الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَهْلُ الْكِتَابِ، كَقَوْلِهِ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ [الْأَحْقَاف: 10] . وَقِيلَ: أُرِيدَ بِهِمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، أَيِ الَّذِينَ كَتَمُوا الشَّهَادَةَ، فَيَكُونُ الَّذِينَ خَسِرُوا بَدَلًا مِنَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ.
[21]
[سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 21]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ [الْأَنْعَام: 20] . فَالْمُرَادُ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [114] . وَالْمُرَادُ بِافْتِرَائِهِمْ عَقِيدَةُ الشِّرْكِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِمَا فِيهَا مِنْ تَكَاذِيبَ، وَبِتَكْذِيبِهِمُ الْآيَاتِ تَكْذِيبُهُمُ الْقُرْآنَ بَعْدَ الْبَعْثَةِ. وَقَدْ جَعَلَ الْآتِيَ بِوَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ أَظْلَمَ النَّاسِ فَكَيْفَ بِمَنْ جَمَعُوا بَيْنَهُمَا.
وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ تَذْيِيلٌ، فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ، أَيْ إِذَا تَحَقَّقَ أَنَّهُمْ لَا أَظْلَمَ مِنْهُمْ فَهُمْ غَيْرُ مُفْلِحِينَ، لِأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ فَكَيْفَ بِمَنْ بَلَغَ ظُلْمُهُ النِّهَايَةَ، فَاسْتَغْنَى بِذِكْرِ الْعِلَّةِ عَنْ ذِكْرِ الْمَعْلُولِ.
وَمُوقِعُ (إِنَّ) فِي هَذَا الْمَقَامِ يُفِيدُ مَعْنَى التَّعْلِيلِ لِلْجُمْلَةِ الْمَحْذُوفَةِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي كَلَامِ عَبْدِ الْقَاهِرِ. وَمَوْقِعُ ضَمِيرِ الشَّأْنِ مَعَهَا أَفَادَ الِاهْتِمَامَ بِهَذَا الْخَبَرِ اهْتِمَامَ تَحْقِيقٍ لِتَقَعَ الْجُمْلَةُ الْوَاقِعَةُ تَفْسِيرًا لَهُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ مَوْقِعَ الرُّسُوخِ.
وَالِافْتِرَاءُ الْكَذِبُ الْمُتَعَمَّدُ. وَقَوْلُهُ: كَذِباً مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لَهُ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الِافْتِرَاءِ.
وَالتَّأْكِيدُ يَحْصُلُ بِالْأَعَمِّ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [103] ، وَقَدْ نَفَى فَلَاحَهُمْ فَعَمَّ كُلَّ فَلَاحٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّ الْفَلَاحَ الْمُعْتَدَّ بِهِ فِي نَظَرِ الدِّينِ فِي الدُّنْيَا هُوَ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ، وَهُوَ سَبَبُ فلاح الْآخِرَة.
[22- 24]
[سُورَة الْأَنْعَام (6) : الْآيَات 22 إِلَى 24]
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَاّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (24)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الْأَنْعَام: 21]، أَوْ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الْأَنْعَام: 21] ، فَإِنَّ مَضْمُونَ هَذِهِ الْجُمَلِ الْمَعْطُوفَةِ لَهُ مُنَاسَبَةٌ بِمَضْمُونِ جُمْلَةِ وَمَنْ أَظْلَمُ وَمَضْمُونِ جُمْلَةِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، لِأَنَّ مَضْمُونَ هَذِهِ مِنْ آثَارِ الظُّلْمِ وَآثَارِ عَدَمِ الْفَلَاحِ، وَلِأَنَّ مَضْمُونَ الْآيَةِ جَامِعٌ لِلتَّهْدِيدِ عَلَى الشِّرْكِ وَالتَّكْذِيبِ وَلِإِثْبَاتِ الْحَشْرِ وَلِإِبْطَالِ الشِّرْكِ.
وَانْتَصَبَ يَوْمَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَعَامِلُهُ مَحْذُوفٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُقَدَّرُ مِمَّا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْطُوفَاتُ وَهِيَ: نَقُولُ، أَوْ قَالُوا، أَوْ كَذَّبُوا، أَوْ ضَلَّ، وَكُلُّهَا صَالِحَةٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَقْدِيرِ الْمَحْذُوفِ، وَلَيْسَتْ تِلْكَ الْأَفْعَالُ مُتَعَلِّقًا بِهَا الظَّرْفُ بَلْ هِيَ دَلَالَةٌ عَلَى الْمُتَعَلِّقِ الْمَحْذُوفِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَهْوِيلُ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ يَوْمَ الْحَشْرِ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالِاضْطِرَابِ النَّاشِئَيْنِ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ: أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ، وتصوير تِلْكَ الْحَالَةِ الْمَهُولَةِ.
وَقُدِّرَ فِي «الْكَشَّافِ» الْجَوَابُ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ مَجْمُوعُ الْحِكَايَةِ. وَتَقْدِيرُهُ: كَانَ مَا كَانَ، وَأَنَّ حَذْفَهُ مَقْصُودٌ بِهِ الْإِبْهَامُ الَّذِي هُوَ دَاخِلٌ فِي التَّخْوِيفِ. وَقَدْ سَلَكَ فِي هَذَا مَا اعْتَادَهُ أَئِمَّةُ الْبَلَاغَةِ فِي تَقْدِيرِ الْمَحْذُوفَاتِ مِنَ الْأَجْوِبَةِ وَالْمُتَعَلِّقَاتِ. وَالْأَحْسَنُ عِنْدِي أَنَّهُ إِنَّمَا يُصَارُ إِلَى ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى تَعْيِينِ الْمَحْذُوفِ وَإِلَّا فَقَدْ يَكُونُ التَّخْوِيفُ وَالتَّهْوِيلُ بِالتَّفْصِيلِ أَشَدَّ مِنْهُ بِالْإِبْهَامِ إِذَا كَانَ كُلُّ جُزْءٍ مِنَ التَّفْصِيلِ حَاصِلًا بِهِ تَخْوِيفٌ.
وَقَدَّرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: اذْكُرْ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ. وَلَا نُكْتَةَ فِيهِ. وَهُنَالِكَ تَقْدِيرَاتٌ أُخْرَى لِبَعْضِهِمْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَرَّجَ عَلَيْهَا.
وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي نَحْشُرُهُمْ يَعُودُ إِلَى مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الْأَنْعَام: 21] أَوْ إِلَى الظَّالِمُونَ [الْأَنْعَام: 21] إِذِ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ، فَيُؤْذِنُ بِمُشْرِكِينَ وَمُشْرَكٍ بِهِمْ. وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَأَصْنَامِهِمْ جِيءَ بِقَوْلِهِ: جَمِيعاً لِيَدُلَّ عَلَى قَصْدِ الشُّمُولِ، فَإِنَّ
شُمُولَ الضَّمِيرِ لِجَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ لَا يَتَرَدَّدُ فِيهِ السَّامِعُ حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى تَأْكِيدِهِ بِاسْمِ الْإِحَاطَةِ وَالشُّمُولِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ ذِكْرَ جَمِيعاً قُصِدَ مِنْهُ التَّنْبِيهُ. عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَأَصْنَامِهِمْ، فَيَكُونُ نَظِيرَ قَوْلِهِ: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ [يُونُس: 28] وَقَوله: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْفرْقَان: 17] وَانْتَصَبَ جَمِيعاً هُنَا عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ حَشْرِ أَصْنَامِهِمْ مَعَهُمْ أَنْ تَظْهَرَ مَذَلَّةُ الْأَصْنَامِ وَعَدَمُ جَدْوَاهَا كَمَا يَحْشُرُ الْغَالِبُ أَسْرَى قَبِيلَةٍ وَمَعَهُمْ مَنْ كَانُوا يَنْتَصِرُونَ بِهِ، لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا غَائِبِينَ لَظَنُّوا أنّهم لَو حصروا لَشَفَعُوا، أَوْ أَنَّهُمْ شُغِلُوا عَنْهُمْ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْجَلَالَةِ وَالنَّعِيمِ، فَإِنَّ الْأَسْرَى كَانُوا قَدْ يأملون حُضُور شفائعهم أَوْ مَنْ يُفَادِيهِمْ. قَالَ النَّابِغَةُ:
يَأْمُلْنَ رِحْلَةَ نَصْرٍ وَابْنِ سَيَّارِ وَعَطَفَ نَقُولُ بِ ثُمَّ لِأَنَّ الْقَوْلَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ زَمَنِ حَشْرِهِمْ بِمُهْلَةٍ لِأَنَّ حِصَّةَ انْتِظَارِ الْمُجْرِمِ مَا سَيَحُلُّ بِهِ أَشَدُّ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ فِي إِهْمَالِ الِاشْتِغَالِ بِهِمْ تَحْقِيرًا لَهُمْ. وَتُفِيدُ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ التَّرْتِيبَ الرُّتْبِيَّ.
وَصَرَّحَ بِ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا لِأَنَّهُمْ بَعْضُ مَا شَمِلَهُ الضَّمِيرُ، أَيْ ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مِنْ بَيْنِ ذَلِكَ الْجَمْعِ.
وَأَصْلُ السُّؤَالِ بِ أَيْنَ أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ عَنِ الْمَكَانِ الَّذِي يَحُلُّ فِيهِ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ، نَحْوَ:
أَيْنَ بَيْتُكَ، وَأَيْنَ تَذْهَبُونَ. وَقَدْ يُسْأَلُ بِهَا عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي لَا مَكَانَ لَهُ، فَيُرَادُ الِاسْتِفْهَامُ عَنْ سَبَبِ عَدَمِهِ، كَقَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ لِمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ حِينَ خَرَجَ يَوْمَ الْعِيدِ فَقَصَدَ الْمِنْبَرَ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَيْنَ تَقْدِيمُ الصَّلَاةِ. وَقد يسْأَل بأين عَنْ عَمَلِ أَحَدٍ كَانَ مَرْجُوًّا مِنْهُ، فَإِذَا حَضَرَ وَقْتُهُ وَلَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ يسْأَل عَنهُ بأين، كَأَنَّ السَّائِلَ يَبْحَثُ عَنْ مَكَانِهِ تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ الْغَائِبِ الْمَجْهُولِ مَكَانَهُ فالسؤال بأين هُنَا عَنِ الشُّرَكَاءِ الْمَزْعُومِينَ وَهُمْ حَاضِرُونَ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخْرَى. قَالَ تَعَالَى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الصافات: 22] .
وَالِاسْتِفْهَامُ تَوْبِيخِيٌّ عَمَّا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَزْعُمُونَهُ مِنْ أَنَّهَا تَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، أَوْ أَنَّهَا تَنْصُرُهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ، فَلَمَّا رَأَوْهَا لَا غَنَاءَ لَهَا قِيلَ لَهُمْ: أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمْ، أَيْ أَيْنَ عَمَلُهُمْ فَكَأَنَّهُمْ غُيِّبَ عَنْهُمْ.
وَأُضِيفَ الشُّرَكَاءُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ إِضَافَةَ اخْتِصَاصٍ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ زَعَمُوا لَهُمُ الشِّرْكَةَ مَعَ اللَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ فَلَمْ يَكُونُوا شُرَكَاءَ إِلَّا فِي اعْتِقَادِ الْمُشْرِكِينَ، فَلِذَلِكَ قِيلَ شُرَكاؤُكُمُ. وَهَذَا كَقَوْلِ أَحَدِ أَبْطَالِ الْعَرَبِ لعَمْرو بن معد يكرب لَمَّا حَدَّثَ عَمْرٌو فِي جَمْعٍ أَنَّهُ قَتَلَهُ، وَكَانَ هُوَ حَاضِرًا فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ، فَقَالَ لَهُ:«مَهْلًا أَبَا ثَوْرٍ قَتِيلُكَ يَسْمَعُ» ، أَيِ الْمَزْعُومُ أَنَّهُ قَتِيلُكَ.
وَوُصِفُوا بِ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ تَكْذِيبًا لَهُمْ وَحُذِفَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِ تَزْعُمُونَ لِيَعُمَّ كُلَّ مَا كَانُوا يَزْعُمُونَهُ لَهُمْ مِنَ الْإِلَهِيَّةِ وَالنَّصْرِ وَالشَّفَاعَةِ أَمَّا الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ فَحُذِفَ عَلَى طَرِيقَةِ حَذْفِ عَائِدِ الصِّلَةِ الْمَنْصُوبِ.
وَالزَّعْمُ: ظَنٌّ يَمِيلُ إِلَى الْكَذِبِ أَوِ الْخَطَأِ أَوْ لِغَرَابَتِهِ يُتَّهَمُ صَاحِبُهُ، فَيُقَالُ: زَعَمَ، بِمَعْنَى أَنَّ عُهْدَةَ الْخَبَرِ عَلَيْهِ لَا عَلَى النَّاقِلِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ الْآيَةَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [60] . وَتَأْتِي زِيَادَةُ بَيَانٍ لِمَعْنَى الزَّعْمِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا فِي سُورَةِ التَّغَابُنِ [7] .
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ ثُمَّ نَقُولُ وَ (ثُمَّ) لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ وَهُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ خَبَرٍ إِلَى خَبَرٍ أَعْظَمَ مِنْهُ.
وَالْفِتْنَةُ أَصْلُهَا الِاخْتِبَارُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: فَتَنَ الذَّهَبَ إِذَا اخْتَبَرَ خُلُوصَهُ مِنَ الْغَلَثِ.
وَتُطْلَقُ عَلَى اضْطِرَابِ الرَّأْيِ مِنْ حُصُولِ خَوْفٍ لَا يُصْبَرُ عَلَى مِثْلِهِ، لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مِقْدَارِ ثَبَاتِ مَنْ يَنَالُهُ، فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي حَالَةِ الْعَيْشِ وَقَدْ يَكُونُ فِي الْبُغْضِ وَالْحُبِّ وَقَدْ يَكُونُ فِي الِاعْتِقَادِ وَالتَّفْكِيرِ وَارْتِبَاكِ الْأُمُورِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [102] .
وفِتْنَتُهُمْ هُنَا اسْتُثْنِيَ مِنْهَا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ، فَذَلِكَ الْقَوْلُ إِمَّا أَنْ
يَكُونَ مِنْ نَوْعِ مَا اسْتُثْنِيَ هُوَ مِنْهُ الْمَحْذُوفِ فِي تَفْرِيغِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَيَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مِنَ الْأَقْوَالِ الْمَوْصُوفَةِ بِأَنَّهَا فِتْنَةٌ. فَالتَّقْدِيرُ: لَمْ يَكُنْ لَهُمْ قَوْلٌ هُوَ فِتْنَةٌ لَهُمْ إِلَّا قَوْلُهُمْ وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ.
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ الْمُسْتَثْنَى دَالًّا عَلَى فِتْنَتِهِمْ، أَيْ عَلَى أَنَّهُمْ فِي فِتْنَةٍ حِينَ قَالُوهُ.
وَأَيًّا مَا كَانَ فَقَوْلُهُمْ: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ مُتَضَمِّنٌ أَنَّهُمْ مَفْتُونُونَ حِينَئِذٍ.
وَعَلَى ذَلِكَ تَحْتَمِلُ الْفِتْنَةُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى اضْطِرَابِ الرَّأْيِ وَالْحَيْرَةِ فِي الْأَمْرِ، وَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ إِيجَازٌ. وَالتَّقْدِيرُ: فَافْتَتَنُوا فِي مَاذَا يُجِيبُونَ، فَكَانَ جَوَابُهُمْ أَنْ قَالُوا: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فَعَدَلَ عَنِ الْمُقَدَّرِ إِلَى هَذَا التَّرْكِيبِ لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ جَوَابَهُمْ ذَلِكَ هُوَ فِتْنَتُهُمْ لِأَنَّهُ أَثَرُهَا وَمَظْهَرُهَا.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْفِتْنَةِ جَوَابُهُمُ الْكَاذِبُ لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى فِتْنَةِ صَاحِبِهِ، أَيْ تَجْرِيبِ حَالَةِ نَفْسِهِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أُطْلِقَتْ عَلَى مَعْنَاهَا الْأَصْلِيِّ وَهُوَ الِاخْتِبَارُ. وَالْمُرَادُ بِهِ السُّؤَالُ لِأَنَّ السُّؤَالَ اخْتِبَارٌ عَمَّا عِنْدَ الْمَسْئُولِ مِنَ الْعِلْمِ، أَوْ مِنَ الصِّدْقِ وَضِدِّهِ، وَيَتَعَيَّنُ حِينَئِذٍ تَقْدِيرُ مُضَافٍ، أَيْ لَمْ يَكُنْ جَوَابُ فِتْنَتِهِمْ، أَيْ سُؤَالُهُمْ عَنْ حَالِ إِشْرَاكِهِمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَمْ تَكُنْ- بِتَاءِ تَأْنِيثِ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ-. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَيَعْقُوبُ- بِيَاءِ الْمُضَارَعَةِ لِلْغَائِبَةِ- بِاعْتِبَارِ أَنْ قالُوا هُوَ اسْمُ (كَانَ) . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فِتْنَتُهُمْ- بِالنَّصْبِ- عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ (كَانَ) ، فَتَكُونُ (كَانَ) نَاقِصَةً وَاسْمُهَا إِلَّا أَنْ قالُوا وَإِنَّمَا أُخِّرَ عَنِ الْخَبَرِ لِأَنَّهُ مَحْصُورٌ.
وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ- بِالرَّفْعِ- عَلَى أَنَّهُ اسْمُ (كَانَ) وأَنْ قالُوا خَبَرُ (كَانَ)، فَتُجْعَلُ (كَانَ) تَامَّةً. وَالْمَعْنَى لَمْ تُوجَدْ فِتْنَةٌ لَهُمْ إِلَّا قَوْلُهُمْ: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ، أَيْ لَمْ تَقَعْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ نَفَوْا أَنَّهُمْ أَشْرَكُوا.
وَوَجْهُ اتِّصَالِ الْفِعْلِ بِعَلَامَةٍ مُضَارِعَةٍ لِلْمُؤَنَّثِ عَلَى قِرَاءَةِ نَصْبِ فِتْنَتُهُمْ هُوَ أَنَّ
فَاعِلَهُ مُؤَنَّثٌ تَقْدِيرًا، لِأَنَّ الْقَوْلَ الْمُنْسَبِكَ مِنْ (أَنْ) وَصِلَتِهَا مِنْ جُمْلَةِ الْفِتْنَةِ عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ.
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَذَلِكَ نَظِيرُ التَّأْنِيثِ فِي اسْمِ الْعَدَدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الْأَنْعَام: 160] ، لِأَنَّ الْأَمْثَالَ لَمَّا كَانَتْ فِي مَعْنَى الْحَسَنَاتِ أُنِّثَ اسْمُ عَدَدِهَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ رَبِّنا- بِالْجَرِّ- عَلَى الصِّفَةِ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِالنَّصْبِ- عَلَى النِّدَاءِ بِحَذْفِ حَرْفِهِ.
وَذِكْرُهُمُ الرَّبَّ بِالْإِضَافَةِ إِلَى ضَمِيرِهِمْ مُبَالَغَةٌ فِي التَّنَصُّلِ مِنَ الشِّرْكِ، أَيْ لَا رَبَّ لَنَا غَيْرُهُ. وَقَدْ كَذَبُوا وَحَلَفُوا عَلَى الْكَذِبِ جَرْيًا عَلَى سَنَنِهِمُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْحَيَاةِ، لِأَنَّ الْمَرْءَ يُحْشَرُ عَلَى مَا عَاشَ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْحَيْرَةَ وَالدَّهْشَ الَّذِي أَصَابَهُمْ خُيِّلَ إِلَيْهِمْ أَنَّهُمْ يُمَوِّهُونَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَيَتَخَلَّصُونَ مِنَ الْعِقَابِ. وَلَا مَانِعَ مِنْ صُدُورِ الْكَذِبِ مَعَ ظُهُورِ الْحَقِيقَةِ يَوْمَئِذٍ، لِأَنَّ الْحَقَائِقَ تَظْهَرُ لَهُمْ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ غَيْرَهُمْ لَا تَظْهَرُ لَهُ، وَلِأَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرٍ غَائِبٍ عَنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَإِنَّهُمْ أُخْبِرُوا عَنْ أُمُورِهِمْ فِي الدُّنْيَا.
وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» : أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ، فَذَكَرَ مِنْهَا قَوْلَهُ: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النِّسَاء: 42] وَقَوْلَهُ: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا
كُنَّا مُشْرِكِينَ
. فَقَدْ كَتَمُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِأَهْلِ الْإِخْلَاصِ ذُنُوبَهُمْ، فَيَقُولُ الْمُشْرِكُونَ تَعَالَوْا نَقُلْ: مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ، فَيُخْتَمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ فَتَنْطِقُ أَيْدِيهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ عَرَفُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يُكْتَمُ حَدِيثًا.
وَقَوْلُهُ: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ جَعَلَ حَالَهُمُ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهُ بِمَنْزِلَة الْمشَاهد، لصدور عَمَّنْ لَا خِلَافَ فِي إِخْبَارِهِ، فَلِذَلِكَ أَمَرَ سَامِعَهُ أَوْ أَمَرَ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم بِمَا يَدُلُّ عَلَى النَّظَرِ إِلَيْهِ كَأَنَّهُ مُشَاهَدٌ حَاضِرٌ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ كَيْفَ لِمُجَرَّدِ الْحَالِ غَيْرُ دَالٍّ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ. وَالنَّظَرُ إِلَى الْحَالَةِ هُوَ النَّظَرُ إِلَى أَصْحَابِهَا حِينَ تَكَيُّفِهِمْ بِهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ لَهُ نَظَائِرُ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [50] . وَجَعَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ النَّظَرَ هُنَا نَظَرًا