الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْآياتِ لِلِاسْتِغْرَاقِ فَيَشْمَلُ آيَةَ خَلْقِ النُّجُومِ وَغَيْرَهَا. وَالْعِلْمُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِدْرَاكُ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ قَالَ السَّمَوْأَلُ أَوْ عَبْدُ الْمَلِكِ الْحَارِثِيُّ:
فَلَيْسَ سَوَاءً عَالِمٌ وَجَهُولُ وَقَالَ النَّابِغَةُ:
وَلَيْسَ جَاهِلُ شَيْءٍ مِثْلَ مَنْ عَلِمَا وَالَّذِينَ يَعْلَمُونَ هُمُ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِدَلَائِلِ الْآيَاتِ. وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الْأَنْعَام: 99] .
[98]
[سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 98]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
هَذَا تَذْكِيرٌ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ وَكَيْفَ نَشَأْ هَذَا الْعَدَدُ الْعَظِيمُ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ لَهُمْ، فَالَّذِي أَنْشَأَ النَّاسَ وَخَلَقَهُمْ هُوَ الْحَقِيقُ بِعِبَادَتِهِمْ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا أَشْرَكُوا بِهِ، وَالنَّظَرُ فِي خِلْقَةِ الْإِنْسَانِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِأَعْظَمِ الْآيَاتِ. قَالَ تَعَالَى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 21] .
وَالْقَصْرُ الْحَاصِلُ مِنْ تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَالْمُسْنَدِ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ، إِذْ أَشْرَكُوا فِي عِبَادَتِهِمْ مَعَ خَالِقِهِمْ غَيْرَ مَنْ خَلَقَهُمْ عَلَى نَحْوِ مَا قَرَّرْتُهُ فِي الْآيَةِ قَبْلَ هَذِهِ.
وَالْإِنْشَاءُ: الْإِحْدَاثُ وَالْإِيجَادُ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ مُرَادٌ بِهِ الْبَشَرُ كُلُّهُمْ. وَالنَّفْسُ
الْوَاحِدَةُ هِيَ آدَمُ- عليه السلام.
وَقَوْلُهُ: فَمُسْتَقَرٌّ الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَنْ أَنْشَأَكُمْ، وَهُوَ تَفْرِيعُ الْمُشْتَمَلِ عَلَيْهِ الْمُقَارَنِ عَلَى الْمُشْتَمِلِ.
وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ مُسْتَقَرٌّ- بِفَتْحِ الْقَافِ- وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ «بِكَسْرِ الْقَافِ» . فَعَلَى قِرَاءَةِ- فَتْحِ الْقَافِ- يَكُونُ مَصْدَرًا مِيمِيًّا، ومُسْتَوْدَعٌ كَذَلِكَ، وَرَفْعُهُمَا عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ حُذِفَ خَبَرُهُ،
تَقْدِيرُهُ: لَكُمْ أَوْ مِنْكُمْ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَأَنْتُمْ مُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ. وَالْوَصْفُ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْحَاصِلِ بِهِ، أَيْ فَتَفَرَّعَ عَنْ إِنْشَائِكُمُ اسْتِقْرَارٌ وَاسْتِيدَاعٌ، أَيْ لَكُمْ.
وَعَلَى قِرَاءَةِ- كَسْرِ الْقَافِ- يَكُونُ الْمُسْتَقِرُّ اسْمَ فَاعِلٍ. وَالْمُسْتَوْدَعُ اسْمَ مَفْعُولٍ مِنِ اسْتَوْدَعَهُ بِمَعْنَى أَوْدَعَهُ، أَيْ فَمُسْتَقِرٌّ مِنْكُمْ أَقْرَرْنَاهُ فَهُوَ مُسْتَقِرٌّ، وَمُسْتَوْدَعٌ مِنْكُمْ وَدَّعْنَاهُ فَهُوَ مُسْتَوْدَعٌ. وَالِاسْتِقْرَارُ هُوَ الْقَرَارُ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلتَّأْكِيدِ مِثْلُ اسْتَجَابَ. يُقَالُ: اسْتَقَرَّ فِي الْمَكَانِ بِمَعْنَى قَرَّ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [67] .
وَالِاسْتِيدَاعُ: طَلَبُ التَّرْكِ، وَأَصْلُهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَدْعِ، وَهُوَ التَّرْكُ عَلَى أَنْ يَسْتَرْجِعَ الْمُسْتَوْدَعَ. يُقَالُ: اسْتَوْدَعَهُ مَالًا إِذَا جَعَلَهُ عِنْدَهُ وَدِيعَةً، فَالِاسْتِيدَاعُ مُؤْذِنٌ بِوَضْعٍ مُوَقَّتٍ، وَالِاسْتِقْرَارُ مُؤْذِنٌ بِوَضْعٍ دَائِمٍ أَوْ طَوِيلٍ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِالِاسْتِقْرَارِ وَالِاسْتِيدَاعِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى انْهَمَا مُتَقَابِلَانِ. فَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: الْمُسْتَقَرُّ الْكَوْنُ فَوْقَ الْأَرْضِ، وَالْمُسْتَوْدَعُ الْكَوْنُ فِي الْقَبْرِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ الْكَلَامُ تَنْبِيهًا لَهُمْ بِأَنَّ حَيَاةَ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا يَعْقُبُهَا الْوَضْعُ فِي الْقُبُورِ وَأَنَّ ذَلِكَ الْوَضْعَ اسْتِيدَاعٌ مُوَقَّتٌ إِلَى الْبَعْثِ الَّذِي هُوَ الْحَيَاةُ الْأَوْلَى رَدًّا عَلَى الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمُسْتَقَرُّ فِي الرَّحِمِ وَالْمُسْتَوْدَعِ فِي صُلْبِ الرَّجُلِ، وَنُقِلَ هَذَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا، وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَعَطَاءٌ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَفَسَّرَ بِهِ الزَّجَّاجُ. قَالَ الْفَخْرُ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ النُّطْفَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَبْقَى فِي صُلْبِ الْأَبِ زَمَانًا طَوِيلًا وَالْجَنِينُ يَبْقَى فِي رَحِمِ الْأُمِّ زَمَانًا طَوِيلًا. وَعَنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ تَفْسِيرَاتٌ أُخْرَى لَا يُثْلَجُ لَهَا الصَّدْرُ أَعْرَضْنَا عَنِ التَّطْوِيلِ بِهَا. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُخَصِّصْ مَعْنًى دُونَ غَيْرِهِ» ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مِنْ بَنِي آدَمَ مُسْتَقِرًّا فِي الرَّحِمِ وَمُسْتَوْدَعًا فِي الصُّلْبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ مُسْتَقِرٌّ
عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَوْ بَطْنِهَا وَمُسْتَوْدَعٌ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ، وَمِنْهُمْ مُسْتَقِرٌّ فِي
الْقَبْرِ مُسْتَوْدَعٌ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ، فَكُلُّ مُسْتَقِرٍّ أَوْ مُسْتَوْدَعٍ بِمَعْنًى مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي دَاخِلٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ:
فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ اهـ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنَّ ابْنَ آدَمَ هُوَ مُسْتَوْدَعٌ فِي ظَهْرِ أَبِيهِ وَلَيْسَ بِمُسْتَقِرٍّ فِيهِ لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ لَا مَحَالَةَ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى الرَّحِمِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى الدُّنْيَا ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى الْقَبْرِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى الْحَشْرِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ. وَهُوَ فِي كُلِّ رُتْبَةٍ بَيْنَ هَذَيْنِ الظَّرْفَيْنِ مُسْتَقِرٌّ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الَّتِي قَبْلَهَا وَمُسْتَوْدَعٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الّتي بعْدهَا اهـ.
وَالْأَظْهَرُ أَنْ لَا يُقَيَّدَ الِاسْتِيدَاعُ بِالْقُبُورِ بَلْ هُوَ اسْتِيدَاعٌ مِنْ وَقْتِ الْإِنْشَاءِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّذْكِيرُ بِالْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ، وَلِأَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ الْوَاوَ لَيْسَتْ لِلتَّقْسِيمِ بَلِ الْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ لِلْجَمْعِ، أَيْ أَنْشَأَكُمْ فَشَأْنُكُمُ اسْتِقْرَارٌ وَاسْتِيدَاعٌ فَأَنْتُمْ فِي حَالِ اسْتِقْرَارِكُمْ فِي الْأَرْضِ وَدَائِعُ فِيهَا وَمَرْجِعُكُمْ إِلَى خَالِقِكُمْ كَمَا تَرْجِعُ الْوَدِيعَةُ إِلَى مُودِعِهَا. وَإِيثَارُ التَّعْبِيرِ بِهَذَيْنِ الْمَصْدَرَيْنِ مَا كَانَ إِلَّا لِإِرَادَةِ تَوْفِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ.
وَعَلَى قِرَاءَةِ- كَسْرِ الْقَافِ- هُوَ اسْمُ فَاعِلٍ. وَمُسْتَوْدَعٌ اسْمُ مَفْعُولِ، وَالْمَعْنَى هُوَ هُوَ.
وَقَوْلُهُ: قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ تَقْرِيرٌ لِنَظِيرِهِ الْمُتَقَدِّمِ مَقْصُودٌ بِهِ التَّذْكِيرُ وَالْإِعْذَارُ.
وَعَدَلَ عَنْ (يَعْلَمُونَ) إِلَى يَفْقَهُونَ لِأَنَّ دَلَالَةَ إِنْشَائِهِمْ عَلَى هَذِهِ الْأَطْوَارِ مِنَ الِاسْتِقْرَارِ وَالِاسْتِيدَاعِ وَمَا فِيهِمَا مِنَ الْحِكْمَةِ دَلَالَةٌ دَقِيقَةٌ تَحْتَاجُ إِلَى تَدَبُّرٍ، فَإِنَّ الْمُخَاطَبِينَ كَانُوا مُعْرِضِينَ عَنْهَا فَعَبَّرَ عَنْ عِلْمِهَا بِأَنَّهُ فِقْهٌ، بِخِلَافِ دَلَالَةِ النُّجُومِ عَلَى حِكْمَةِ الِاهْتِدَاءِ بِهَا فَهِيَ دَلَالَةٌ مُتَكَرِّرَةٌ، وَتَعْرِيضًا بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَعْلَمُونَ وَلَا يَفْقَهُونَ، فَإِنَّ الْعِلْمَ هُوَ الْمَعْرِفَةُ الْمُوَافَقَةُ لِلْحَقِيقَةِ،