الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَمَا صَدَقُ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ مَا صَدَقُ
قَول النبيء صلى الله عليه وسلم فِي تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ»
فَإِنَّ مَعْنَى الِاسْتِطَاعَةِ التَّمَكُّنُ مِنَ التَّغْيِيرِ دُونَ ضُرٍّ يَلْحَقُهُ أَوْ يَلْحَقُ عُمُومَ النَّاسِ كَالْفِتْنَةِ. فَالْآيَةُ تُفِيدُ الْإِعْرَاضَ عَنْ ذَلِكَ إِذَا تَحَقَّقَ عَدَمُ الْجَدْوَى بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي ذَلِكَ، وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ إِذا ظَهرت المكابرة وَعَدَمُ الِانْتِصَاحِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، وَكَذَلِكَ إِذَا خِيفَ حُصُولُ الضُّرِّ لِلدَّاعِي بِدُونِ جَدْوَى، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَذْكُورِ آنِفًا.
وَقَوْلُهُ: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً عُذْرٌ لِلْمُهْتَدِي وَنِذَارَةٌ لِلضَّالِّ. وَقَدَّمَ الْمَجْرُورَ لِلِاهْتِمَامِ بِمُتَعَلِّقِ هَذَا الرُّجُوعِ وَإِلْقَاءِ الْمَهَابَةِ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ، وَأَكَّدَ ضَمِيرَ الْمُخَاطَبِينَ
بِقَوْلِهِ: جَمِيعاً لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الْعُمُومِ وَأَنْ لَيْسَ الْكَلَامُ عَلَى التَّغْلِيبِ. وَالْمُرَادُ بِالْإِنْبَاءِ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ الْكِنَايَةُ عَنْ إِظْهَارِ أَثَرِ ذَلِكَ مِنَ الثَّوَابِ لِلْمُهْتَدِي الدَّاعِي إِلَى الْخَيْرِ، وَالْعَذَابِ لِلضَّالِّ الْمُعْرِضِ عَنِ الدَّعْوَةِ.
وَالْمَرْجِعُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ لَا مَحَالَةَ، بِدَلِيلِ تَعْدِيَتِهِ بِ إِلَى، وَهُوَ مِمَّا جَاءَ مِنَ الْمَصَادِرِ الْمِيمِيَّةِ- بِكَسْرِ الْعَيْنِ- عَلَى الْقَلِيل، لأنّ الْمَشْهُود فِي الْمِيمِيِّ مِنْ يَفْعِلُ- بِكَسْرِ الْعَيْنِ- أَنْ يَكُونَ مَفْتُوح الْعين.
[106- 108]
[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 106 إِلَى 108]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ
(108)
اسْتُؤْنِفَتْ هَذِهِ الْآيُ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِشَرْعِ أَحْكَامِ التَّوَثُّقِ لِلْوَصِيَّةِ لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ التَّشْرِيعَاتِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا هَذِهِ السُّورَةُ، تَحْقِيقًا لِإِكْمَالِ الدِّينِ، وَاسْتِقْصَاءً لِمَا قَدْ يحْتَاج إِلَى علمه الْمُسْلِمُونَ وَمَوْقِعُهَا هُنَا سَنَذْكُرُهُ.
وَقَدْ كَانَت الْوَصِيَّة مَشْرُوعِيَّة بِآيَةِ الْبَقَرَةِ [180] كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي ابْتِدَاءِ مَشْرُوعِيَّتِهَا وَفِي مِقْدَارِ مَا نُسِخَ مِنْ حُكْمِ تِلْكَ الْآيَةِ وَمَا أُحْكِمَ فِي مَوْضِعِهِ هُنَالِكَ. وَحَرَصَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى الْوَصِيَّةِ وَأَمَرَ بِهَا، فَكَانَتْ مَعْرُوفَةً مُتَدَاوَلَةً مُنْذُ عَهْدٍ بَعِيدٍ مِنَ الْإِسْلَامِ. وَكَانَتْ مَعْرُوفَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَكَانَ الْمَرْءُ يُوصِي لِمَنْ يُوصِي لَهُ بِحَضْرَةِ وَرَثَتِهِ وَقَرَابَتِهِ فَلَا يَقَعُ نِزَاعٌ بَيْنَهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِ مَعَ مَا فِي النُّفُوسِ مِنْ حُرْمَةِ الْوَصِيَّةِ وَالْحِرْصِ عَلَى إِنْفَاذِهَا حِفْظًا لِحَقِّ الْمَيِّتِ إِذْ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى تَحْقِيقِ حَقِّهِ، فَلِذَلِكَ اسْتَغْنَى الْقُرْآنُ عَنْ شَرْعِ التَّوَثُّقِ لَهَا بِالْإِشْهَادِ، خِلَافًا لِمَا تَقَدَّمَ بِهِ مِنْ بَيَانِ التَّوَثُّقِ فِي التَّبَايُعِ بِآيَةِ وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ [الْبَقَرَة: 282] وَالتَّوَثُّقُ فِي الدَّيْنِ بِآيَةِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ [الْبَقَرَة: 282] إِلَخْ فَأَكْمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَيَانَ التَّوَثُّقِ لِلْوَصِيَّةِ اهْتِمَامًا بِهَا وَلِجَدَارَةِ الْوَصِيَّةِ بِالتَّوْثِيقِ لَهَا لِضَعْفِ الذِّيَادِ عَنْهَا لِأَنَّ الْبُيُوعَ وَالدُّيُونَ فِيهَا جَانِبَانِ عَالِمَانِ بِصُورَةِ مَا انْعَقَدَ فِيهَا وَيَذُبَّانِ عَنْ مَصَالِحِهِمَا فَيَتَّضِحُ الْحَقُّ مِنْ
خِلَالِ سَعْيِهِمَا فِي إِحْقَاقِ الْحَقِّ فِيهَا بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ فَإِنَّ فِيهَا جَانِبًا وَاحِدًا وَهُوَ جَانِبُ الْمُوصَى لَهُ لِأَنَّ الْمُوصِي يَكُونُ قَدْ مَاتَ وَجَانِبُ الْمُوصَى لَهُ ضَعِيفٌ إِذْ لَا عِلْمَ لَهُ بِمَا عَقَدَ الْمُوصِي وَلَا بِمَا تَرَكَ، فَكَانَتْ مُعَرَّضَةً لِلضَّيَاعِ كُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا.
وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَحْفِظُونَ وَصَايَاهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ إِلَى أَحَدٍ يَثِقُونَ بِهِ مِنْ أَصْحَابِهِمْ أَوْ كُبَرَاءِ قَبِيلَتِهِمْ أَوْ مَنْ حَضَرَ احْتِضَارَ الْمُوصِي أَوْ مَنْ كَانَ أَوْدَعَ
عِنْدَ الْمُوصِي خَبَرَ عَزْمِهِ. فَقَدْ أَوْصَى نِزَارُ بْنُ مَعَدٍّ وَصِيَّةً مُوجَزَةً وَأَحَالَ أَبْنَاءَهُ عَلَى الْأَفْعَى الْجُرْهُمِيِّ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ تَفْصِيلَ مُرَادِهُ مِنْهَا.
وَقَدْ حَدَثَتْ فِي آخِرِ حَيَاةِ الرَّسُولِ- عليه الصلاة والسلام حَادِثَةٌ كَانَتْ سَبَبًا فِي نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَلَعَلَّ حُدُوثَهَا كَانَ مُقَارِنًا لِنُزُولِ الْآيِ الَّتِي قَبْلَهَا فَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَقِبَهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنَ السُّورَةِ. ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ نَزَلَتْ قَضِيَّةٌ: هِيَ أَنَّ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا تَمِيمٌ الدَّارِيُّ اللَّخْمِيُّ وَالْآخَرُ عَدِيُّ بْنُ بَدَّاءٍ، كَانَا مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ تَاجِرَيْنِ، وَهُمَا مِنْ أَهْلِ (دَارَيْنِ) وَكَانَا يَتَّجِرَانِ بَيْنَ الشَّامِ وَمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. فَخَرَجَ مَعَهُمَا مِنَ الْمَدِينَةِ بُدَيْلُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ مَوْلَى بَنِي سَهْمٍ- وَكَانَ مُسْلِمًا- بِتِجَارَةٍ إِلَى الشَّامِ، فَمَرِضَ بُدَيْلٌ (قِيلَ فِي الشَّامِ وَقِيلَ فِي الطَّرِيقِ بَرًّا أَوْ بَحْرًا) وَكَانَ مَعَهُ فِي أَمْتِعَتِهِ جَامٌ مِنْ فِضَّةٍ مُخَوَّصٌ بِالذَّهَبِ قَاصِدًا بِهِ مَلِكَ الشَّامِ، فَلَمَّا اشْتَدَّ مَرَضُهُ أَخَذَ صَحِيفَةً فَكَتَبَ فِيهَا مَا عِنْدَهُ مِنَ الْمَتَاعِ وَالْمَالِ وَدَسَّهَا فِي مَطَاوِي أَمْتِعَتِهِ وَدَفَعَ مَا مَعَهُ إِلَى تَمِيمٍ وَعَدِيٍّ وَأَوْصَاهُمَا بِأَنْ يُبَلِّغَاهُ مَوَالِيهِ مِنْ بَنِي سَهْمٍ. وَكَانَ بُدَيْلٌ مَوْلًى لِلْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ، فَوَلَاؤُهُ بعد مَوته لِابْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي. وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ يَقُولُ: إِنَّ وَلَاءَ بُدَيْلٍ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِي وَالْمُطَّلِبِ بْنِ وَدَاعَةَ.
وَيُؤَيِّدُ قَوْلَهُمْ أَنَّ الْمُطَّلِبَ حَلَفَ مَعَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي عَلَى أَنَّ الْجَامَ لِبُدَيْلِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ.
فَلَمَّا رَجَعَا بَاعَا الْجَامَ بِمَكَّةَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَرَجَعَا إِلَى الْمَدِينَةِ فَدَفَعَا مَا لِبُدَيْلٍ إِلَى مَوَالِيهِ. فَلَمَّا نَشَرُوهُ وَجَدُوا الصَّحِيفَةَ، فَقَالُوا لِتَمِيمٍ وَعَدِيٍّ: أَيْنَ الْجَامُ فَأَنْكَرَا أَنْ يَكُونَ دَفَعَ إِلَيْهِمَا جَامًا.
ثُمَّ وُجِدَ الْجَامُ بَعْدَ مُدَّةٍ يُبَاعُ بِمَكَّةَ فَقَامَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِي وَالْمُطَّلِبُ بْنُ أَبِي وَدَاعَةَ عَلَى الَّذِي عِنْدَهُ الْجَامُ فَقَالَ: إِنَّهُ ابْتَاعَهُ مِنْ تَمِيمٍ وَعَدِيٍّ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ تَمِيمًا لَمَّا أَسْلَمَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ تَأَثَّمَ مِمَّا صَنَعَ فَأَخْبَرَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِي بِخَبَرِ الْجَامِ وَدَفَعَ لَهُ الْخَمْسَمِائَةِ الدِّرْهَمِ الصَّائِرَةِ إِلَيْهِ مِنْ ثَمَنِهِ، وَطَالَبَ عَمْرُو عَدِيًّا بِبَقِيَّةِ الثَّمَنِ فَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ بَاعَهُ. وَهَذَا أَمْثَلُ مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَدْ سَاقَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا فِي كِتَابِ الْوَصَايَا. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ، وَقَالَ: لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِصَحِيحٍ. وَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَسْتَوْفِ شُرُوطَ
الصِّحَّةِ فَقَدِ اشْتُهِرَ وَتُلُقِّيَ بِالْقَبُولِ، وَقَدْ أَسْنَدَهُ الْبُخَارِيُّ فِي «تَارِيخِهِ» .
وَاتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ عَلَى أنّ الْفَرِيقَيْنِ تفاضوا فِي ذَلِكَ إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ، فَحَلَفَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِي وَالْمُطَّلِبُ بْنُ أَبِي وَدَاعَةَ عَلَى أَنَّ تَمِيمًا وَعَدِيًّا أَخْفَيَا الْجَامَ وَأَنَّ بُدَيْلًا صَاحِبُهُ وَمَا بَاعَهُ وَلَا خَرَجَ مِنْ يَدِهِ. وَدَفَعَ لَهُمَا عَدِيٌّ خَمْسَمِائَةَ دِرْهَمٍ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ نَصْرَانِيٌّ. وَعَدِيٌّ هَذَا قِيلَ: أَسْلَمَ، وَعَدَّهُ ابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ مَنْدَهْ فِي عِدَادِ الصَّحَابَةِ، وَقِيلَ: مَاتَ نَصْرَانِيًّا، وَرَجَّحَ ذَلِكَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي نُعَيْمٍ، وَيُرْوَى عَنْ مُقَاتِلٍ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الصَّحَابَةِ. وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ نُزُولُهَا قَبْلَ التَّرَافُعِ بَيْنَ الْخَصْمِ فِي قَضِيَّةِ الْجَامِ، وَأَنْ يَكُونَ نُزُولُهَا بَعْدَ قَضَاء النبيء صلى الله عليه وسلم فِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ لِتَكُونَ تَشْرِيعًا لِمَا يَحْدُثُ مِنْ أَمْثَالِ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ.
وبَيْنِكُمْ أَصْلُ (بَيْنَ) اسْمُ مَكَانٍ مُبْهَمٍ مُتَوَسِّطٍ بَيْنَ شَيْئَيْنِ يُبَيِّنُهُ مَا يُضَافُ هُوَ إِلَيْهِ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الْأَمْرِ الْمُتَعَلِّقِ بِعِدَّةِ أَشْيَاءَ، وَهُوَ مَجْرُورٌ بِإِضَافَةِ شَهادَةُ إِلَيْهِ عَلَى الِاتِّسَاعِ. وَأَصْلُهُ (شَهَادَةٌ) بِالتَّنْوِينِ وَالرَّفْعِ «بَيْنَكُمْ» بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. فَخَرَجَ (بَيْنَ) عَنِ الظَّرْفِيَّةِ إِلَى مُطْلَقِ الِاسْمِيَّةِ كَمَا خَرَجَ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الْأَنْعَام: 94] فِي قِرَاءَةِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعَشَرَةِ بِرَفْعِ بَيْنِكُمْ.
وَارْتَفَعَ شَهادَةُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ اثْنانِ. وإِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ظَرْفُ زَمَانٍ مُسْتَقْبَلٌ. وَلَيْسَ فِي (إِذَا) مَعْنَى الشَّرْطِ، وَالظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِ شَهادَةُ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ، أَيْ لِيُشْهِدْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ اثْنَانِ، يَعْنِي يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُشْهِدَ بِذَلِكَ وَيَجِبُ عَلَيْهِمَا أَنْ يَشْهَدَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا [الْبَقَرَة: 282] .
وحِينَ الْوَصِيَّةِ بَدَلٌ مِنْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ بَدَلًا مُطَابِقًا، فَإِنَّ حِينَ حُضُورِ الْمَوْتِ هُوَ الْحِينُ الَّذِي يُوصِي فِيهِ النَّاسُ غَالِبًا. جِيءَ بِهَذَا الظَّرْفِ الثَّانِي لِيُتَخَلَّصَ بِهَذَا الْبَدَلِ إِلَى الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْوَصِيَّةُ.
وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ إِذَا رَأَوْا عَلَامَةَ الْمَوْتِ عَلَى الْمَرِيضِ يَقُولُونَ: أَوْصِ، وَقَدْ قَالُوا ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ أَخْبَرَ الطَّبِيبُ أَنَّ جُرْحَهُ فِي أَمْعَائِهِ. وَمَعْنَى حُضُورِ الْمَوْتِ حُضُورُ عَلَامَاتِهِ لِأَنَّ تِلْكَ حَالَةٌ يَتَخَيَّلُ فِيهَا الْمَرْءُ أَنَّ الْمَوْتَ قَدْ حَضَرَ عِنْدَهُ لِيُصَيِّرَهُ مَيِّتًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ حُصُولَ الْغَرْغَرَةِ لِأَنَّ مَا طُلِبَ مِنَ الْمُوصِي
أَنْ يَعْمَلَهُ يَسْتَدْعِي وَقْتًا طَوِيلًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [180] .
وَقَوْلُهُ: اثْنانِ خَبَرٌ عَنْ شَهادَةُ، أَيْ الشَّهَادَةُ عَلَى الْوَصِيَّةِ شَهَادَةُ اثْنَيْنِ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ فَأَخَذَ إِعْرَابَهُ، وَالْقَرِينَةُ وَاضِحَةٌ وَالْمَقْصُود الإيجاز.
فَمَا صدق اثْنانِ شَاهِدَانِ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ شَهادَةُ بَيْنِكُمْ، وَقَوْلِهِ: ذَوا عَدْلٍ. وَهَذَانِ الشَّاهِدَانِ هُمَا وَصِيَّانِ مِنَ الْمَيِّتِ عَلَى صِفَةِ وَصِيَّتِهِ وَإِبْلَاغِهَا، إِلَّا أَنْ يَجْعَلَ الْمُوصِي وَصِيًّا غَيْرَهُمَا فَيَكُونَا شَاهِدَيْنِ عَلَى ذَلِكَ. وَالْعَدْلُ وَالْعَدَالَةُ مُتَّحِدَانِ، أَيْ صَاحِبَا اتِّصَافٍ بِالْعَدَالَةِ.
وَمَعْنَى مِنْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْخِطَابِ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ إِذَا خَاطَبَ مُخَاطَبَهُ بِوَصْفٍ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى بَعْضِهِ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الْوَصْفِ، كَمَا قَالَ الْأَنْصَارُ يَوْمَ السَّقِيفَةِ: مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ. فَالْكَلَامُ عَلَى وَصِيَّةِ الْمُؤْمِنِينَ. وَعَلَى هَذَا دَرَجَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَقَتَادَةَ، وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. وَهُوَ الَّذِي يَجِبُ التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْوَصْفِ بِكَلِمَةِ مِنْكُمْ فِي مَوَاقِعِهَا فِي الْقُرْآنِ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ: مَعْنَى قَوْلِهِ مِنْكُمْ مِنْ عَشِيرَتِكُمْ وَقَرَابَتِكُمْ.
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى مُقَابِلِهِ وَهُوَ مِنْ غَيْرِكُمْ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ. فَذَهَبَ فَرِيقٌ مِمَّنْ قَالُوا بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ إِلَى إِعْمَالِ هَذَا وَأَجَازُوا شَهَادَةَ غَيْرِ الْمُسْلِمِ فِي السَّفَرِ فِي الْوَصِيَّةِ خَاصَّةً، وَخَصُّوا ذَلِكَ بِالذِّمِّيِّ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَنُسِبَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي مُوسَى. وَذَهَبَ فَرِيقٌ إِلَى أَنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطَّلَاق: 2] ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَنُسِبَ إِلَى زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ. وَقَدْ تَمَّ الْكَلَامُ عَلَى الصُّورَةِ الْكَامِلَةِ فِي شَهَادَةِ الْوَصِيَّةِ بِقَوْلِهِ: ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ.
وَقَوْلُهُ: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ الْآيَاتِ.. تَفْصِيلٌ لِلْحَالَةِ الَّتِي تَعْرِضُ فِي السَّفَرِ.
وَ (أَوْ) لِلتَّقْسِيمِ لَا لِلتَّخْيِيرِ، وَالتَّقْسِيمُ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ: حَالِ الْحَاضِرِ وَحَالِ الْمُسَافِرِ، وَلِذَلِكَ اقْتَرَنَ بِهِ قَوْلُهُ: إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ، فَهُوَ قَيْدٌ لِقَوْلِهِ: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ.
وَجَوَابُ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَشَهَادَةُ آخَرَيْنِ مِنْ غَيْرِكُمْ، فَالْمَصِيرُ إِلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ. وَالضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ: السَّيْرُ فِيهَا. وَالْمُرَادُ بِهِ السَّفَرُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ
تَعَالَى: وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [156] .
وَمَعْنَى: فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ حَلَّتْ بِكُمْ، وَالْفِعْلُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْمُشَارَفَةِ وَالْمُقَارَبَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً [النِّسَاء: 9]، أَيْ لَوْ شَارَفُوا أَنْ يَتْرُكُوا ذُرِّيَّةً. وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْأَفْعَالِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الْإِقَامَةِ:
قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ.
وَعَطَفَ قَوْلَهُ فَأَصابَتْكُمْ عَلَى ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ، فَكَانَ مِنْ مَضْمُونِ قَوْلِهِ قَبْلَهُ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ. أُعِيدَ هُنَا لِرَبْطِ الْكَلَامِ بَعْدَ مَا فُصِلَ بَيْنَهُ مِنَ الظُّرُوفِ وَالشُّرُوطِ. وَضَمِيرُ الْجمع فِي فَأَصابَتْكُمْ كَضَمِيرِ الْجَمْعِ فِي ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ.
وَالْمُصِيبَةُ: الْحَادِثَةُ الَّتِي تَحِلُّ بِالْمَرْءِ مِنْ شَرٍّ وَضُرٍّ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [72] .
وَجُمْلَةُ تَحْبِسُونَهُما حَالٌ مِنْ آخَرانِ عِنْدَ مَنْ جَعَلَ قَوْلَهُ مِنْ غَيْرِكُمْ
بِمَعْنَى مِنْ غَيْرِ أَهْلِ دِينِكُمْ. وَأَمَّا عِنْدَ مَنْ جَعَلَهُ بِمَعْنَى مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِكُمْ فَإِنَّهُ حَالٌ مِنَ اثْنانِ وَمِنْ آخَرانِ لِأَنَّهُمَا مُتَعَاطِفَانِ بِ (أَوْ) . فَهُمَا أَحَدُ قِسْمَيْنِ، وَيَكُونُ التَّحْلِيفُ عِنْدَ الِاسْتِرَابَةِ.
وَالتَّحْلِيفُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ بَعِيدٌ إِذْ لَا مُوجِبَ لِلِاسْتِرَابَةِ فِي عَدْلَيْنِ مُسْلِمَيْنِ.
وَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي تَحْبِسُونَهُما كضميري ضَرَبْتُمْ- وفَأَصابَتْكُمْ. وَكُلُّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْجَمْعِ الْبَدَلِيِّ دُونَ الشُّمُولِيِّ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْمُخَاطَبِينَ صَالِحُونَ لِأَنْ يَعْتَرِيهِمْ هَذَا الْحُكْمُ وَإِنَّمَا يَحِلُّ بِبَعْضِهِمْ. فَضَمَائِرُ جَمْعِ الْمُخَاطَبِينَ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ كُلُّهَا. وَإِنَّمَا جَاءَتْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ، دَفْعًا لِأَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ هَذَا التَّشْرِيعَ خَاصٌّ بِشَخْصَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ لِأَنَّ قَضِيَّةَ سَبَبِ النُّزُولِ كَانَتْ فِي شَخْصَيْنِ أَوِ الْخِطَابُ وَالْجَمْعُ لِلْمُسْلِمِينَ وَحُكَّامِهِمْ.
وَالْحَبْسُ: الْإِمْسَاكُ، أَيِ الْمَنْعُ مِنَ الِانْصِرَافِ. فَمِنْهُ مَا هُوَ بِإِكْرَاهٍ كَحَبْسِ الْجَانِي فِي بَيْتٍ أَوْ إِثْقَافِهِ فِي قَيْدٍ. وَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ، كَمَا فِي حَدِيثِ عَتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ فَغَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ وَأَبُو بَكْرٍ- إِلَى أَنْ قَالَ- وَحَبَسْنَاهُ عَلَى خَزِيرٍ صَنَعْنَاهُ، أَيْ أَمْسَكْنَاهُ. وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ، أَيْ تُمْسِكُونَهُمَا وَلَا تَتْرُكُونَهُمَا يُغَادِرَانِكُمْ حَتَّى يَتَحَمَّلَا الْوَصِيَّةَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ السِّجْنَ أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ [الْبَقَرَة: 282] .
وَقَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ تَوْقِيتٌ لِإِحْضَارِهِمَا وَإِمْسَاكِهِمَا لِأَدَاءِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ.
وَالْإِتْيَانِ بِ (مِنْ) الِابْتِدَائِيَّةِ لِتَقْرِيبِ الْبَعْدِيَّةِ، أَيْ قُرْبِ انْتِهَاءِ الصَّلَاةِ. وَتَحْتَمِلُ الْآيَةُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ صَلَاةٌ مِنْ صَلَوَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ. وَرُوِيَ أنّ النبيء صلى الله عليه وسلم أَحْلَفَ تَمِيمًا الدَّارِيَّ وَعَدِيَّ بْنَ بَدَّاءٍ فِي قَضِيَّةِ الْجَامِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ، وَسَعِيدٍ، وَشُرَيْحٍ، وَالشَّعْبِيِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ:
الظُّهْرُ، وَهُوَ عَنِ الْحَسَنِ. وَتَحْتَمِلُ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ دِينِهِمَا عَلَى تَأْوِيلِ مِنْ غَيْرِكُمْ بِمَعْنَى
مِنْ غَيْرِ أَهْلِ دِينِكُمْ. وَنُقِلَ عَنِ السُّدِّيِّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، أَيْ تُحْضِرُونَهُمَا عَقِبَ أَدَائِهِمَا صَلَاتَهُمَا لِأَنَّ ذَلِكَ قَرِيبٌ مِنْ إِقْبَالِهِمَا عَلَى خَشْيَةِ اللَّهِ وَالْوُقُوفِ لِعِبَادَتِهِ.
وَقَوْلُهُ: فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ عُطِفَ عَلَى تَحْبِسُونَهُما فَعُلِمَ أَنَّ حَبْسَهُمَا بَعْدَ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ أَنْ يُقْسِمَا بِاللَّه. وَضمير فَيُقْسِمانِ عَائِدٌ إِلَى قَوْلِهِ آخَرانِ. فَالْحَلِفُ يُحَلِّفُهُ شَاهِدَا الْوَصِيَّةِ اللَّذَانِ هُمَا غَيْرُ مُسْلِمَيْنِ لِزِيَادَةِ الثِّقَةِ بِشَهَادَتِهِمَا لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِعَدَالَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ.
وَقَوْلُهُ إِنِ ارْتَبْتُمْ تَظَافَرَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا شَرْطٌ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ تَحْبِسُونَهُما وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ. وَاسْتُغْنِيَ عَنْ جَوَابِ الشَّرْطِ لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ لِيَتَأَتَّى الْإِيجَازُ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقَدِّمْ لِقِيلَ: أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ فَإِنِ ارْتَبْتُمْ فِيهِمَا تَحْبِسُونَهُمَا إِلَى آخِرِهِ. فَيَقْتَضِي هَذَا التَّفْسِيرُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ تَحْصُلِ الرِّيبَةُ فِي صِدْقِهِمَا لَمَا لَزِمَ إِحْضَارُهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ وَقَسَمُهُمَا، فَصَارَ ذَلِكَ مَوْكُولًا لِخِيرَةِ الْوَلِيِّ. وَجُمْلَةُ الشَّرْطِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ فِعْلِ الْقَسَمِ وَجَوَابِهِ.
وَالْوَجْهُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ إِنِ ارْتَبْتُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْكَلَامِ الَّذِي يَقُولُهُ الشَّاهِدَانِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ يَقُولَانِ: إِنِ ارْتَبْتُمْ فِي شَهَادَتِنَا فَنَحْنُ نُقْسِمُ بِاللَّهِ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ الشَّهَادَةَ، أَيْ يَقُولَانِ ذَلِكَ لِاطْمِئْنَانِ نَفْسِ الْمُوصِي، لِأَنَّ الْعَدَالَةَ مَظَنَّةُ الصِّدْقِ مَعَ احْتِمَالِ وُجُودِ مَا يُنَافِيهَا مِمَّا لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ فَأُكِّدَتْ مَظَنَّةُ الصِّدْقِ بِالْحَلِفِ فَيَكُونُ شَرْعُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى كُلِّ شَاهِدٍ لِيَسْتَوِيَ فِيهِ جَمِيعُ الْأَحْوَالِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ تَوْجِيهُ الْيَمِينِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ حَرَجًا على الشَّاهِدين الَّذين تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِمَا الْيَمِينُ مِنْ أَنَّ الْيَمِينَ تَعْرِيضٌ بِالشَّكِّ فِي صِدْقِهِمَا، فَكَانَ فَرْضُ الْيَمِينِ مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ دَافِعًا لِلتَّحَرُّجِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْوَلِيِّ، لِأَنَّ فِي كَوْنِ الْيَمِينِ شَرْطًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مَعْذِرَةً فِي الْمُطَالَبَةِ بِهَا، كَمَا قَالَ جُمْهُورُ فُقَهَائِنَا فِي يَمِينِ الْقَضَاءِ الَّتِي تَتَوَجَّهُ عَلَى مَنْ يُثْبِتُ حَقًّا عَلَى مَيِّتٍ أَوْ غَائِبٍ مِنْ أَنَّهَا لَازِمَةٌ قَبْلَ الْحُكْمِ مُطْلَقًا وَلَوْ أَسْقَطَهَا الْوَارِثُ الرَّشِيدُ. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى مَنْ عَرَّجَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى
مِنَ الْمُفَسِّرِينَ
إِلَّا قَوْلَ الْكَوَاشِيِّ فِي «تَلْخِيصِ التَّفْسِيرِ» : «وَبَعْضُهُمْ يقف على فَيُقْسِمانِ ويبتدىء بِاللَّهِ قَسَمًا وَلَا أُحِبُّهُ» ، وَإِلَّا مَا حَكَاهُ الصَّفَاقُسِيُّ فِي «مُعْرَبِهِ» عَنِ الْجُرْجَانِيِّ «أَنَّ هُنَا قَوْلًا مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ وَيَقُولَانِ» . وَلَمْ يَظْهَرْ لِلصَّفَاقُسِيِّ مَا الَّذِي دَعَا الْجُرْجَانِيَّ لِتَقْدِيرِ هَذَا الْقَوْلِ. وَلَا أَرَاهُ حَمَلَهُ عَلَيْهِ إِلَّا جَعْلُ قَوْلِهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ مِنْ كَلَامِ الشَّاهِدَيْنِ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ جَوَابُ الْقَسَمِ، فَإِنَّ الْقَسَمَ أَوْلَى بِالْجَوَابِ لِأَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى الشَّرْطِ.
وَقَوْلُهُ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً إِلَخْ، ذَلِكَ هُوَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ. وَمَعْنَى لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً لَا نَعْتَاضُ بِالْأَمْرِ الَّذِي أَقْسَمْنَا عَلَيْهِ ثَمَنًا، أَيْ عِوَضًا، فَضَمِيرُ بِهِ، عَائِدٌ إِلَى الْقَسَمِ الْمَفْهُوم من فَيُقْسِمانِ. وَقَدْ أَفَادَ تَنْكِيرُ ثَمَناً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ عُمُومَ كُلِّ ثَمَنٍ. وَالْمُرَادُ بِالثَّمَنِ الْعِوَضُ، أَيْ لَا نُبَدِّلُ مَا أَقْسَمْنَا عَلَيْهِ بِعِوَضٍ كَائِنًا مَا كَانَ الْعِوَضُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ بِهِ عَائِدًا إِلَى الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَا اسْتَشْهَدَا عَلَيْهِ مِنْ صِيغَةِ الْوَصِيِّ بِجَمِيعِ مَا فِيهَا.
وَقَوْلُهُ: وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى حَالٌ مِنْ قَوْلِهِ ثَمَناً الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْعِوَضِ، أَيْ وَلَوْ كَانَ الْعِوَضُ ذَا قُرْبَى، أَيْ ذَا قُرْبَى مِنَّا، وَ «لَوْ» شَرْطٌ يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ فَإِذَا كَانَ ذَا الْقُرْبَى لَا يَرْضِيَانِهِ عِوَضًا عَنْ تَبْدِيلِ شَهَادَتِهِمَا فَأَوْلَى مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ. وَذَلِكَ أَنَّ أَعْظَمَ مَا يَدْفَعُ الْمَرْءَ إِلَى الْحَيْفِ فِي عُرْفِ الْقَبَائِلِ هُوَ الْحَمِيَّةُ وَالنُّصْرَةُ لِلْقَرِيبِ، فَذَلِكَ تَصْغُرُ دُونَهُ الرُّشَى وَمَنَافِعُ الذَّاتِ. وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي كانَ عَائِدٌ إِلَى قَوْلِهِ ثَمَناً. وَمَعْنَى كَوْنِ الثَّمَنِ، أَيِ الْعِوَضِ، ذَا قُرْبَى أَنَّهُ إِرْضَاءُ ذِي الْقُرْبَى وَنَفْعُهُ فَالْكَلَامُ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، وَهُوَ مِنْ دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِجَعْلِ الْعِوَضِ ذَاتَ ذِي الْقُرْبَى، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ شَيْءٌ مِنْ عَلَائِقِهِ يُعَيِّنُهُ الْمَقَامُ. وَنَظِيرُهُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النِّسَاء: 23] . وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ دَلَالَةِ مِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ بِ (لَوْ) وَتَسْمِيَتُهَا
وَصْلِيَّةً عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوِ افْتَدى بِهِ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [91] .
وَقَوْلُهُ وَلا نَكْتُمُ عُطِفَ عَلَى لَا نَشْتَرِي، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إِحْلَافِهِمَا أَنْ يُؤَدِّيَا الشَّهَادَةَ كَمَا تَلَقَّيَاهَا فَلَا يُغَيِّرَا شَيْئًا مِنْهَا وَلَا يَكْتُمَاهَا أَصْلًا.
وَإِضَافَةُ الشَّهَادَةِ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ تَعْظِيمٌ لخطرها عِنْد الشَّهَادَة وَغَيْرِهِ لِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَمَرَ بِأَدَائِهَا كَمَا هِيَ وَحَضَّ عَلَيْهَا أَضَافَهَا إِلَى اسْمِهِ حِفْظًا لَهَا مِنَ التَّغْيِيرِ، فَالتَّصْرِيحُ بِاسْمِهِ تَعَالَى تَذْكِيرٌ لِلشَّاهِدِ بِهِ حِينَ الْقَسَمِ.
وَفِي قَوْلِهِ وَلا نَكْتُمُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّهَادَةِ هُنَا مَعْنَاهَا الْمُتَعَارَفُ، وَهُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ أَمْرٍ خَاصٍّ يَعْرِضُ فِي مِثْلِهِ التَّرَافُعُ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا الْيَمِينَ كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فَلَا نُطِيلُ بِرَدِّهِ فَقَدْ رَدَّهُ اللَّفْظُ.
وَجُمْلَةُ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّهَا جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ بِدَلِيلِ وُجُودِ إِذا، فَإِنَّهُ حَرْفُ جَوَابٍ: اسْتَشْعَرَ الشَّاهِدَانِ سُؤَالًا مِنَ الَّذِي حَلَفَا لَهُ بِقَوْلِهِمَا: لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ، يَقُولُ فِي نَفْسِهِ: لَعَلَّكُمَا لَا تَبِرَّانِ بِمَا أَقْسَمْتُمَا عَلَيْهِ، فأجابا: إنّا إِذن لَمِنَ الْآثِمِينَ، أَيْ إِنَّا نَعْلَمُ تَبِعَةَ عَدَمِ الْبِرِّ بِمَا أَقْسَمْنَا عَلَيْهِ أَنْ نَكُونَ مِنَ الْآثِمِينَ، أَيْ وَلَا نَرْضَى بِذَلِكَ.
وَالْآثِمُ: مُرْتَكِبُ الْإِثْمِ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْإِثْمَ هُوَ الْحِنْثُ بِوُقُوعِ الْجُمْلَةِ استئنافا مَعَ «إِذن» الدَّالَّةِ عَلَى جَوَابِ كَلَامٍ يَخْتَلِجُ فِي نَفْسِ أَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ الْآيَةَ، أَيْ إِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمَا كَتَمَا أَوْ بَدَّلَا وَحَنَثَا فِي يَمِينِهِمَا، بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمَا، لِأَنَّ قَوْلَهُ فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما فَرْعٌ عَنْ بُطْلَانِ شَهَادَتِهِمَا، فَحَذَفَ مَا يُعَبِّرُ عَنْ بُطْلَانِ شَهَادَتِهِمَا إِيجَازًا كَقَوْلِهِ: اضْرِبْ (1) بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً [الْبَقَرَة: 60] أَيْ فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ.
(1) فِي المطبوعة: (أَن اضْرِب بعصاك
…
) الْمُوَافقَة لِلْآيَةِ: 160 من الْأَعْرَاف، والمثبت هُوَ الْمُوَافق للشرح وَالله أعلم.
وَمَعْنَى عُثِرَ اطَّلَعَ وَتَبَيَّنَ ذَلِكَ، وَأَصْلُ فِعْلِ عَثَرَ أَنَّهُ مُصَادَفَةُ رِجْلِ الْمَاشِي جِسْمًا نَاتِئًا فِي الْأَرْضِ لَمْ يَتَرَقَّبْهُ وَلَمْ يَحْذَرْ مِنْهُ فَيَخْتَلُّ بِهِ انْدِفَاعُ مَشْيِهِ، فَقَدْ يَسْقُطُ وَقَدْ يَتَزَلْزَلُ.
وَمَصْدَرُهُ الْعِثَارُ وَالْعُثُورُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الظَّفَرِ بِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ مُتَرَقَّبًا الظَّفَرُ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ. وَشَاعَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ كَالْحَقِيقَةِ، فَخَصُّوا فِي الِاسْتِعْمَالِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ بِأَحَدِ الْمَصْدَرَيْنِ وَهُوَ الْعِثَارُ، وَخَصُّوا الْمَعْنَى الْمَجَازِيَّ بِالْمَصْدَرِ الْآخَرِ، وَهُوَ الْعُثُورُ.
وَمَعْنَى اسْتَحَقَّا إِثْماً ثَبَتَ أَنَّهُمَا ارْتَكَبَا مَا يَأْثَمَانِ بِهِ، فَقَدْ حُقَّ عَلَيْهِمَا الْإِثْمُ، أَيْ وَقَعَ عَلَيْهِمَا، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلتَّأْكِيدِ. وَالْمُرَادُ بِالْإِثْمِ هُوَ الَّذِي تَبَرَّءَا مِنْهُ فِي قَوْلِهِ: لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ. فَالْإِثْمُ هُوَ أَحَدُ هَذَيْنِ بِأَنْ يَظْهَرَ أَنَّهُمَا اسْتَبْدَلَا بِمَا اسْتُؤْمِنَا عَلَيْهِ عِوَضًا لِأَنْفُسِهِمَا أَوْ لِغَيْرِهِمَا، أَوْ بِأَنْ يَظْهَرَ أَنَّهُمَا كَتَمَا الشَّهَادَةَ، أَيْ بَعْضَهَا. وَحَاصِلُ الْإِثْمِ أَنْ يَتَّضِحَ مَا يَقْدَحُ فِي صِدْقِهِمَا بِمُوجِبِ الثُّبُوتِ.
وَقَوْلُهُ فَآخَرانِ أَيْ رَجُلَانِ آخَرَانِ، لِأَنَّ وَصْفَ آخَرَ يُطْلَقُ عَلَى الْمُغَايِرِ بِالذَّاتِ أَوْ بِالْوَصْفِ مَعَ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْجِنْسِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُ، وَالْمُتَحَدَّثُ عَنْهُ هُنَا اثْنانِ. فَالْمَعْنَى فَاثْنَانِ آخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا فِي إِثْبَاتِ الْوَصِيَّةِ. وَمَعْنَى يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا، أَيْ يُعَوِّضَانِ تِلْكَ الشَّهَادَةَ. فَإِنَّ الْمَقَامَ هُوَ مَحَلُّ الْقِيَامِ، ثُمَّ يُرَادُ بِهِ مَحَلُّ عَمَلٍ مَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قِيَامٌ، ثُمَّ يُرَادُ بِهِ الْعَمَلُ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقَعَ فِي مَحَلٍّ يَقُومُ فِيهِ الْعَامِلُ، وَذَلِكَ فِي الْعَمَلِ الْمُهِمِّ.
قَالَ تَعَالَى: إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي [يُونُس: 71] . فَمَقَامُ الشَّاهِدَيْنِ هُوَ إِثْبَاتُ الْوَصِيَّةِ. ومِنَ فِي قَوْلِهِ: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ تَبْعِيضِيَّةٌ، أَيْ شَخْصَانِ آخَرَانِ يَكُونَانِ مِنَ الْجَمَاعَةِ مِنَ الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمْ.
وَالِاسْتِحْقَاقُ كَوْنُ الشَّيْءِ حَقِيقًا بِشَيْءٍ آخَرَ، فَيَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ بِنَفْسِهِ، كَقَوْلِهِ:
اسْتَحَقَّا إِثْماً، وَهُوَ الشَّيْءُ الْمُسْتَحَقُّ. وَإِذَا كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ عَنْ نِزَاعٍ يُعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى المحقوق بعلى الدَّالَّةِ عَلَى الِاسْتِعْلَاءِ بِمَعْنَى اللُّزُومِ لَهُ وَإِنْ كُرِهَ، كَأَنَّهُمْ ضَمَّنُوهُ مَعْنَى
وَجَبَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَقِيقٌ عَلى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ [الْأَعْرَاف: 105] . وَيُقَالُ:
اسْتَحَقَّ زَيْدٌ عَلَى عَمْرٍو كَذَا، أَيْ وَجَبَ لِزَيْدٍ حَقٌّ عَلَى عَمْرٍو، فَأَخَذَهُ مِنْهُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ فَالْفَاعِلُ الْمَحْذُوفُ فِي قَوْلِهِ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ هُوَ مُسْتَحِقٌّ مَا، وَهُوَ الَّذِي انْتَفَعَ بِالشَّهَادَةِ وَالْيَمِينِ الْبَاطِلَةِ، فَنَالَ مِنْ تَرِكَةِ الْمُوصِي مَا لَمْ يَجْعَلْهُ لَهُ الْمُوصِي وَغَلَبَ وَارِثَ الْمُوصِي بِذَلِكَ. فَالَّذِينَ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمْ هُمْ أَوْلِيَاءُ الْمُوصِي الَّذِينَ لَهُمْ مَالُهُ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْإِرْثِ فَحُرِمُوا بَعْضَهُ. وَقَوْلُهُ عَلَيْهِمُ قَائِمٌ مَقَامَ نَائِبِ فَاعِلِ اسْتَحَقَّ.
وَقَوْلُهُ: الْأَوْلَيانِ تَثْنِيَةُ أَوْلَى، وَهُوَ الْأَجْدَرُ وَالْأَحَقُّ، أَيِ الْأَجْدَرَانِ بِقبُول قَوْلهمَا.
فَمَا صدقه هُوَ مَا صدق الْآخَرَانِ وَمَرْجِعُهُ إِلَيْهِ فَيَجُوزُ، أَنْ يُجْعَلَ خَبرا عَن فَآخَرانِ، فإنّ فَآخَرانِ لَمَّا وُصِفَ بِجُمْلَةِ يَقُومانِ مَقامَهُما صَحَّ الِابْتِدَاءُ بِهِ، أَيْ فَشَخْصَانِ آخَرَانِ هُمَا الْأَوْلَيَانِ بِقَبُولِ قَوْلِهِمَا دُونَ الشَّاهِدَيْنِ الْمُتَّهَمَيْنِ. وَإِنَّمَا عُرِّفَ بِاللَّامِ لِأَنَّهُ مَعْهُودٌ لِلْمُخَاطَبِ ذِهْنًا لِأَنَّ السَّامِعَ إِذَا سَمِعَ قَوْلَهُ: فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً تَرَقَّبَ أَنْ يَعْرِفَ مَنْ هُوَ الْأَوْلَى بِقَبُولِ قَوْلِهِ فِي هَذَا الشَّأْنِ، فَقِيلَ لَهُ: آخَرَانِ هُمَا الْأَوْلَيَانِ بِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَوْلَيانِ مُبْتَدأ وفَآخَرانِ يَقُومانِ خَبَرَهُ. وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ لِتَعْجِيلِ الْفَائِدَةِ، لِأَنَّ السَّامِعَ يَتَرَقَّبُ الْحُكْمَ بَعْدَ قَوْلِهِ: فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَإِنَّ ذَلِكَ الْعُثُورَ عَلَى كَذِبِ الشَّاهِدَيْنِ يُسْقِطُ شَهَادَتَهُمَا وَيَمِينَهُمَا، فَكَيْفَ يَكُونُ الْقَضَاءُ فِي ذَلِكَ، فَعَجَّلَ الْجَوَابَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلا من فَآخَرانِ أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَقُومانِ أَوْ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُمَا الْأَوْلَيَانِ. وَنُكْتَةُ التَّعْرِيف هِيَ هِيَ عَلَى الْوُجُوهِ كُلِّهَا.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَيَعْقُوبَ، وَخَلَفٍ، الْأَوَّلِينَ- بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ مَفْتُوحَةً وَبِكَسْرِ اللَّامِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ- جَمْعَ أَوَّلٍ الَّذِي هُوَ مَجَازٌ بِمَعْنَى الْمُقَدَّمِ وَالْمُبْتَدَأِ بِهِ.
فَالَّذِينَ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمْ هُمْ أَوْلِيَاءُ الْمُوصِي حَيْثُ اسْتَحَقَّ الْمُوصَى لَهُ الْوَصِيَّةَ
مِنْ مَالِ التَّرِكَةِ الَّذِي كَانَ لِلْأَوْلِيَاءِ، أَيِ الْوَرَثَةِ لَوْلَا الْوَصِيَّةُ، وَهُوَ مجرور نعت (للَّذين اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمُ) .
وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ اسْتَحَقَّ- بِصِيغَةِ الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ- فَيَكُونُ الْأَوْلَيانِ هُوَ فَاعِلُ اسْتَحَقَّ، وَقَوْلُهُ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ يَقُومانِ مَقامَهُما.
وَمَعْنَى لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما أَنَّهُمَا أَوْلَى بِأَنْ تُقْبَلَ شَهَادَتُهُمَا مِنَ اللَّذَيْنِ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا. وَمَعْنَى أَحَقُّ أَنَّهَا الْحَقُّ، فَصِيغَةُ التَّفْضِيلِ مَسْلُوبَةُ الْمُفَاضَلَةِ.
وَقَوْلُهُ وَمَا اعْتَدَيْنا تَوْكِيدٌ لِلْأَحَقِّيَّةِ، لِأَنَّ الْأَحَقِّيَّةَ رَاجِعَةٌ إِلَى نَفْعِهِمَا بِإِثْبَاتِ مَا كَتَمَهُ الشَّاهِدَانِ الْأَجْنَبِيَّانِ، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ فِي الْوَاقِعِ لَكَانَتْ بَاطِلًا وَاعْتِدَاءً مِنْهُمَا عَلَى مَالِ مُبَلِّغِي الْوَصِيَّةِ. وَالْمَعْنَى: وَمَا اعْتَدَيْنَا عَلَى الشَّاهِدَيْنِ فِي اتِّهَامِهِمَا بِإِخْفَاءِ بَعْضِ التَّرِكَةِ.
وَقَوْلُهُ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ أَيْ لَوِ اعْتَدَيْنَا لَكُنَّا ظَالِمِينَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الْإِشْعَارُ بِأَنَّهُمَا مُتَذَكِّرَانِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الِاعْتِدَاءِ وَالظُّلْمِ، وَفِي ذَلِكَ زِيَادَةُ وَازِعٍ.
وَقَدْ تَضَمَّنَ الْقَسَمُ عَلَى صِدْقِ خَبَرِهِمَا يَمِينًا عَلَى إِثْبَاتِ حَقِّهِمَا فَهِيَ مِنَ الْيَمِينِ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا الْحَقُّ مَعَ الشَّاهِدِ الْعُرْفِيِّ، وَهُوَ شَاهِدُ التُّهْمَةِ الَّتِي عُثِرَ عَلَيْهَا فِي الشَّاهِدَيْنِ اللَّذَيْنِ يُبَلِّغَانِ الْوَصِيَّةَ.
وَالْكَلَام فِي «إِذن» هُنَا مِثْلُ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ.
وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِنِ اخْتَلَّتْ شَهَادَةُ شَاهِدَيِ الْوَصِيَّةِ انْتُقِلَ إِلَى يَمِينِ الْمُوصَى لَهُ سَوَاءً كَانَ الْمُوصَى لَهُ وَاحِدًا أَمْ مُتَعَدِّدًا. وَإِنَّمَا جَاءَتِ الْآيَةُ بِصِيغَةِ الِاثْنَيْنِ مُرَاعَاةً لِلْقَضِيَّةِ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا، وَهِيَ قَضِيَّةُ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَعَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ، فَإِنَّ وَرَثَةَ صَاحِبِ التَّرِكَةِ كَانَا اثْنَيْنِ هُمَا:
عَمْرُو بْنُ الْعَاصِي وَالْمُطَّلِبُ بْنُ أَبِي وَدَاعَةَ، وَكِلَاهُمَا مِنْ بَنِي سَهْمٍ، وَهُمَا مَوْلَيَا بُدَيْلِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ السَّهْمِيِّ صَاحِبِ الْجَامِ. فَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ يَذْكُرُ أَنَّهُمَا مَوْلَيَا
بُدَيْلِ. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّ مَوْلَاهُ هُوَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِي. وَالظَّاهِرُ مِنْ تَحْلِيفِ الْمُطَّلِبِ ابْن أَبِي وَدَاعَةَ أَنَّ لَهُ وَلَاءً مِنْ بُدَيْلٍ، إِذْ لَا يُعْرَفُ فِي الْإِسْلَامِ أَنْ يَحْلِفَ مَنْ لَا يَنْتَفِعُ بِالْيَمِينِ. فَإِنْ كَانَ صَاحِبُ
الْحَقِّ وَاحِدًا حَلَفَ وَحْدَهُ وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْحَقِّ جَمَاعَةً حَلَفُوا جَمِيعًا وَاسْتَحَقُّوا. وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّهُ إِنْ كَانَ صَاحِبُ الْحَقِّ وَاحِدًا يَحْلِفُ مَعَهُ مَنْ لَيْسَ بِمُسْتَحِقٍّ، وَلَا إِنْ كَانَ صَاحِبُ الْحَقِّ ثَلَاثَةً فَأَكْثَرَ أَنْ يَحْلِفَ اثْنَانِ مِنْهُمْ وَيَسْتَحِقُّونَ كُلُّهُمْ. فَالِاقْتِصَارُ عَلَى اثْنَيْنِ فِي أَيْمَانِ الْأَوْلَيَيْنِ نَاظِرٌ إِلَى قِصَّةِ سَبَبِ النُّزُولِ، فَتَكُونُ الْآيَةُ عَلَى هَذَا خَاصَّةً بِتِلْكَ الْقَضِيَّةِ.
وَيَجْرِي مَا يُخَالِفُ تِلْكَ الْقَضِيَّةَ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الشَّرِيعَةِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَالتُّهَمِ.
وَهَذَا الْقَوْلُ يَقْتَضِي أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ حكم الرَّسُول صلى الله عليه وسلم فِي وَصِيَّةِ بُدَيْلِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ.
وَذَلِكَ ظَاهِرُ بَعْضِ رِوَايَاتِ الْخَبَرِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ أَنْ حَكَمَ الرَّسُولُ- عليه الصلاة والسلام وَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ تَشْرِيعًا لِأَمْثَالِ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ مِمَّا يَحْدُثُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَيَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إِلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْأَوْلَيَيْنِ اثْنَيْنِ إِنْ أَمْكَنَ.
وَبَقِيَتْ صُورَةٌ لَمْ تَشْمَلْهَا الْآيَةُ مِثْلُ أَنْ لَا يَجِدَ الْمُحْتَضِرُ إِلَّا وَاحِدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ وَاحِدًا مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ يَجِدَ اثْنَيْنِ أَحَدُهُمَا مُسْلِمٌ وَالْآخَرُ غَيْرُ مُسْلِمٍ. وَكُلُّ ذَلِكَ يَجْرِي عَلَى أَحْكَامِهِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الْأَحْكَامِ كُلِّهَا مِنْ يَمِينِ مَنْ قَامَ لَهُ شَاهِدٌ أَوْ يَمِينِ الْمُنْكِرِ.
وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: «ذَلِكَ أَدْنَى» إِلَى الْمَذْكُورِ مِنَ الْحُكْمِ مِنْ قَوْلِهِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ- إِلَى قَوْلِهِ- إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ. وأَدْنى بِمَعْنَى أَقْرَبُ، وَالْقُرْبُ هُنَا مَجَازٌ فِي قُرْبِ الْعِلْمِ وَهُوَ الظَّنُّ، أَيْ أَقْوَى إِلَى الظَّنِّ بِالصِّدْقِ.
وَضَمِيرُ يَأْتُوا عَائِدٌ إِلَى «الشُّهَدَاءِ» وَهُمْ: الْآخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ، وَالْآخَرَانِ اللَّذَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا، أَيْ أَنْ يَأْتِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. فَجَمَعَ الضَّمِيرَ عَلَى إِرَادَةِ التَّوْزِيعِ.
وَالْمَعْنَى أَنَّ مَا شَرَعَ اللَّهُ مِنَ التَّوْثِيقِ وَالضَّبْطِ، وَمِنْ رَدِّ الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْعُثُورِ عَلَى
الرِّيبَةِ أَرْجَى إِلَى الظَّنِّ بِحُصُولِ الصِّدْقِ لِكَثْرَةِ مَا ضَبَطَ عَلَى كِلَا الْفَرِيقَيْنِ مِمَّا يَنْفِي الْغَفْلَةَ وَالتَّسَاهُلَ، بَلْهَ الزُّورَ وَالْجَوْرَ مَعَ تَوَقِّي سُوءِ السُّمْعَةِ.
وَمَعْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ: أَنْ يُؤَدُّوا الشَّهَادَةَ. جُعِلَ أَدَاؤُهَا وَالْإِخْبَارُ بِهَا كَالْإِتْيَانِ بِشَيْءٍ مِنْ مَكَانٍ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ عَلى وَجْهِها، أَيْ عَلَى سُنَّتِهَا وَمَا هُوَ مُقَوِّمُ تَمَامِهَا وَكَمَالِهَا، فَاسْمُ الْوَجْهِ فِي مِثْلِ هَذَا مُسْتَعَارٌ لِأَحْسَنِ مَا فِي الشَّيْءِ وَأَكْمَلِهِ تَشْبِيهًا بِوَجْهِ الْإِنْسَانِ، إِذْ هُوَ الْعُضْوُ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ الْمَرْءُ وَيَتَمَيَّزُ عَنْ غَيْرِهِ. وَلَمَّا أُرِيدَ مِنْهُ مَعْنَى الِاسْتِعَارَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى،
وَشَاعَ هَذَا الْمَعْنَى فِي كَلَامِهِمْ، قَالُوا: جَاءَ بِالشَّيْءِ الْفُلَانِيِّ عَلَى وَجْهِهِ، فَجَعَلُوا الشَّيْءَ مَأْتِيًّا بِهِ، وَوَصَفُوهُ بِأَنَّهُ أُتِيَ بِهِ مُتَمَكِّنًا مِنْ وَجْهِهِ، أَيْ مِنْ كَمَالِ أَحْوَالِهِ. فَحَرْفُ (عَلَى) لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّمَكُّنُ، مِثْلُ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] .
وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الْحَال من بِالشَّهادَةِ، وَصَارَ ذَلِكَ قَرِينَةً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْوَجْهِ غَيْرُ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ.
وَسُنَّةُ الشَّهَادَةِ وَكَمَالُهَا هُوَ صِدْقُهَا وَالتَّثَبُّتُ فِيهَا وَالتَّنَبُّهُ لِمَا يَغْفُلُ عَنْهُ مِنْ مُخْتَلِفِ الْأَحْوَالِ الَّتِي قَدْ يَسْتَخِفُّ بِهَا فِي الْحَالِ وَتَكُونُ لِلْغَفْلَةِ عَنْهَا عَوَاقِبُ تُضَيِّعُ الْحُقُوقَ، أَيْ ذَلِكَ يُعَلِّمُهُمْ وَجْهَ التَّثَبُّتِ فِي التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ وَتَوَخِّي الصِّدْقِ، وَهُوَ يَدْخُلُ فِي قَاعِدَةِ لُزُومِ صِفَةِ الْيَقَظَةِ لِلشَّاهِدِ.
وَفِي الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى حِكْمَةِ مَشْرُوعِيَّةِ الْإِعْذَارِ فِي الشَّهَادَةِ بِالطَّعْنِ أَوِ الْمُعَارَضَةِ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مَا يَحْمِلُ شُهُودَ الشَّهَادَةِ عَلَى التَّثَبُّتِ فِي مُطَابَقَةِ شَهَادَتِهِمْ، لِلْوَاقِعِ لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ وَالْإِعْذَارَ يَكْشِفَانِ عَنِ الْحَقِّ.
وَقَوْلُهُ أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ أَنْ يَأْتُوا بِاعْتِبَارِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنَ الْمَجْرُورَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ جُمْلَةَ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَفَادَتِ الْإِتْيَانَ بِهَا صَادِقَةً لَا نُقْصَانَ فِيهَا بِبَاعِثٍ مِنْ أَنْفُسِ الشُّهُودِ، وَلِذَلِكَ قَدَّرْنَاهُ بِمَعْنَى أَنْ يَعْلَمُوا كَيْفَ تَكُونُ الشَّهَادَةُ الصَّادِقَةُ. فَأَفَادَتِ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا إِيجَادَ وَازِعٍ لِلشُّهُودِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَأَفَادَتِ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ وَازِعًا هُوَ تَوَقُّعُ ظُهُورِ كَذِبِهِمْ.
وَمَعْنَى أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ أَنْ تَرْجِعَ أَيْمَانٌ إِلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي بعد أَيْمَان الشهيدين. فَالرَّدُّ هُنَا مَجَازٌ فِي الِانْتِقَالِ، مِثْلَ قَوْلِهِمْ:
قَلَبَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ، فَيُعَيَّرُوا بِهِ بَيْنَ النَّاسِ فَحَرْفُ (أَوْ) لِلتَّقْسِيمِ، وَهُوَ تَقْسِيم يُفِيد تَفْصِيل مَا أجمله الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ أَدْنى إِلَخْ
…
وَجَمَعَ الْأَيْمَانَ بِاعْتِبَارِ عُمُومِ حُكْمِ الْآيَةِ لِسَائِرِ قَضَايَا الْوَصَايَا الَّتِي مِنْ جِنْسِهَا، عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ تَعْدِلُ عَنِ التَّثْنِيَةِ كَثِيرًا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما. [التَّحْرِيم: 4] وَذَيَّلَ هَذَا الْحُكْمَ الْجَلِيلَ بِمَوْعِظَةِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ فَقَالَ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الْآيَةَ.
وَقَوْلُهُ وَاسْمَعُوا أَمْرٌ بِالسَّمْعِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الطَّاعَةِ مَجَازًا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا فِي هَذِهِ السُّورَةِ [7] .
وَقَوْلُهُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ تَحْرِيضٌ عَلَى التَّقْوَى وَالطَّاعَةِ لِلَّهِ فِيمَا أَمَرَ
وَنَهَى، وَتَحْذِيرٌ مِنْ مُخَالَفَةِ ذَلِكَ، لِأَنَّ فِي اتِّبَاعِ أَمْرِ اللَّهِ هُدًى وَفِي الْإِعْرَاضِ فِسْقًا. وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أَيِ الْمُعْرِضِينَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُسْتَهَانُ بِهِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الرَّيْنِ عَلَى الْقَلْبِ فَلَا يَنْفُذُ إِلَيْهِ الْهُدَى مِنْ بَعْدُ فَلَا تَكُونُوهُمْ وَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ.
هَذَا تَفْسِيرُ الْآيَاتِ تَوَخَّيْتُ فِيهِ أَوْضَحَ الْمَعَانِي وَأَوْفَقَهَا بِالشَّرِيعَةِ، وَأَطَلْتُ فِي بَيَانِ ذَلِكَ لِإِزَالَةِ مَا غَمُضَ مِنَ الْمَعَانِي تَحْتَ إِيجَازِهَا الْبَلِيغِ. وَقَدْ نَقَلَ الطِّيبِيُّ عَنِ الزَّجَّاجِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَشْكَلِ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْإِعْرَابِ. وَقَالَ الْفَخْرُ: رَوَى الْوَاحِدِيُّ عَنْ عُمَرَ:
هَذِهِ الْآيَةُ أَعْضَلُ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ مَكِّيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ:
هَذِهِ الْآيَاتُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعَانِي مِنْ أَشْكَلِ مَا فِي الْقُرْآنِ إِعْرَابًا وَمَعْنًى وَحُكْمًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا كَلَامُ مَنْ لَمْ يَقَعْ لَهُ الثَّلَجُ فِي تَفْسِيرِهَا. وَذَلِكَ بَيِّنٌ مِنْ كِتَابِهِ.
وَلِقَصْدِ اسْتِيفَاءِ مَعَانِي الْآيَاتِ مُتَتَابِعَةً تَجَنَّبْتُ التَّعَرُّضَ لِمَا تُفِيدُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ وَاخْتِلَافِ
عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ فِيهَا فِي أَثْنَاءِ تَفْسِيرِهَا. وَأَخَّرْتُ ذَلِكَ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ حِينَ انْتَهَيْتُ مِنْ تَفْسِيرِ مَعَانِيهَا. وَقَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْأَمْرُ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الْوَصِيَّةِ، وَثَانِيهِمَا فَصْلُ الْقَضَاءِ فِي قَضِيَّةِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَعَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ مَعَ أَوْلِيَاءِ بُدَيْلِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ.
فَالْأَصْلُ الْأَوَّلُ: مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِلَى قَوْلِهِ وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ.
وَالْأَصْلُ الثَّانِي: مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً إِلَى قَوْلِهِ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ. وَيَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ مَعْرِفَةُ وَجْهِ الْقَضَاءِ فِي أَمْثَالِ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ مِمَّا يُتَّهَمُ فِيهِ الشُّهُودُ.
وَقَوْلُهُ: شَهادَةُ بَيْنِكُمْ الْآيَةَ بَيَانٌ لِكَيْفِيَّةِ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِهَا، وَلَكِنْ عَدَلَ عَنْ ذِكْرِ الْأَمْرِ لِأَنَّ النَّاسَ مُعْتَادُونَ بِاسْتِحْفَاظِ وَصَايَاهُمْ عِنْدَ مَحَلِّ ثِقَتِهِمْ.
وَأَهَمُّ الْأَحْكَامِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنَ الْآيَةِ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: اسْتِشْهَادُ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ، عَلَى رَأْيِ مَنْ جَعَلَهُ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ. وَثَانِيهَا: تَحْلِيفُ الشَّاهِدِ عَلَى أَنَّهُ صَادِقٌ فِي شَهَادَتِهِ. وَثَالِثُهَا: تَغْلِيظُ الْيَمِينِ بِالزَّمَانِ.
فَأَمَّا الْحُكْمُ الْأَوَّلُ: فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ الْغَيْرِيَّةَ غَيْرِيَّةٌ فِي الدِّينِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْقَضَايَا الْجَارِيَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْآيَةِ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطَّلَاق: 2]- وَقَوْلِهِ- مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ [الْبَقَرَة: 282] وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ جعلهَا خاصّة بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ الْمُوصِي مُسْلِمُونَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَضَى بِذَلِكَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ فِي وَصِيَّةٍ مِثْلَ هَذِهِ، أَيَّامَ قَضَائِهِ بِالْكُوفَةِ، وَقَالَ: هَذَا أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الَّذِي كَانَ فِي عَهْدِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم. وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَابْنِ جُبَيْرٍ، وَشُرَيْحٍ، وَابْنِ
سِيرِينَ، وَمُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ، وَالسُّدِّيِّ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَجَمَاعَةٍ، وَهُمْ يَقُولُونَ: لَا مَنْسُوخَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، تَبَعًا لِابْنِ عَبَّاسٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ مِنْ غَيْرِكُمْ عَلَى أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِكُمْ، وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَالْحَسَنِ، وَعِكْرِمَةَ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ بِقِيَاسِ بَقِيَّةِ الْعُقُودِ الْمَشْهُودِ فِيهَا فِي السَّفَرِ عَلَى شَهَادَةِ الْوَصِيَّةِ، فَقَالَ بِأَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي السَّفَرِ مَاضِيَةٌ، وَزَادَ فَجَعَلَهَا بِدُونِ يَمِينٍ.
وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ غَيْرُ مَنْسُوخٍ، وَأَنَّ قَبُولَ شَهَادَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ خَاصٌّ بِالْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ حَيْثُ لَا يُوجَدُ مُسْلِمُونَ لِلضَّرُورَةِ، وَأَنَّ وَجْهَ اخْتِصَاصِ الْوَصِيَّةِ بِهَذَا الْحُكْمِ أَنَّهَا تَعْرِضُ فِي حَالَةٍ لَا يَسْتَعِدُّ لَهَا الْمَرْءُ مِنْ قَبْلُ فَكَانَ مَعْذُورًا فِي إِشْهَادِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ خَشْيَةَ الْفَوَاتِ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنَ الْعُقُودِ فَيُمْكِنُ الِاسْتِعْدَادُ لَهَا مِنْ قَبْلُ وَالتَّوَثُّقُ لَهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ فَكَانَ هَذَا الْحُكْمُ رُخْصَةً.
وَالْحِكْمَةُ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا لَمْ تُقْبَلْ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ شَهَادَةُ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا فِي الضَّرُورَةِ، عِنْدَ مَنْ رَأَى إِعْمَالَهَا فِي الضَّرُورَةِ، أَنَّ قَبُولَ الشَّهَادَةِ تَزْكِيَةٌ وَتَعْدِيلٌ لِلشَّاهِدِ وَتَرْفِيعٌ لِمِقْدَارِهِ إِذْ جُعِلَ خَبَرُهُ مَقْطَعًا لِلْحُقُوقِ. فَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْقُضَاةِ مِنَ السَّلَفِ يَقُولُ لِلشُّهُودِ: اتَّقُوا اللَّهَ فِينَا فَأَنْتُمُ الْقُضَاةُ وَنَحْنُ الْمُنَفِّذُونَ. وَلَمَّا كَانَ رَسُولنَا صلى الله عليه وسلم قَدْ دَعَا النَّاسَ إِلَى اتِّبَاعِ دِينِهِ فَأَعْرَضَ عَنْهُ أَهْلُ الْكِتَابِ لَمْ يَكُونُوا أَهلا لِأَن تُزَكِّيَهُمْ أُمَّتُهُ وَتَسِمُهُمْ بِالصِّدْقِ وَهُمْ كَذَّبُوا رَسُولَنَا، وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ دِينُهُ دِينَنَا لَا نَكُونُ عَالِمِينَ بِحُدُودِ مَا يَزَعُهُ عَنِ الْكَذِبِ فِي خَبَرِهِ، وَلَا لِمَجَالِ التَّضْيِيقِ وَالتَّوَسُّعِ فِي أَعْمَالِهِ النَّاشِئَةِ عَنْ مُعْتَقَدَاتِهِ، إِذْ لَعَلَّ فِي دِينِهِ مَا يُبِيحُ لَهُ الْكَذِبَ، وَبِخَاصَّةٍ إِذَا كَانَتْ شَهَادَتُهُ فِي حَقٍّ لِمَنْ يُخَالِفُهُ فِي الدِّينِ، فَإِنَّنَا عَهِدْنَا مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَتَوَخَّوْنَ الِاحْتِيَاطَ فِي حُقُوقِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ دِينِهِمْ. قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ «ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ (أَي الْمُسلمين) سَبِيلٌ» فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَظَنَّةً لِلْعَدَالَةِ وَلَا كَانَ مِقْدَارُهَا فِيهِ مَضْبُوطًا. وَهَذَا حَالُ الْغَالِبِ مِنْهُمْ، وَفِيهِمْ مَنْ
قَالَ اللَّهُ فِي شَأْنِهِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمرَان: 75] وَلَكِنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ.
وَأَمَّا حُكْمُ تَحْلِيفِ الشَّاهِدِ عَلَى صِدْقِهِ فِي شَهَادَتِهِ: فَلَمْ يَرِدْ فِي الْمَأْثُورِ إِلَّا فِي هَذَا