الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شُرْبِ الْخَمْرِ لِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ فِيمَا عدّ، وَلم يكن الْخَمْرُ وَسِيلَةً لَهُ إِلَى الْمُحَرَّمَاتِ، وَلَا إِلَى إِضْرَارِ النَّاسِ.
وَيُنْسَبُ هَذَا إِلَى قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ: وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ لَمْ يقبلاه مِنْهُ.
[94]
[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 94]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94)
لَا أَحْسَبُ هَذِهِ الْآيَةَ إِلَّا تَبْيِينًا لِقَوْلِهِ فِي صَدْرِ السُّورَةِ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [الْمَائِدَة: 1] ، وَتَخَلُّصًا لِحُكْمِ قَتْلِ الصَّيْدِ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ، وَتَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [الْمَائِدَة: 95] جَرَّتْ إِلَى هَذَا التَّخَلُّصِ مُنَاسَبَةُ ذِكْرِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِمَا فَخَاطَبَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِتَنْبِيهِهِمْ إِلَى حَالَةٍ قَدْ يَسْبِقُ فِيهَا حِرْصُهُمْ، حَذَرَهُمْ وَشَهْوَتُهُمْ تَقْوَاهُمْ. وَهِيَ حَالَةُ ابْتِلَاءٍ وَتَمْحِيصٍ، يَظْهَرُ بِهَا فِي الْوُجُودِ اخْتِلَافُ تَمَسُّكِهِمْ بِوَصَايَا اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ حَالَةٌ لَمْ تَقَعْ وَقْتَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ لَيَبْلُوَنَّكُمُ ظَاهِرٌ فِي الِاسْتِقْبَالِ، لِأَنَّ نُونَ التَّوْكِيدِ لَا تَدْخُلُ عَلَى الْمُضَارِعِ فِي جَوَابِ الْقَسَمِ إِلَّا وَهُوَ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ حُكْمَ إِصَابَةِ الصَّيْدِ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ أَوْ فِي أَرْضِ الْحَرَمِ لَمْ يَكُنْ مُقَرَّرًا بِمِثْلِ هَذَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُقَاتِلٍ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ غَشِيَهُمْ صَيْدٌ كَثِيرٌ فِي طَرِيقِهِمْ، فَصَارَ يَتَرَامَى عَلَى رِحَالِهِمْ وَخِيَامِهِمْ، فَمِنْهُمُ الْمُحِلُّ وَمِنْهُمُ الْمُحْرِمُ، وَكَانُوا يَقْدِرُونَ عَلَى أَخْذِهِ بِالْأَيْدِي، وَصَيْدِ بَعْضِهِ بِالرِّمَاحِ. وَلَمْ يَكُونُوا رَأَوْا الصَّيْدَ كَذَلِكَ قَطٌّ، فَاخْتَلَفَتْ أَحْوَالُهُمْ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى إِمْسَاكِهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَ بِيَدِهِ وَطَعَنَ بِرُمْحِهِ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ اه. فَلَعَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ أُلْحِقَتْ بِسُورَةِ الْمَائِدَةِ إِلْحَاقًا، لِتَكُونَ
تَذْكِرَةً لَهُمْ فِي عَامِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ لِيَحْذَرُوا مِثْلَ مَا حَلَّ بِهِمْ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ. وَكَانُوا
فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَحْوَجَ إِلَى التَّحْذِيرِ وَالْبَيَانِ، لِكَثْرَةِ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَكَثْرَةِ مَنْ فِيهِمْ مِنَ الْأَعْرَابِ، فَذَلِكَ يُبَيِّنُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِإِشْعَارِ قَوْلِهِ تَنالُهُ بِأَنَّ ذَلِكَ فِي مُكْنَتِهِمْ وَبِسُهُولَةِ الْأَخْذِ.
وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ مُجْمَلٌ بَيَّنَهُ قَوْلُهُ عَقِبَهُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [الْمَائِدَة: 95] . قَالَ أَبُو بَكْرٍ بْنُ الْعَرَبِيِّ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُخَاطَبِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ الْمُحِلُّونَ، قَالَهُ مَالِكٌ، الثَّانِي: أَنَّهُمُ الْمُحْرِمُونَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ اه. وَقَالَ فِي «الْقَبَسِ» : تَوَهَّمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ تَحْرِيمُ الصَّيْدِ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ، وَهَذِهِ عُضْلَةٌ، إِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ الِابْتِلَاءُ فِي حَالَتَيِ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ اه.
وَمَرْجِعُ هَذَا الِاخْتِلَافِ النَّظَرُ فِي شُمُولِ الْآيَةِ لِحُكْمِ مَا يَصْطَادُهُ الْحَلَالُ مِنْ صَيْدِ الْحَرَمِ وَعَدَمِ شُمُولِهَا بِحَيْثُ لَا يَحْتَاجُ فِي إِثْبَاتِ حُكْمِهِ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ أَوْ يَحْتَاجُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْأَحْكَامِ» : «إِنَّ قَوْلَهُ لَيَبْلُوَنَّكُمُ الَّذِي يَقْتَضِي أَنَّ التَّكْلِيفَ يَتَحَقَّقُ فِي الْمُحِلِّ بِمَا شُرِطَ لَهُ مِنْ أُمُورِ الصَّيْدِ وَمَا شُرِطَ لَهُ مِنْ كَيْفِيَّةِ الِاصْطِيَادِ. وَالتَّكْلِيفُ كُلُّهُ ابْتِلَاءٌ وَإِنْ تَفَاضَلَ فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ وَتَبَايَنَ فِي الضَّعْفِ وَالشِّدَّةِ» . يُرِيدُ أَنَّ قَوْلَهُ: لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ لَا يُرَادُ بِهِ الْإِصَابَةُ بِبَلْوَى، أَيْ مُصِيبَةِ قَتْلِ الصَّيْدِ الْمُحَرَّمِ بَلْ يُرَادُ لَيُكَلِّفَنَّكُمُ اللَّهُ بِبَعْضِ أَحْوَالِ الصَّيْدِ. وَهَذَا يَنْظُرُ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [الْمَائِدَة: 95] شَامِلٌ لِحَالَةِ الْإِحْرَامِ وَالْحُلُولِ فِي الْحَرَمِ.
وَقَوْلُهُ: لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ هُوَ ابْتِلَاءُ تَكْلِيفٍ وَنَهْيٍ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَعَلُّقُهُ بِأَمْرٍ مِمَّا يَفْعَلُ، فَهُوَ لَيْسَ كَالِابْتِلَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ [الْبَقَرَة: 155] وَإِنَّمَا أَخْبَرَهُمْ بِهَذَا عَلَى وَجْهِ التَّحْذِيرِ. فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ وَلَازِمِ مَعْنَاهُ، وَهُوَ التَّحْذِيرُ. وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخِطَابُ وُجِّهَ إِلَيْهِمْ فِي حِينِ تَرَدُّدِهِمْ بَيْنَ إِمْسَاكِ الصَّيْدِ وَأَكْلِهِ، وَبَيْنَ مُرَاعَاةِ حُرْمَةِ الْإِحْرَامِ، إِذْ كَانُوا مُحْرِمِينَ بِعُمْرَةٍ فِي الْحُدَيْبِيَةِ وَقَدْ تَرَدَّدُوا فِيمَا يَفْعَلُونَ، أَيْ
أَنَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ حُرْمَةِ إِصَابَةِ الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ مُعْتَدٌّ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ أَوْ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ. فَالِابْتِلَاءُ مُسْتَقْبَلٌ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ إِلَّا مِنْ بَعْدِ النَّهْيِ وَالتَّحْذِيرِ.
وَوُجُودُ نُونِ التَّوْكِيدِ يُعَيِّنُ الْمُضَارِعَ لِلِاسْتِقْبَالِ، فَالْمُسْتَقْبَلُ هُوَ الِابْتِلَاءُ. وَأَمَّا الصَّيْدُ وَنَوَالُ الْأَيْدِي وَالرِّمَاحِ فَهُوَ حَاضِرٌ.
وَالصَّيْدُ: الْمَصِيدُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ مِنَ الصَّيْدِ وَقَعَ بَيَانًا لِقَوْلِهِ بِشَيْءٍ. وَيُغْنِي عَنِ الْكَلَامِ
فِيهِ وَفِي لفظ (شَيْء) مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَة [155] . وتنكير بِشَيْءٍ هُنَا لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلتَّحْقِيرِ، خِلَافًا لِلزَّمَخْشَرِيِّ وَمَنْ تَابَعَهُ.
وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ إِلَى أَنْوَاعِ الصَّيْدِ صَغِيرِهِ وَكَبِيرِهِ. فَقَدْ كَانُوا يُمْسِكُونَ الْفِرَاخَ بِأَيْدِيهِمْ وَمَا هُوَ وَسِيلَةٌ إِلَى الْإِمْسَاكِ بِالْأَيْدِي مِنْ شِبَاكٍ وَحِبَالَاتٍ وَجَوَارِحٍ، لِأَنَّ جَمِيع ذَلِك يؤول إِلَى الْإِمْسَاكِ بِالْيَدِ. وَكَانُوا يَعْدُونَ وَرَاءَ الْكِبَارِ بِالْخَيْلِ وَالرِّمَاحِ كَمَا يَفْعَلُونَ بِالْحُمُرِ الْوَحْشِيَّةِ وَبَقَرِ الْوَحْشِ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُ: رَأَى عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَهُوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ، فَاسْتَوَى عَلَى فَرَسِهِ وَأَخَذَ رُمْحَهُ وَشَدَّ وَرَاءَ الْحِمَارِ فَأَدْرَكَهُ فَعَقَرَهُ بِرُمْحِهِ وَأَتَى بِهِ.. إِلَخْ. وَرُبَّمَا كَانُوا يَصِيدُونَ بِرَمْيِ النِّبَالِ عَنْ قِسِيِّهِمْ، كَمَا فِي حَدِيثِ «الْمُوَطَّأِ» «عَنْ زَيْدٍ الْبَهْزِيِّ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ مَكَّةَ فَإِذَا ظَبْيٌ حَاقِفٌ فِيهِ سَهْمٌ» الْحَدِيثَ. فَقَدْ كَانَ بعض الصائدين يختبىء فِي قُتْرَةٍ وَيَمْسِكُ قَوْسَهَ فَإِذَا مَرَّ بِهِ الصَّيْدُ رَمَاهُ بِسَهْمٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَخَصَّ الرِّمَاحَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ مَا يُجْرَحُ بِهِ الصَّيْدُ.
وَقَدْ يُقَالُ: حَذَفَ مَا هُوَ بِغَيْرِ الْأَيْدِي وَبِغَيْرِ الرِّمَاحِ لِلِاسْتِغْنَاءِ بِالطَّرَفَيْنِ عَنِ الْأَوْسَاطِ.
وَجُمْلَةُ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ صِفَةٌ لِلصَّيْدِ أَوْ حَالٌ مِنْهُ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا اسْتِقْصَاءُ أَنْوَاعِ الصَّيْدِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ التَّحْذِيرَ مِنَ الصَّيْدِ الَّذِي هُوَ بِجَرْحٍ أَوْ قَتْلٍ دُونَ الْقَبْضِ بِالْيَدِ أَوِ الْتِقَاطِ الْبَيْضِ أَوْ نَحْوِهِ.
وَقَوْلُهُ: لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ عِلَّةٌ لقَوْله لَيَبْلُوَنَّكُمُ [الْمَائِدَة: 94] لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ اخْتِبَارٌ، فَعِلَّتُهُ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ مِنْهُ مَنْ يَخَافُهُ. وَجَعْلُ عِلْمِ اللَّهِ عِلَّةً لِلِابْتِلَاءِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى مَعْنَى لِيَظْهَرَ لِلنَّاسِ مَنْ يَخَافُ اللَّهَ مِنْ كُلِّ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يَخَافُهُ، فَأُطْلِقَ عِلْمُ اللَّهِ عَلَى لَازِمِهِ، وَهُوَ ظُهُورُ ذَلِكَ وَتَمَيُّزُهُ، لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ يُلَازِمُهُ التَّحَقُّقُ فِي الْخَارِجِ إِذْ لَا يَكُونُ عِلْمُ اللَّهِ إِلَّا مُوَافِقًا لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ أَوْ أُرِيدَ بِقَوْلِهِ: لِيَعْلَمَ اللَّهُ التَّعَلُّقُ التَّنْجِيزِيُّ لِعِلْمِ اللَّهِ بِفِعْلِ بَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ، بِنَاءً عَلَى إِثْبَاتِ تَعَلُّقٍ تَنْجِيزِيِّ لِصِفَةِ الْعِلْمِ، وَهُوَ التَّحْقِيقُ الَّذِي انْفَصَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ الْحَكِيمِ فِي «الرِّسَالَةِ الْخَاقَانِيَّةِ» . وَقِيلَ: أُطْلِقَ الْعِلْمُ عَلَى تَعَلُّقِهِ بِالْمَعْلُومِ فِي الْخَارِجِ، وَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ هَذَا الْقَائِلِ أَنَّ هَذَا الْإِطْلَاقَ قُصِدَ مِنْهُ التَّقْرِيبُ لِعُمُومِ أَفْهَامِ الْمُخَاطَبِينَ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْقَبَسِ:«لِيَعْلَمَ اللَّهُ مُشَاهَدَةً مَا عَلِمَهُ غَيْبًا مِنَ امْتِثَالِ مَنِ امْتَثَلَ وَاعْتِدَاءِ مَنِ اعْتَدَى فَإِنَّهُ، عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ يَعْلَمُ الْغَيْبَ أَوَّلًا، ثُمَّ يَخْلُقُ الْمَعْدُومَ فَيَعْلَمُهُ مُشَاهَدَةً، يَتَغَيَّرُ الْمَعْلُومُ وَلَا يَتَغَيَّرُ الْعِلْمُ» . وَالْبَاءُ إِمَّا لِلْمُلَابَسَةِ أَوْ
لِلظَّرْفِيَّةِ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي يَخافُهُ.
وَالْغَيْبُ ضِدُّ الْحُضُورِ وَضِدُّ الْمُشَاهَدَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [الْبَقَرَة: 3] عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ هُنَالِكَ، فَتَعَلُّقُ الْمَجْرُورِ هُنَا بِقَوْلِهِ يَخافُهُ الْأَظْهَرُ أنّه تعلّق لمجرّة الْكَشْفِ دُونَ إِرَادَةِ تَقْيِيدٍ أَوِ احْتِرَازٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ [الْبَقَرَة: 61] . أَيْ مَنْ يَخَافُ اللَّهَ وَهُوَ غَائِبٌ عَنِ اللَّهِ، أَيْ غَيْرُ مُشَاهَدٍ لَهُ. وَجَمِيعُ مَخَافَةِ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا هِيَ مُخَالفَة بِالْغَيْبِ. قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الْملك: 12] .
وَفَائِدَةُ ذِكْرِهِ أَنَّهُ ثَنَاءٌ عَلَى الَّذِينَ يَخَافُونَ اللَّهَ أَثْنَى عَلَيْهِمْ بِصِدْقِ الْإِيمَانِ وَتَنَوُّرِ الْبَصِيرَةِ، فَإِنَّهُمْ خَافُوهُ وَلَمْ يَرَوْا عَظَمَتَهُ وَجَلَالَهُ وَنَعِيمَهُ وَثَوَابَهُ وَلَكِنَّهُمْ أَيْقَنُوا بِذَلِكَ عَنْ صِدْقِ اسْتِدْلَالٍ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا مَا
فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: «إِنَّهُمْ آمَنُوا بِي وَلَمْ يَرَوْنِي
فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي» .
وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ فَسَّرَ الْغَيْبَ بِالدُّنْيَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى بِالْغَيْبِ عَنِ النَّاسِ، أَيْ فِي الْخَلْوَةِ. فَمَنْ خَافَ اللَّهَ انْتَهَى عَن الصَّيْد فِي ذَاتِ نَفْسِهِ، يَعْنِي أَنَّ الْمَجْرُورَ لِلتَّقْيِيدِ، أَيْ مَنْ يَخَافُ اللَّهَ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ الَّذِينَ يُتَّقَى إِنْكَارُهُمْ عَلَيْهِ أَوْ صَدُّهُمْ إِيَّاهُ وَأَخْذُهُمْ عَلَى يَدِهِ أَوِ التَّسْمِيعُ بِهِ، وَهَذَا يَنْظُرُ إِلَى مَا بَنَوْا عَلَيْهِ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي صَيْدٍ غَشِيَهُمْ فِي سَفَرِهِمْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ يَغْشَاهُمْ فِي رِحَالِهِمْ وَخِيَامِهِمْ، أَيْ كَانُوا مُتَمَكِّنِينَ مِنْ أَخْذِهِ بِدُونِ رَقِيبٍ، أَوْ يَكُونُ الصَّيْدُ الْمُحَذَّرُ مِنْ صَيْدِهِ مُمَاثِلًا لِذَلِكَ الصَّيْدِ.
وَقَوْلُهُ: فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ تَصْرِيحٌ بِالتَّحْذِيرِ الَّذِي أَوْمَأَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ لَيَبْلُوَنَّكُمُ، إِذْ قَدْ أَشْعَرَ قَوْلُهُ: لَيَبْلُوَنَّكُمُ أَنَّ فِي هَذَا الْخَبَرِ تَحْذِيرًا مِنْ عَمِلٍ قَدْ تَسْبِقُ النَّفْسُ إِلَيْهِ. وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى التَّحْذِيرِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ، أَي بعد مَا قَدَّمْنَاهُ إِلَيْكُمْ وَأَعْذَرْنَا لَكُمْ فِيهِ، فَلِذَلِكَ جَاءَتْ بَعْدَهُ فَاءُ التَّفْرِيعِ. وَالْمُرَادُ بِالِاعْتِدَاءِ الِاعْتِدَاءُ بِالصَّيْدِ، وَسَمَّاهُ اعْتِدَاءً لِأَنَّهُ إِقْدَامٌ عَلَى مُحَرَّمٍ وَانْتِهَاكٌ لِحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ أَوِ الْحَرَمِ.
وَقَوْلُهُ: فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ، أَيْ عِقَابٌ شَدِيدٌ فِي الْآخِرَةِ بِمَا اجْتَرَأَ عَلَى الْحَرَمِ أَوْ عَلَى الْإِحْرَامِ أَوْ كِلَيْهِمَا، وَبِمَا خَالَفَ إِنْذَارَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذِهِ إِذَا اعْتَدَى وَلَمْ يَتَدَارَكِ اعْتِدَاءَهُ بِالتَّوْبَةِ أَوِ الْكَفَّارَةِ، فَالتَّوْبَةُ مَعْلُومَةٌ مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ، وَالْكَفَّارَةُ هِيَ جَزَاءُ الصَّيْدِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْجَزَاءَ تَكْفِيرٌ عَنْ هَذَا الِاعْتِدَاءِ كَمَا سَيَأْتِي. رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
الْعَذَابُ الْأَلِيمُ أَنَّهُ يُوسَعُ بَطْنُهُ وَظَهْرُهُ جَلْدًا وَيُسْلَبُ ثِيَابُهُ وَكَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ» . فَالْعَذَابُ هُوَ الْأَذَى الدُّنْيَوِيُّ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَرَّرَتْ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ
أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، فَتَكُونُ الْآيَةُ الْمُوَالِيَةُ لَهَا نَسْخًا لَهَا. وَلَمْ يَقُلْ بِهَذَا الْعِقَابِ أَحَدٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْإِسْلَامِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أُبْطِلَ بِمَا فِي الْآيَةِ الْمُوَالِيَةِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَلْتَئِمُ بِهِ مَعْنَى الْآيَةِ مَعَ مَعْنَى الَّتِي تَلِيهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ مِنْ قَبِيلِ ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ وَيَبْقَى إِثْمُ الِاعْتِدَاءِ فَهُوَ مُوجِبُ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ. فَعَلَى التَّفْسِيرِ الْمَشْهُورِ لَا يُسْقِطُهُ إِلَّا التَّوْبَةُ، وَعَلَى مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَبْقَى الضَّرْبُ تَأْدِيبًا، وَلَكِنَّ هَذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْإِسْلَامِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ سَلَبَهُ كَانَ يَأْخُذُهُ فُقَرَاءُ مَكَّةَ مِثْلَ جِلَالِ الْبدن ونعالها.