الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَذَابًا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي أَصْنَافِ عَذَابِ الْمُعَذَّبِينَ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ [الْمَائِدَة: 115] وَالْمُرَادُ فِي شِدَّتِهِ.
وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِبَنِي الْإِنْسَانِ، وَأَمَّا عَذَابُ الشَّيَاطِينِ فَهُوَ أَشَدُّ لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ كُفْرًا وأَحَدٌ يُسْتَعْمَلُ فِي النَّفْيِ لِاسْتِغْرَاقِ جنس الْإِنْسَان فأحد فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يَعُمُّ كُلَّ أَحَدٍ قَالَ تَعَالَى:
يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار: 19] فَانْحَصَرَ الْأَحَدُ الْمُعَذِّبُ (بِكَسْرِ الذَّالِ) فِي فَرْدٍ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ بِفَتْحِ ذَالِ يُعَذَّبُ وَفَتْحِ ثَاءِ يُوثَقُ مَبْنِيَّيْنِ لِلنَّائِبِ.
وَعَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: «حَدَّثَنِي مَنْ أَقْرَأْهُ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَرَأَ يُعَذَّبُ وَيُوثَقُ بِفَتْحِ الذَّالِ وَفَتْحِ الثَّاءِ»
. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَإِسْنَادُهُ وَاهٍ وَأَقُولُ أَغْنَى عَنْ تَصْحِيحِ إِسْنَادِهِ تَوَاتُرُ الْقِرَاءَةِ بِهِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الْعَشْرِ وَكُلُّهَا مُتَوَاتِرٌ.
وَالْمَعْنَى: لَا يُعَذَّبُ أَحَدٌ مِثْلَ عَذَابِ مَا يُعَذَّبُ بِهِ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ الْمُتَحَسِّرُ يَوْمَئِذٍ، وَلَا يُوَثَقُ أَحَدٌ مِثْلَ وَثَاقِهِ، فَ أَحَدٌ هُنَا بِمَنْزِلَةِ «أَحَدًا» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ [الْمَائِدَة: 115] .
وَالْوَثَاقُ بِفَتْحِ الْوَاوِ اسْمُ مَصْدَرِ أَوْثَقَ وَهُوَ الرَّبْطُ وَيُجْعَلُ لِلْأَسِيرِ وَالْمَقُودِ إِلَى الْقَتْلِ.
فَيُجْعَلُ لِأَهْلِ النَّارِ وَثَاقٌ يُسَاقُونَ بِهِ إِلَى النَّارِ قَالَ تَعَالَى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ [غَافِر: 71، 72] الْآيَةَ.
وَانْتِصَابُ وَثاقَهُ كَانْتِصَابِ عَذابَهُ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ لِمَعْنى التَّشْبِيه.
[27- 30]
[سُورَة الْفجْر (89) : الْآيَات 27 إِلَى 30]
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
لَمَّا اسْتَوْعَبَ مَا اقْتَضَاهُ الْمَقَامُ مِنَ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ وَالْإِنْذَارِ خَتَمَ الْكَلَامَ بِالْبِشَارَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَذَكَّرُوا بِالْقُرْآنِ وَاتَّبَعُوا هَدْيَهُ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ النِّذَارَةِ بِالْبِشَارَةِ وَالْعَكْسِ فَإِن ذَلِك مِمَّا يَزِيدُ رَغْبَةَ النَّاسِ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ وَرَهْبَتَهُمْ مِنْ أَفْعَالِ الشَّرِّ.
وَاتِّصَالُ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا فِي التِّلَاوَةِ وَكِتَابَةِ الْمُصْحَفِ الْأَصْلُ فِيهِ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ مَعَ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا فِي نَسَقٍ وَاحِدٍ. وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يُقَالُ فِي الْآخِرَةِ. فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ يَوْمَ الْجَزَاءِ فَهُوَ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ هُوَ جَوَابُ (إِذَا) إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ [الْفجْر: 21] الْآيَةَ وَمَا بَيْنَهُمَا مُسْتَطْرَدٌ وَاعْتِرَاضٌ.
فَهَذَا قَوْلٌ يَصْدُرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ جَانِبِ الْقُدُسِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ: فَإِنْ كَانَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ قَوْلُهُ: إِلى رَبِّكِ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ بِقَرِينَةِ تَفْرِيعِ فَادْخُلِي فِي عِبادِي عَلَيْهِ. وَنُكْتَةُ هَذَا الْإِظْهَارِ مَا فِي وَصْفِ (رَبِّ) مِنَ الْوَلَاءِ وَالِاخْتِصَاصِ. وَمَا فِي إِضَافَتِهِ إِلَى ضَمِيرِ النَّفْسِ الْمُخَاطَبَةِ مِنَ التَّشْرِيفِ لَهَا.
وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ فَلَفْظُ رَبِّكِ جَرَى عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ وَعَطْفُ فَادْخُلِي فِي عِبادِي عَطْفُ تَلْقِينٍ يَصْدُرُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى تَحْقِيقًا لِقَوْلِ الْمَلَائِكَةِ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ وَالرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ مُسْتَعَارٌ لِلْكَوْنِ فِي نَعِيمِ الْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ دَارُ الْكَرَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ دَارِ الْمُضِيفِ قَالَ تَعَالَى: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [الْقَمَر: 55] بِحَيْثُ شُبِّهَتِ الْجَنَّةُ بِمَنْزِلٍ لِلنَّفْسِ الْمُخَاطَبَةِ لِأَنَّهَا اسْتَحَقَّتْهُ بِوَعْدِ اللَّهِ عَلَى أَعْمَالِهَا الصَّالِحَةِ فَكَأَنَّهَا كَانَتْ مُغْتَرِبَةً عَنْهُ فِي الدُّنْيَا فَقِيلَ لَهَا: ارْجِعِي إِلَيْهِ، وَهَذَا الرُّجُوعُ خَاصٌّ غَيْرُ مُطْلَقِ الْحُلُولِ فِي الْآخِرَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا جَرَى عَلَى مُنَاسَبَةِ ذِكْرِ عَذَابِ الْإِنْسَانِ الْمُشْرِكِ فَتَكُونُ خِطَابًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِنُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُطْمَئِنَّةِ.
وَالْأَمْرُ فِي ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ مُرَادٌ مِنْهُ تَقْيِيدُهُ بِالْحَالَيْنِ بَعْدَهُ وَهُمَا راضِيَةً مَرْضِيَّةً وَهُوَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْأَمْرِ فِي الْوَعْدِ وَالرُّجُوعُ مَجَازٌ أَيْضًا، وَالْإِضْمَارُ فِي قَوْلِهِ: فِي عِبادِي وَقَوْلُهُ: جَنَّتِي الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: نَزَلَتْ فِي مُعَيَّنٍ. فَعَنِ الضَّحَّاكِ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ لَمَّا تَصَدَّقَ بِبِئْرِ رُومَةَ. وَعَنْ بُرَيْدَةَ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ حِينَ قُتِلَ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي خُبَيْبِ بْنِ عَدِيٍّ لَمَّا صَلَبَهُ أَهْلُ مَكَّةَ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ تَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ
مَدَنِيَّةٌ، وَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا مَا رَوَاهُ الدَّانِي عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ، وَهِيَ عَلَى هَذَا مُنْفَصِلَةٌ عَمَّا قَبِلَهَا كُتِبَتْ هُنَا بِتَوْقِيفٍ خَاصٍّ أَوْ نَزَلَتْ عَقِبَ مَا قَبْلَهَا لِلْمُنَاسَبَةِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ هَذَا يُقَالُ عِنْدَ الْبَعْثِ لِتَرْجِعَ الْأَرْوَاحُ فِي الْأَجْسَادِ، وَعَلَى هَذَا فَهِيَ مُتَّصِلَةٌ بِقَوْلِهِ: إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ [الْفجْر: 21] إِلَخْ كَالْوَجْهِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا، وَالرُّجُوعُ عَلَى هَذَا حَقِيقَةٌ وَالرَّبُّ مُرَادٌ بِهِ صَاحِبُ النَّفْسِ وَهُوَ الْجَسَدُ.
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَأَبِي صَالِحٍ: يُقَالُ هَذَا لِلنَّفْسِ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَقَدْ
رَوَى الطَّبَرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَرَأَ رَجُلٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا أَحْسَنَ هَذَا؟ فَقَالَ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم: «أَمَا إِنَّ الْمَلَكَ سَيَقُولُهَا لَكَ عِنْدَ الْمَوْتِ»
. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ أَنَّ هَذَا يُقَالُ لِنَفْسِ الْمُؤْمِنِ عِنْدَ الْمَوْتِ تُبَشَّرُ بِالْجَنَّةِ.
وَالنَّفْسُ: تُطْلَقُ عَلَى الذَّاتِ كُلِّهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر: 56] وَقَوْلِهِ: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الْأَنْعَام: 151] وَتُطْلَقُ عَلَى الرُّوحِ الَّتِي بِهَا حَيَاةُ الْجَسَدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يُوسُف: 53] .
وَعَلَى الْإِطْلَاقَيْنِ تُوَزَّعُ الْمَعَانِي الْمُتَقَدِّمَةُ كَمَا لَا يَخْفَى.
والْمُطْمَئِنَّةُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنِ اطْمَأَنَّ إِذَا كَانَ هَادِئًا غَيْرَ مُضْطَرِبٍ وَلَا مُنْزَعِجٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ سُكُونِ النَّفْسِ بِالتَّصْدِيقِ لِمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ دُونَ تَرَدُّدٍ وَلَا اضْطِرَابِ بَالٍ فَيَكُونُ
ثَنَاءً عَلَى هَذِهِ النَّفْسِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ هُدُوءِ النَّفْسِ بِدُونِ خَوْفٍ وَلَا فِتْنَةٍ فِي الْآخِرَةِ.
وَفِعْلُهُ مِنَ الرُّبَاعِيِّ الْمَزِيدِ وَهُوَ بِوَزْنِ افْعَلَّلَ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مَهْمُوزُ اللَّامِ الْأُولَى وَأَنَّ الْمِيمَ عَيْنُ الْكَلِمَةِ كَمَا يُنْطَقُ بِهِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَمْرٍو. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: أَصْلُ الْفِعْلِ: طَأْمَنَ فَوَقَعَ فِيهِ قَلْبٌ مَكَانِيٌّ فَقُدِّمَتِ الْمِيمُ عَلَى الْهَمْزَةِ فَيَكُونُ أَصْلُ مُطَمْئِنَّةٍ عِنْدَهُ مطأمنّة ومصدره اطمئنان وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [260] وَقَوْلِهِ:
فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ
وَوَصْفُ النَّفْسُ بِ الْمُطْمَئِنَّةُ لَيْسَ وَصَفًا لِلتَّعْرِيفِ وَلَا لِلتَّخْصِيصِ، أَيْ لِتَمْيِيزِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْوَصْفِ الَّذِي يُمَيِّزُهُمْ عَمَّنْ عَدَاهُمْ فَيَعْرِفُونَ أَنَّهُمُ الْمُخَاطَبُونَ الْمَأْذُونُونَ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ أَنَّهُمْ مُطْمَئِنُّونَ إِلَّا بَعْدَ الْإِذْنِ لَهُمْ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ، فَالْوَصْفُ مُرَادٌ بِهِ الثَّنَاءُ وَالْإِيمَاءُ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ. وَتَبْشِيرُ مَنْ وُجِّهَ الْخِطَابُ إِلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ مُطْمَئِنُّونَ آمِنُونَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّعْرِيفِ أَوِ التَّخْصِيصِ بِأَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ إِلْهَامًا فِي قُلُوبِهِمْ يَعْرِفُونَ بِهِ أَنَّهُمْ مُطْمَئِنُّونَ.
وَالِاطْمِئْنَانُ: مَجَازٌ فِي طِيبِ النَّفْسِ وَعَدَمِ تَرَدُّدِهَا فِي مَصِيرِهَا بِالِاعْتِقَادِ الصَّحِيحِ فِيهِمْ حِينَ أَيْقَنُوا فِي الدُّنْيَا بِأَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ حَقٌّ فَذَلِكَ اطْمِئْنَانٌ فِي الدُّنْيَا وَمِنْ أَثَرِهِ اطْمِئْنَانُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَرَوْنَ مَخَائِلَ الرِّضَى وَالسَّعَادَةِ نَحْوَهُمْ وَيَرَوْنَ ضِدَّ ذَلِكَ نَحْوَ أَهْلِ الشَّقَاءِ.
وَقَدْ فُسِّرَ الِاطْمِئْنَانُ: بِيَقِينِ وُجُودِ اللَّهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَفُسِّرَ بِالْيَقِينِ بِوَعْدِ اللَّهِ، وَبِالْإِخْلَاصِ فِي الْعَمَلِ، وَلَا جَرَمَ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ مُقَوِّمَاتِ الِاطْمِئْنَانِ الْمَقْصُودِ فَمَجْمُوعُهُ مُرَادٌ وَأَجْزَاؤُهُ مَقْصُودَةٌ، وَفُسِّرَ بِتَبْشِيرِهِمْ بِالْجَنَّةِ، أَيْ قَبْلَ نِدَائِهِمْ ثُمَّ نُودُوا بِأَنْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ.
وَالرُّجُوعُ يَحْتَمِلُ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ كَمَا عَلِمْتَ مِنَ الْوُجُوهِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ.
والراضية: الَّتِي رضت بِمَا أُعْطِيَتْهُ مِنْ كَرَامَةٍ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ إِعْطَائِهَا كُلَّ مَا تَطْمَحُ إِلَيْهِ.
وَالْمَرْضِيَّةُ: اسْمُ مَفْعُولٍ وَأَصْلُهُ: مَرْضِيًّا عَنْهَا، فَوَقَعَ فِيهِ الْحَذْفُ وَالْإِيصَالُ فَصَارَ نَائِبَ فَاعِلٍ بِدُونِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْوَصْفِ زِيَادَةُ الثَّنَاءِ مَعَ الْكِنَايَةِ عَنِ الزِّيَادَةِ فِي إِفَاضَةِ الْإِنْعَامِ لِأَنَّ الْمَرْضِيَّ عَنْهُ يَزِيدُهُ الرَّاضِي عَنْهُ مِنَ الْهِبَاتِ وَالْعَطَايَا فَوْقَ مَا
رَضِيَ بِهِ هُوَ.
وَفُرِّعَ عَلَى هَذِهِ الْبُشْرَى الْإِجْمَالِيَّةِ تَفْصِيلُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي فَهُوَ تَفْصِيلٌ بَعْدَ الْإِجْمَالِ لِتَكْرِيرِ إِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَى أَهْلِهَا.
وَالْمَعْنَى: ادْخُلِي فِي زُمْرَةِ عِبَادِي. وَالْمُرَادُ الْعِبَادُ الصَّالِحُونَ بِقَرِينَةِ مَقَامِ الْإِضَافَةِ مَعَ قَرْنِهِ بِقَوْلِهِ: جَنَّتِي وَمَعْنَى هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ [العنكبوت: 9] .
فَالظَّرْفِيَّةُ حَقِيقِيَّة وتؤول إِلَى مَعْنَى الْمَعِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النِّسَاء: 69] .
وَإِضَافَةُ (جَنَّةٍ) إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ كَقَوْلِهِ: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [الْقَمَر: 55] .
وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ هِيَ مِمَّا يَزِيدُ الِالْتِفَاتَ إِلَى ضَمِيرِ التَّكَلُّمِ حُسْنًا بَعْدَ طَرِيقَةِ الْغَيْبَةِ بِقَوْلِهِ:
ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ وَتَكْرِيرُ فِعْلِ وَادْخُلِي فَلَمْ يَقُلْ: فَادْخُلِي جَنَّتِي فِي عِبَادِي لِلِاهْتِمَامِ بِالدُّخُولِ بِخُصُوصِهِ تَحْقِيقًا لِلْمَسَرَّةِ لَهُمْ.