كَمَا هُوَ شَأْنُ أَقْسَامِ الْقُرْآنِ.
وَالْمُقْسَمُ بِهِ مِنْ مَظَاهِرِ بَدِيعِ التَّكْوِينِ الرَّبَّانِيِّ الدَّالِّ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ وَسِعَةِ عِلْمِهِ.
وَلِلْعَصْرِ مَعَانٍ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا لَا يعدو أَنْ يَكُونَ حَالَةً دَالَّةً عَلَى صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ الرَّبَّانِيَّةِ، يَتَعَيَّنُ إِمَّا بِإِضَافَتِهِ إِلَى مَا يُقَدَّرُ، أَوْ بِالْقَرِينَةِ، أَوْ بِالْعَهْدِ، وَأَيًّا مَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا فَإِنَّ الْقَسَمَ بِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ زَمَنٌ يُذَكِّرُ بِعَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِ الْعَالَمِ وَأَحْوَالِهِ، وَبِأُمُورٍ عَظِيمَةٍ مُبَارَكَةٍ مِثْلَ الصَّلَاةِ الْمَخْصُوصَةِ أَوْ عَصْرٍ مُعَيَّنٍ مُبَارَكٍ.
وَأَشْهَرُ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْعَصْرِ أَنَّهُ عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ لِوَقْتٍ مَا بَيْنَ آخَرِ وَقْتِ الظُّهْرِ وَبَيْنَ
اصْفِرَارِ الشَّمْسِ فَمَبْدَؤُهُ إِذَا صَارَ ظِلُّ الْجِسْمِ مِثْلَهُ بَعْدَ الْقَدْرِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ وَيَمْتَدُّ إِلَى أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ الْجِسْمِ مِثْلَيْ قَدْرِهِ بَعْدَ الظِّلِّ الَّذِي كَانَ لَهُ عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ. وَذَلِكَ وَقْتُ اصْفِرَارِ الشَّمْسِ، وَالْعَصْرُ مَبْدَأُ الْعَشِيِّ. وَيَعْقُبُهُ الْأَصِيلُ وَالِاحْمِرَارُ وَهُوَ مَا قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:
آنَسَتْ نَبْأَةً وَأَفْزَعَهَا الْقَنَّ
…
اصُ عَصْرًا وَقَدْ دَنَا الْإِمْسَاءُ
فَذَلِكَ وَقْتٌ يُؤْذِنُ بِقُرْبِ انْتِهَاءِ النَّهَارِ، وَيُذَكِّرُ بِخِلْقَةِ الشَّمْسِ وَالْأَرْضِ، وَنِظَامِ حَرَكَةِ
الْأَرْضِ حَوْلَ الشَّمْسِ، وَهِيَ الْحَرَكَةُ الَّتِي يَتَكَوَّنُ مِنْهَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ كُلَّ يَوْمٍ وَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَالْقَسَمِ بِالضُّحَى وَبِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَبِالْفَجْرِ مِنَ الْأَحْوَالِ الْجَوِّيَّةِ الْمُتَغَيِّرَةِ بِتَغَيُّرِ تَوَجُّهِ شُعَاعِ الشَّمْسِ نَحْوَ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ.
وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَتَهَيَّأُ النَّاسُ لِلِانْقِطَاعِ عَنْ أَعْمَالِهِمْ فِي النَّهَارِ كَالْقِيَامِ عَلَى حُقُولِهِمْ وَجَنَّاتِهِمْ، وَتِجَارَاتِهِمْ فِي أَسْوَاقِهِمْ، فَيُذَكِّرُ بِحِكْمَةِ نِظَامِ الْمُجْتَمَعِ الْإِنْسَانِيِّ وَمَا أَلْهَمَ اللَّهُ فِي غَرِيزَتِهِ مِنْ دأب على الْعَمَل وَنِظَامٍ لِابْتِدَائِهِ وَانْقِطَاعِهِ. وَفِيهِ يَتَحَفَّزُ النَّاسُ لِلْإِقْبَالِ عَلَى بُيُوتِهِمْ لِمَبِيتِهِمْ وَالتَّأَنُّسِ بِأَهْلِيهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ. وَهُوَ مِنَ النِّعْمَةِ أَوْ مِنَ النَّعِيمِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى التَّذْكِيرِ بِمِثْلِ الْحَيَاةِ حِينَ تَدْنُو آجَالُ النَّاسِ بَعْدَ مُضِيِّ أَطْوَارِ الشَّبَابِ وَالِاكْتِهَالِ وَالْهِرَمِ.
وَتَعْرِيفُهُ بِاللَّامِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ أَيْ كُلِّ عَصْرٍ.
وَيُطْلَقُ الْعَصْرُ عَلَى الصَّلَاةِ الْمُوَقَّتَةِ بِوَقْتِ الْعَصْرِ. وَهِيَ صَلَاةٌ مُعَظَّمَةٌ. قِيلَ: هِيَ الْمُرَادُ بِالْوُسْطَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [الْبَقَرَة: 238] .
وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ» .
وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَذَكَرَ «وَرَجُلٌ حَلَفَ يَمِينًا فَاجِرَةً بَعْدَ الْعَصْرِ عَلَى سِلْعَةٍ لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا مَا لَمْ يُعْطَ»
وَتَعْرِيفُهُ عَلَى هَذَا تَعْرِيفُ الْعَهْدِ وَصَارَ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ كَمَا هُوَ شَأْنُ كَثِيرٍ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ الْمُعَرَّفَةِ بِاللَّامِ مِثْلَ الْعَقَبَةِ.
وَيُطْلَقُ الْعَصْرُ عَلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَة لوُجُود جبل مِنَ النَّاسِ، أَوْ ملك أَو نبيء، أَوْ دِينٍ، وَيُعَيَّنُ بِالْإِضَافَةِ، فَيُقَالُ: عَصْرُ الْفِطَحْلِ، وَعَصْرُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَصْرُ الْإِسْكَنْدَرِ، وَعَصْرُ الْجَاهِلِيَّةِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ هَذَا الْإِطْلَاقَ هُنَا وَيَكُونَ
الْمَعْنِيُّ بِهِ عَصْرَ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم، وَالتَّعْرِيفُ فِيهِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ الْحُضُورِيِّ مِثْلَ التَّعْرِيفِ فِي (الْيَوْمِ) مِنْ قَوْلِكَ: فَعَلْتُ الْيَوْمَ كَذَا، فَالْقَسَمُ بِهِ كَالْقَسَمِ بِحَيَاتِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَعَمْرُكَ [الْحجر: 72] . قَالَ الْفَخْرُ: فَهُوَ تَعَالَى أَقْسَمَ بِزَمَانِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَبِمَكَانِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ [الْبَلَدِ: 2] وَبِعُمْرِهِ فِي قَوْلِهِ: لَعَمْرُكَ اهـ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ عَصْرُ الْإِسْلَامِ كُلُّهُ وَهُوَ خَاتِمَةُ عُصُورِ الْأَدْيَانِ لِهَذَا الْعَالَمِ وَقَدْ مَثَّلَ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم عَصْرَ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَصْرِ الْيَهُودِ وَعَصْرِ النَّصَارَى بِمَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ
بِقَوْلِهِ: «مَثَلُ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ يعْملُونَ لَهُ يَوْمًا إِلَى اللَّيْلِ فَعَمِلَتِ الْيَهُودُ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ ثُمَّ قَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا إِلَى أَجْرِكَ وَمَا عَمِلْنَا بَاطِلٌ، وَاسْتَأْجَرَ آخَرِينَ بَعْدَهُمْ فَقَالَ: أَكْمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ وَلَكُمُ الَّذِي
شَرَطْتُ لَهُمْ فَعَمِلُوا حَتَّى إِذَا كَانَ حِينَ صَلَاةِ الْعَصْرِ قَالُوا: لَكَ مَا عَمِلْنَا بَاطِلٌ وَلَكَ الْأَجْرُ الَّذِي جَعَلْتَ لَنَا، وَاسْتَأْجَرَ قَوْمًا أَنْ يَعْمَلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ فَعَمِلُوا حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ وَاسْتَكْمَلُوا أَجْرَ الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا فَأَنْتُمْ هُمْ»
. فَلَعَلَّ ذَلِكَ التَّمْثِيلَ النَّبَوِيَّ لَهُ اتِّصَالٌ بِالرَّمْزِ إِلَى عَصْرِ الْإِسْلَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَيَجُوزُ أَنَّ يُفَسَّرَ الْعَصْرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالزَّمَانِ كُلِّهِ،
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْعَصْرِ فَقَالَ: أَقْسَمَ رَبُّكُمْ بِآخِرِ النَّهَارِ
. وَهَذِهِ الْمَعَانِي لَا يَفِي بِاحْتِمَالِهَا غَيْرُ لَفْظِ الْعَصْرِ.
وَمُنَاسَبَةُ الْقَسَمِ بِالْعَصْرِ لِغَرَضِ السُّورَةِ عَلَى إِرَادَةِ عَصْرِ الْإِسْلَامِ ظَاهِرَةٌ فَإِنَّهَا بَيَّنَتْ حَالَ النَّاسِ فِي عَصْرِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ مَنْ كَفَرَ بِهِ وَمَنْ آمَنَ وَاسْتَوْفَى حَظَّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْإِسْلَامُ، وَيُعْرَفُ مِنْهُ حَالُ مَنْ أَسْلَمُوا وَكَانَ فِي أَعْمَالِهِمْ تَقْصِيرٌ مُتَفَاوِتٌ، أَمَّا أَحْوَالُ الْأُمَمِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَكَانَتْ مُخْتَلِفَةً بِحَسَبِ مَجِيءِ الرُّسُلِ إِلَى بَعْضِ الْأُمَمِ، وَبَقَاءِ بَعْضِ الْأُمَمِ بِدُونِ شَرَائِعَ مُتَمَسِّكَةٍ بِغَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ مِنَ الشِّرْكِ أَوْ بِدِينٍ جَاءَ الْإِسْلَام لنسخه مِثْلَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ قَالَ تَعَالَى: مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [85] .
وَتَعْرِيفُ الْإِنْسانَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ مُرَادٌ بِهِ الِاسْتِغْرَاقُ وَهُوَ اسْتِغْرَاقٌ عُرْفِيٌّ
لِأَنَّهُ يَسْتَغْرِقُ أَفْرَادَ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِ نُزُولِ الْآيَةِ وَهُوَ زَمَنُ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ كَمَا عَلِمْتَ قَرِيبًا. وَمَخْصُوصٌ بِالنَّاسِ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمُ الدَّعْوَةُ فِي بِلَادِ الْعَالَمِ عَلَى تَفَاوُتِهَا. وَلَمَّا اسْتُثْنِيَ مِنْهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بَقِيَ حُكْمُهُ مُتَحَقِّقًا فِي غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا سَيَأْتِي
…
وَالْخُسْرُ: مَصْدَرٌ وَهُوَ ضِدُّ الرِّبْحِ فِي التِّجَارَةِ، اسْتُعِيرَ هُنَا لِسُوءِ الْعَاقِبَةِ لِمَنْ يَظُنُّ لِنَفْسِهِ عَاقِبَةً حَسَنَةً، وَتِلْكَ هِيَ الْعَاقِبَةُ الدَّائِمَةُ وَهِيَ عَاقِبَةُ الْإِنْسَانِ فِي آخِرَتِهِ مِنْ نَعِيمٍ أَوْ عَذَابٍ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [16] وتكررت نَظَائِره من الْقُرْآنِ آنِفًا وَبَعِيدًا.
وَالظَّرْفِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: لَفِي خُسْرٍ مَجَازِيَّةٌ شَبَّهَتْ مُلَازَمَةَ الْخُسْرِ بِإِحَاطَةِ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ فَكَانَتْ أَبْلَغَ مِنْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَخَاسِرٌ.
وَمَجِيءُ هَذَا الْخَبَرِ عَلَى الْعُمُومِ مَعَ تَأْكِيدِهِ بِالْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّوْكِيدِ فِي جَوَابِهِ، يُفِيدُ التَّهْوِيلَ وَالْإِنْذَارَ بِالْحَالَةِ الْمُحِيطَةِ بِمُعْظَمِ النَّاسِ.
وَأَعْقَبَ بِالِاسْتِثْنَاءِ بِقَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ فيتقرر الحكم تَاما فِي نَفْسِ السَّامِعِ مُبَيِّنًا أَنَّ النَّاسَ فَرِيقَانِ: فَرِيقٌ يَلْحَقُهُ الْخُسْرَانُ، وَفَرِيقٌ لَا يَلْحَقُهُ شَيْءٌ مِنْهُ، فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا يَلْحَقُهُمْ الْخُسْرَانُ بِحَالٍ إِذَا لَمْ يَتْرُكُوا شَيْئًا مِنَ الصَّالِحَاتِ بِارْتِكَابِ أَضْدَادِهَا وَهِيَ السَّيِّئَاتُ.
وَمِنْ أَكْبَرِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ التَّوْبَةُ مِنَ الذُّنُوبِ لِمُقْتَرِفِيهَا، فَمَنْ تَحَقَّقَ فِيهِ وَصْفُ الْإِيمَانِ وَلَمْ يَعْمَلِ السَّيِّئَاتِ أَوْ عَمِلَهَا وَتَابَ مِنْهَا فَقَدْ تَحَقَّقَ لَهُ ضِدُّ الْخُسْرَانِ وَهُوَ الرِّبْحُ الْمَجَازِيُّ، أَيْ حُسْنُ عَاقِبَةِ أَمْرِهِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَعْمَلِ الصَّالِحَاتِ وَلَمْ يَتُبْ مِنْ سَيِّئَاتِهِ فَقَدْ تَحَقَّقَ فِيهِ حُكْمُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَهُوَ الْخُسْرَانُ.
وَهَذَا الْخُسْرُ مُتَفَاوِتٌ فَأَعْظَمُهُ وَخَالِدُهُ الْخُسْرُ الْمُنْجَرُّ عَنِ انْتِفَاءِ الْإِيمَانِ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَصِدْقِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَدون ذَلِكَ تَكُونُ مَرَاتِبُ الْخُسْرِ مُتَفَاوِتَةً بِحَسَبِ كَثْرَةِ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا. وَمَا حَدَّدَهُ الْإِسْلَامُ لِذَلِكَ مِنْ مَرَاتِبِ الْأَعْمَالِ
وَغُفْرَانِ بَعْضِ اللَّمَمِ إِذَا تَرَكَ صَاحِبُهُ الْكَبَائِرَ وَالْفَوَاحِشَ وَهُوَ مَا فُسِّرَ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود: 114] .
وَهَذَا الْخَبَرُ مُرَادٌ بِهِ الْحُصُولُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِقَرِينَةِ مَقَامِ الْإِنْذَارِ وَالْوَعِيدِ، أَيْ لَفِي خُسْرٍ فِي الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ الْآخِرَةِ فَلَا الْتِفَاتَ إِلَى أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، قَالَ تَعَالَى:
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ [آل عمرَان: 196، 197] .
وَتَنْكِيرُ خُسْرٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّنْوِيعِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُفِيدًا لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّعْمِيمِ فِي مَقَامِ التَّهْوِيلِ وَفِي سِيَاقِ الْقَسَمِ.
وَالْمَعْنَى: إِنَّ النَّاسَ لَفِي خُسْرَانٍ عَظِيمٍ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ: الصَّالِحاتِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ مُرَادٌ بِهِ الِاسْتِغْرَاقُ، أَيْ عَمِلُوا جَمِيعَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي أُمِرُوا بِعَمَلِهَا بِأَمْرِ الدِّينِ وَعَمَلُ الصَّالِحَاتِ يَشْمَلُ تَرْكَ السَّيِّئَاتِ. وَقَدْ أَفَادَ اسْتِثْنَاءُ الْمُتَّصِفِينَ بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ وَمَعْطُوفِهَا إِيمَاءً إِلَى عِلَّةِ حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ وَهُوَ نَقِيضُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا فِي خُسْرٍ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.
فَأَمَّا الْإِيمَانُ فَهُوَ حَقِيقَةٌ مَقُولٌ على جزئياتها بالتواطىء. وَأَمَّا الصَّالِحَاتُ فَعُمُومُهَا مَقُولٌ عَلَيْهِ بِالتَّشَكُّكِ، فَيُشِيرُ إِلَى أَنَّ انْتِفَاءَ الْخُسْرَانِ عَنْهُمْ يَتَقَدَّرُ بِمِقْدَارِ مَا عَمِلُوهُ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَفِي ذَلِكَ مَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ.
وَقَدْ دَلَّ اسْتِثْنَاءُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ أَنْ يَكُونُوا فِي خُسْرٍ عَلَى أَنَّ سَبَبَ كَوْنِ بَقِيَّةِ الْإِنْسَانِ فِي خُسْرٍ هُوَ عَدَمُ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ بِدَلَالَةِ مَفْهُومِ الصِّفَةِ. وَعُلِمَ مِنَ الْمَوْصُولِ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ هُمَا سَبَبُ انْتِفَاءِ إِحَاطَةِ الْخُسْرِ بِالْإِنْسَانِ.
وَعُطِفَ عَلَى عَمَلِ الصَّالِحَاتِ التَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الصَّالِحَاتِ، عَطْفَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يُغْفَلُ عَنْهُ، يُظَنُّ أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ هُوَ مَا أَثَرُهُ عَمَلُ الْمَرْءِ فِي خَاصَّتِهِ، فَوَقَعَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ مِنَ الْعَمَلِ الْمَأْمُورِ بِهِ إِرْشَادَ الْمُسْلِمِ غَيْرَهُ وَدَعْوَتَهُ إِلَى الْحَقِّ، فَالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ يَشْمَلُ تَعْلِيمَ
حَقَائِقِ الْهَدْيِ وَعَقَائِدِ الصَّوَابِ وَإِرَاضَةِ النَّفْسِ عَلَى فَهْمِهَا بِفِعْلِ الْمَعْرُوفِ وَتَرْكِ الْمُنْكَرِ.
وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ عُطِفَ عَلَى التَّوَاصِي بِالْحَقِّ عَطْفَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ خُصُوصُهُ خُصُوصًا مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّ الصَّبْرَ تَحَمُّلُ مَشَقَّةِ إِقَامَةِ الْحَقِّ وَمَا يَعْتَرِضُ الْمُسْلِمَ مِنْ أَذًى فِي نَفْسِهِ فِي إِقَامَةِ بَعْضِ الْحَقِّ.
وَحَقِيقَةُ الصَّبْرِ أَنَّهُ: مَنْعُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ مِنْ تَحْصِيلِ مَا يَشْتَهِيهِ أَوْ مِنْ مُحَاوَلَةِ تَحْصِيلِهِ (إِنْ كَانَ صَعْبَ الْحُصُولِ فَيَتْرُكُ مُحَاوَلَةَ تَحْصِيلِهِ لِخَوْفِ ضُرٍّ يَنْشَأُ عَنْ تَنَاوُلِهِ كَخَوْفِ غَضَبِ اللَّهِ أَوْ عِقَابِ وُلَاةِ الْأُمُورِ) أَوْ لِرَغْبَةٍ فِي حُصُولِ نَفْعٍ مِنْهُ (كَالصَّبْرِ عَلَى مَشَقَّةِ الْجِهَادِ وَالْحَجِّ رَغْبَةً فِي الثَّوَابِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ رَغْبَةً فِي تَحْصِيلِ مَالٍ أَوْ سُمْعَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ) .
وَمن الصَّبْر الصَّبْرِ عَلَى مَا يُلَاقِيهِ الْمُسْلِمُ إِذَا أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ مِنِ امْتِعَاضِ بَعْضِ الْمَأْمُورِينَ بِهِ أَوْ مِنْ أَذَاهُمْ بِالْقَوْلِ كَمَنْ يَقُولُ لِآمِرِهِ: هَلَّا نَظَرْتَ فِي أَمْرِ نَفْسِكَ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.
وَأَمَّا تَحَمُّلُ مَشَقَّةِ فِعْلِ الْمُنْكَرَاتِ كَالصَّبْرِ عَلَى تَجَشُّمِ السَّهَرِ فِي اللَّهْوِ وَالْمَعَاصِي، وَالصَّبْرِ عَلَى بَشَاعَةِ طَعْمِ الْخَمْرِ لِشَارِبِهَا، فَلَيْسَ مِنَ الصَّبْرِ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّحَمُّلَ مُنْبَعِثٌ عَنْ رُجْحَانِ اشْتِهَاءِ تِلْكَ الْمَشَقَّةِ عَلَى كَرَاهِيَةِ الْمَشَقَّةِ الَّتِي تَعْتَرِضُهُ فِي تَركهَا.
وَقل اشْتَمَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ عَلَى إِقَامَةِ الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ كُلِّهَا، فَالْعَقَائِدُ الْإِسْلَامِيَّةُ وَالْأَخْلَاقُ الدِّينِيَّةُ مُنْدَرِجَةٌ فِي الْحَقِّ، وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ وَتَجَنُّبُ السَّيِّئَاتِ مُنْدَرِجَةٌ فِي الصَّبْرِ.
وَالتَّخَلُّقُ بِالصَّبْرِ مِلَاكُ فَضَائِلِ الْأَخْلَاقِ كُلِّهَا فَإِنَّ الِارْتِيَاضَ بِالْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ لَا يَخْلُو مِنْ حَمْلِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ عَلَى مُخَالَفَةِ شَهَوَاتٍ كَثِيرَةٍ، فَفِي مُخَالَفَتِهَا تَعَبٌ يَقْتَضِي الصَّبْرَ عَلَيْهِ حَتَّى تَصِيرَ مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ مَلَكَةً لِمَنْ رَاضَ نَفْسَهُ عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ:
إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَتْرُكْ طَعَامًا يُحِبُّهُ
…
وَلَمْ يَنْهَ قَلْبًا غَاوِيًا حَيْثُ يَمَّمَا
فَيُوشِكُ أَنْ تُلْفَى لَهُ الدَّهْرَ سُبَّةٌ
…
إِذَا ذُكِرَتْ أَمْثَالُهَا تَمْلَأُ الْفَمَا
وَكَذَلِكَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ كُلُّهَا لَا تَخْلُو مِنْ إِكْرَاهِ النَّفْسِ عَلَى تَرْكِ مَا تَمِيلُ إِلَيْهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ» .
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: «الصَّبْرُ مَطِيَّةٌ لَا تَكْبُو»
. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى الصَّبْرِ مُشْبَعًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [45] .
وَأَفَادَتْ صِيغَةُ التَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَبِالصَّبْرِ أَنْ يَكُونَ شَأْنُ حَيَاةِ الْمُؤْمِنِينَ قَائِمًا عَلَى شُيُوعِ التَّآمُرِ بِهِمَا دَيْدَنًا لَهُمْ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي اتِّصَافَ الْمُؤْمِنِينَ بِإِقَامَةِ الْحَقِّ وَصَبْرَهُمْ عَلَى الْمَكَارِهِ فِي مَصَالِحِ الْإِسْلَامِ وَأُمَّتِهِ لِمَا يَقْتَضِيهِ عُرْفُ النَّاسِ مِنْ أَنَّ أَحَدًا لَا يُوصِي غَيْرَهُ بِمُلَازَمَةِ أَمْرٍ إِلَّا وَهُوَ يَرَى ذَلِكَ الْأَمْرَ خَلِيقًا بِالْمُلَازَمَةِ إِذْ قَلَّ أَنْ يُقْدِمَ أَحَدٌ عَلَى أَمْرٍ بِحَقٍّ هُوَ لَا يَفْعَلُهُ أَوْ أَمْرٍ بِصَبْرٍ وَهُوَ ذُو جَزَعٍ، وَقد قَالَ الله تَعَالَى تَوْبِيخًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الْبَقَرَة: 44]، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ فِي سُورَةِ الْفَجْرِ [18] .