الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فِيكُمْ وَأَصْدَقُكُمْ حَدِيثًا حَتَّى إِذَا رَأَيْتُمُ الشَّيْبَ فِي صُدْغَيْهِ قُلْتُمْ سَاحِرٌ وَقُلْتُمْ كَاهِنٌ وَقُلْتُمْ شَاعِرٌ وقلتم مَجْنُون وو الله مَا هُوَ بِأُولَئِكُمْ» . وَلِأَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي جَاءَ بِهَا لَا يَمْتَرِي أَحَدٌ فِي أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلِأَنَّ دَلَائِلَ صِدْقِهِ بَيِّنَةٌ وَاضِحَةٌ وَلَكِنَّكُمْ ظَالِمُونَ.
وَالظَّالِمُ هُوَ الَّذِي يَجْرِي عَلَى خِلَافِ الْحَقِّ بِدُونِ شُبْهَةٍ. فَهُمْ يُنْكِرُونَ الْحَقَّ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ الْحَقُّ، وَذَلِكَ هُوَ الْجُحُودُ. وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ وَهُوَ أَعْلَمُ بِسَرَائِرِهِمْ.
وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النَّمْل: 14] فَيَكُونُ فِي الْآيَةِ احْتِبَاكٌ. وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَا يُكَذِّبُونَ الْآيَاتِ وَلَكِنَّهُمْ يَجْحَدُونَ بِالْآيَاتِ وَيَجْحَدُونَ بِصِدْقِكَ، فَحَذَفَ مِنْ كُلٍّ لِدَلَالَةِ الْآخَرِ.
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ كَعْبٍ التَّابِعِيِّ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ لِلنَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم: لَا نُكَذِّبُكَ وَلَكِنْ نُكَذِّبُ مَا جِئْتَ بِهِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ. وَلَا أَحْسَبُ هَذَا هُوَ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ. لِأَنَّ أَبَا جَهْلٍ إِنْ كَانَ قَدْ قَالَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَادَ الِاسْتِهْزَاءَ، كَمَا قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَارِضَةِ» : ذَلِكَ أَنَّهُ التَّكْذِيبُ بِمَا جَاءَ بِهِ تَكْذِيبٌ لَهُ لَا مَحَالَةَ، فَقَوْلُهُ: لَا نُكَذِّبُكَ، اسْتِهْزَاءٌ بإطماع التَّصْدِيق.
[34]
[سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 34]
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ [الْأَنْعَام: 33] أَوْ عَلَى جُمْلَةِ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الْأَنْعَام: 33] . وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ وَاوَ الْحَالِ مِنَ الْكَلَامِ الْمَحْذُوفِ قَبْلَ الْفَاءِ، أَيْ فَلَا تَحْزَنْ، أَوْ إِنْ أَحْزَنَكَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَالْحَالُ قَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ. وَالْكَلَامُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ تَسْلِيَةٌ وَتَهْوِينٌ وَتَكْرِيمٌ بِأَنَّ إِسَاءَةَ أَهْلِ الشِّرْكِ لِمُحَمَّدٍ- عليه الصلاة والسلام هِيَ دُونَ مَا أَسَاءَ الْأَقْوَامُ إِلَى الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ فَإِنَّهُمْ كَذَّبُوا بِالْقَوْلِ وَالِاعْتِقَادِ وَأَمَّا قَوْمُهُ فَكَذَّبُوا بِالْقَوْلِ فَقَطْ. وَفِي الْكَلَامِ أَيْضًا تَأَسٍّ لِلرَّسُولِ بِمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ.
وَلَامُ الْقَسَمِ لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ بِتَنْزِيلِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مَنْزِلَةَ مَنْ ذُهِلَ طَوِيلًا عَنْ تَكْذِيبِ الرُّسُلِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَحْزَنَهُ قَوْلُ قَوْمِهِ فِيهِ كَانَ كَمَنْ بَعُدَ عِلْمُهُ بِذَلِكَ. ومِنْ قَبْلِكَ وَصْفٌ كَاشِفٌ لِ رُسُلٌ جِيءَ بِهِ لِتَقْرِيرِ مَعْنَى التَّأَسِّي بِأَنَّ ذَلِكَ سُنَّةُ الرُّسُلِ.
وَفِي مَوْقِعِ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ الَّتِي قَبْلَهَا إِيمَاءٌ لِرَجَاحَةِ عُقُولِ الْعَرَبِ عَلَى عُقُولِ مَنْ سَبَقَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ، فَإِنَّ الْأُمَمَ كَذَّبَتْ رُسُلَهَا بِاعْتِقَادِ وَنُطْقِ أَلْسِنَتِهَا، وَالْعَرَبُ كَذَّبُوا بِاللِّسَانِ وَأَيْقَنُوا بِصِدْقِ الرَّسُولُ- عليه الصلاة والسلام بِعُقُولِهِمُ الَّتِي لَا يَرُوجُ عِنْدَهَا الزَّيْفُ.
وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ صَبَرُوا عَلَى التَّكْذِيبِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَأُوذُوا عَطْفًا عَلَى كُذِّبُوا وَتَكُونَ جُمْلَةُ فَصَبَرُوا مُعْتَرِضَةً. وَالتَّقْدِيرُ: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ وَأُوذِيَتْ رُسُلٌ فَصَبَرُوا. فَلَا يُعْتَبَرُ الْوَقْفُ عِنْدَ قَوْلِهِ عَلى مَا كُذِّبُوا بَلْ يُوصَلُ الْكَلَامُ إِلَى قَوْلِهِ نَصْرُنا، وَأَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى كُذِّبَتْ رُسُلٌ، أَيْ كُذِّبَتْ وَأُوذُوا. وَيُفْهَمُ الصَّبْرُ عَلَى الْأَذَى مِنَ الصَّبْرِ عَلَى التَّكْذِيبِ لِأَنَّ التَّكْذِيبَ أَذًى فَيَحْسُنُ الْوَقْفُ عِنْدَ قَوْلِهِ: عَلى مَا كُذِّبُوا.
وَقَرَنَ فِعْلَ كُذِّبَتْ بِعَلَامَةِ التَّأْنِيثِ لِأَنَّ فَاعِلَ الْفِعْلِ إِذَا كَانَ جَمْعَ تَكْسِيرٍ يُرَجَّحُ اتِّصَالُ الْفِعْلِ بِعَلَامَةِ التَّأْنِيثِ عَلَى التَّأْوِيلِ بِالْجَمَاعَةِ. وَمِنْ ثَمَّ جَاءَ فِعْلَا فَصَبَرُوا وكُذِّبُوا مُقْتَرِنَيْنِ بِوَاوِ الْجَمْعِ، لِأَنَّ فَاعِلَيْهِمَا ضَمِيرَانِ مُسْتَتِرَانِ فَرَجَّحَ اعْتِبَارَ التَّذْكِيرِ.
وَعَطَفَ وَأُوذُوا عَلَى كُذِّبَتْ عَطْفَ الْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ، وَالْأَذَى أَعَمُّ مِنَ التَّكْذِيبِ، لِأَنَّ الْأَذَى هُوَ مَا يَسُوءُ وَلَوْ إِسَاءَةً مَا، قَالَ تَعَالَى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً [آل عمرَان: 111] وَيُطلق على الشَّديد مِنْهُ. فَالْأَذَى اسْمٌ اشْتُقَّ مِنْهُ أَذًى إِذَا جُعِلَ لَهُ أَذًى وَأَلْحَقَهُ
بِهِ. فَالْهَمْزَةُ بِهِ لِلْجَعْلِ أَوْ لِلتَّصْيِيرِ. وَمَصَادِرُ هَذَا الْفِعْلِ أَذًى وَأَذَاةٌ وَأَذِيَّةٌ. وَكُلُّهَا أَسْمَاءُ مَصَادِرَ وَلَيْسَتْ مُصَادَرَ. وَقِيَاسُ مَصْدَرِهِ الْإِيذَاءُ لَكِنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. فَلِذَلِكَ قَالَ صَاحِبُ «الْقَامُوسِ» : لَا يُقَالُ: إِيذَاءٌ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: يُقَالُ: إِيذَاءٌ. وَلَعَلَّ الْخِلَافَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْقِيَاسِيَّ يَصِحُّ إِطْلَاقُهُ وَلَوْ لَمْ يُسْمَعْ فِي كَلَامِهِمْ أَوْ يَتَوَقَّفُ إِطْلَاقُهُ
عَلَى سَمَاعِ نَوْعِهِ مِنْ مَادَّتِهِ. وَمَنْ أَنْكَرَ عَلَى صَاحِبِ «الْقَامُوسِ» فَقَدْ ظَلَمَهُ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْإِيذَاءُ لَفْظٌ غَيْرُ فَصِيحٍ لِغَرَابَتِهِ. وَلَقَدْ يُعَدُّ عَلَى صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» اسْتِعْمَالُهُ هُنَا وَهُوَ مَا هُوَ فِي عِلْمِ الْبَلَاغَةِ.
وحَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ أَفَادَتْ غَايَةَ مَا قَبْلَهَا، وَهُوَ التَّكْذِيبُ وَالْأَذَى وَالصَّبْرُ عَلَيْهِمَا، فَإِنَّ النَّصْرَ كَانَ بِإِهْلَاكِ الْمُكَذِّبِينَ الْمُؤْذِينَ، فَكَانَ غَايَةً لِلتَّكْذِيبِ وَالْأَذَى، وَكَانَ غَايَةً لِلصَّبْرِ الْخَاصِّ، وَهُوَ الصَّبْرُ عَلَى التَّكْذِيبِ وَالْأَذَى، وَبَقِيَ صَبْرُ الرُّسُلِ عَلَى أَشْيَاءَ مِمَّا أُمِرَ بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ.
وَالْإِتْيَانُ فِي قَوْلِهِ: أَتاهُمْ نَصْرُنا مَجَازٌ فِي وُقُوعِ النَّصْرِ بَعْدَ انْتِظَارِهِ، فَشَبَّهَ وُقُوعَهُ بِالْمَجِيءِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ كَمَا يَجِيءُ الْمُنَادَى الْمُنْتَظَرُ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [4] .
وَجُمْلَةُ وَلا مُبَدِّلَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: أَتاهُمْ نَصْرُنا.
وَكَلِمَاتُ اللَّهِ وَحْيُهُ لِلرُّسُلِ الدَّالُّ عَلَى وَعْدِهِ إِيَّاهُمْ بِالنَّصْرِ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ إِضَافَةُ النَّصْرِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ. فَالْمُرَادُ كَلِمَاتٌ مِنْ نَوْعٍ خَاصٍّ، فَلَا يَرِدُ أَنَّ بَعْضَ كَلِمَاتِ اللَّهِ فِي التَّشْرِيعِ قَدْ تُبَدَّلُ بِالنَّسْخِ عَلَى أَنَّ التَّبْدِيلَ الْمَنْفِيَّ مَجَازٌ فِي النَّقْضِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [181] . وَسَيَأْتِي تَحْقِيقٌ لِهَذَا الْمَعْنَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [115] .
وَهَذَا تَطْمِينٌ لِلنَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُهُ كَمَا نَصَرَ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَلِمَاتُ اللَّهِ مَا كَتَبَهُ فِي أَزَلِهِ وَقَدَّرَهُ مِنْ سُنَنِهِ فِي الْأُمَمِ، أَيْ أَنَّ إِهْلَاكَ الْمُكَذِّبِينَ يَقَعُ كَمَا وَقَعَ إِهْلَاكُ مَنْ قَبْلَهُمْ.
وَنَفْيُ الْمُبَدِّلِ كِنَايَةً عَنْ نَفْيِ التَّبْدِيلِ، أَيْ لَا تَبْدِيلَ، لِأَنَّ التَّبْدِيلَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ مُبَدِّلٍ. وَمَعْنَاهُ: أَنَّ غَيْرَ اللَّهِ عَاجِزٌ عَنْ أَنْ يُبَدِّلَ مُرَادَ اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ لَا يُبَدِّلَ كَلِمَاتِهِ
فِي هَذَا الشَّأْنِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ،