الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَدَّمَ الْمَجْرُورَ فِي قَوْلِهِ لَهُ الْحُكْمُ لِلِاخْتِصَاصِ، أَيْ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْحُكْمِ جِنْسَ الْحُكْمِ فَقَصْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِمَّا حَقِيقِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِحُكْمِ غَيْرِهِ، وَإِمَّا إِضَافِيٌّ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، أَيْ لَيْسَ لِأَصْنَامِكُمْ حُكْمٌ مَعَهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ
الْحُكْمِ الْحِسَابَ، أَيِ الْحُكْمُ الْمَعْهُودُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَالْقَصْرُ حَقِيقِيٌّ. وَرُبَّمَا تَرَجَّحَ هَذَا الِاحْتِمَالُ بِقَوْلِهِ عَقِبَهُ: وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ أَيْ أَلَا لَهُ الْحِسَابُ، وَهُوَ أَسْرَعُ مَنْ يُحَاسِبُ فَلَا يَتَأَخَّرُ جَزَاؤُهُ.
وَهَذَا يَتَضَمَّنُ وَعْدًا وَوَعِيدًا لِأَنَّهُ لَمَّا أُتِيَ بِحَرْفِ الْمُهْلَةِ فِي الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَكَانَ الْمُخَاطَبُونَ فَرِيقَيْنِ: فَرِيقٌ صَالِحٌ وَفَرِيقٌ كَافِرٌ، وَذَكَرَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ كَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ طَمَاعِيَةٍ وَمُخَالَفَةٍ فَالصَّالِحُونَ لَا يُحِبُّونَ الْمُهْلَةَ وَالْكَافِرُونَ بِعَكْسِ حَالِهِمْ، فَعُجِّلَتِ الْمَسَرَّةُ لِلصَّالِحِينَ وَالْمُسَاءَةُ لِلْمُشْرِكِينَ بِقَوْلُهُ: وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ.
[63، 64]
[سُورَة الْأَنْعَام (6) : الْآيَات 63 إِلَى 64]
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْكَلَامُ تَهْدِيدًا وَافْتُتِحَ بِالِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِضَمَائِرِ الْخِطَابِ الْمُشْرِكُونَ دُونَ الْمُسْلِمِينَ. وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ.
وَإِعَادَةُ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ لِلِاهْتِمَامِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ [الْأَنْعَام: 40] الْآيَةَ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّقْرِيرِ وَالْإِلْجَاءِ، لِكَوْنِ ذَلِكَ لَا يُنَازَعُونَ فِيهِ بِحَسْبِ عَقَائِدِ الشِّرْكِ.
وَالظُّلُمَاتُ قِيلَ عَلَى حَقِيقَتِهَا، فَيَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ مُضَافٍ، أَيْ مِنْ إِضْرَارِ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَظُلُمَاتُ الْبَرِّ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ الَّتِي يَلْتَبِسُ فِيهَا الطَّرِيقُ لِلسَّائِرِ وَالَّتِي يُخْشَى فِيهَا الْعَدُوُّ
لِلسَّائِرِ وَلِلْقَاطِنِ، أَيْ مَا يَحْصُلُ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ مِنَ الْآفَاتِ. وَظُلُمَاتُ الْبَحْرِ يُخْشَى فِيهَا الْغَرَقُ وَالضَّلَالَ وَالْعَدُوُّ. وَقِيلَ: أُطْلِقَتِ الظُّلُمَاتُ مَجَازًا عَلَى الْمَخَاوِفِ الْحَاصِلَةِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، كَمَا يُقَالُ: يَوْمٌ مُظْلِمٌ إِذَا حَصَلَتْ فِيهِ شَدَائِدُ. وَمِنْ أَمْثَالِ الْعَرَبِ (رَأَى الْكَوَاكِبَ مُظْهِرًا) ، أَيْ أَظْلَمَ عَلَيْهِ يَوْمه إضلاما فِي عَيْنَيْهِ لِمَا لَاقَاهُ مِنَ الشَّدَائِدِ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ لَيْلٌ يُرَى فِيهِ الْكَوَاكِبُ. وَالْجَمْعُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ رُوعِيَ فِيهِ تَعَدُّدُ أَنْوَاعِ مَا يَعْرِضُ مِنَ الظُّلُمَاتِ، عَلَى أَنَّنَا قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ أَنَّ الْجَمْعَ فِي لَفْظِ الظُّلُمَاتِ جَرَى عَلَى قَانُونِ الْفَصَاحَةِ.
وَجُمْلَةُ: تَدْعُونَهُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي يُنَجِّيكُمْ.
وقرىء مَنْ يُنَجِّيكُمْ- بِالتَّشْدِيدِ- لِنَافِعٍ، وَابْنِ كَثِيرٍ، وَابْنِ عَامِرٍ، وَأَبِي عَمْرٍو، وَعَاصِمٍ، وَحَمْزَةَ، وَالْكِسَائِيِّ، وَأَبِي جَعْفَرٍ، وَخَلَفٍ. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ- بِالتَّخْفِيفِ-.
وَالتَّضَرُّعُ: التَّذَلُّلُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [42] .
وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مُؤَوَّلًا بِاسْمِ الْفَاعِلِ. وَالْخُفْيَةُ- بِضَمِّ الْخَاءِ وَكَسْرِهَا- ضِدُّ الْجَهْرِ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِضَمِّ- الْخَاءِ-. وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ- بِكَسْرِ الْخَاءِ- وَهُوَ لُغَةٌ مِثْلُ أُسْوَةٍ وَإِسْوَةٍ. وَعَطَفَ خُفْيَةً عَلَى تَضَرُّعاً إِمَّا عَطْفَ الْحَالِ عَلَى الْحَالِ كَمَا تُعْطَفُ الْأَوْصَافُ فَيَكُونُ مَصْدَرًا مُؤَوَّلًا بِاسْمِ الْفَاعِلِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَطْفَ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْحَالِ عَلَى أَنَّهُ مُبَيِّنٌ لِنَوْعِ الدُّعَاءِ، أَيْ تَدْعُونَهُ فِي الظُّلُمَاتِ مُخْفِينَ أَصْوَاتَكُمْ خَشْيَةَ انْتِبَاهِ الْعَدُوِّ مِنَ النَّاسِ أَوِ الْوُحُوشِ.
وَجُمْلَةُ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا فِي مَحَلٍّ نَصْبٍ بِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ قَائِلِينَ. وَحَذْفُ الْقَوْلِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ إِذَا دَلَّتْ عَلَيْهِ قَرِينَةُ الْكَلَامِ. وَاللَّامُ فِي لَئِنْ الْمُوَطِّئَةِ لِلْقِسْمِ، وَاللَّام فِي لَنَكُونَنَّ لَامُ جَوَابِ الْقِسْمِ. وَجِيءَ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ إِمَّا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حِكَايَةُ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى الدُّعَاءِ بِحَيْثُ يَدْعُو كُلُّ وَاحِدٍ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ رِفَاقِهِ. وَإِمَّا أُرِيدَ التَّعْبِيرُ عَنِ الْجَمْعِ بِاعْتِبَارِ التَّوْزِيعِ مِثْلَ: رَكِبَ الْقَوْمُ خَيْلَهُمْ، وَإِنَّمَا رَكِبَ كُلُّ وَاحِدٍ فَرَسًا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَنْجَيْتَنَا- بِمُثَنَّاةٍ تَحْتِيَّةٍ بَعْدَ الْجِيمِ وَمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ بَعْدَ التَّحْتِيَّةِ-. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ أَنْجانا- بِأَلْفٍ بَعْدَ الْجِيمِ- وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى مَنْ فِي قَوْلِهِ: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ.
وَالْإِشَارَةُ بِ هذِهِ إِلَى الظُّلْمَةِ الْمُشَاهَدَةِ لِلْمُتَكَلِّمِ بِاعْتِبَارِ مَا يَنْشَأُ عَنْهَا، أَوْ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ وَهُوَ الشِّدَّةُ، أَوْ إِلَى حَالَةٍ يُعَبَّرُ عَنْهَا بِلَفْظٍ مُؤَنَّثٍ مِثْلَ الشِّدَّةِ أَوِ الْوَرْطَةِ أَوِ الرِّبْقَةِ.
وَالشَّاكِرُ هُوَ الَّذِي يُرَاعِي نِعْمَةَ الْمُنْعِمِ فَيُحْسِنُ مُعَامَلَتَهُ كُلَّمَا وَجَدَ لِذَلِكَ سَبِيلًا. وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ يَرَوْنَ الشُّكْرَ حَقًّا عَظِيمًا وَيُعَيِّرُونَ مَنْ يَكْفُرُ النِّعْمَةَ.
وَقَوْلُهُمْ: مِنَ الشَّاكِرِينَ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُقَالَ: لِنَكُونَنَّ شَاكِرِينَ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [الْأَنْعَام: 56] .
وَجُمْلَةُ: قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها تَلْقِينٌ لِجَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ يُنَجِّيكُمْ أَنْ يُجِيبَ عَنِ الْمَسْئُولِينَ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ جُمْلَةُ قُلِ لِأَنَّهَا جَارِيَةٌ مَجْرَى الْقَوْلِ فِي الْمُحَاوَرَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَتَوَلَّى الْجَوَابَ عَنْهُمْ لِأَنَّ هَذَا الْجَوَابَ لَا يَسَعُهُمْ إِلَّا الِاعْتِرَافُ بِهِ.
وَقَدَّمَ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، أَيِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ لَا غَيْرُهُ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ صَرَّحَ بِالْفِعْلِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ. وَلَوْلَا هَذَا لَاقْتَصَرَ عَلَى قُلِ اللَّهُ. وَالضَّمِيرُ فِي مِنْها لِلظُّلُمَاتِ أَوْ لِلْحَادِثَةِ. وَزَادَ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ لِإِفَادَةِ التَّعْمِيمِ، وَأَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِالْمَعْنَيَيْنِ لِمُجَرَّدِ الْمِثَالِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَهُشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، وَيَعْقُوبَ يُنَجِّيكُمْ- بِسُكُونِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ- عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَنْجَاهُ، فَتَكُونُ الْآيَةُ جَمَعَتْ بَيْنَ الِاسْتِعْمَالَيْنِ.
وَهَذَا مِنَ التَّفَنُّنِ لِتَجَنُّبِ الْإِعَادَةِ. وَنَظِيرُهُ فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ [الطارق: 17] .