الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَجُمْلَةُ وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ مِنْ تَمَامِ الدَّلِيلِ وَالْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِعَدَمِ جَدْوَى إِرْسَالِ الْمَلَكِ.
وَاللَّبْسُ: خَلْطٌ يَعْرِضُ فِي الصِّفَاتِ وَالْمَعَانِي بِحَيْثُ يَعْسُرُ تَمْيِيزُ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [] . وَقَدْ عُدِّيَ هُنَا بِحَرْفِ (عَلَى) لِأَنَّ الْمُرَادَ لَبْسٌ فِيهِ غَلَبَةٌ لِعُقُولِهِمْ.
وَالْمَعْنَى: وَلَلَبَسْنَا عَلَى عُقُولِهِمْ، فَشَكُّوا فِي كَوْنِهِ مَلَكًا فَكَذَّبُوهُ، إِذْ كَانَ دَأْبُ عُقُولِهِمْ تَطَلُّبَ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ اسْتِدْلَالًا بِهَا عَلَى الصِّدْقِ، وَتَرْكَ إِعْمَالِ النَّظَرِ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ صِدْقُ الصَّادِقِ.
وَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا يَلْبِسُونَ مَصْدَرِيَّةٌ مُجَرَّدَةٌ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ، وَالْمَعْنَى عَلَى التَّشْبِيهِ، أَيْ وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ لَبْسَهُمُ الَّذِي وَقَعَ لَهُمْ حِينَ قَالُوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ، أَيْ مِثْلَ لَبْسِهِمُ السَّابِقِ الَّذِي عَرَضَ لَهُمْ فِي صِدْقِ مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام.
وَفِي الْكَلَامِ احْتِبَاكٌ لِأَنَّ كِلَا اللَّبْسَيْنِ هُوَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ حَرَمَهُمُ التَّوْفِيقَ.
فَالتَّقْدِيرُ: وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ فِي شَأْنِ الْمَلَكِ فَيَلْبِسُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي شَأْنِهِ كَمَا لَبَسْنَا عَلَيْهِمْ فِي شَأْنِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إِذْ يَلْبِسُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي شَأْنِهِ. وَهَذَا الْكَلَامُ كُلُّهُ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى حَمْلِ اقْتِرَاحِهِمْ عَلَى ظَاهِرِ حَالِهِ مِنْ إِرَادَتِهِمُ الِاسْتِدْلَالَ، فَلِذَلِكَ أُجِيبُوا عَنْ كَلَامِهِمْ إِرْخَاءً لِلْعِنَانِ، وَإِلَّا فَإِنَّهُمْ مَا أَرَادُوا بِكَلَامِهِمْ إِلَّا التَّعْجِيزَ وَالِاسْتِهْزَاءَ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ الْآيَة.
[10]
[سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 10]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ لِبَيَانِ تَفَنُّنِهِمْ فِي الْمُكَابَرَةِ وَالْعِنَادِ تَصَلُّبًا فِي شِرْكِهِمْ وَإِصْرَارًا عَلَيْهِ، فَلَا يَتْرُكُونَ وَسِيلَةً مِنْ وَسَائِلِ التَّنْفِيرِ مِنْ قَبُولِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ إِلَّا تَوَسَّلُوا بِهَا. وَمُنَاسَبَةُ عَطْفِ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ
مَلَكٌ
أَنَّهُمْ كَانُوا فِي قَوْلِهِمْ ذَلِكَ قَاصِدِينَ التَّعْجِيزَ وَالِاسْتِهْزَاءَ مَعًا، لِأَنَّهُمْ مَا قَالُوهُ إِلَّا عَنْ يَقِينٍ مِنْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يكون، فابتدئ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ بِإِبْطَالِ ظَاهِرِ كَلَامِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ. ثُمَّ ثَنَّى بِتَهْدِيدِهِمْ عَلَى مَا أَرَادُوهُ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ، وَالْمَقْصُودُ مَعَ ذَلِكَ تَهْدِيدُهُمْ بِأَنَّهُمْ سَيَحِيقُ بِهِمُ الْعَذَابُ وَأَنَّ ذَلِكَ سُنَّةُ اللَّهِ فِي كُلِّ أُمَّةٍ اسْتَهْزَأَتْ بِرَسُولٍ لَهُ.
فَقَوْلُهُ: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ يَدُلُّ عَلَى جُمْلَةٍ مَطْوِيَّةٍ إيجازا، تقديرها:
واستهزأوا بِكَ وَلَقَدِ اسْتَهْزَأَ أُمَمٌ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ من قَبْلِكَ، لأنّ قَوْله مِنْ قَبْلِكَ يُؤْذِنُ بأنّه قد استهزىء بِهِ هُوَ أَيْضًا وَإِلَّا لَمْ تَكُنْ فَائِدَةٌ فِي وَصْفِ الرُّسُلِ بِأَنَّهُمْ مِنْ قَبْلِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ. وَحَذَفَ فَاعِلَ الِاسْتِهْزَاءِ فَبَنَى الْفِعْلَ إِلَى الْمَجْهُولِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا هُوَ تُرَتُّبُ أَثَرِ الِاسْتِهْزَاءِ لَا تَعْيِينُ الْمُسْتَهْزِئِينَ.
وَاللَّامُ لِلْقَسَمِ، وَقد لِلتَّحْقِيقِ، وَكِلَاهُمَا يَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِ الْخَبَرِ. وَالْمَقْصُودُ تَأْكِيدُهُ بِاعْتِبَارِ مَا تَفَرَّعَ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا إِلَخْ، لِأَنَّ حَالَ الْمُشْرِكِينَ حَالُ مَنْ يَتَرَدَّدُ فِي أَنَّ سَبَبَ هَلَاكِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ هُوَ الِاسْتِهْزَاءُ بِالرُّسُلِ، إِذْ لَوْلَا تَرَدُّدُهُمْ فِي ذَلِكَ لَأَخَذُوا الْحَيْطَةَ لِأَنْفُسِهِمْ مَعَ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام، الَّذِي جَاءَهُمْ فَنَظَرُوا فِي دَلَائِلِ صِدْقِهِ وَمَا أَعْرَضُوا، لِيَسْتَبْرِئُوا لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ عَذَابٍ مُتَوَقَّعٍ، أَوْ نَزَلُوا مَنْزِلَةَ الْمُتَرَدِّدِ إِنْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ لِعَدَمِ جَرْيِهِمْ عَلَى مُوجِبِ عِلْمِهِمْ. وَاسْتِهْزَاؤُهُمْ لَهُ أَفَانِينُ، مِنْهَا قَوْلُهُمْ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ.
وَمَعْنَى الِاسْتِهْزَاءِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَهُوَ مُرَادِفٌ لِلسُّخْرِيَةِ فِي كَلَامِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ، فَذَكَرَ اسْتُهْزِئَ أَوَّلًا لِأَنَّهُ أَشْهَرُ، وَلَمَّا أُعِيد عبّر ب سَخِرُوا، وَلَمَّا أُعِيدَ ثَالِثَ مَرَّةٍ رَجَعَ إِلَى فعل يَسْتَهْزِؤُنَ، لِأَنَّهُ أَخَفُّ مِنْ (يَسْخَرُونَ) . وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ فَصَاحَةِ الْقُرْآنِ الْمُعْجِزَةِ.
وسَخِرُوا بِمَعْنى هزأوا، وَيَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ بِ مِنْ، قِيلَ: لَا يَتَعَدَّى بِغَيْرِهَا.
وَقِيلَ: يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ. وَكَذَا الْخِلَافُ فِي تَعْدِيَةِ هَزَأَ وَاسْتَهْزَأَ. وَالْأَصَحُّ أَنَّ كِلَا الْفِعْلَيْنِ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ (مِنْ) وَالْبَاءِ، وَأَنَّ الْغَالِبَ فِي (هَزَأَ) أَنْ يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ، وَفِي سَخِرَ أَن يتعدّى بِمن. وَأَصْلُ مَادَّةِ سَخِرَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ الْفَاعِلَ اتَّخَذَ الْمَفْعُولَ مُسَخَّرًا يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ بِدُونِ حُرْمَةٍ لِشِدَّةِ قُرْبِ مَادَّةِ سَخِرَ الْمُخَفَّفِ مِنْ مَادَّةِ التَّسْخِيرِ، أَيِ التَّطْوِيعِ فَكَأَنَّهُ حَوَّلَهُ عَنْ حَقِّ الْحُرْمَةِ الذَّاتِيَّةِ فَاتَّخَذَ مِنْهُ لِنَفْسِهِ سُخْرِيَةً.