الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لِإِفَادَةِ تَأْكِيدِ ذَلِكَ النَّهْيِ وَلِيُبْنَى عَلَيْهِ قَوْلُهُ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ لِوُقُوعِ طُولِ الْفَصْلِ بَيْنَ التَّفْرِيعِ وَالْمُفَرَّعِ عَلَيْهِ. فَحَصَلَ بِإِعَادَةِ فِعْلِ فَتَطْرُدَهُمْ غَرَضَانِ لَفْظِيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ. عَلَى أَنَّهُ
يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ فَتَطْرُدَهُمْ مَنْصُوبًا فِي جَوَابِ النَّفْيِ مِنْ قَوْلِهِ: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ، أَيْ لَا تَطْرُدْهُمْ إِجَابَةً لِرَغْبَةِ أَعْدَائِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ عُطِفَ عَلَى فَتَطْرُدَهُمْ مُتَفَرِّعٌ عَلَيْهِ، أَيْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِطَرْدِهِمْ، أَيْ فَكَوْنُهُ مِنَ الظَّالِمِينَ مُنْتَفٍ تَبَعًا لِانْتِفَاءٍ سَبَبِهِ وَهُوَ الطَّرْدُ.
وَإِنَّمَا جَعَلَ طَرْدَهُمْ ظُلْمًا لِأَنَّهُ لَمَّا انْتَفَى تَكْلِيفُهُ بِأَنْ يُحَاسِبَهُمْ صَارَ طَرْدُهُمْ لِأَجْلٍ إِرْضَاءِ غَيْرِهِمْ ظُلْمًا لَهُمْ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالَّذِينَ سَأَلُوا طَرْدَهُمْ لِإِرْضَاءِ كِبْرِيَائِهِمْ بأنّهم ظَالِمُونَ مفطرون عَلَى الظُّلْمِ وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ: فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ مَنْصُوبًا فِي جَوَابِ النَّهْيِ، وَيُجْعَلَ قَوْلُهُ فَتَطْرُدَهُمْ جِيءَ بِهِ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ لِتَجْدِيدِ رَبْطِ الْكَلَامِ لِطُولِ الْفَصْلِ بَيْنَ النَّهْيِ وَجَوَابِهِ بِالظَّرْفِ وَالْحَالِ وَالتَّعْلِيلِ فَكَانَ قَوْلُهُ فَتَطْرُدَهُمْ كَالْمُقَدَّمَةِ لِقَوْلِهِ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ وَلَيْسَ مَقْصُود بِالذَّاتِ لِلْجَوَابِيَّةِ فَالتَّقْدِيرُ: فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمين بطردهم.
[53]
[سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 53]
وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)
الْوَاوُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ كَمَا هِيَ فِي نَظَائِرِهِ. وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ السَّامِعَ لَمَّا شَعَرَ بِقِصَّةٍ أَوْمَأَ إِلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [الْأَنْعَام: 52] الْآيَةَ يَأْخُذُهُ الْعَجَبُ مِنْ كِبْرِيَاءِ عُظَمَاءِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَكَيْفَ يَرْضَوْنَ الْبَقَاءَ فِي ضَلَالَةٍ تَكَبُّرًا عَنْ غِشْيَانِ مَجْلِسٍ فِيهِ ضُعَفَاءُ النَّاسِ مِنَ الصَّالِحِينَ، فَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا الْخُلُقَ الْعَجِيبَ فِتْنَةٌ لَهُمْ خَلَقَهَا اللَّهُ فِي نُفُوسِهِمْ بِسُوءِ خُلُقِهِمْ.
وَقَعَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضًا بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ تَعْجِيلًا لِلْبَيَانِ، وَقُرِنَتْ بِالْوَاوِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الِاعْتِرَاضِ، وَهِيَ الْوَاوُ الِاعْتِرَاضِيَّةُ، وَتُسَمَّى الِاسْتِئْنَافِيَّةَ فَبَيَّنَ اللَّهُ أَنَّ دَاعِيَهُمْ
إِلَى طَلَبِ طَرْدِهِمْ هُوَ احْتِقَارٌ فِي حَسَدٍ وَالْحَسَدُ يَكُونُ أَعْظَمُ مَا يَكُونُ إِذَا كَانَ الْحَاسِدُ يَرَى نَفْسَهُ أَوْلَى بِالنِّعْمَةِ الْمَحْسُودِ عَلَيْهَا، فَكَانَ ذَلِكَ الدَّاعِي فِتْنَةً عَظِيمَةً فِي نُفُوسِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ جَمَعَتْ كِبْرًا وَعُجْبًا وَغُرُورًا بِمَا لَيْسَ فِيهِمْ إِلَى احْتِقَارٍ لِلْأَفَاضِلِ وَحَسَدٍ لَهُمْ، وَظُلْمٍ لِأَصْحَابِ الْحَقِّ، وَإِذْ حَالَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ وَالِانْتِفَاعِ بِالْقُرْبِ مِنْ مَجْلِسِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم.
وَالتَّشْبِيهُ مَقْصُودٌ مِنْهُ التَّعْجِيبُ مِنَ الْمُشَبَّهِ بِأَنَّهُ بَلَغَ الْغَايَةَ فِي الْعُجْبِ.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ عَائِدٌ إِلَى الْفُتُونِ الْمَأْخُوذِ مِنْ «فَتَنَّا» كَمَا يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى الْمَصْدَرِ فِي نَحْوِ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى، أَيْ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ فُتُونًا يُرَغِّبُ السَّامِعَ فِي تَشْبِيهِهِ وَتَمْثِيلِهِ لِتَقْرِيبِ كُنْهِهِ فَإِذَا رَامَ الْمُتَكَلِّمُ أَنْ يُقَرِّبَهُ لَهُ بِطَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ لَمْ يَجِدْ لَهُ شَبِيهًا فِي غَرَائِبِهِ وَفَظَاعَتِهِ إِلَّا أَنْ يُشَبِّهَهُ بِنَفْسِهِ إِذْ لَا أَعْجَبَ مِنْهُ، عَلَى حدّ قَوْلهم: والسفاعة كَاسْمِهَا.
وَلَيْسَ ثَمَّةَ إِشَارَةٍ إِلَى شَيْءٍ مُتَقَدِّمٍ مُغَايِرٍ لِلْمُشَبَّهِ. وَجِيءَ بِاسْمِ إِشَارَةِ الْبَعِيدِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى عِظَمِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ مِثْلِ هَذَا التَّشْبِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [143] .
وَالْمُرَادُ بِالْبَعْضِ الْمَنْصُوبِ الْمُشْرِكُونَ فَهُمُ الْمَفْتُونُونَ، وَبِالْبَعْضِ الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ الْمُؤْمِنُونَ، أَيْ فَتَنَّا عُظَمَاءَ الْمُشْرِكِينَ فِي اسْتِمْرَارِ شِرْكِهِمْ وَشِرْكِ مُقَلِّدِيهِمْ بِحَالِ الْفُقَرَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْخَالِصِينَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا [الْأَنْعَام:
53] فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَقُولُهُ غَيْرُ الْمُشْرِكِينَ، وَكَمَا يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي تَذْيِيلِهِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ.
وَالْقَوْلُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا مِنْهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أَوْ كَلَامًا قَالُوهُ فِي مَلَئِهِمْ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُمْ لَا يَقُولُونَهُ إِلَّا وَقَدِ اعْتَقَدُوا مَضْمُونَهُ، فَالْقَائِلُونَ أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هُمُ الْمُشْرِكُونَ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيَقُولُوا لَامُ التَّعْلِيلِ، وَمَدْخُولُهَا هُوَ أَثَرُ الْعِلَّةِ دَالٌّ عَلَيْهَا بَعْدَ طَيِّهَا
عَلَى طَرِيقَةِ الْإِيجَازِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَتَنَّاهُمْ لِيَرَوْا لِأَنْفُسِهِمْ شُفُوفًا وَاسْتِحْقَاقًا لِلتَّقَدُّمِ فِي الْفَضَائِلِ اغْتِرَارًا بِحَالِ التَّرَفُّهِ فَيَعْجَبُوا كَيْفَ يُدَّعَى أَنَّ اللَّهَ يَمُنُّ بِالْهُدَى وَالْفَضْلِ عَلَى نَاسٍ يَرَوْنَهُمْ أَحَطَّ مِنْهُم، وَكَيف يعدّونهم دُونَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَهَذَا مِنَ الْغُرُورِ وَالْعُجْبِ الْكَاذِبِ. وَنَظِيرُهُ فِي طَيِّ الْعِلَّةِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى ذِكْرِ أَثَرِهَا قَوْلُ إِيَاسِ بْنِ قَبِيصَةَ الطَّائِيِّ:
وَأَقْدَمْتُ وَالْخَطِّيُّ يَخْطِرُ بَيْنَنَا
…
لِأَعْلَمَ مَنْ جَبَانُهَا مِنْ شُجَاعِهَا
أَيْ لِيَظْهَرَ الْجَبَانُ وَالشُّجَاعُ فَأَعْلَمَهُمَا.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعَجُّبِ وَالْإِنْكَارِ، كَمَا هُوَ فِي قَوْلِهِ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا [الْقَمَر: 25] . وَالْإِشَارَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّحْقِيرِ أَوِ التَّعْجِيبِ كَمَا هِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [36] .
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ لِقَصْدِ تَقْوِيَةِ الْخَبَرِ.
وَقَوْلُهُمْ: مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَالُوهُ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَمُجَارَاةِ الْخَصْمِ، أَيْ حَيْثُ اعْتَقَدَ الْمُؤْمِنُونَ أَنَّ اللَّهَ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَحَرَمَ صَنَادِيدَ قُرَيْشٍ، فَلِذَلِكَ تَعَجَّبَ أُولَئِكَ مِنْ هَذَا الِاعْتِقَادِ، أَيْ كَيْفَ يُظَنُّ أَنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى فُقَرَاءٍ وَعَبِيدٍ وَيَتْرُكُ سَادَةَ أَهْلِ الْوَادِي.
وَهَذَا كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] . وَهَذِهِ شَنْشَنَةٌ مَعْرُوفَةٌ مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ وَالطُّغَاةِ. وَقَدْ حَدَثَ بِالْمَدِينَةِ مِثْلُ هَذَا.
رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّمَا بَايَعَكَ سُرَّاقُ الْحَجِيجِ مِنْ أَسْلَمَ وَغِفَارٍ وَمُزَيْنَةَ وَجُهَيْنَةَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ: أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَتْ أَسْلَمُ وَغِفَارٌ وَمُزَيْنَةُ وَجُهَيْنَةُ خَيْرًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ وَبَنِي عَامِرٍ وَأَسَدٍ وَغَطَفَانَ أَخَابُوا وَخَسِرُوا (أَيْ أَخَابَ بَنُو تَمِيمٍ وَمَنْ عُطِفَ عَلَيْهِمْ) فَقَالَ: نعم قَالَ: فو الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُمْ لِخَيْرٌ مِنْهُمْ.
وَفِي الْآيَةِ مَعْنًى آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ مُضْمَرًا فِي النَّفْسِ، وَضَمِيرُ لِيَقُولُوا عَائِدًا إِلَى الْمُؤْمِنِينَ الْفُقَرَاءِ، فَيَكُونُوا هُمُ الْبَعْضَ الْمَفْتُونِينَ، وَيَكُونُ الْبَعْضُ الْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ صَادِقًا
عَلَى أَهْلِ النِّعْمَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَتَكُونُ إِشَارَةُ هؤُلاءِ رَاجِعَةً إِلَى عُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْمَنِّ إِعْطَاءَ الْمَالِ وَحُسْنَ حَالِ الْعَيْشِ، وَيَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّحَيُّرِ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مُعْتَبَرٌ فِيهَا مَا عُرِفُوا بِهِ مِنَ الْإِشْرَاكِ وَسُوءِ الِاعْتِقَادِ فِي اللَّهِ. وَالْمَعْنَى: وَكَذَلِكَ الْفُتُونُ الْوَاقِعُ لِعُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ فُتُونُ الْإِعْجَابِ وَالْكِبْرِيَاءِ حِينَ تَرَفَّعُوا عَنِ الدُّخُولِ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ الضُّعَفَاءُ وَالْعَبِيدُ مِنْ تَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَصُحْبَتِهِ اسْتِكْبَارًا عَنْ مُسَاوَاتِهِمْ، كَذَلِكَ كَانَ فُتُونُ بَعْضٍ آخَرَ وَهُمْ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ حِينَ يُشَاهِدُونَ طِيبَ عَيْشِ عُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِي الدُّنْيَا مَعَ إِشْرَاكِهِمْ بِرَبِّهِمْ فَيَعْجَبُونَ كَيْفَ مَنَّ اللَّهُ بِالرِّزْقِ الْوَاسِعِ عَلَى مَنْ يَكْفُرُونَ بِهِ وَلَمْ يَمُنَّ بِذَلِكَ عَلَى أَوْلِيَائِهِ وَهُمْ أَوْلَى بِنِعْمَةِ رَبِّهِمْ. وَقَدْ أَعْرَضَ الْقُرْآنُ عَنِ التَّصْرِيحِ بِفَسَادِ هَذَا الْخَاطِرِ النَّفْسَانِيِّ اكْتِفَاءً بِأَنَّهُ سَمَّاهُ فِتْنَةً، فَعُلِمَ أَنَّهُ خَاطِرٌ غَيْرُ حَقٍّ، وَبِأَنَّ قَوْلَهُ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ مُشِيرٌ إِلَى إِبْطَالِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ. ذَلِكَ بِأَنَّهَا شُبْهَةٌ خَلَطَتْ أَمْرَ شَيْئَيْنِ مُتَفَارِقَيْنِ فِي الْأَسْبَابِ، فَاشْتَبَهَ عَلَيْهِمُ الْجَزَاءُ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِهِ مِنَ النَّعِيمِ الْخَالِدِ فِي الْآخِرَةِ، الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ تَرَتُّبَ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ الْمَجْعُولِ عَنْ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، بِالرِّزْقِ فِي الدُّنْيَا الْمُتَرَتِّبِ عَلَى أَسْبَابٍ دُنْيَوِيَّةٍ كَالتِّجَارَةِ وَالْغَزْوِ وَالْإِرْثِ وَالْهِبَاتِ. فَالرِّزْقُ الدُّنْيَوِيُّ لَا تَسَبُّبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَحْوَالِ الْقَلْبِيَّةِ وَلَكِنَّهُ مِنْ مُسَبِّبَاتِ الْأَحْوَالِ الْمَادِّيَّةِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِشُكْرِ الشَّاكِرِينَ، وَقَدْ أَعَدَّ لَهُمْ جَزَاءَ شُكْرِهِمْ، وَأَعْلَمُ بِأَسْبَابِ رِزْقِ الْمَرْزُوقِينَ الْمَحْظُوظِينَ. فَالتَّخْلِيطُ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ مِنْ ضَعْفِ الْفِكْرِ الْعَارِضِ لِلْخَوَاطِرِ الْبَشَرِيَّةِ وَالنَّاشِئِ عَنْ سُوءِ النَّظَرِ وَتَرْكِ التَّأَمُّلِ فِي الْحَقَائِقِ
وَفِي الْعِلَلِ وَمَعْلُولَاتِهَا. وَكَثِيرًا مَا عَرَضَتْ لِلْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ شُبَهٌ وَأَغْلَاطٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى صَرَفَتْهُمْ عَنْ تَطَلُّبِ الْأَشْيَاءِ مِنْ مَظَانِّهَا وَقَعَدَتْ بِهِمْ عَنْ رَفْوِ أَخَلَّالِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَوْ غَرَّتْهُمْ بِالتَّفْرِيطِ فِيمَا يَجِبُ الِاسْتِعْدَادُ لَهُ كُلُّ ذَلِكَ لِلتَّخْلِيطِ بَيْنَ الْأَحْوَالِ الدِّينِيَّةِ الْأُخْرَوِيَّةِ وَبَيْنَ السُّنَنِ الْكَوْنِيَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، كَمَا عَرَضَ لِابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ مِنْ حَيْرَةِ الْجَهْلِ فِي قَوْلِهِ:
كَمْ عَالِمٍ عَالِمٍ أَعْيَتْ مَذَاهِبُهُ
…
وَجَاهِلٍ جَاهِلٍ تَلْقَاهُ مَرْزُوقًا
هَذَا الَّذِي تَرَكَ الْأَوْهَامَ حَائِرَةً
…
وَصَيَّرَ الْعَالِمَ النِّحْرِيرَ زِنْدِيقًا