الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
«وَقَدْ وُدِّعَ مُحَمَّدٌ» . وَلَعَلَّ
جُنْدُبًا رَوَى حَدِيثَيْنِ جَمَعَهُمَا ابْنُ عُيَيْنَةَ. وَقِيلَ: إِنَّ كَلِمَةَ «فِي غَارٍ» تَصْحِيفٌ، وَأَنَّ أَصْلَهَا:
كُنْتُ غَازِيًا. وَيَتَعَيَّنُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ حَدِيثُهُ جَمَعَ حَدِيثَيْنِ.
وَعُدَّتْ هَذِهِ السُّورَةُ حَادِيَةَ عَشْرَةَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْفَجْرِ وَقَبْلَ سُورَةِ الِانْشِرَاحِ.
وَعَدَدُ آيِهَا إِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً.
وَهِيَ أَوَّلُ سُورَةٍ فِي قصار المفصّل.
أغراضها
إِبْطَالُ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ زَعَمُوا أَنَّ مَا يَأْتِي مِنَ الْوَحْيِ لِلنَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم قَدِ انْقَطَعَ عَنْهُ.
وَزَادَهُ بِشَارَةً بِأَنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْأُولَى عَلَى مَعْنَيَيْنِ فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى. وَأَنَّهُ سَيُعْطِيهِ رَبُّهُ مَا فِيهِ رِضَاهُ. وَذَلِكَ يَغِيظُ الْمُشْرِكِينَ.
ثُمَّ ذَكَّرَهُ اللَّهُ بِمَا حَفَّهُ بِهِ مِنْ أَلْطَافِهِ وَعِنَايَتِهِ فِي صِبَاهُ وَفِي فُتُوَّتِهِ وَفِي وَقْتِ اكْتِهَالِهِ وَأَمَرَهُ بِالشُّكْرِ عَلَى تِلْكَ النِّعَمِ بِمَا يُنَاسِبُهَا مِنْ نَفْعٍ لِعَبِيدِهِ وَثَنَاءٍ عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ.
[1- 3]
[سُورَة الضُّحَى (93) : الْآيَات 1 إِلَى 3]
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3)
الْقَسَمُ لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ رَدًّا عَلَى زَعْمِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ الْوَحْيَ انْقَطَعَ عَنِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَأَوْهُ لَمْ يَقُمِ اللَّيْلَ بِالْقُرْآنِ بِضْعَ لَيَالٍ. فَالتَّأْكِيدُ مُنْصَبٌّ عَلَى التَّعْرِيضِ الْمُعَرَّضِ بِهِ لِإِبْطَالِ دَعْوَى الْمُشْرِكِينَ. فَالتَّأْكِيدُ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ وَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا يَتَرَدَّدُ فِي وُقُوعِ مَا يُخْبِرُهُ اللَّهُ بِوُقُوعِهِ.
وَمُنَاسَبَةُ الْقَسَمِ بِ الضُّحى وَاللَّيْلِ أَنَّ الضُّحَى وَقْتُ انْبِثَاقِ نُورِ الشَّمْسِ فَهُوَ إِيمَاءٌ إِلَى تَمْثِيلِ نُزُولِ الْوَحْيِ وَحُصُولِ الِاهْتِدَاءِ بِهِ، وَأَنَّ اللَّيْلَ وَقْتُ قِيَامِ
النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي كَانَ يَسْمَعُ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ قِرَاءَتَهُ مِنْ بُيُوتِهِمُ الْقَرِيبَةِ مِنْ بَيْتِهِ أَوْ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
وَلِذَلِكَ قُيِّدَ اللَّيْلِ بِظَرْفِ إِذا سَجى فَلَعَلَّ ذَلِكَ وَقْتُ قِيَامِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم قَالَ تَعَالَى: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا [المزمل: 2، 3] .
وَالضُّحَى تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالشَّمْسِ وَضُحاها [الشَّمْس: 1] .
وَكُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ وَالضُّحى بِأَلِفٍ فِي صُورَةِ الْيَاءِ مَعَ أَنَّ أَصْلَ أَلِفِهِ الْوَاوُ لِأَنَّهُمْ رَاعَوُا الْمُنَاسَبَةَ مَعَ أَكْثَرِ الْكَلِمَاتِ الْمَخْتُومَةِ بِأَلِفٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَإِنَّ أَكْثَرَهَا مُنْقَلِبَةُ الْأَلِفِ عَنِ الْيَاءِ، وَلِأَنَّ الْأَلِفَ تَجْرِي فِيهَا الْإِمَالَةُ فِي اللُّغَاتِ الَّتِي تُمِيلُ الْأَلِفَ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ لَا تُمَالَ إِذَا وَقَعَتْ مَعَ أَلِفٍ تُمَالُ لِلْمُنَاسَبَةِ كَمَا قَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي «شَرْحِ كَافِيَتِهِ» .
وَيُقَالُ: سَجَا اللَّيْلُ سجوا بِفَتْح فَسُكُون، وسجوا بِضَمَّتَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ، إِذَا امْتَدَّ وَطَالَ مُدَّةُ ظَلَامِهِ مِثْلَ سَجْوِ الْمَرْءِ بِالْغِطَاءِ، إِذَا غُطِّيَ بِهِ جَمِيعُ جَسَدِهِ وَهُوَ وَاوِيٌّ وَرُسِمَ فِي الْمُصْحَفِ بِأَلِفٍ فِي صُورَةِ الْيَاءِ لِلْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ فِي كِتَابَةِ الضُّحى وَجُمْلَةُ: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ إِلَخْ جَوَابُ الْقَسَمِ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ إِذَا كَانَ جُمْلَةً مَنْفِيَّةً لَمْ تَقْتَرِنْ بِاللَّامِ.
وَالتَّوْدِيعُ: تَحِيَّةُ مَنْ يُرِيدُ السَّفَرَ.
وَاسْتُعِيرَ فِي الْآيَةِ لِلْمُفَارَقَةِ بَعْدَ الِاتِّصَالِ تَشْبِيهًا بِفِرَاقِ الْمُسَافِرِ فِي انْقِطَاعِ الصِّلَةِ حَيْثُ شَبَّهَ انْقِطَاعَ صِلَةِ الْكَلَامِ بِانْقِطَاعِ صِلَةِ الْإِقَامَةِ، وَالْقَرِينَةُ إِسْنَادُ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ الَّذِي لَا يَتَّصِلُ بِالنَّاسِ اتِّصَالًا مَعْهُودًا.
وَهَذَا نَفْيٌ لِأَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَطَعَ عَنْهُ الْوَحْيَ.
وَقَدْ عُطِفَ عَلَيْهِ: وَما قَلى لِلْإِتْيَانِ عَلَى إِبْطَالِ مَقَالَتَيِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ:
وَدَّعَهُ رَبُّهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَلَاهُ رَبُّهُ، يُرِيدُونَ التَّهَكُّمَ.
وَجُمْلَةُ: وَما قَلى عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ جَوَابِ الْقَسَمِ وَلَهَا حُكْمُهَا.
وَالْقَلْيُ (بِفَتْحِ الْقَافِ مَعَ سُكُونِ اللَّامِ) وَالْقِلَى (بِكَسْرِ الْقَافِ مَعَ فَتْحِ اللَّامِ) : الْبُغْضُ الشَّدِيدُ، وَسَبَبُ مَقَالَةِ الْمُشْرِكِينَ تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ السُّورَةِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ عَقِبَ فَتْرَةٍ ثَانِيَةٍ فَتَرَ فِيهَا الْوَحْيُ بَعْدَ الْفَتْرَةِ الَّتِي نَزَلَتْ إِثْرَهَا سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ:«احْتَبَسَ الْوَحْيُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ نَحْوَهَا. فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا وَدَّعَهُ رَبُّهُ وَقَلَاهُ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ» .
وَاحْتِبَاسُ الْوَحْيِ عَنِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم وَقَعَ مَرَّتَيْنِ:
أُولَاهُمَا: قَبْلَ نُزُولِ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ أَوِ الْمُزَّمِّلِ، أَيْ بَعْدَ نُزُولِ سُورَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ ثَلَاثٍ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْأَسْبَقِ مِنْ سُورَتَيِ الْمُزَّمِّلِ وَالْمُدَّثِّرِ، وَتِلْكَ الْفَتْرَةُ هِيَ الَّتِي خَشِيَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَكُونَ قَدِ انْقَطَعَ عَنْهُ الْوَحْيُ، وَهِيَ الَّتِي رَأَى عَقِبَهَا جِبْرِيلَ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مُدَّةَ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ فِي الْفَتْرَةِ الْأُولَى كَانَتْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَلَمْ يَشْعُرْ بِهَا الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي مَبْدَأِ نُزُولِ الْوَحْيِ قَبْلَ أَنْ يَشِيعَ الْحَدِيثُ بَيْنَهُمْ فِيهِ وَقَبْلَ أَنْ يَقُومَ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم بِالْقُرْآنِ لَيْلًا.
وَثَانِيَتُهُمَا: فَتْرَةٌ بَعْدَ نُزُولِ نَحْوٍ مِنْ ثَمَانِ سُوَرٍ، أَيِ السُّوَرِ الَّتِي نَزَلَتْ بَعْدَ الْفَتْرَةِ الْأُولَى فَتَكُونُ بَعْدَ تَجَمُّعِ عَشْرِ سُوَرٍ، وَبِذَلِكَ تَكُونُ هَذِهِ السُّورَةُ حَادِيَةَ عَشْرَةَ فَيَتَوَافَقُ ذَلِكَ مَعَ عَدَدِهَا فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ.
وَالِاخْتِلَافُ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُضُوحِهِ لِلرُّوَاةِ، فَالَّذِي نَظُنُّهُ أَنَّ احْتِبَاسَ الْوَحْيِ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ كَانَ لِمُدَّةِ نَحْوٍ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا وَأَنَّهُ مَا كَانَ إِلَّا لِلرِّفْقِ بِالنَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم كَيْ تَسْتَجِمَّ نَفْسُهُ وَتَعْتَادَ قُوَّتُهُ تَحَمُّلَ أَعْبَاءِ الْوَحْيِ إِذْ كَانَتِ الْفَتْرَةُ الْأُولَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ كَانَتِ الثَّانِيَةُ اثَّنَى عَشَرَ يَوْمًا أَوْ نَحْوَهَا، فَيَكُونُ نُزُولُ سُورَةِ الضُّحَى هُوَ النُّزُولَ الثَّالِثَ، وَفِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ يَحْصُلُ الِارْتِيَاضُ فِي الْأُمُورِ الشَّاقَّةِ وَلِذَلِكَ يَكْثُرُ الْأَمْرُ بِتَكَرُّرِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ ثَلَاثًا، وَبِهَذَا الْوَجْهِ يُجْمَعُ بَيْنَ مُخْتَلِفِ الْأَخْبَارِ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ وَسَبَبِ نُزُولِ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ.
وَحُذِفَ مَفْعُولُ قَلى لِدَلَالَةِ وَدَّعَكَ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: