الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فِي إِحْيَاءِ الْمَيِّتِ وَخَاصَّةً فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآن قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 82] وَحَسَّنَ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةَ كَوْنُهَا مَبْنِيَّةً عَلَى اسْتِعَارَةِ التَّوَفِّي لِلنَّوْمِ تَقْرِيبًا لِكَيْفِيَّةِ الْبَعْثِ الَّتِي حَارَتْ فِيهَا عُقُولُهُمْ، فَكُلٌّ مِنَ الِاسْتِعَارَتَيْنِ مُرَشِّحٌ لِلْأُخْرَى.
وَاللَّامُ فِي لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى لَامُ التَّعْلِيلِ لِأَنَّ مِنَ الْحِكَمِ وَالْعِلَلِ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَهَا نِظَامَ الْيَقَظَةِ وَالنَّوْمِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَجْزِئَةً لِعُمُرِ الْحَيِّ، وَهُوَ أَجَلُهُ الَّذِي أُجِّلَتْ إِلَيْهِ حَيَاتُهُ يَوْمَ خَلْقِهِ، كَمَا جَاءَ
فِي الْحَدِيثِ «يُؤْمَرُ بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ» .
فَالْأَجْلُ مَعْدُودٌ بِالْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي، وَهِيَ زَمَانُ النُّوَّمِ وَالْيَقَظَةِ. وَالْعِلَّةُ الَّتِي بِمَعْنَى الْحِكْمَةِ لَا يُلْزَمُ اتِّحَادُهَا فَقَدْ يَكُونُ لِفِعْلِ اللَّهِ حِكَمٌ عَدِيدَةٌ. فَلَا إِشْكَالَ فِي جَعْلِ اللَّامِ لِلتَّعْلِيلِ.
وَقَضَاءُ الْأَجَلِ انْتِهَاؤُهُ. وَمَعْنَى كَوْنِهِ مُسَمًّى أَنَّهُ مُعَيَّنٌ مُحَدَّدٌ. وَالْمَرْجِعُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الرُّجُوعَ بِالْمَوْتِ، لِأَنَّ الْأَرْوَاحَ تَصِيرُ فِي قَبْضَةِ اللَّهِ وَيُبْطِلُ مَا كَانَ لَهَا مِنَ التَّصَرُّفِ بِإِرَادَتِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالرُّجُوعِ الْحَشْرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا أَظْهَرُ.
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَيْ يُحَاسِبُكُمْ عَلَى أَعْمَالِكُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَالْمُهْلَةُ فِي (ثُمَّ) ظَاهِرَةٌ، أَوْ بَعْدَ الْحَشْرِ، فَالْمُهْلَةُ لِأَنَّ بَيْنَ الْحَشْرِ وَبَيْنَ ابْتِدَاءِ الْحِسَابِ زَمَنًا، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ.
[61، 62]
[سُورَة الْأَنْعَام (6) : الْآيَات 61 الى 62]
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62)
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ.
عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ [الْأَنْعَام: 60] ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهِ آنِفًا.
وَالْمُنَاسَبَةُ هُنَا أَنَّ النَّوْمَ وَالْمَوْتَ خَلَقَهُمَا اللَّهُ فَغَلَبَا شِدَّةَ الْإِنْسَانِ كَيْفَمَا بَلَغَتْ فَبَيَّنَ عَقِبَ ذِكْرِهِمَا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْقَادِرُ الْغَالِبُ دُونَ الْأَصْنَامِ. فَالنَّوْمُ قَهْرٌ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُرِيدُ أَنْ لَا يَنَامَ فَيَغْلِبُهُ النَّوْمُ، وَالْمَوْتُ قَهْرٌ وَهُوَ أَظْهَرُ، وَمِنَ الْكَلِمِ الْحَقِّ: سُبْحَانَ مَنْ قَهَرَ الْعِبَادَ بِالْمَوْتِ.
وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ.
وَيُرْسِلُ عَطْفٌ عَلَى الْقاهِرُ، فَيُعْتَبَرُ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ مُقَدَّمًا عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ، فَيَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ أَيْضًا بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، أَيْ هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً دُونَ غَيْرِهِ. وَالْقَصْرُ هُنَا حَقِيقِيٌّ، فَلَا يَسْتَدْعِي رَدَّ اعْتِقَادٍ مُخَالِفٍ. وَالْمَقْصُودُ الْإِعْلَامُ بِهَذَا الْخَبَرِ الْحَقِّ لِيَحْذَرَ السَّامِعُونَ مِنِ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي.
وَمَعْنَى (عَلَى) فِي قَوْلِهِ عَلَيْكُمْ الِاسْتِعْلَاءُ الْمَجَازِيُّ، أَيْ إِرْسَالُ قَهْرٍ وَإِلْزَامٍ، كَقَوْلِهِ: بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا [الْإِسْرَاء: 5] ، لِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ خِطَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ كَمَا عَلِمْتَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ [الإنفطار: 9، 10] .
وعَلَيْكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِ يُرْسِلُ فَعُلِمَ، أَنَّ الْمُرَادَ بِحِفْظِ الْحَفَظَةِ الْإِحْصَاءُ وَالضَّبْطُ مِنْ قَوْلِهِمْ: حَفِظْتُ عَلَيْهِ فِعْلَهُ كَذَا. وَهُوَ ضِدُّ نَسِيَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ [ق: 4] . وَلَيْسَ هُوَ مِنْ حِفْظِ الرِّعَايَةِ وَالتَّعَهُّدِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ [النِّسَاء: 34] .
فَالْحَفَظَةُ مَلَائِكَةٌ وَظِيفَتُهُمْ إِحْصَاءُ أَعْمَالِ الْعِبَادِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ.
وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ»
الْحَدِيثَ.
وَقَوْلُهُ: إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ غَايَةٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ اسْمُ الْحَفَظَةِ مِنْ مَعْنَى الْإِحْصَاءِ، أَيْ فَيَنْتَهِي الْإِحْصَاءُ بِالْمَوْتِ، فَإِذَا جَاءَ الْوَقْتُ الَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهِ أَجْلُ الْحَيَاةِ تَوَفَّاهُ الْمَلَائِكَةُ الْمُرْسَلُونَ لَقَبْضِ الْأَرْوَاحِ.
فَقَوْلُهُ: رُسُلُنا فِي قُوَّةِ النَّكِرَةِ لِأَنَّ الْمُضَافَ مُشْتَقٌّ فَهُوَ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ فَلَا تُفِيدُهُ الْإِضَافَةُ تَعْرِيفًا، وَلِذَلِكَ فَالْمُرَادُ مِنَ الرُّسُلِ الَّتِي تَتَوَفَّى رُسُلٌ غَيْرُ الْحَفَظَةِ الْمُرْسَلِينَ عَلَى الْعِبَادِ، بِنَاءً عَلَى الْغَالِبِ فِي مَجِيءِ نَكِرَةٍ عَقِبَ نَكِرَةٍ أَنَّ الثَّانِيَةَ غَيْرُ الْأُولَى. وَظَاهِرُ
قَوْلِهِ: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا أَنَّ عَدَدًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَتَوَلَّى تَوَفِّيَ الْوَاحِدَ مِنَ النَّاسِ.
وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [السَّجْدَة: 11] ، وَسُمِّيَ فِي الْآثَارِ عِزْرَائِيلُ، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ لِمَلَكِ الْمَوْتَ أَعْوَانًا. فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ ظَاهِرٌ.
وَعُلِّقَ فِعْلُ التَّوَفِّي بِضَمِيرِ أَحَدَكُمُ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الذَّاتِ. وَالْمَقْصُودُ تَعْلِيقُ الْفِعْلِ بِحَالٍ مِنْ أَحْوَالِ أَحَدِكُمُ الْمُنَاسِبِ لِلتَّوَفِّي، وَهُوَ الْحَيَاةُ، أَيْ تَوَفَّتْ حَيَّاتُهُ وَخَتْمَتْهَا، وَذَلِكَ بِقَبْضِ رُوحِهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَوَفَّتْهُ- بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ بَعْدَ الْفَاءِ-. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحْدَهُ تَوَفَّاهُ رُسُلُنَا وَهِيَ فِي الْمُصْحَفِ مَرْسُومَةٌ- بِنُتْأَةٍ بَعْدَ الْفَاءِ- فَتَصْلُحُ لِأَنَّ تَكُونُ مُثَنَّاةً فَوْقِيَّةً وَأَنْ تَكُونَ مُثَنَّاةً تَحْتِيَّةً عَلَى لُغَةِ الْإِمَالَةِ. وَهِيَ الَّتِي يُرْسَمُ بِهَا الْأَلِفَاتُ الْمُنْقَلِبَةُ عَنِ الْيَاءَاتِ. وَالْوَجْهَانِ جَائِزَانِ فِي إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى جَمْعِ التَّكْسِيرِ.
وَجُمْلَةُ: وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ حَالٌ. وَالتَّفْرِيطُ: التَّقْصِيرُ فِي الْعَمَلِ وَالْإِضَاعَةُ فِي الذَّوَاتِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ أَحَدًا قَدْ تَمَّ أَجْلُهُ وَلَا يُؤَخِّرُونَ تَوَفِّيَهُ.
وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: رُدُّوا عَائِدٌ إِلَى أَحَدٍ بِاعْتِبَارِ تَنْكِيرِهِ الصَّادِقِ بِكُلِّ أَحَدٍ، أَيْ ثُمَّ يُرَدُّ الْمُتَوَفَّوْنَ إِلَى اللَّهِ. وَالْمُرَادُ رُجُوعُ النَّاسِ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَيْ رُدُّوا إِلَى حُكْمِهِ مِنْ نَعِيمٍ وَعَذَابٍ، فَلَيْسَ فِي الضَّمِيرِ الْتِفَاتٌ.
وَالْمَوْلَى هُنَا بِمَعْنَى السَّيِّدِ، وَهُوَ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ يُطْلَقُ عَلَى السَّيِّدِ وَعَلَى الْعَبْدِ.
والْحَقِّ- بِالْجَرِّ- صِفَةٌ لِ مَوْلاهُمُ، لِمَا فِي مَوْلاهُمُ مِنْ مَعْنَى مَالِكِهِمْ، أَيْ مَالِكِهِمُ الْحَقِّ الَّذِي لَا يَشُوبُ مُلْكَهُ بَاطِلٌ يُوهِنُ مُلْكَهُ. وَأَصْلُ الْحَقِّ أَنَّهُ الْأَمْرُ الثَّابِتُ فَإِنَّ كُلَّ مُلْكٍ غَيْرَ مُلْكِ الْخَالِقِيَّةِ فَهُوَ مَشُوبٌ باستقلال مَمْلُوكه عِنْد اسْتِقْلَالا تَفَاوتا، وَذَلِكَ يُوهِنُ الْمُلْكَ وَيُضْعِفُ حَقِّيَّتَهُ.
وَجُمْلَةُ: أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ تَذْيِيلٌ وَلِذَلِكَ ابْتُدِئَ بِأَدَاةِ الِاسْتِفْتَاحِ الْمُؤْذِنَةِ بِالتَّنْبِيهِ إِلَى أَهَمِّيَّةِ الْخَبَرِ. وَالْعَرَبُ يَجْعَلُونَ التَّذْيِيلَاتِ مُشْتَمِلَةً عَلَى اهْتِمَامٍ أَوْ عُمُومٍ أَوْ كَلَامٍ جَامِعٍ.