الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَبِذَلِكَ يَسْتَبِينُ أَنَّ مَا أَوْحَى اللَّهُ بِهِ إِلَى نَبِيئِهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ السُّورَةِ هُوَ وَحْيٌ لَهُ بِأَمْرٍ كَانَ مُغَيَّبًا عَنْهُ حِينَ أَقْبَلَ عَلَى دَعْوَةِ الْمُشْرِكِ وَأَرْجَأَ إِرْشَادَ الْمُؤْمِنِ. وَلَيْسَ فِي ظَاهِرِ حَالِهِمَا مَا يُؤْذِنُ بِبَاطِنِهِ وَمَا أَظْهَرَ اللَّهُ فِيهَا غَيْبَ عِلْمِهِ إِلَّا لِإِظْهَارِ مَزِيَّةِ مُؤْمِنٍ رَاسِخِ الْإِيمَانِ وَتَسْجِيلِ كَفْرِ مُشْرِكٍ لَا يُرْجَى مِنْهُ الْإِيمَانُ، مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَذْكِيرِ النبيء صلى الله عليه وسلم بِمَا علمه اللَّهُ مِنْ حُسْنِ أَدَبِهِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَرَفْعِ شَأْنِهِمْ أَمَامَ الْمُشْرِكِينَ. فَمَنَاطُ الْمُعَاتَبَةِ هُوَ الْعُبُوسُ لِلْمُؤْمِنِ بِحَضْرَةِ الْمُشْرِكِ الَّذِي يَسْتَصْغِرُ أَمْثَالَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَمَا وَقَعَ فِي خِلَالِ هَذَا الْعِتَابِ مِنْ ذِكْرِ حَالِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ إِنَّمَا هُوَ إِدْمَاجٌ لِأَنَّ فِي الْحَادِثَةِ فُرْصَةً مِنَ التَّنْوِيهِ بِسُمُوِّ مَنْزِلَةِ الْمُؤْمِنِ لِانْطِوَاءِ قَلْبِهِ عَلَى أَشِعَةٍ تُؤَهِّلُهُ لِأَنْ يَسْتَنِيرَ بِهَا وَيُفِيضَهَا عَلَى غَيْرِهِ جَمْعًا بَيْنَ الْمُعَاتَبَةِ وَالتَّعْلِيمِ، عَلَى سَنَنِ هَدْيِ الْقُرْآنِ فِي الْمُنَاسَبَاتِ.
[11- 16]
[سُورَة عبس (80) : الْآيَات 11 الى 16]
كَلَاّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15)
كِرامٍ بَرَرَةٍ (16)
كَلَّا إِبْطَالٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ (كَلَّا) فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [79- 82] ، وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي سُورَةِ النَّبَأِ [4، 5]، وَهُوَ هُنَا إِبْطَالٌ لِمَا جَرَى فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ وَلَوْ بِالْمَفْهُومِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [عبس: 3] . وَلَوْ بِالتَّعْرِيضِ أَيْضًا كَمَا فِي قَوْلِهِ: عَبَسَ وَتَوَلَّى [عبس: 1] .
وَعَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي الْمُتَقَدِّمِ يَنْصَرِفُ الْإِبْطَالُ إِلَى عَبَسَ وَتَوَلَّى خَاصَّةً.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ: وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى [عبس: 7] عَلَى التَّفْسِيرَيْنِ، أَيْ لَا تظن أَنَّك مسؤول عَنْ مُكَابَرَتِهِ وَعِنَادِهِ فَقَدْ بَلَّغْتَ مَا أُمِرْتَ بِتَبْلِيغِهِ.
إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (50) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) .
اسْتِئْنَافٌ بَعْدَ حَرْفِ الْإِبْطَالِ، وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعِتَابِ ثُمَّ مَا عَقِبَهُ مِنَ الْإِبْطَالِ يُثِيرُ فِي خَاطِرِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم الْحَيْرَةَ فِي كَيْفَ يَكُونُ الْعَمَلُ فِي دَعْوَةِ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ إِذَا لَمْ يَتَفَرَّغْ لَهُمْ لِئَلَّا يَنْفِرُوا عَنِ التَّدَبُّرِ فِي الْقُرْآنِ، أَوْ يُثِيرُ
فِي نَفْسِهِ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ قَصَّرَ فِي شَيْءٍ مِنْ وَاجِبِ التَّبْلِيغِ.
وَضمير إِنَّها عَائِد إِلَى الدَّعْوَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا قَوْلُهُ: فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى [عبس: 6] .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنَّ هَذِهِ الْمَوْعِظَةَ تَذْكِرَةٌ لَكَ وَتَنْبِيهٌ لِمَا غَفَلْتَ عَنْهُ وَلَيْسَتْ مَلَامًا وَإِنَّمَا يُعَاتِبُ الْحَبِيبُ حَبِيبَهُ.
وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا مُوَجَّهًا إِلَى مَنْ كَانَ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم يَدْعُوهُ قُبَيْلَ نُزُولِ السُّورَةِ فَإِنَّهُ كَانَ يَعْرِضُ الْقُرْآنَ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَمَنْ مَعَهُ، وَكَانُوا لَا يَسْتَجِيبُونَ إِلَى مَا دَعَاهُمْ وَلَا يُصَدِّقُونَ بِالْبَعْثِ، فَتَكُونُ (كَلَّا) إِبْطَالًا لِمَا نَعَتُوا بِهِ الْقُرْآنَ مِنْ أَنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ.
فَيَكُونُ ضَمِيرُ إِنَّها تَذْكِرَةٌ عَائِدًا إِلَى الْآيَاتِ الَّتِي قَرَأَهَا النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ ثُمَّ أُعِيدَ عَلَيْهَا الضَّمِيرُ بِالتَّذْكِيرِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ آيَاتُ الْقُرْآنِ.
وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْوَجْهَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَقِبَهُ: قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ [عبس: 17] الْآيَاتِ حَيْثُ سَاقَ لَهُمْ أَدِلَّةَ إِثْبَاتِ الْبَعْثِ.
فَكَانَ تَأْنِيثُ الضَّمِيرِ نُكْتَةً خُصُوصِيَّةً لِتَحْمِيلِ الْكَلَامِ هَذِهِ الْمَعَانِي.
وَالضَّمِيرُ الظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ: ذَكَرَهُ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى تَذْكِرَةٌ لِأَن مَا صدقهَا الْقُرْآنُ الَّذِي كَانَ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُهُ عَلَى صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ قُبَيْلَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، أَيْ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ إِعَادَةَ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى دُونَ ذِكْرِ مَعَادِهِ فِي الْكَلَامِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّ شُؤُونَهُ تَعَالَى وَأَحْكَامَهُ نَزَلَ الْقُرْآنُ لِأَجْلِهَا فَهُوَ مَلْحُوظٌ لِكُلِّ سَامِعٍ لِلْقُرْآنِ، أَيْ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَ اللَّهَ وَتَوَخَّى مَرْضَاتَهُ.
وَالذِّكْرُ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ: الذِّكْرُ بِالْقَلْبِ، وَهُوَ تَوَخِّي الْوُقُوفِ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.
وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ (ذَكَرَ) إِلَى ذَلِكَ الضَّمِيرِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ يُنَاسِبُ الْمَقَامَ.
وَالَّذِي اقْتَضَى الْإِتْيَانَ بِالضَّمِيرِ وَكَوْنَهُ ضَمِيرَ مُذَكَّرٍ مُرَاعَاةُ الْفَوَاصِلِ وَهِيَ: تَذْكِرَةٌ، مُطَهَّرَةٍ، سَفَرَةٍ، بَرَرَةٍ وَجُمْلَةُ: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ قَوْلِهِ: تَذْكِرَةٌ وَقَوْلِهِ: فِي صُحُفٍ وَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَإِنَّ الْجُمْلَةَ الْمُعْتَرِضَةَ تَقْتَرِنُ بِالْفَاءِ إِذَا كَانَ مَعْنَى الْفَاءِ قَائِمًا، فَالْفَاءُ مِنْ جُمْلَةِ الِاعْتِرَاضِ، أَيْ هِيَ تَذْكِرَةٌ لَكَ بِالْأَصَالَةِ وَيَنْتَفِعُ بِهَا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَذَكَّرَ عَلَى حَسَبِ اسْتِعْدَادِهِ، أَيْ يَتَذَكَّرُ بِهَا كُلُّ مُسْلِمٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: 44] .
وَفِي قَوْلِهِ: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ مَوْعِظَةَ الْقُرْآنِ نَافِعَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ تَجَرَّدَ عَنِ الْعِنَادِ وَالْمُكَابَرَةِ، فَمَنْ لَمْ يَتَّعِظْ بِهَا فَلِأَنَّهُ لَمْ يَشَأْ أَنْ يَتَّعِظَ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النازعات: 45] وَقَوْلِهِ: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [التكوير: 28] وَقَوْلِهِ:
وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [الحاقة: 48] وَنَحْوُهُ كَثِيرٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبٌ مِنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ [29] .
وَالتَّذْكِرَةُ: اسْمٌ لِمَا يُتَذَكَّرُ بِهِ الشَّيْءُ إِذَا نُسِيَ. قَالَ الرَّاغِبُ: وَهِيَ أَعَمُّ مِنَ الدِّلَالَةِ وَالْأَمَارَةِ قَالَ تَعَالَى: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ [49] .
وَكُلٌّ مِنْ تَذْكِرَةٌ وذَكَرَهُ هُوَ مِنَ الذِّكْرِ الْقَلْبِيِّ الَّذِي مصدره بِضَم الدَّال فِي الْغَالِبِ، أَيْ فَمَنْ شَاءَ عَمِلَ بِهِ وَلَا يَنْسَهُ.
وَالصُّحُفُ: جَمْعُ صَحِيفَةٍ، وَهِيَ قِطْعَةٌ مِنْ أَدِيمٍ أَوْ وَرَقٍ أَوْ خِرْقَةٌ يُكْتَبُ فِيهَا الْكِتَابُ، وَقِيَاسُ جَمْعِهَا صَحَائِفُ، وَأَمَّا جَمْعُهَا عَلَى صُحُفٍ فَمُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ، وَهُوَ الْأَفْصَحُ وَلَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا صُحُفٌ، وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْأَعْلَى، وَتُطْلَقُ الصَّحِيفَةُ عَلَى مَا يُكْتَبُ فِيهِ.
ومُطَهَّرَةٍ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ طَهَّرَهِ إِذَا نَظَّفَهُ. وَالْمُرَادُ هُنَا: الطَّهَارَةُ الْمَجَازِيَّةُ وَهِيَ الشَّرَفُ، فَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ الصُّحُفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَتَكُونُ أَوْصَافُهَا بِ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ، مُطَهَّرَةٍ مَحْمُولَةً عَلَى الْمَعَانِي الْمَجَازِيَّةِ وَهِيَ مَعَانِي الِاعْتِنَاءِ بِهَا
كَمَا قَالَ تَعَالَى: قالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ [النَّمْل: 29] . وَتَشْرِيفِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين: 18] وَقُدْسِيَّةِ مَعَانِيهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [الْبَقَرَة: 129] ، وَكَانَ الْمُرَادُ بِالصُّحُفِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي كُتِبَ فِيهَا الْقُرْآنُ مِنْ رُقُوقٍ وَقَرَاطِيسَ، وَأَكْتَافٍ، وَلِخَافٍ، وَجَرِيدٍ.
فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ كُتَّابَ الْوَحْيِ كَانُوا يَكْتُبُونَ فِيهَا كَمَا جَاءَ فِي خَبَرِ جَمْعِ أَبِي بَكْرٍ لِلْمُصْحَفِ حِينَ أَمَرَ بِكِتَابَتِهِ فِي رُقُوقٍ أَوْ قَرَاطِيسَ، وَيَكُونُ إِطْلَاقُ الصُّحُفِ عَلَيْهَا تَغْلِيبًا وَيَكُونُ حَرْفُ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالسَّفَرَةِ جَمْعَ سَافِرٍ، أَيْ كَاتِبٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْكِتَابِ سِفْرٌ (بِكَسْرِ السِّينِ) وَلِلْكَاتِبِ سَافِرٌ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُبَيِّنُ الشَّيْءَ وَيُوَضِّحُهُ يُقَالُ: أَسْفَرَ الصُّبْحُ، إِذَا أَضَاءَ وَقَالَهُ الْفَرَّاءُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالصُّحُفِ كُتُبُ الرُّسُلِ الَّذِينَ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام. فَتَكُونُ هَذِهِ الْأَوْصَافُ تَأْيِيدًا لِلْقُرْآنِ بِأَنَّ الْكُتُبَ الْإِلَهِيَّةَ السَّابِقَةَ جَاءَتْ بِمَا جَاءَ بِهِ. وَمَعْنَى كَوْنِ هَذِهِ التَّذْكِرَةِ فِي كُتُبِ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ: أَنَّ أَمْثَالَ مَعَانِيهَا وَأُصُولِهَا فِي كُتُبِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى [الْأَعْلَى: 18- 19] وَكَمَا قَالَ: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [الشُّعَرَاء: 196] وَكَمَا قَالَ: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى [الشورى: 13] .
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالصُّحُفِ صُحُفٌ مَجَازِيَّةٌ، أَيْ ذَوَاتٌ مَوْجُودَةٌ قُدْسِيَّةٌ يَتَلَقَّى جِبْرِيلُ عليه السلام مِنْهَا الْقُرْآنَ الَّذِي يُؤْمَرُ بِتَبْلِيغِهِ لِلنَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم، وَيَكُونُ إِطْلَاقُ الصُّحُفِ عَلَيْهَا لِشِبْهِهَا بِالصُّحُفِ الَّتِي يَكْتُبُ النَّاسُ فِيهَا. وَمَعْنَى مُكَرَّمَةٍ عِنَايَةُ اللَّهِ بِهَا، وَمَعْنَى مَرْفُوعَةٍ أَنَّهَا مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، وَمَعْنَى مُطَهَّرَةٍ مُقَدَّسَةٌ مُبَارَكَةٌ، أَيْ هَذِهِ التَّذْكِرَةُ مِمَّا تَضَمَّنَهُ عِلْمُ اللَّهِ وَمَا كَتَبَهُ لِلْمَلَائِكَةِ فِي صُحُفٍ قُدْسِيَّةٍ.
وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْمُرَادِ بِالصُّحُفِ (فَسَفَرَةٌ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ سَافِرٍ، مِثْلَ كَاتِبٍ وَكَتَبَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ جَمْعِ سَفِيرٍ، وَهُوَ الْمُرْسَلُ فِي أَمْرٍ
مُهِمٍّ، فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَقِيَاسُ جَمْعِهِ سُفَرَاءُ وَتَكُونُ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ، أَيْ الْمُمَاثِلَةِ فِي الْمَعَانِي.
وَتَأْتِي وُجُوهٌ مُنَاسِبَةٌ فِي مَعْنَى سَفَرَةٍ، فَالْمُنَاسِبُ لِلْوَجْهِ الْأَوَّلِ: أَنْ يَكُونَ السَّفَرَةُ كُتَّابَ الْقُرْآنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ قُرَّاءَ الْقُرْآنِ، وَبِهِ فَسَّرَ قَتَادَةُ وَقَالَ: هُمْ بِالنَّبَطِيَّةِ الْقُرَّاءُ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: الْوَرَّاقُونَ بِاللُّغَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ.
وَقَدْ عُدَّتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ فِي عِدَادِ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمُعَرَّبِ كَمَا فِي «الْإِتْقَانِ» عَنِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، وَقَدْ أَغْفَلَهَا السُّيُوطِيُّ فِيمَا اسْتَدْرَكَهُ عَلَى ابْنِ السُّبْكِيِّ وَابْنِ حَجَرٍ فِي نَظْمَيْهِمَا فِي الْمُعَرَّبِ فِي الْقُرْآنِ أَوْ قَصَدَ عَدَمَ ذِكْرِهَا لِوُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِي تَعْرِيبِهَا.
وَالْمُنَاسِبُ لِلْوَجْهِ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَحْمَلُهُ الرُّسُلَ.
وَالْمُنَاسِبُ لِلْوَجْهِ الثَّالِثِ: أَنْ يَكُونَ مَحْمَلُهُ الْمَلَائِكَةَ لِأَنَّهُمْ سُفَرَاءُ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ.
وَالْمُرَادُ بِأَيْدِيهِمْ: حِفْظُهُمْ إِيَّاهُ إِلَى تَبْلِيغِهِ، فَمَثَّلَ حَالَ الْمَلَائِكَةِ بِحَالِ السُّفَرَاءِ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ بِأَيْدِيهِمُ الْأَلُوكَ وَالْعُهُودَ.
وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ: الرُّسُلُ الَّذِينَ كَانَتْ بِأَيْدِيهِمْ كُتُبُهُمْ مِثْلَ مُوسَى وَعِيسَى عليهما السلام.
وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ كُتَّابُ الْوَحْيِ مِثْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَعَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ.
وَكَانَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ يَكْتُبُ مَا يَتَلَقَّاهُ مِنَ الْقُرْآنِ لِيَدْرُسَهُ مِثْلَ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ إِسْلَامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنْ عُثُورِهِ عَلَى سُورَةِ طَهَ مَكْتُوبَةً عِنْدَ أُخْتِهِ أُمِّ جَمِيلٍ فَاطِمَةَ زَوْجِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ.
وَفِي وَصْفِهِمْ بِالسَّفَرَةِ ثَنَاءٌ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ يُبَلِّغُونَ الْقُرْآنَ لِلنَّاسِ وَهُمْ حُفَّاظُهُ وَوُعَاتُهُ قَالَ تَعَالَى: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت: 49] فَهَذَا مَعْنَى