الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَرَأَهُ ابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَخَلَفٌ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ يُنَجِّيكُمْ- بِالتَّشْدِيدِ- مِثْلَ الْأُولَى.
وثُمَّ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتَبِيِّ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ إِشْرَاكَهُمْ مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَلْجَأُونَ إِلَّا إِلَى اللَّهِ فِي الشَّدَائِدِ أَمْرٌ عَجِيبٌ، فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ الْمُهْلَةَ.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِخَبَرِ إِسْنَادِ الشِّرْكِ إِلَيْهِمْ، أَيْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَتَضَرَّعُونَ إِلَى اللَّهِ بِاعْتِرَافِكُمْ تُشْرِكُونَ بِهِ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، مِنْ بَابِ ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ
[الْبَقَرَة: 85]، وَمِنْ بَابِ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا، وَلَوْ ذَاتُ سِوَارٍ لَطَمَتْنِي.
وَجِيءَ بِالْمُسْنَدِ فِعْلًا مُضَارِعًا لِإِفَادَةِ تَجَدُّدِ شِرْكِهِمْ وَأَنَّ ذَلِكَ التَّجَدُّدَ وَالدَّوَامَ عَلَيْهِ أَعْجَبُ.
وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَنْجَاكُمْ فَوَعَدْتُمْ أَنْ تَكُونُوا مِنَ الشَّاكِرِينَ فَإِذَا أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ. وَبَيْنَ الشَّاكِرِينَ وتُشْرِكُونَ الْجِنَاسُ الْمُحَرَّفُ.
[65]
[سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 65]
قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)
قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ.
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ عَقَّبَ بِهِ ذِكْرَ النِّعْمَةِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ بِذِكْرِ الْقُدْرَةِ عَلَى الِانْتِقَامِ، تَخْوِيفًا لِلْمُشْرِكِينَ. وَإِعَادَةُ فِعْلِ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ مِثْلَ إِعَادَتِهِ فِي نَظَائِرِهِ لِلِاهْتِمَامِ الْمُبَيَّنِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ [الْأَنْعَام: 40] .
وَالْمَعْنَى قُلْ لِلْمُشْرِكِينَ، فَالْمُخَاطَبُ بِضَمَائِرِ الْخِطَابِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ لَيْسَ الْإِعْلَامَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهَا مَعْلُومَةٌ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ التَّهْدِيدُ بِتَذْكِيرِهِمْ بِأَنَّ الْقَادِرَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُخَافَ بَأْسُهُ فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْرِيضِ مَجَازًا مُرْسَلًا مُرَكَّبًا، أَوْ كِنَايَةً تَرْكِيبِيَّةً.
وَهَذَا تَهْدِيدٌ لَهُمْ، لِقَوْلِهِمْ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [يُونُس: 20] .
وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ أَفَادَ الْقَصْرَ، فَأَفَادَ اخْتِصَاصَهُ تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ عَلَى بَعْثِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ وَأَنَّ غَيْرَهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَخْشَوُا الْأَصْنَامَ، وَلَوْ أَرَادُوا الْخَيْرَ لِأَنْفُسِهِمْ لَخَافُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَفْرَدُوهُ بِالْعِبَادَةِ لِمَرْضَاتِهِ، فَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ إِضَافِيٌّ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْقادِرُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، إِذْ لَا يَقْدِرُ غَيْرُهُ تَعَالَى عَلَى مِثْلِ هَذَا الْعَذَابِ.
وَالْعَذَابُ الَّذِي مِنْ فَوْقُ مِثْلُ الصَّوَاعِقِ وَالرِّيحِ، وَالَّذِي مِنْ تَحْتِ الْأَرْجُلِ مِثْلُ الزَّلَازِلِ وَالْخَسْفِ وَالطُّوفَانِ.
ويَلْبِسَكُمْ مُضَارِعُ لَبَسَهُ- بِالتَّحْرِيكِ- أَيْ خَلَطَهُ، وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ يَلْبِسَكُمْ إِلَى ضَمِيرِ الْأَشْخَاصِ بِتَقْدِيرِ اخْتِلَاطِ أَمْرِهِمْ وَاضْطِرَابِهِ وَمَرْجِهِ، أَيِ اضْطِرَابُ شُؤُونِهِمْ، فَإِنَّ اسْتِقَامَةَ الْأُمُورِ تُشْبِهُ انْتِظَامَ السِّلْكِ وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ اسْتِقَامَةُ أُمُورِ النَّاسِ نِظَامًا. وَبِعَكْسِ ذَلِكَ اخْتِلَالُ الْأُمُورِ وَالْفَوْضَى تُشْبِهُ اخْتِلَاطَ الْأَشْيَاءِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ مَرْجًا وَلَبْسًا. وَذَلِكَ بِزَوَالِ الْأَمْنِ وَدُخُولِ الْفَسَادِ فِي أُمُورِ الْأُمَّةِ، وَلِذَلِكَ يُقْرَنُ الْهَرْجُ وَهُوَ الْقَتْلُ بِالْمَرْجِ، وَهُوَ الْخَلْطُ فَيُقَالُ:
هُمْ فِي هَرْجٍ وَمَرْجٍ، فَسُكُونُ الرَّاءِ فِي الثَّانِي لِلْمُزَاوَجَةِ.
وَانْتَصَبَ شِيَعاً عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي يَلْبِسَكُمْ. وَالشِّيَعُ جَمْعُ شِيعَةٍ- بِكَسْرِ الشِّينِ- وَهِيَ الْجَمَاعَةُ الْمُتَّحِدَةُ فِي غَرَضٍ أَوْ عَقِيدَةٍ أَوْ هَوًى فَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الْأَنْعَام: 159] .
وَشِيعَةُ الرَّجُلِ أَتْبَاعُهُ وَالْمُقْتَدُونَ بِهِ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ [الصافات: 83] أَيْ مِنْ شِيعَةِ نُوحٍ.
وَتَشَتُّتُ الشِّيَعِ وَتَعَدُّدُ الْآرَاءِ أَشَدُّ فِي اللَّبْسِ وَالْخَلْطِ، لِأَنَّ اللَّبْسَ الْوَاقِعَ كَذَلِكَ لَبْسٌ لَا يُرْجَى بَعْدَهُ انْتِظَامٌ.
وَعَطَفَ عَلَيْهِ وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ لِأَنَّ مِنْ عَوَاقِبِ ذَلِكَ اللَّبْسِ التَّقَاتُلَ.
فَالْبَأْسُ هُوَ الْقَتْلُ وَالشَّرُّ، قَالَ تَعَالَى: وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ [النَّحْل: 81] . وَالْإِذَاقَةُ اسْتِعَارَةٌ لِلْأَلَمِ.
وَهَذَا تَهْدِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ كَمَا قُلْنَا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ أَوِ الْكِنَايَةِ. وَقَدْ وَقَعَ مِنْهُ الْأَخِيرُ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ ذَاقُوا بَأْسَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ وَفِي غَزَوَاتٍ كَثِيرَةٍ.
فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ قَالَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم: أَعُوذُ بِوَجْهِكَ. قَالَ: أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ قَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِكَ قَالَ: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: هَذَا أَهْوَنُ، أَوْ هَذَا أَيْسَرُ» .
اهـ. وَاسْتِعَاذَةُ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ خَشْيَةَ أَنْ يَعُمَّ الْعَذَابُ إِذَا نَزَلَ عَلَى الْكَافِرِينَ مَنْ هُوَ بِجِوَارِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الْأَنْفَال: 25]
وَفِي الْحَدِيثِ قَالُوا: «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ قَالَ: نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ»
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «ثُمَّ يُحْشَرُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ» .
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: هَذِهِ أَهْوَنُ، أَنَّ الْقَتْلَ إِذَا حَلَّ بِالْمُشْرِكِينَ فَهُوَ بِيَدِ الْمُسْلِمِينَ فَيَلْحَقُ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ أَذًى عَظِيمٌ لَكِنَّهُ أَهْوَنُ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ اسْتِئْصَالُ وَانْقِطَاعُ كَلِمَةِ الدِّينِ، فَهُوَ عَذَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَشَهَادَةٌ وَتَأْيِيدٌ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ» .
وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ فَسَّرَ الْحَدِيثَ بِأَنَّهُ اسْتَعَاذَ أَنْ يَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَيَتَّجِهُ عَلَيْهِ أَن يُقَال: لماذَا لَمْ يَسْتَعِذِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مِنْ وُقُوعِ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَعَلَّهُ لِأَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ وَعَدَهُ أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِ أَنْفُسِهِمْ.
وَلَيْسَتِ اسْتِعَاذَتُهُ بِدَالَّةٍ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ مُرَادٌ بِهَا خِطَابُ الْمُسْلِمِينَ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَلَا أَنَّهَا تَهْدِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ السَّلَفِ إِلَّا عَلَى مَعْنَى أَنَّ مُفَادَهَا غَيْرُ الصَّرِيحِ صَالِحٌ لِلْفَرِيقَيْنِ لِأَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ صَالِحَةٌ لِلْفَرِيقَيْنِ، وَلَكِنَّ الْمَعْنَى التَّهْدِيدِيَّ غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِلْمُسْلِمِينَ هُنَا. وَهَذَا الْوَجْهُ يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلًا فِي أَصْلِ الْإِخْبَارِ وَفِي لَازِمِهِ فَيَكُونُ صَرِيحًا وَكِنَايَةً وَلَا يُنَاسِبُ الْمَجَازَ الْمُرَكَّبَ الْمُتَقَدِّمَ بَيَانُهُ.
انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ.
اسْتِئْنَافٌ وَرَدَ بَعْدَ الِاسْتِفْهَامَيْنِ السَّابِقَيْنِ. وَفِي الْأَمْرِ بِالنَّظَرِ تَنْزِيلٌ لِلْمَعْقُولِ مَنْزِلَةَ الْمَحْسُوسِ لِقَصْدِ التَّعْجِيبِ مِنْهُ، وَقَدْ مَضَى فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ