الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صَالِحٌ لِلتَّفْكِيكِ بِأَنْ يُشَبَّهَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِهَا، بِأَنْ يُشَبَّهَ الِارْتِدَادُ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِذَهَابِ عَقْلِ الْمَجْنُونِ، وَيُشَبَّهَ الْكُفْرُ بِالْهُيَامِ فِي الْأَرْضِ، وَيُشَبَّهَ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ دَعَوْهُمْ إِلَى الِارْتِدَادِ بِالشَّيَاطِينِ وَتُشَبَّهُ دَعْوَةُ اللَّهِ النَّاسَ لِلْإِيمَانِ وَنُزُولُ الْمَلَائِكَةِ بِوَحْيِهِ بِالْأَصْحَابِ الَّذِينَ يَدْعُونَ إِلَى الْهُدَى. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِير يكون كَالَّذِي صَادِقًا عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُعَرَّفِ بِلَامِ الْجِنْسِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عبد الرحمان بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ حِينَ كَانَ كَافِرًا وَكَانَ أَبُوهُ وَأُمُّهُ يَدْعُوَانِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ فَيَأْبَى، وَقَدْ أَسْلَمَ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ.
[72، 73]
[سُورَة الْأَنْعَام (6) : الْآيَات 72 الى 73]
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
جُمْلَةُ: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافَ تَكْرِيرٍ لِمَا أُمِرَ أَنْ يَقُولَهُ لِلْمُشْرِكِينَ حِين يدعونَ الْمُسلمين إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا للنبيء صلى الله عليه وسلم اعْبُدْ آلِهَتَنَا زَمَنًا وَنَعْبُدُ إِلَهَكَ زَمَنًا. وَكَانُوا فِي خِلَالِ ذَلِكَ يَزْعُمُونَ أَنَّ دِينَهُمْ هُدًى فَلِذَلِكَ خُوطِبُوا بِصِيغَةِ الْقَصْرِ. وَهِيَ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى فَجِيءَ بِتَعْرِيفِ الْجُزْأَيْنِ، وَضَمِيرِ الْفَصْلِ، وَحَرْفِ التَّوْكِيدِ، فَاجْتَمَعَ فِي الْجُمْلَةِ أَرْبَعَةُ مُؤَكِّدَاتٍ، لِأَنَّ الْقَصْرَ بِمَنْزِلَةِ مُؤَكِّدَيْنِ إِذْ لَيْسَ الْقَصْرُ إِلَّا تَأْكِيدًا عَلَى تَأْكِيدٍ، وَضَمِيرُ الْفَصْلِ تَأْكِيدٌ، وَ (إِنَّ) تَأْكِيدٌ، فَكَانَتْ مُقْتَضَى حَالِ الْمُشْرِكِينَ الْمُنْكِرِينَ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُدًى.
وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْإِضَافَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْهُدَى الْوَارِدِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ الدِّينُ الْمُوصَى بِهِ، وَهُوَ هُنَا الْإِسْلَامُ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ. وَقَدْ وَصَفَ الْإِسْلَامَ بِأَنَّهُ
هُدَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [120] ، أَيِ الْقُرْآنُ هُوَ الْهُدَى لَا كُتُبُهُمْ.
وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ بِلَامِ الْجِنْسِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى قَصْرِ جِنْسِ الْهُدَى عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ بِلَامِ الْجِنْسِ، وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ لِأَنَّ السِّيَاقَ لِرَدِّ دَعْوَةِ الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُمُ الرُّجُوعَ إِلَى دِينِهِمُ الْمُتَضَمِّنَةِ اعْتِقَادَهُمْ أَنَّهُ هُدًى، فَالْقَصْرُ لِلْقَلْبِ إِذْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْهُدَى، فَلَا يَكُونُ قَصْرُ الْهُدَى عَلَى هُدَى الْقُرْآنِ بِمَعْنَى الْهُدَى الْكَامِلِ، بِخِلَافِ مَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَجُمْلَةُ: وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ عَطْفٌ عَلَى الْمَقُولِ. وَهَذَا مُقَابِلُ قَوْلِهِ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْأَنْعَام: 56] ، وَقَوله قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ الْآيَةَ.
وَاللَّامُ فِي لِنُسْلِمَ أَصْلُهَا لِلتَّعْلِيلِ وَتُنُوسِيَ مِنْهَا مَعْنَى التَّعْلِيلِ فَصَارَتْ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ. وَهِيَ اللَّامُ الَّتِي يَكْثُرُ وُرُودُهَا بَعْدَ مَادَّةِ الْأَمْرِ وَمَادَّةِ الْإِرَادَةِ. وَسَمَّاهَا بَعْضُهُمْ لَامَ أَنْ- بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ النُّونِ- قَالَ الزَّجَّاجُ: الْعَرَبُ تَقُولُ: أَمَرْتُكَ بِأَنْ تَفْعَلَ وَأَمَرْتُكَ أَنْ تَفْعَلَ وَأَمَرْتُكَ لِتَفْعَلَ. فَالْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ، وَإِذَا حَذَفُوهَا فَهِيَ مُقَدَّرَةٌ مَعَ (أَنْ) . وَأَمَّا أَمَرْتُكَ لِتَفْعَلَ، فَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ، فَقَدْ أَخْبَرَ بِالْعِلَّةِ الَّتِي لَهَا وَقَعَ الْأَمْرُ. يَعْنِي وَأَغْنَتِ الْعِلَّةُ عَنْ ذِكْرِ الْمُعَلَّلِ. وَقِيلَ: اللَّامُ بِمَعْنَى الْبَاءِ، وَقِيلَ: زَائِدَةٌ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ ف (أَن) مضرَّة بَعْدَهَا، أَيْ لِأَجْلِ أَنْ نُسْلِمَ. وَالْمَعْنَى: وَأُمِرْنَا بِالْإِسْلَامِ، أَيْ أُمِرْنَا أَنْ أَسْلِمُوا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ اللَّامِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [26] .
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِرَبِّ الْعالَمِينَ متعلّقة ب لِنُسْلِمَ لِأَنَّهُ مَعْنَى تَخَلُّصٍ لَهُ، قَالَ:
فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعْنَى الْإِسْلَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [131] . وَفِي ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِوَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ دُونَ اسْمِهِ الْعَلَمِ إِشَارَةٌ إِلَى تَعْلِيلِ الْأَمْرِ وَأَحَقِّيَّتِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنْ جَعَلْتَ (أَنْ) فِيهِ مَصْدَرِيَّةً عَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ، إِذْ يُسَوِّغُ دُخُولَ (أَنْ) الْمَصْدَرِيَّةِ عَلَى فِعْلِ الْأَمْرِ فَتُفِيدُ الْأَمْرَ وَالْمَصْدَرِيَّةَ مَعًا لِأَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ لَمْ يُؤْتَ بِهَا عَبَثًا، فَقَوْلُ الْمُعْرِبِينَ: إِنَّهُ يَتَجَرَّدُ عَنِ الْأَمْرِيَّةِ، مُرَادُهُمْ بِهِ أَنَّهُ تَجَرَّدَ عَنْ مَعْنَى فِعْلِ الْأَمْرِ إِلَى مَعْنَى الْمَصْدَرِيَّةِ فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ. وَهُوَ إِمَّا عُطِفَ عَلَى لِنُسْلِمَ بِتَقْدِيرِ حَرْفِ جَرٍّ مَحْذُوفٍ قَبْلَ (أَنْ) وَهُوَ الْبَاءُ. وَتَقْدِيرُ الْحَرْفِ الْمَحْذُوفِ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَعْنَى الْكَلَامِ، وَإِمَّا عُطِفَ عَلَى مَعْنَى لِنُسْلِمَ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي مَوْقِعِ بِأَنْ نُسْلِمَ، كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ الزَّجَّاجِ. فَالتَّقْدِيرُ: أُمِرْنَا بِأَنْ نُسْلِمَ، ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ وَأَنْ أَقِيمُوا أَيْ وَأُمِرْنَا بِأَنْ أَقِيمُوا، وَالْعَطْفُ عَلَى مَعْنَى اللَّفْظِ وَمَوْقِعِهِ اسْتِعْمَالٌ عَرَبِيٍّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ [المُنَافِقُونَ: 10] إِذِ الْمَعْنَى إِنْ تُؤَخِّرْنِي أَصَّدَّقْ وَأَكُنْ.
وَإِنْ جَعَلْتَ (أَنْ) فِيهِ تَفْسِيرِيَّةً فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ. فَيُقَدَّرُ قَوْلُهُ: أُمِرْنا لِنُسْلِمَ بِأُمِرْنَا أَنْ أَسْلِمُوا لِنُسْلِمَ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ، أَيْ لِنُقِيمَ فَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ احْتِبَاكٌ.
وَأَظْهَرُ مِنْ هَذَا أَنْ تَكُونَ (أَنْ) تَفْسِيرِيَّةً. وَهِيَ تَفْسِيرٌ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ وَاوُ الْعَطْفِ مِنْ تَقْدِيرِ الْعَامِلِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَهُوَ وَأُمِرْنا، فَإِنَّ أُمِرْنا فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ فَنَاسَبَ مَوْقِعُ (أَنِ) التَّفْسِيرِيَّةِ.
وَتَقَدَّمَ مَعْنَى إِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِي صَدْرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [3] .
واتَّقُوهُ عَطْفٌ عَلَى أَقِيمُوا وَيَجْرِي فِيهِ مَا قُرِّرَ فِي قَوْلِهِ وَأَنْ أَقِيمُوا.
وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ عَائِدٌ إِلَى لِرَبِّ الْعالَمِينَ وَهُوَ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي أُمِرُوا بِمُقْتَضَاهُ بِأَنْ قَالَ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ: أَسْلِمُوا لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَحْكِيًّا بِالْمَعْنَى بِأَنْ قَالَ اللَّهُ: اتَّقَوْنِ، فَحُكِيَ بِمَا يُوَافِقُ كَلَامَ النَّبِيءِ الْمَأْمُورِ بِأَنْ يَقُولَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى، كَمَا فِي حِكَايَةِ قَوْلِ عِيسَى: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [الْمَائِدَة: 117] .
وَجَمَعَ قَوْلُهُ: وَاتَّقُوهُ جَمِيعَ أُمُورِ الدِّينِ، وَتَخْصِيصُ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ بِالذِّكْرِ
لِلِاهْتِمَامِ.
وَجُمْلَةُ: وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ إِمَّا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ اتَّقُوهُ عَطْفَ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ فَتَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ الْمَأْمُورِ بِهِ بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ، أَيْ وَقُلْ لَهُمْ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، أَوْ عَطْفٌ عَلَى قُلْ فَيَكُونُ مِنْ غَيْرِ الْمَقُولِ. وَفِي هَذَا إِثْبَاتٌ لِلْحَشْرِ عَلَى مُنْكِرِيهِ وَتَذْكِيرٌ بِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ تَحْرِيضًا عَلَى إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَالتَّقْوَى.
وَاشْتَمَلَتْ جُمْلَةُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ عَلَى عِدَّةِ مُؤَكِّدَاتٍ وَهِيَ: صِيغَةُ الْحَصْرِ بِتَعْرِيفِ الْجُزْأَيْنِ، وَتَقْدِيمُ مَعْمُولِ تُحْشَرُونَ الْمُفِيدُ لِلتَّقَوِّي لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَحْقِيقُ وُقُوعِ الْحَشْرِ عَلَى مَنْ أَنْكَرَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَتَحْقِيقُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْحُصْرُ هُنَا حَقِيقِيٌّ إِذْ هُمْ لَمْ يُنْكِرُوا كَوْنَ الْحَشْرِ إِلَى اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنْكَرُوا وُقُوعَ الْحَشْرِ، فَسَلَكَ فِي إِثْبَاتِهِ طَرِيقَ الْكِنَايَةِ بِقَصْرِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى الْمُسْتَلْزِمِ وُقُوعَهُ وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ، تَعْرِيضًا بِأَنَّ آلِهَتَهُمْ لَا تُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا.
وَجُمْلَةُ: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ عَطْفٌ عَلَى وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، وَالْقَصْرُ حَقِيقِيٌّ إِذْ لَيْسَ ثَمَّ رَدِّ اعْتِقَادٍ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ لِلْأَشْيَاءِ الَّتِي فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ. فَالْمَقْصُودُ الِاسْتِدْلَالُ بِالْقَصْرِ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ لِأَنَّ الْخَلَائِقَ عَبِيدُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النَّحْل: 17] .
وَالْبَاءُ مِنْ قَوْلِهِ: بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ، وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِ خَلَقَ أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ.
وَالْحَقُّ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ (حَقَّ) إِذَا ثَبَتَ، ثُمَّ صَارَ اسْمًا لِلْأَمْرِ الثَّابِتِ الَّذِي لَا يُنَكَّرُ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ وَإِرَادَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ مِثْلَ فُلَانٌ عَدْلٌ. وَالْحَقُّ ضِدُّ الْبَاطِلِ. فَالْبَاطِلُ اسْمٌ لِضِدِّ مَا يُسَمَّى بِهِ الْحَقُّ فَيُطْلَقُ الْحَقُّ إِطْلَاقًا شَائِعًا عَلَى الْفِعْلِ أَوِ الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ عَدْلٌ وَإِعْطَاءُ الْمُسْتَحِقِّ مَا يَسْتَحِقُّهُ، وَهُوَ حِينَئِذٍ مُرَادِفُ الْعَدْلِ وَيُقَابِلُهُ الْبَاطِلُ فَيُرَادِفُ الْجَوْرَ وَالظُّلْمَ، وَيُطْلَقُ الْحَقُّ عَلَى الْفِعْلِ أَوِ الْقَوْلِ السَّدِيدِ الصَّالِحِ الْبَالِغِ حَدَّ الْإِتْقَانِ وَالصَّوَابِ، وَيُرَادِفُ الْحِكْمَةَ وَالْحَقِيقَةَ، وَيُقَابِلُهُ الْبَاطِلُ فَيُرَادِفُ الْعَبَثَ
وَاللَّعِبَ. وَالْحَقُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْمَعْنَى الثَّانِي، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الدُّخان: 39] بَعْدَ قَوْلِهِ:
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ [الدُّخان: 38] وَكَقَوْلِهِ: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا [آل عمرَان: 191] . فَاللَّهُ تَعَالَى أَخْرَجَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا فِيهِنَّ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ لِحِكَمٍ عَظِيمَةٍ وَأَوْدَعَ فِي جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ قُوًى وَخَصَائِصَ تَصْدُرُ بِسَبَبِهَا الْآثَارُ الْمَخْلُوقَةُ هِيَ لَهَا وَرَتَّبَهَا عَلَى نُظُمٍ عَجِيبَةٍ تَحْفَظُ أَنْوَاعَهَا وَتُبْرِزُ مَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ، وَأَعْظَمُهَا خَلْقُ الْإِنْسَانِ وَخَلْقُ الْعَقْلِ فِيهِ وَالْعِلْمِ، وَفِي هَذَا تَمْهِيدٌ لِإِثْبَاتِ الْجَزَاءِ إِذْ لَوْ أُهْمِلَتْ أَعْمَالُ الْمُكَلَّفِينَ لَكَانَ ذَلِكَ نُقْصَانًا مِنَ الْحَقِّ الَّذِي خُلِقَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ مُلَابِسَةً لَهُ، فَعَقَّبَ بِقَوْلِهِ: وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ.
وَجُمْلَةُ: وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا لِمُنَاسَبَةِ مُلَابَسَةِ الْحَقِّ لِأَفْعَالِهِ تَعَالَى فَبَيَّنَتْ مُلَابَسَةَ الْحَقِّ لِأَمْرِهِ تَعَالَى الدَّالِّ عَلَيْهِ يَقُولُ. وَالْمُرَادُ بِ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ يَوْمُ الْبَعْثِ، لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ.
وَقَدْ أَشْكَلَ نَظْمُ قَوْلِهِ: وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ، وَذَهَبَ فِيهِ الْمُفَسِّرُونَ طَرَائِقَ. وَالْوَجْهُ أَنَّ قَوْلَهُ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ ظَرْفٌ وَقَعَ خَبَرُهُ مُقَدَّمًا لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَالْمُبْتَدَأُ هُوَ قَوْلُهُ وَيَكُونُ الْحَقُّ صِفَةٌ لِلْمُبْتَدَأِ. وَأَصْلُ التَّرْكِيبِ: وَقَوْلُهُ الْحَقُّ يَوْمَ يَقُولُ: كُنْ فَيَكُونُ. وَنُكْتَةُ الِاهْتِمَامِ بِتَقْدِيمِ الظَّرْفِ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الْمُنْكِرِينَ وُقُوعَ هَذَا التَّكْوِينِ بَعْدَ الْعَدَمِ.
وَوَصْفُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ الْحَقُّ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَيْضًا. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ عَيْنُ الْمَقُولِ لِفِعْلِ يَقُولُ كُنْ، وَحَذْفُ الْمَقُولِ لَهُ كُنْ لِظُهُورِهِ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ يَقُولُ لِغَيْرِ الْمَوْجُودِ الْكَائِنِ: كُنْ. وَقَوْلُهُ: فَيَكُونُ اعْتِرَاضٌ، أَيْ يَقُولُ لِمَا أَرَادَ تَكْوِينَهُ (كُنْ) فَيُوجَدُ الْمَقُولُ لَهُ كُنْ عَقِبَ أَمْرِ التَّكْوِينِ.
وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَنْشَأَ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِالْحَقِّ، وَأَنَّهُ يُعِيدُ الْخَلْقَ الَّذِي بَدَأَهُ بِقَوْلٍ حَقٍّ، فَلَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْ تَكْوِينِهِ الْأَوَّلِ وَلَا مِنْ تَكْوِينِهِ الثَّانِي عَنِ الْحَقِّ. وَيَتَضَمَّنُ
أَنَّهُ قَوْلٌ مُسْتَقْبَلٌ، وَهُوَ الْخَلْقُ الثَّانِي الْمُقَابِلُ لِلْخَلْقِ الْأَوَّلِ، وَلِذَلِكَ أُتِيَ بِكَلِمَةِ يَوْمَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ تَكْوِينٌ خَاصٌّ مُقَدَّرٌ لَهُ يَوْمٌ مُعَيَّنٌ.
وَفِي قَوْلِهِ: قَوْلُهُ الْحَقُّ صِيغَةُ قَصْرٍ لِلْمُبَالِغَةِ، أَيْ هُوَ الْحَقُّ الْكَامِلُ لِأَنَّ أَقْوَالَ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الْحَقِّ فَهِيَ مُعَرَّضَةٌ لِلْخَطَأِ وَمَا كَانَ فِيهَا غَيْرَ مُعَرَّضٍ لِلْخَطَأِ فَهُوَ مِنْ وَحْيِ اللَّهِ أَوْ مِنْ نِعْمَتِهِ بِالْعَقْلِ وَالْإِصَابَةِ، فَذَلِكَ اعْتِدَادٌ بِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى فَضْلِ اللَّهِ. وَنَظِيرُ هَذَا
قَول النبيء صلى الله عليه وسلم فِي دُعَائِهِ: «قَوْلُكَ الْحَقُّ وَوَعْدُكَ الْحَقُّ» .
وَالْمُرَادُ بِالْقَوْلِ كُلُّ مَا يَدُلُّ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَضَائِهِ فِي يَوْمِ الْحَشْرِ، وَهُوَ يَوْمُ يَقُولُ كُنْ، مِنْ أَمْرِ تَكْوِينٍ، أَوْ أَمْرِ ثَوَابٍ، أَوْ عِقَابٍ، أَوْ خَبَرٍ بِمَا اكْتَسَبَهُ النَّاسُ مِنْ صَالِحِ الْأَعْمَالِ وَأَضْدَادِهَا، فَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهُوَ حَقٌّ. وَخَصَّ مِنْ بَيْنِ الْأَقْوَالِ أَمْرَ التَّكْوِينِ لِمَا اقْتَضَاهُ التَّقْدِيمُ مِنْ تَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ كَمَا عَلِمْتَ.
وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي إِعْرَابِ هَذِهِ الْآيَةِ وَإِقَامَةِ الْمَعْنَى مِنْ ذَلِكَ مَسَالِكُ أُخْرَى غَيْرُ جَارِيَةٍ عَلَى السُّبُلِ الْوَاضِحَةِ.
وَقَوْلُهُ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ وَانْتِظَامُهَا كَانْتِظَامِ جُمْلَةِ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ إِلَّا أَنَّ فِي تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ قَصْرُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ، أَيِ الْمُلْكُ مَقْصُورٌ عَلَى الْكَوْنِ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ لِرَدِّ مَا عَسَى أَنْ يَطْمَعَ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ مُشَارَكَةِ أَصْنَامِهِمْ يَوْمَئِذٍ فِي التَّصَرُّفِ وَالْقَضَاءِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الظَّرْفِ تَهْوِيلُ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
وَالنَّفْخُ فِي الصُّورِ مَثَلٌ ضُرِبَ لِلْأَمْرِ التَّكْوِينِيِّ بِحَيَاةِ الْأَمْوَاتِ الَّذِي يَعُمُّ سَائِرَ الْأَمْوَاتِ، فَيَحْيَوْنَ بِهِ وَيَحْضُرُونَ لِلْحَشْرِ كَمَا يَحْضُرُ الْجَيْشُ بِنَفْخِ الْأَبْوَاقِ وَدَقِّ الطُّبُولِ.
وَالصُّورُ: الْبُوقُ.
وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ الْمَلَكَ الْمُوَكَّلَ بِنَفْخِ الصُّورِ هُوَ إِسْرَافِيلُ، وَلَا يَعْلَمُ كُنْهَ هَذَا النَّفْخِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى»
. وَيَوْمُ النَّفْخِ فِي الصُّورِ هُوَ يَوْمُ يَقُولُ: كُنْ فَيَكُونُ، وَلَكِنَّهُ عُبِّرَ عَنْهُ هُنَا بِ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ لِإِفَادَةِ هَذَا الْحَالِ الْعَجِيبِ، وَلِأَنَّ الْيَوْمَ لَمَّا جُعِلَ
ظَرْفًا لِلْقَوْلِ عُرِّفَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى جُمْلَةِ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ. وَلَمَّا جُعِلَ الْيَوْمُ ظَرْفًا لِلْمُلْكِ نَاسَبَ أَنْ يُعَرِّفَ الْيَوْمَ بِمَا هُوَ مِنْ شِعَارِ الْمُلْكِ وَالْجُنْدِ.
وَقَدِ انْتَصَبَ يَوْمَ يُنْفَخُ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ لِلِاسْتِقْرَارِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ وَلَهُ الْمُلْكُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ بَدَلًا مِنْ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ. وَيُجْعَلُ وَلَهُ الْمُلْكُ عَطْفًا عَلَى قَوْلُهُ الْحَقُّ عَلَى أَنَّ الْجَمِيعَ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الصُّورُ هُنَا جَمْعُ صُورَةٍ، أَيْ يُنْفَخُ فِي صُوَرِ الْمَوْجُودَاتِ.
وَلَمَّا انْتَهَى الْمَقْصُودُ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْ شُؤُونٍ مِنْ شَأْنِ اللَّهِ تَعَالَى أُتْبِعَ بِصِفَاتٍ تُشِيرُ إِلَى الْمُحَاسَبَةِ عَلَى كُلِّ جَلِيلٍ وَدَقِيقٍ ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ بِقَوْلِهِ: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ. وَجَاءَ أُسْلُوبُ الْكَلَامِ عَلَى طَرِيقَةِ حَذْفِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ فِي مَقَامِ تَقَدُّمِ صِفَاتِهِ. فَحَذْفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي مِثْلِهِ تَبَعٌ لِطَرِيقَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي تَعْقِيبِ الْأَخْبَارِ بِخَبَرٍ أَعْظَمَ مِنْهَا يُجْعَلُ فِيهِ الْمُخْبَرُ عَنْهُ مُسْنَدًا
إِلَيْهِ وَيُلْتَزَمُ حَذْفُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَقامُ إِبْراهِيمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [97]، فَلِذَلِكَ قَالَ هُنَا عالِمُ الْغَيْبِ فَحَذَفَ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ ثُمَّ لَمْ يَحْذِفِ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ.
وَالْغَيْبُ: مَا هُوَ غَائِبٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [3] ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [59] .
وَالشَّهَادَةُ: ضِدُّ الْغَيْبِ، وَهِيَ الْأُمُورُ الَّتِي يُشَاهِدُهَا النَّاسُ ويتوصّلون إِلَى علمهَا يُقَالُ: شَهِدَ، بِمَعْنَى حَضَرَ، وَضِدُّهُ غَابَ، وَلَا تَخْرُجُ الْمَوْجُودَاتُ عَنِ الِاتِّصَافِ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: الْعَالِمُ بِأَحْوَالِ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ عَالِمٌ كُلَّ غَيْبٍ وَكُلَّ شَهَادَةٍ.
وَقَوْلُهُ: وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: عالِمُ الْغَيْبِ. وَصِفَةُ الْحَكِيمُ تَجْمَعُ إِتْقَانَ الصُّنْعِ فَتَدُلُّ عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ مَعَ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِالْمَصْنُوعَاتِ. وَصِفَةُ الْخَبِيرُ تَجْمَعُ الْعِلْمَ بِالْمَعْلُومَاتِ ظَاهِرِهَا وَخَفِيِّهَا. فَكَانَتِ الصِّفَتَانِ