الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مُشْرِكُو الْعَرَبِ يَقُولُونَ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ. وَكَمَا قَالَتِ الصَّابِئَةُ فِي الْأَرْوَاحِ، وَالنَّصَارَى فِي الِابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدس.
وَمعنى العجيب عَامٌّ فِي أَحْوَالِ الَّذِينَ ادَّعَوُا الْإِلَهِيَّةَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى سَوَاءً فِيهِمْ مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلِاسْتِدْلَالِ وَالنَّظَرِ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِذَلِكَ، لِأَنَّ مَحَلَّ التَّعْجِيبِ أَنَّهُ يَخْلُقُهُمْ وَيَخْلُقُ مَعْبُودَاتِهِمْ فَلَا يَهْتَدُونَ إِلَيْهِ بَلْ وَيَخْتَلِقُونَ إِلَهِيَّةَ غَيْرِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّعْجِيبَ مِنْ شَأْنِهِمْ مُتَفَاوِتٌ عَلَى حَسَبِ تَفَاوُتِ كفرهم وضلالهم.
[2]
[سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 2]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)
اسْتِئْنَافٌ لِغَرَضٍ آخَرَ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ، فَإِنَّهُ ذَكَّرَهُمُ ابْتِدَاءً بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَعَجِبَ مِنْ حَالِهِمْ فِي تَسْوِيَتِهِمْ مَا لَمْ يَخْلُقِ السَّمَاوَاتِ وَلَا الْأَرْضَ بِاللَّهِ تَعَالَى فِي الْإِلَهِيَّةِ. ثُمَّ ذَكَّرَهُمْ بِخَلْقِهِمُ الْأَوَّلِ، وَعَجِبَ مِنْ حَالِهِمْ كَيْفَ جَمَعُوا بَيْنَ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُهُمُ الْخَلْقَ الْأَوَّلَ فَكَيْفَ يَمْتَرُونَ فِي الْخَلْقِ الثَّانِي.
وَأُتِيَ بِضَمِيرِ (هُوَ) فِي قَوْلِهِ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ لِيَحْصُلَ تَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مَعًا، فَتُفِيدُ الْجُمْلَةُ الْقَصْرَ فِي رُكْنَيِ الْإِسْنَادِ وَفِي مُتَعَلِّقِهَا، أَيْ هُوَ خَالِقُكُمْ لَا غَيْرُهُ، مَنْ طِينٍ لَا مَنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ الَّذِي قَضَى أَجَلًا وَعِنْدَهُ أَجَلٌ مُسَمًّى فَيَنْسَحِبُ حُكْمُ الْقَصْرِ عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَى الْمَقْصُورِ. وَالْحَالُ الَّذِي اقْتَضَى الْقَصْرَ هُوَ حَالُ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَنْكَرُوهُ وَهُوَ الْخَلْقُ الثَّانِي نَزَلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ أَنْكَرَ الْخَلْقَ الْأَوَّلَ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْخَلْقَيْنِ بَلِ الْإِعَادَةُ فِي مُتَعَارَفِ الصَّانِعِينَ أَيْسَرُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرّوم: 27] وَقَالَ أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق:
15] . وَالْقَصْرُ أَفَادَ نَفْيَ جَمِيعِ هَذِهِ التَّكْوِينَاتِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ مِنْ أَصْنَامِهِمْ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ [الرّوم: 40] .
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ خَلَقَكُمْ مُوَجَّهٌ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، فَفِيهِ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغِيبَةِ إِلَى الْخِطَابِ لِقَصْدِ التَّوْبِيخِ.
وَذَكَرَ مَادَّةَ مَا مِنْهُ الْخَلْقُ بِقَوْلِهِ: مِنْ طِينٍ لِإِظْهَارِ فَسَادِ اسْتِدْلَالِهِمْ عَلَى إِنْكَارِ الْخَلْقِ الثَّانِي، لِأَنَّهُمُ اسْتَبْعَدُوا أَنْ يُعَادَ خَلْقُ الْإِنْسَانِ بَعْدَ أَنْ صَارَ تُرَابًا. وَتَكَرَّرَتْ حِكَايَةُ ذَلِكَ عَنْهُمْ فِي الْقُرْآنِ، فَقَدِ اعْتَرَفُوا بِأَنَّهُمْ يَصِيرُونَ تُرَابًا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ تُرَابٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُقَرَّرٌ بَيْنَ النَّاسِ فِي سَائِرِ الْعُصُورِ، فَاسْتَدَلُّوا عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ بِمَا هُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَكُونَ اسْتِدْلَالًا عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ، لِأَنَّ مَصِيرَهُمْ إِلَى تُرَابٍ يُقَرِّبُ إِعَادَةَ خَلْقِهِمْ، إِذْ صَارُوا إِلَى مَادَّةِ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ، فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ هُنَا هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ وَقَالَ فِي آيَاتِ الِاعْتِبَارِ بِعَجِيبِ تَكْوِينِهِ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ [الْإِنْسَان:
2] ، وَأَمْثَالَ ذَلِكَ.
وَهَذَا الْقَدْحُ فِي اسْتِدْلَالِهِمْ يُسَمَّى فِي اصْطِلَاحِ عِلْمِ الْجَدَلِ الْقَوْلَ بِالْمُوجِبِ، وَالْمُنَبَّهُ عَلَيْهِ مِنْ خَطَأِ اسْتِدْلَالِهِمْ يُسَمَّى فَسَادَ الْوَضْعِ.
وَمَعْنَى خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ أَنَّهُ خَلَقَ أَصْلَ النَّاسِ وَهُوَ الْبَشَرُ الْأَوَّلُ مِنْ طِينٍ، فَكَانَ كُلُّ الْبَشَرِ رَاجِعًا إِلَى الْخَلْقِ مِنَ الطِّينِ، فَلِذَلِكَ قَالَ خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ [الْإِنْسَان: 2] أَيِ الْإِنْسَانَ الْمُتَنَاسِلَ مِنْ أَصْلِ الْبَشَرِ.
وثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ وَالْمُهْلَةِ عَاطِفَةٌ فِعْلَ قَضى عَلَى فِعْلِ خَلَقَ فَهُوَ عَطْفُ فِعْلٍ عَلَى فِعْلٍ وَلَيْسَ عَطْفَ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ. وَالْمُهْلَةُ هُنَا بِاعْتِبَارِ التَّوْزِيعِ، أَيْ خَلَقَ كُلَّ فَرْدٍ مِنَ الْبَشَرِ ثُمَّ قَضَى لَهُ أَجَلَهُ، أَيِ اسْتَوْفَاهُ لَهُ، فَ قَضى هُنَا لَيْسَ بِمَعْنَى (قَدَّرَ) لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْأَجَلِ مُقَارِنٌ لِلْخَلْقِ أَوْ سَابِقٌ لَهُ وَلَيْسَ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ وَلَكِنْ قَضى هُنَا بِمَعْنَى (أَوْفَى) أَجَلَ كُلِّ مَخْلُوقٍ كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ [سبأ: 14] ، أَيْ أَمَتْنَاهُ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ (ثُمَّ) لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ.
وَإِنَّمَا اخْتِيرَ هُنَا مَا يَدُلُّ عَلَى تَنْهِيَةِ أَجَلِ كُلِّ مَخْلُوقٍ مِنْ طِينٍ دُونَ أَنْ يُقَالَ: إِلَى أَجَلٍ، لِأَنَّ دَلَالَةَ تَنْهِيَةِ الْأَجَلِ عَلَى إِمْكَانِ الْخَلْقِ الثَّانِي، وَهُوَ الْبَعْثُ، أَوْضَحُ مِنْ دَلَالَةِ تَقْدِيرِ الْأَجَلِ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ خَفِيٌّ وَالَّذِي يَعْرِفُهُ النَّاسُ هُوَ انْتِهَاءُ أَجَلِ الْحَيَاةِ، وَلِأَنَّ انْتِهَاءَ أَجَلِ الْحَيَاةِ مُقَدِّمَةٌ لِلْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ.
وَجُمْلَةُ وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ ثُمَّ قَضى أَجَلًا. وَجُمْلَةِ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ. وَفَائِدَةُ هَذَا الِاعْتِرَاضِ إِعْلَامُ الْخَلْقِ بِأَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ آجَالَ النَّاسِ رَدًّا عَلَى
قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ مَا يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: 24] .
وَقَدْ خُولِفَتْ كَثْرَةُ الِاسْتِعْمَالِ فِي تَقْدِيمِ الْخَبَرِ الظَّرْفِ عَلَى كُلِّ مُبْتَدَأٍ نَكِرَةٍ مَوْصُوفَةٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ [ص: 23]، حَتَّى قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِنَّهُ الْكَلَامُ السَّائِرُ، فَلَمْ يُقَدِّمِ الظَّرْفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِإِظْهَارِ الِاهْتِمَامِ بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ حَيْثُ خُولِفَ الِاسْتِعْمَالُ الْغَالِبُ مِنْ تَأْخِيرِهِ فَصَارَ بِهَذَا التَّقْدِيمِ تَنْكِيرُهُ مُفِيدًا لِمَعْنَى التَّعْظِيمِ، أَيْ وَأَجَلٌ عَظِيمٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ.
وَمَعْنَى: مُسَمًّى مُعَيَّنٌ، لِأَنَّ أَصْلَ السِّمَةِ الْعَلَامَةُ الَّتِي يَتَعَيَّنُ بِهَا الْمُعَلَّمُ. وَالتَّعْيِينُ هُنَا تَعْيِينُ الْحَدِّ وَالْوَقْتِ.
وَالْعِنْدِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: عِنْدَهُ عِنْدِيَّةُ الْعِلْمِ، أَيْ مَعْلُومٌ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ. فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:
وَأَجَلٌ مُسَمًّى أَجَلُ بَعْثِ النَّاسِ إِلَى الْحَشْرِ، فَإِنَّ إِعَادَةَ النَّكِرَةِ بَعْدَ نَكِرَةٍ يُفِيدُ أَنَّ الثَّانِيَةَ غَيْرُ الْأُولَى، فَصَارَ: الْمَعْنَى ثُمَّ قَضَى لَكُمْ أَجَلَيْنِ: أَجَلًا تَعْرِفُونَ مُدَّتَهُ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ، وَأَجَلًا مُعَيَّنَ الْمُدَّةِ فِي عِلْمِ اللَّهِ.
فَالْمُرَادُ بِالْأَجَلِ الْأَوَّلِ عُمُرُ كُلِّ إِنْسَانٍ، فَإِنَّهُ يَعْلَمُهُ النَّاسُ عِنْدَ مَوْتِ صَاحِبِهِ، فَيَقُولُونَ: عَاشَ كَذَا وَكَذَا سَنَةً، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ عِلْمُهُ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا عِنْدَ انْتِهَائِهِ فَمَا هُوَ إِلَّا عِلْمٌ حَاصِلٌ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ بِالْمُقَايَسَةِ. وَالْأَجَلُ الْمَعْلُومُ وَإِنْ كَانَ قَدِ انْتَهَى فَإِنَّهُ فِي الْأَصْلِ أَجَلٌ مُمْتَدٌّ.
وَالْمُرَادُ بِالْأَجَلِ الثَّانِي مَا بَيْنَ مَوْتِ كُلِّ أَحَدٍ وَبَيْنَ يَوْمِ الْبَعْثِ الَّذِي يُبْعَثُ فِيهِ جَمِيعُ النَّاسِ، فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ فِي الدُّنْيَا أَحَدٌ وَلَا يَعْلَمُونَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ [يُونُس: 45]، وَقَالَ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ [الرّوم: 55] .
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ عُطِفَتْ عَلَى جُمْلَةِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ، فَحَرْفُ ثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ كَغَالِبِ وُقُوعِهَا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ لِانْتِقَالٍ مِنْ خَبَرٍ إِلَى أَعْجَبَ مِنْهُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الْأَنْعَام: 1]، أَيْ فَالتَّعْجِيبُ حَقِيقٌ مِمَّنْ يَمْتَرُونَ فِي أَمْرِ الْبَعْثِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ وَبِالْمَوْتِ. وَالْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ:
أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ. وَجِيءَ بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ ضَمِيرًا بَارِزًا لِلتَّوْبِيخِ.