المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(117) باب فضل إحسان الوضوء - فتح المنعم شرح صحيح مسلم - جـ ٢

[موسى شاهين لاشين]

فهرس الكتاب

- ‌(101) باب الشفاعة

- ‌(102) باب شفقة الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته

- ‌(103) باب من مات على الكفر فهو في النار

- ‌(104) باب ما جاء في قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يغني عن الكافرين شيئا

- ‌(105) باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب

- ‌(106) باب من مات على الكفر لا ينفعه عمل

- ‌(107) باب موالاة المؤمنين والبراءة من موالاة الكافرين

- ‌(108) باب دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون

- ‌(109) باب نصف أهل الجنة من هذه الأمة

- ‌كتاب الطهارة

- ‌(110) باب فضل الوضوء

- ‌(111) باب لا تقبل صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول

- ‌(112) باب الوضوء من الحدث

- ‌(113) باب صفة الوضوء وكماله

- ‌(114) باب فضل إحسان الوضوء والمشي إلى المسجد والصلاة وانتظار الصلاة والجمعة إلى الجمعة

- ‌(115) باب الذكر المستحب عقب الوضوء

- ‌(116) باب إسباغ الوضوء وغسل الأعقاب

- ‌(117) باب فضل إحسان الوضوء

- ‌(118) باب فضل إحسان الوضوء

- ‌(119) باب السواك

- ‌(120) باب خصال الفطرة

- ‌(121) باب الاستنجاء وآداب قضاء الحاجة

- ‌(122) باب المسح على الخفين

- ‌(123) باب كراهة غمس المتوضئ يده المشكوك في نجاستها في الإناء قبل غسلها ثلاثا

- ‌(124) باب حكم نجاسة الكلب

- ‌(125) باب البول والاغتسال في الماء الراكد

- ‌(126) باب إزالة النجاسات إذا حصلت في المسجد

- ‌(127) باب حكم بول الطفل الرضيع

- ‌(128) باب حكم المني

- ‌(129) باب نجاسة الدم وكيفية غسله

- ‌(130) باب وجوب الاستبراء من البول وعقوبة من يتهاون فيه

- ‌كتاب الحيض

- ‌(131) باب مباشرة الحائض فوق الإزار والاضطجاع معها في لحاف واحد

- ‌(132) باب طهارة يد الحائض وسؤرها وحجرها

- ‌(133) باب حكم المذي

- ‌(134) باب وضوء الجنب قبل نومه وغسل فرجه قبل أكله أو شربه أو جماعه

- ‌(135) باب مني المرأة ووجوب الغسل عليها بخروجه

- ‌(136) باب الصفة الكاملة لغسل الجنابة

- ‌(137) باب القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة

- ‌(138) باب استحباب إفاضة الماء ثلاثا في الغسل

- ‌(139) باب نقض ضفائر المرأة عند الغسل

- ‌(140) باب استعمال المرأة قطعة من المسك عند غسلها من الحيض

- ‌(141) باب المستحاضة وغسلها وصلاتها

- ‌(142) باب قضاء الحائض الصوم دون الصلاة

- ‌(143) باب حفظ العورة والتستر عند البول والاغتسال

- ‌(144) باب وجوب الغسل بالجماع وإن لم ينزل

- ‌(145) باب الوضوء مما مست النار ومن لحوم الإبل

- ‌(146) باب من تيقن الطهارة وشك في الحدث

- ‌(147) باب طهارة جلود الميتة بالدباغ

- ‌(148) باب التيمم

- ‌(149) باب المسلم لا ينجس

- ‌(150) باب أكل المحدث الطعام وذكر الله حال الجنابة

- ‌(151) باب ما يقول إذا دخل الخلاء

- ‌(152) باب نوم الجالس لا ينقض الوضوء

- ‌كتاب الصلاة

- ‌(153) بدء الأذان

- ‌(154) باب ألفاظ الأذان والإقامة وشفع الأذان وإيتار الإقامة

- ‌(155) باب استحباب اتخاذ مؤذنين للمسجد الواحد

- ‌(156) باب ما يقول إذا سمع الأذان

- ‌(157) باب فضل الأذان

- ‌(158) باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام والركوع وفي الرفع من الركوع

- ‌(159) باب التكبير عند الرفع والخفض في الصلاة

- ‌(160) باب قراءة الفاتحة في كل ركعة

- ‌(161) باب البسملة

- ‌(162) باب وضع اليدين على الصدر في الصلاة

- ‌(163) باب التشهد في الصلاة

- ‌(164) باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد

- ‌(165) باب التسميع والتحميد والتأمين

- ‌(166) باب ائتمام المأموم بالإمام

- ‌(167) باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر ونسخ القعود خلف الإمام القاعد لعذر ومرض رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌(168) باب تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام وتسبيح الرجل وتصفيق المرأة في الصلاة إذا نابهما شيء

- ‌(169) باب الأمر بتحسين الصلاة وإتمامها والخشوع فيها

- ‌(170) باب تحريم سبق الإمام بركوع أو سجود ونحوهما ومتابعة الإمام والعمل بعده

- ‌(171) باب النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة

- ‌(172) باب الأمر بالسكون في الصلاة والنهي عن الإشارة باليد فيها

- ‌(173) باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها

- ‌(174) باب أمر المصليات وراء الرجال أن لا يرفعن رءوسهن من السجود حتى يرفع الرجال

- ‌(175) باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة وأنها لا تخرج مطيبة

- ‌(176) باب التوسط في القراءة في الصلاة الجهرية بين الجهر والإسرار إذا خاف من الجهر مفسدة

- ‌(177) باب الاستماع للقراءة

- ‌(178) باب الجهر في القراءة في الصبح والقراءة على الجن

الفصل: ‌(117) باب فضل إحسان الوضوء

(117) باب فضل إحسان الوضوء

433 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا توضأ العبد المسلم (أو المؤمن) فغسل وجهه، خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء (أو مع آخر قطر الماء) فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء (أو مع آخر قطر الماء) فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء (أو مع آخر قطر الماء) حتى يخرج نقيا من الذنوب".

434 -

عن عثمان بن عفان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره".

-[المعنى العام]-

ومرة أخرى يرغب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوضوء، ويبين أثره في مغفرة الذنوب ويصور هذا الأثر بصورة المحسوس ليستقر في النفس، وينشرح له الصدر، فيصور المؤمن وما اكتسب من ذنوب بلسانه وشفتيه وأنفه وحواجبه وعينيه بمن يحمل تحت جلد وجهه أجراما خبيثة تخرج مع ماء غسل الوجه للوضوء، ويصور ما اكتسب من ذنوب بيديه وأصابعه وأظافره بمن يحمل تحت جلد يديه أجراما خبيثة تخرج مع ماء غسيل اليدين في الوضوء، ويصور ما اكتسب من ذنوب برجليه بمن يحمل تحت جلد رجليه أجراما خبيثة تخرج مع آخر ما يتساقط من ماء غسيل رجليه في الوضوء، وهو بهذا التصوير يحث على إسباغ الوضوء وإحسانه ليتم إخراج الخبائث، ويتأكد من محو الذنوب، ولا شك أن الماء وحده غير كاف في محو الذنوب وغفرانها، بل الواجب على المؤمن أن يستحضر العبودية والطاعة، وأن يستحضر عند غسل الوجه أن هناك يوما تبيض فيه وجوه وتسود وجوه، وعند غسل اليدين أن هناك قوما سيعطون كتابهم بيمينهم، وآخرين سيعطونه بشمالهم، وعند مسح الرأس والأذنين أنه من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وعند غسل قدميه الثبات على الإسلام.

نسأل الله العلي القدير أن يبيض وجوهنا يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، وأن يعطينا كتابنا

ص: 140

بيميننا وأن يحرم شعرنا وجسدنا على النار، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يثبت أقدامنا على الصراط المستقيم يوم تزل الأقدام.

-[المباحث العربية]-

(إذا توضأ العبد المسلم) في لفظ "توضأ" مجاز المشارفة، أي إذا أراد الوضوء وأشرف عليه، وذلك ليصح عطف "فغسل وجهه" إلخ إذ غسل الوجه واليدين والرجلين هو الوضوء، وزيادة لفظ "العبد" لإفادة إخلاص العبادة، أي إذا توضأ مستشعرا بأنه عبد مخلص مطيع الأوامر.

(أو المؤمن) شك من الراوي في أي اللفظين صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

(خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء) جملة "نظر إليها بعينيه" في محل الجر صفة لخطيئة، والخطيئة -كما في القاموس- الذنب، أو ما تعمد منه كالخطء بكسر الخاء، والخطأ ما لم يتعمد، و "مع الماء" متعلق بخرج، والتقدير: إذا غسل وجهه خرج من وجهه مع الماء كل خطيئة منظور إليها بعينيه. وفي "إليها" مجاز مرسل بعلاقة السببية لأنه لا ينظر إلى نفس الخطيئة، إذ المرأة الأجنبية مثلا سبب الخطيئة، وليست هي عين الخطيئة وخروج الخطيئة من الوجه ونحوه مجاز عن المغفرة والعفو، إذ الخطايا ليست بأجسام كامنة في الجسم حتى تخرج، ويمكن إجراؤه على الاستعارة التصريحية التبعية في "خرج" بأن يقال: شبه العفو عن ذنب الوجه والعين بالخروج بجامع الانفصال في كل، واستعير الخروج للعفو واشتق منه خرج من الوجه بمعنى عفى عن ذنب الوجه على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية.

(أو مع آخر قطر الماء) شك من الراوي في أي العبارتين صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطر الماء بفتح القاف وسكون الطاء ما قطر الماء، والواحدة قطرة، أي مع النقاط الأخيرة التي تتساقط من غسل الوجه.

(خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه)"كان" زائدة، وجملة "بطشتها يداه" في محل الجر صفة "خطيئة" أي كل خطيئة مبطوشة بيديه، ويحتمل أن يكون اسم "كان" ضمير الحال والشأن، وجملة "بطشتها يداه" خبر "كان" أو اسمها ضمير يعود على العبد المسلم.

(حتى تخرج من تحت أظفاره) شبه محو الذنوب وغفرانها بخروجها، وشبهت الذنوب الصغيرة بالأجرام الدقيقة المستترة تحت الأظفار، وخروج ما تحت الأظافر نهاية في النظافة.

-[فقه الحديث]-

ظاهر قوله "خرج من وجهه" و"خرج من يديه" و"خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه" أن التكفير

ص: 141

يختص بأعضاء الوضوء، وبهذا قيل، لكن قوله في نهاية الحديث "حتى يخرج نقيا من الذنوب" ظاهر في تكفير عموم ذنوب بقية الأعضاء، وعلى القول الأول يختص التكفير بفعل الواجبات، فقد جاء في الموطأ "تخرج عند المضمضة من فمه، وعند الاستنشاق من أنفه، وعند غسل الوجه كل خطيئة نظر إليها بعينه، حتى تخرج من تحت أشفار جفنه، وعند غسل اليدين تخرج من تحت أظفار يديه، وفي رأسه تخرج من أذنيه، وفي رجليه حتى تخرج من تحت أظفارها".

ولعل هذه الرواية تجيب عما يثور في النفس من التساؤل عن عدم ذكر الرأس، وعن تخصيصه العين من بين أعضاء الوجه كالفم والأنف، ولعل تخصيص العين بالذكر لأن خيانتها أكثر، فإذا خرج الأكثر خرج الأقل، فالعين كالغاية لما يعفى، وقيل: لأن العين طليعة القلب فإذا ذكرت أغنت من غيرها.

ولا يخفى أن المراد من الخطايا هنا الصغائر.

-[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]-

1 -

مدى احتياط الرواة في أداء ما تحملوه من الحديث، بذكر العبارتين المتردد بينهما، وإن كانتا متقاربتين في المعنى.

2 -

فيه دليل على أن واجب الرجلين في الوضوء الغسل، لا المسح.

3 -

يؤخذ من الحديث أن كل عضو يطهر بانفراده، لأن خروج الخطايا منه فرع طهارته في نفسه.

4 -

أخذ منه بعضهم ترك الوضوء بالماء المستعمل، فإنه ماء قد حمل الذنوب، وهو عند أبي حنيفة نجس، وعند الشافعية طاهر في نفسه غير مطهر لغيره، وعند المالكية فيه أقوال أربعة:

الأول الطهورية لكن يستحب تركه مع وجود غيره. الثاني عدم الطهورية، الثالث الكراهة. الرابع مشكوك فيه يجمع بينه وبين التيمم.

والله أعلم

ص: 142

تابع باب فضل إحسان الوضوء وإطالة الغرة والتحجيل في الوضوء

435 -

عن نعيم بن عبد الله المجمر؛ قال: رأيت أبا هريرة يتوضأ. فغسل وجهه فأسبغ الوضوء. ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد. ثم يده اليسرى حتى أشرع في العضد. ثم مسح رأسه. ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق. ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق. ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ. وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنتم الغر المحجلون يوم القيامة. من إسباغ الوضوء. فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله".

436 -

عن نعيم بن عبد الله؛ أنه رأى أبا هريرة يتوضأ. فغسل وجهه ويديه حتى كاد يبلغ المنكبين. ثم غسل رجليه حتى رفع إلى الساقين. ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن أمتي يأتون يوم القيامة غرا محجلين من أثر الوضوء. فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل".

437 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن حوضي أبعد من أيلة من عدن. لهو أشد بياضا من الثلج. وأحلى من العسل باللبن. ولآنيته أكثر من عدد النجوم. وإني لأصد الناس عنه كما يصد الرجل إبل الناس عن حوضه" قالوا: يا رسول الله! أتعرفنا يومئذ؟ قال "نعم. لكم سيما ليست لأحد من الأمم. تردون علي غرا محجلين من أثر الوضوء".

438 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ترد علي أمتي الحوض. وأنا

ص: 143

أذود الناس عنه. كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله" قالوا: يا نبي الله! أتعرفنا؟ قال "نعم. لكم سيما ليست لأحد غيركم. تردون علي غرا محجلين من آثار الوضوء. وليصدن عني طائفة منكم فلا يصلون. فأقول: يا رب! هؤلاء من أصحابي. فيجيبني ملك فيقول: وهل تدري ما أحدثوا بعدك؟ ".

439 -

عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن حوضي لأبعد من أيلة من عدن. والذي نفسي بيده! إني لأذود عنه الرجال كما يذود الرجل الإبل الغريبة عن حوضه" قالوا: يا رسول الله! وتعرفنا؟ قال "نعم. تردون علي غرا محجلين من آثار الوضوء. ليست لأحد غيركم".

440 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال "السلام عليكم دار قوم مؤمنين. وإنا، إن شاء الله؛ بكم لاحقون. وددت أنا قد رأينا إخواننا" قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال "أنتم أصحابي. وإخواننا الذين لم يأتوا بعد". فقالوا كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟ فقال "أرأيت لو أن رجلا له خيل غر محجلة. بين ظهري خيل دهم بهم. ألا يعرف خيله؟ " قالوا: بلى. يا رسول الله! قال "فإنهم يأتون غرا محجلين من الوضوء. وأنا فرطهم على الحوض. ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال. أناديهم: ألا هلم: فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك. فأقول: سحقا سحقا".

441 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال "السلام عليكم دار قوم مؤمنين. وإنا، إن شاء الله، بكم لاحقون" بمثل حديث إسمعيل بن جعفر غير أن حديث مالك "فليذادن رجال عن حوضي".

442 -

عن أبي حازم قال: كنت خلف أبي هريرة وهو يتوضأ للصلاة. فكان يمد يده حتى تبلغ إبطه. فقلت له: يا أبا هريرة! ما هذا الوضوء؟ فقال: يا بني فروخ! أنتم هاهنا؟

ص: 144

لو علمت أنكم هاهنا ما توضأت هذا الوضوء. سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء".

-[المعنى العام]-

كان أبو هريرة رضي الله عنه يحافظ على إسباغ الوضوء، وعلى التأكد من تمامه وكماله، وكان يحرص على المبالغة في غسل أعضائه بغسل جزء زائد على الواجب، بل بالغ في هذا الجزء الزائد حتى وصل في غسل يديه إلى إبطيه، وفي غسل رجليه إلى ركبتيه، فسئل عن ذلك حيث إنه قدوة، ومن أئمة الآخذين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل أكثر المكثرين من رواية الحديث.

فقال: أتينا البقيع (مقابر أهل المدينة) مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. ثم التفت إلينا فقال: تمنيت أن لو قد رأينا إخواننا، قلنا: من تقصد بإخواننا يا رسول الله؟ أولسنا إخوانك؟ قال صلى الله عليه وسلم: أنتم أصحابي وإخواني، أما الذين أقصدهم فهم إخواننا وليسوا أصحابنا، هم الذين لم يأتوا بعد، وسيأتون في الأزمان التي بعدنا.

إن حوضي يوم القيامة واسع الأرجاء، عرضه كما بين أيلة وعدن، يسير حوله الراكب مسيرة شهر، شرابه أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، وأطيب من المسك، آنيته لامعة كثيرة، مثل نجوم السماء، من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدا، أنادي له أصحابي وأتباعي، وأصد عنه غير أمتي.

قالوا: يا رسول الله. أتعرفنا يومئذ؟ قال: نعم. قالوا: وكيف تعرف من يؤمن بك من أمتك ممن يأتي بعدك يا رسول الله؟ قال: أخبروني لو أن لأحدكم خيلا في جبهتها بياض وفي قوائمها بياض، في وسط خيل سود سوادا كاملا لا بياض في لونها، ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى يعرفها يا رسول الله، قال: فإنكم تردون حوضي يوم القيامة وفي وجوهكم نور، وفي أيديكم نور، وفي أرجلكم نور، علامة ليست لأحد من الأمم غيركم، وإنه ليبلغ نور أعضائكم حيث يبلغ الوضوء منها، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته وتحجيله، وأن يوسع نوره فليسبغ الوضوء، وليبالغ في غسل أعضائه، ولئن كان لإسباغ الوضوء هذا الفضل الكبير، والأثر العظيم، فإن فعل الواجبات، والبعد عن المحرمات أساس لهذا الفوز المبين، لأنني قد أرى (يوم القيامة، وأنا واقف على الحوض) رجالا أظنهم من أمتي، فأناديهم: تعالوا، هلموا إلى حوضي، فيحول بيني وبينهم ملك، فيحولهم عن حوضي، فأقول: إلى أين؟ فيقول: إلى النار. فأقول: وما شأنهم، وإني لأظنهم مسلمين؟ وإني لأظنهم من أصحابي؟ فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم بدلوا وغيروا، فأقول سحقا. سحقا. وبعدا لهؤلاء القوم بعدا. وما ربك بظلام للعبيد.

فاللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا، أو نفتن عن ديننا، إنك غفور رحيم.

ص: 145

-[المباحث العربية]-

(عن نعيم بن عبد الله المجمر)"نعيم" بضم النون وفتح العين، و"المجمر" بضم الميم الأولى وإسكان الجيم وكسر الميم الثانية، ويقال: المجمر بفتح الجيم وتشديد الميم الثانية المكسورة، والتجمير هو التبخير، وهو صفة لنعيم أو لأبيه أولهما، لأنهما كانا يبخران مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.

(رأيت أبا هريرة يتوضأ) جملة "يتوضأ" في محل النصب على الحال، ورواية البخاري عن نعيم قال:"رقيت مع أبي هريرة على ظهر المسجد فتوضأ".

(فغسل وجهه فأسبغ الوضوء) أي فأسبغ وضوء وجهه وغسله.

(ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد) أي أدخل الغسل فيه ويقال: أشرع إبله إذا أوردها، وأما شرع الثلاثي فمعناه ورد الماء في نفسه، كذا يقال: شرع في كذا إذا ابتدأ. والعضد: ما بين المرفق إلى الكتف.

(أنتم الغر المحجلون) قال أهل اللغة: الغرة البياض في جبهة الفرس، والتحجيل بياض في يديها ورجليها، والغر يتشديد الراء جمع أغر، أي ذو غرة. قال الحافظ ابن حجر: وأصل الغرة لمعة بيضاء تكون في جبهة الفرس، ثم استعملت في الجمال والشهرة وطيب الذكر، والمراد بها هنا النور الكائن في وجوه أمة محمد صلى الله عليه وسلم. اهـ.

وقال العيني: في الكلام تشبيه بليغ، حيث شبه النور الذي يكون على موضع الوضوء يوم القيامة بغرة الفرس وتحجيله، ويجوز أن يكون كناية بأن يكون كنى بالغرة على نور الوجه. اهـ.

وظاهر الحديث أن النور ينبعث من أماكن الوضوء؛ لكن قال الأبي: إن الغرة والتحجيل كناية عن إنارة كل الذات، لا أنه مقصور على أعضاء الوضوء. اهـ. ويبعد هذا القول الترغيب في إطالة الغرة والتحجيل ليزداد النور، ولو كان كما يقول الأبي لما كان للإطالة فائدة.

(من إسباغ الوضوء) وفي الرواية الثانية والثالثة "من أثر الوضوء" والوضوء بضم الواو وفتحها.

(فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله) مفعول "استطاع" محذوف أي من استطاع إطالة غرته وتحجيله فليطل، وإطالة التحجيل أي إطالة سبب التحجيل، بإطالة الغسل واضحة بالشروع في العضد والساق، إذ لهما طول ظاهر، أما الغرة فيمكن أن يراد من الإطالة التوسع بزيادة الغسل طولا بالشروع في منابت الشعر وصفحة العنق وعرضا بشحمة الأذنين.

ولما كان الكل -غالبا- يستطيع ذلك كان الهدف من التعبير الحث على الإطالة، أي فأطيلوا الغرة والتحجيل، وليس المقصود التعليق على الاستطاعة.

ص: 146

(حتى كاد يبلغ المنكبين)"المنكب" بفتح الميم وكسر الكاف بينهما نون ساكنة مجتمع رأس الكتف والعضد، وأسفله الإبط.

(ثم غسل رجليه حتى رفع إلى الساقين) مفعول "رفع" محذوف أي حتى رفع الغسل إلى الساقين، والغاية داخلة، لأنه كان يشرع في الساق.

(إن أمتي يأتون يوم القيامة غرا محجلين)"الأمة" في اللغة الجماعة، وكل جنس من الحيوان أمة، ومن معانيها اللغوية الحين، ومنه قوله تعالى {وادكر بعد أمة} [يوسف: 45] وأمة محمد صلى الله عليه وسلم تطلق على معنيين: أمة الدعوة وهي من بعث إليهم، وأمة الإجابة وهي من آمن به وصدقه، وهذه هي المراد هنا، وإتيانهم من الموقف إلى الحوض كما يظهر من الرواية الثالثة والرابعة.

(فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل) ذكر الغرة هنا دون التحجيل للاكتفاء، أو الإسقاط من الراوي، ومفعول "فليفعل" محذوف أي فليفعل الإطالة.

(إن حوضي أبعد من أيلة من عدن) الحوض مجمع الماء، وسيأتي الكلام عنه في فقه الحديث، و"أيلة" مدينة كانت عامرة بطرف الشام، كان يمر بها الحاج من مصر، فتكون شمالهم: ويمر بها الحاج من غزة فتكون أمامهم. أقرب ما تكون إلى ما يسمى اليوم بالعقبة. ذكره في الفتح و"عدن" مدينة معروفة على ساحل البحر الأحمر.

وفي رواية البخاري "إن قدر حوضي كما بين أيلة وصنعاء من اليمن" وفيه "حوضه ما بين صنعاء والمدينة" وعند أحمد "كما بين أيلة إلى الجحفة" وفي لفظ "ما بين مكة وعمان" وفي رواية "كما بين مكة إلى أيلة" وعند ابن ماجه "ما بين الكعبة إلى بيت المقدس". وقد جمع العلماء بين هذا الاختلاف، وأقرب الأقوال أن المقصود ضرب المثل لبعد أقطار الحوض وسعته، لا تحديد المسافة، وذكره صلى الله عليه وسلم للجهات المختلفة بحسب من حضره ممن يعرف تلك الجهات؛ فيخاطب كل قوم بالجهة التي يعرفونها.

وسيأتي مزيد إيضاح لهذه النقطة ولكثير مما يتعلق بالحوض في بابه إن شاء الله تعالى.

(لهو أشد بياضا من الثلج) اللام لام القسم المحذوف، وفي الكلام مضاف محذوف؛ أي لماؤه أشد بياضا من الثلج، قاله الأبي: وكونه أشد بياضا من الثلج حقيقة، لأن البياض مقول بالتفاوت. اهـ.

ورواية البخاري "ماؤه أبيض من اللبن" واللبن أشد بياضا من الثلج، وما كان أشد بياضا من اللبن كان أشد بياضا من الثلج، فلا تعارض بين الروايتين، وعند أحمد "وأبرد من الثلج".

(وأحلى من العسل باللبن) قال الأبي: معنى "أحلى" هنا أزكى، لأن العسل وحده أحلى منه مع اللبن. اهـ.

ص: 147

وفي رواية لمسلم "وأحلى من العسل" وعند أحمد "وأحلى مذاقا من العسل" زاد في البخاري "وريحه أطيب من المسك".

(ولآنيته أكثر من عدد النجوم) الآنية جمع إناء، وفي البخاري "وكيزانه كنجوم السماء" وفيه أيضا "فيه من الأباريق كعدة نجوم السماء" والمقارنة بين آنيته ونجوم السماء تحتمل الحقيقة وتحتمل أنها كناية عن الكثرة وهذا الأخير أولى.

زاد البخاري "من شرب منها فلا يظمأ أبدا" -أي من شرب من الكيزان أو الأباريق- وفيه "من مر علي شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدا".

(وإني لأصد الناس عنه)"أل" في الناس للعهد، أي الناس غير المستحقين، وفي الرواية الرابعة "وأنا أذود الناس منه" وهما بمعنى أطرد وأمنع.

(لكم سيما ليست لأحد من الأمم) السيما العلامة، وهي مقصورة وممدودة لغتان، ويقال: السيميا، بياء بعد الميم.

(وليصدن عني طائفة منكم فلا يصلون)"يصدن" بضم الياء وفتح الصاد مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد، أي ليمنعن، ومعمول "يصلون" محذوف أي فلا يصلون إلي، ويحال بينهم وبين الوصول إلى الحوض، وفي رواية البخاري "ليردن على أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم" وفي رواية له أيضا "ويرد علي يوم القيامة رهط من أصحابي، فيجلون عن الحوض" وفي ثالثة له أيضا "فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلم. فقلت: أين؟ فقال: إلى النار. والله. قلت: وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقري، ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل بيني وبينهم، فقال: هلم. قلت: أين؟ قال: إلى النار والله. قلت: ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقري. فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم".

(كما يذود الرجل الإبل الغريبة عن حوضه) الإبل الغريبة هي التي لا تعرف صاحبها، فكل واحد يضربها ليصرفها عن إبله، ومن كلام الحجاج: لأضربنكم ضرب غرائب الإبل.

(أتى المقبرة) بضم الباء وفتحها وكسرها، ثلاث لغات، والكسر قليل.

(السلام عليكم دار قوم مؤمنين)"دار قوم" منصوب على النداء، والمراد من الدار الجماعة أو أهل الدار، والمراد من التسليم عليهم الدعاء لهم.

(وإنا -إن شاء الله- بكم لاحقون) "إن شاء الله، هنا ليس للشك، لأن الموت لا شك فيه، بل ذكرها هنا للتبرك وامتثال أمر الله تعالى في قوله {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله} [الكهف: 23].

ص: 148

(وددت أنا قد رأينا إخواننا) أي رأيناهم في الحياة الدنيا، قال القاضي عياض: وقيل المراد تمني لقائهم بعد الموت.

(قال: أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد) لم يرد نفي الأخوة عنهم، ولكن أراد ذكرهم بالمرتبة الزائدة وهي الصحبة، فهؤلاء إخوة صحابة، والذين لم يأتوا إخوة ليسوا بصحابة، بل هو من قبيل قول الله تعالى {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات: 10].

(أرأيت لو أن رجلا له خيل غر محجلة)"أرأيت" بمعنى أخبرني، عن طريق مجاز مرسل في الاستفهام بإرادة مطلق الطلب بدلا من طلب الفهم، ومجاز مرسل في الرؤية بإرادة المسبب عنها وهو الإخبار، فآل المعنى إلى طلب الإخبار المدلول عليه بلفظ أخبرني، والخطاب للسائل القائل كيف تعرف من لم يأت بعد؟ والمعلوم أن السائل واحد، وأسند إلى الجماعة في "فقالوا" لموافقتهم على السؤال.

(بين ظهري خيل دهم بهم)"ظهري" بفتح الظاء وسكون الهاء، مثنى ظهر، قال الأصمعي: العرب تقول: بين ظهريهم وظهرانيهم، أي بينهم، فتضع لفظ الاثنين على الجمع. اهـ. والدهم جمع أدهم وهو الأسود، والدهمة السواد، والبهم الذي لا يخالط لونه لونا آخر سواه أي خالص اللون، فالمعنى خيل سود سوادا خالصا.

(وأنا فرطهم على الحوض) الفرط السبق والتقدم، يقال: فرط القوم إذا تقدمهم ليرتاد الماء، ويهيئ لهم الدلاء، والمعنى: وأنا أتقدمهم على الحوض.

(ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال) هؤلاء الرجال هم الطوائف التي يحال بينهم وبين الحوض والذائد لهم الملائكة.

(أناديهم: ألا هلم) معناه تعالوا. قال أهل اللغة: في "هلم" لغتان:

إحداهما لغة الحجازيين حيث يلزمونها حالة واحدة في المفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث، وهي على هذه اللغة اسم فعل أمر، وبهذه اللغة جاء القرآن الكريم {والقائلين لإخوانهم هلم إلينا} [الأحزاب: 18].

واللغة الثانية: لغة بني تميم، تقول: هلم يا رجل، وهلما يا رجلان، وهلموا يا رجال وهلمي يا هند ويا هندان، وهلممن يا نسوة.

(فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك) في الرواية الرابعة "وهل تدري ما أحدثوا بعدك"؟ وفي رواية البخاري "لا تدري ما أحدثوا بعدك" وفي رواية أخرى له "إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أعقابهم القهقري".

(فأقول: سحقا. سحقا) قال النووي: هكذا هو في الروايات "سحقا سحقا" مرتين، ومعناه

ص: 149

بعدا بعدا، والمكان السحيق البعيد، وفي "سحقا" لغتان قرئ بهما في السبع: إسكان الحاء وضمها، ونصب على تقدير: ألزمهم الله سحقا، أو سحقهم سحقا. اهـ.

(يا بني فروخ أنتم ههنا) قال في كتب العين: بلغنا أن "فروخ" رجل من ولد إبراهيم، بعد إسماعيل وإسحق عليهم السلام، كثر نسله بالعجم الذين بوسط البلاد، وكني أبو هريرة بذلك عن الموالي، وأبو حازم هذا هو أبو سليمان الأعرج، مولى عزة الأشجعية.

(لو علمت أنكم ههنا ما توضأت هذا الوضوء) لأنكم من العوام، ويخشى عدم فهمكم لدقائق الأعمال.

(تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء) في النهاية: حليته ألبسته الحلية، ومراده بالحلية هنا التحجيل من أثر الوضوء.

-[فقه الحديث]-

-[يؤخذ من هذه الأحاديث]-

1 -

استحباب تطويل الغرة والتحجيل، أما تطويل الغرة -عند الشافعية والحنفية- فهو غسل شيء من مقدم الرأس، وما يجاور الوجه، زائدة على الجزء الذي يجب غسله لاستيقان كمال الوجه، زاد بعضهم غسل صفحة العنق.

أما تطويل التحجيل فهو غسل ما فوق المرفقين والكعبين، وهذا مستحب بلا خلاف بين الشافعية، واختلفوا في القدر المستحب على أوجه.

أحدها: أنه يستحب الزيادة فوق المرفقين والكعبين من غير تحديد. والثاني يستحب إلى نصف العضد والساق. والثالث: يستحب إلى المنكبين والركبتين قال النووي: وأحاديث الباب تقتضي هذا كله. اهـ. وقال القشيري: ليس في الحديث تقييد ولا تحديد لمقدار ما يغسل من العضدين والساقين، وقد استعمل أبو هريرة الحديث على إطلاقه وظاهره، من طلب إطالة الغرة، فغسل إلى قريب المنكبين، ولم ينقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا كثر استعماله في الصحابة والتابعين، فلذلك لم يقل به الفقهاء، ورأيت بعض الناس قد ذكر أن حد ذلك نصف العضد والساق. اهـ. قال العيني: هذا قول -لم يقل به الفقهاء- مردود؛ اهـ. أقول: قال بذلك القاضي حسين من الشافعية وآخرون، وقال البغوي: نصف العضو فما فوقه ونصف الساق فما فوقه.

وقال القاضي عياض وابن بطال وبعض المالكية: لا يتعدى بالوضوء محل الفرض، وقالوا عن هذه الأحاديث: إنه مذهب لأبي هريرة، فهمه من قوله صلى الله عليه وسلم "أنتم الغر المحجلون" ومن حديث "تبلغ الحلية حيث يبلغ الوضوء، ولم يتابعه أحد عليه؛ والناس مجمعون على خلافه، وقالوا: إن الوجه لا سبيل إلى الزيادة في غسله، إذ استيعاب الوجه بالغسل واجب، فتفسير الغرة

ص: 150

بالزيادة على محل الفرض خطأ، وفسروا إطالة الغرة والتحجيل بالمواظبة على الوضوء لكل صلاة، فتطول الغرة بتقوية نور الأعضاء، واستدلوا بما أخرجه أبو داود وأحمد والنسائي من أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله كيف الطهور؟ فدعا بماء في إناء، فغسل كفيه ثلاثا، ثم غسل وجهه ثلاثا، ثم غسل ذراعيه ثلاثا، ثم مسح برأسه، فأدخل أصبعيه السباحتين في أذنيه، ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه وبالسباحتين باطن أذنيه، ثم غسل رجليه ثلاثا ثلاثا، ثم قال:"هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم" فحملوا الزيادة الممنوعة على الزيادة عن محل الفرض في أعضاء الوضوء.

وجميع ما تمسك به هؤلاء مردود.

أما قولهم: عن الأحاديث إنها مذهب لأبي هريرة فقد رده النووي في المجموع بأن أبا هريرة لم يفعله من تلقاء نفسه، بل أخبر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك -كما هو ثابت في الرواية الأولى، إذ فيها بعد أن غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق قال "هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ".

وأما قولهم: لم يتابعه عليه أحد فهو مردود بما قدمنا من أنه مذهب الشافعية والحنفية حتى قال النووي في شرح مسلم: وهو مذهبنا، لا خلاف فيه عندنا، ولو خالف فيه مخالف كان محجوبا بهذه السنن الصحيحة الصريحة. اهـ.

فقولهم "والناس مجمعون على خلافه" ظاهر البطلان، وفي مصنف ابن أبي شيبة عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما "أنه كان ربما بلغ بالوضوء إبطه في الصيف".

أما قولهم: إن الوجه لا سبيل إلى الزيادة في غسله عن حد الواجب ففاسد، لإمكان الإطالة في الوجه بأن يغسل إلى صفحة العنق مثلا.

وأما تفسيرهم الحث على إطالة الغرة والتحجيل بالمواظبة على الوضوء فباطل؛ لأن روايات مسلم صريحة في الاستحباب، فلا تعارض بالاحتمال، ثم إن الراوي أدرى بما روى.

وأما استدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم: "فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم"، فهو فاسد، لأن المراد بالزيادة الزيادة في عدد المرات أو النقص عن الواجب، كمن يتنطع ويتشكك ويكثر من عدد المرات معتقدا أنها السنة، أو يغسل عضوا ليس من أعضاء الوضوء معتقدا شرعيته، أو ينقص عضوا من أعضاء الوضوء أو بعض عضو.

أما حمله على الزيادة في غسل عضو من أعضاء الوضوء فمستبعد خصوصا والحديث لم يبين حدود الوجه واليدين والرجلين حتى يقال: إنه يقصد الزيادة على هذه الحدود، على أن الحديث نفسه في صحته مقال. والله أعلم.

2 -

كما يؤخذ من الأحاديث الصحيحة استحباب المحافظة على الوضوء وسنته المشروعة فيه وإسباغه.

ص: 151

3 -

وفيه فضل الوضوء لأن الفضل الحاصل بالغرة والتحجيل من آثار الزيادة على الواجب، فكيف الظن بالواجب.

4 -

وفيها ما أعده الله من الفضل والكرامة لأهل الوضوء يوم القيامة.

5 -

وفيها دلالة قطعية على أن واجب الرجلين في الوضوء الغسل وليس المسح.

6 -

استدل به جماعة من العلماء على أن الوضوء من خصائص هذه الأمة، وقال الآخرون: ليس الوضوء مختصا بهذه الأمة، وإنما الذي اختصت به الغرة والتحجيل وادعوا أنه المشهور من قول العلماء، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم "هذا وضوئي ووضوء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبلي" وأجاب الأولون عن هذا الحديث بوجهين أحدهما أنه ضعيف والآخر أنه لو صح لاحتمل اختصاص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بهذه الخصوصية، وامتازت الأمة بالغرة والتحجيل، ولكن ورد في حديث جريج في الصحيح "أنه قام فتوضأ وصلى ثم كلم الغلام" وثبت أيضا عند البخاري في قصة سارة عليها السلام مع الملك الذي أعطاها هاجر أن سارة لما هم الملك بالدنو منها قامت تتوضأ وتصلي، فهذا دليل على أن الوضوء كان مشروعا قبل الإسلام، وعلى هذا فيكون خاصة هذه الأمة الغرة والتحجيل الناشئين عن الوضوء. ذكره النووي وابن حجر والعيني.

7 -

يؤخذ من قول أبي هريرة "لو علمت أنكم ههنا ما توضأت هذا الوضوء" أنه ينبغي لمن يقتدي به إذا ترخص في شيء لضرورة، أو شدد في شيء أن لا يفعله بحضرة العوام، خوف أن يترخص فيه لغير ضرورة، أو يعتقد أن ما شدد فيه واجب. ذكره الأبي.

8 -

جواز قول المؤمن: خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعارض هذا قوله صلى الله عليه وسلم "لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا" لأن الممتنع أن يتخذ النبي صلى الله عليه وسلم أحدا خليلا، لا أن يتخذه أحد خليلا.

9 -

إثبات حوضه صلى الله عليه وسلم، وفي وقت وروده ومكانه خلاف بين العلماء، فقال بعضهم: الورود على الحوض يكون بعد نصب الصراط والمرور عليه، مستندين إلى ما أخرجه أحمد والترمذي عن أنس قال:"سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي فقال أنا فاعل، فقلت: أين أطلبك؟ قال: اطلبني أول ما تطلبني على الصراط قلت: فإن لم ألقك؟ قال: أنا عند الميزان. قلت فإن لم ألقك؟ قال: أنا عند الحوض".

وقد استشكل كون الحوض بعد الصراط مما جاء في أحاديثنا من أن جماعة يدفعون عن الحوض، بعد أن يكادوا يردون، ويذهب بهم إلى النار، ووجه الإشكال أن الذي يمر على الصراط إلى أن يصل إلى الحوض يكون قد نجا من النار، فكيف يرد إليها؟ ويمكن أن يجاب بأنهم يقربون من الحوض، بحيث يرونه ويرون النار، ويراهم صلى الله عليه وسلم فيناديهم فيدفعون إلى النار.

وقال بعض العلماء: إن الحوض قبل الصراط، فإن الناس يردون الموقف عطاشي فيرد المؤمنون

ص: 152

الحوض، ويتساقط الكفار في النار بعد أن يقولوا: ربنا عطشنا، فترفع لهم جنهم كأنها سراب، فقال: ألا تردون؟ فيظنونها ماء فيتساقطون فيها.

وقد استشكل كون الحوض قبل الصراط بما جاء في رواية البخاري "وكيزانه كنجوم السماء، من شرب منها فلا يظمأ أبدا" ووجه الإشكال أن ظاهر اللفظ يدل على أن الشرب منه يقع بعد الحساب والنجاة من النار، لأن ظاهر حال من لا يظمأ أن لا يعذب بالنار، ومن الثابت أن بعض المؤمنين يتساقطون في النار عند مرورهم على الصراط، ومن سقط في النار أصابه الظمأ، وأجاب القاضي عياض بأنه يحتمل أن من قدر عليه التعذيب منهم أن لا يعذب فيهم بالظمأ، بل بغيره.

ورد الحافظ ابن حجر هذا الاحتمال بما وقع في بعض الروايات من قوله صلى الله عليه وسلم، ومن لم يشرب منه لم يرو أبدا" واختار أن للنبي صلى الله عليه وسلم حوضين، أحدهما في الموقف قبل الصراط، والآخر داخل الجنة.

والراجح عندي أنه حوض واحد، لأنه يثبت ذكر حوضين في الأحاديث الصحيحة، وأمور الآخرة تثبت بالروايات لا بالاحتمال، وكونه بعد الصراط ظاهر الأحاديث. والإشكال عليه سهل الجواب والله تعالى أعلم.

وقد اشتهر اختصاص نبينا صلى الله عليه وسلم بالحوض، لكن أخرج الترمذي من حديث سمرة رفعه "إن لكل نبي حوضا" وأخرجه ابن أبي الدنيا بسند صحيح، عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن لكل نبي حوضا، وهو قائم على حوضه، بيده عصا، يدعو من عرف من أمته إلا أنهم يتباهون أيهم أكثر تبعا، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم تبعا" وأخرجه الطبراني موصولا مرفوعا.

قال الحافظ ابن حجر: فإن ثبت أن لكل نبي حوضا فالمختص بنبينا صلى الله عليه وسلم الكوثر -أي النهر- الذي يصب من مائه في حوضه، فإنه لم ينقل نظيره لغيره، ووقع الامتنان عليه به في السورة المذكورة.

وقال القرطبي في المفهم تبعا للقاضي عياض: مما يجب على كل مكلف أن يعلمه ويصدق به أن الله سبحانه وتعالى قد خص نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالحوض المصرح باسمه وصفته وشرابه في الأحاديث الصحيحة الشهيرة التي يحصل بمجموعها العلم القطعي، إذ روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة نيف على الثلاثين، منهم في الصحيحين ما ينيف على العشرين، وفي غيرهما بقية ذلك مما صح نقله واشتهرت رواته، ثم رواته عن الصحابة المذكورين من التابعين أمثالهم، ومن بعدهم أضعاف أضعافهم، وهلم جرا، وأجمع على إثباته السلف، وأهل السنة من الخلف، وأنكرت ذلك طائفة من المبتدعة، وأحالوه على ظاهره، وغلوا في تأويله، من غير استحالة عقلية ولا عادية تلزم من حمله على ظاهره وحقيقته، ولا حاجة تدعو إلى تأويله، فخرق من حرفه إجماع السلف، وفارق مذهب أئمة الخلف. اهـ والمنكرون له المعتزلة وبعض الخوارج.

10 -

وفي الأحاديث أن بعض أتباعه صلى الله عليه وسلم يحال بينهم وبين الحوض، وفي المقصود

ص: 153

بهم أقوال: قيل: هم المرتدون بعده صلى الله عليه وسلم ممن أسلموا في زمنه فيناديهم صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن عليهم سيما الوضوء، لما كان يعرفه صلى الله عليه وسلم في حياته من إسلامهم، فيقال له: إنهم ارتدوا بعدك فيقول: سحقا سحقا. وهذا القول جدير بالقبول لولا أن الكلام مرتبط بالغرة والتحجيل، فصار بعيدا.

وقيل: هم المنافقون، يحشرون بالغرة والتحجيل كالمؤمنين، يحشرون بالنور، لدخولهم في غمار المؤمنين لتسترهم بالإيمان في الدنيا، ثم يطفأ نورهم عند الحاجة إليه عند المرور على الصراط، فيعرفهم صلى الله عليه وسلم بالغرة والتحجيل، ويظنهم مؤمنين حقا فيناديهم حين يرى تخبطهم، فيقال له: ليس ممن وعدت بهم، إن هؤلاء بدلوا بعدك، أي لم يموتوا على ما ظهر من إسلامهم، وهذا القول بعيد، وفي تطبيق الروايات عليهم تمحل.

وقيل: المراد بهم أصحاب المعاصي الكبائر الذين ماتوا على التوحيد، وأصحاب البدع الذين لم يخرجوا ببدعتهم عن الإسلام، ولا يمتنع أن يكون لهم غرة وتحجيل، سواء كانوا في زمنه صلى الله عليه وسلم أو بعده، فمعرفته لهم بالسيما. وهؤلاء المبعدون عن الحوض لا يقطع لهم بالنار، بل يجوز أن يبعدوا عن الحوض عقوبة لهم، ثم يرحمهم الله سبحانه وتعالى، فيدخلهم الجنة بغير عذاب.

وهذا أقرب الأقوال، وأحراها بالقبول.

قال ابن عبد البر: كل من أحدث في الدين فهو من المطرودين عن الحوض كالخوارج والروافض وأصحاب الأهواء. وقال: كذلك الظلمة المسرفون في الجور وطمس الحق والمعلنون بالكبائر، قال: وكل هؤلاء يخاف عليهم أن يكونوا ممن عنوا بهذا الخبر. والله أعلم.

11 -

ويؤخذ منها أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يدري ما أحدث المسلمون بعده، وفي هذا تعارض مع ما روي من أن أعمال أمته تعرض عليه يوم الخميس ويوم الأثنين، فما وجد منها من خير حمد الله عليه، وما وجد منها غير ذلك استغفر الله له، ويمكن أن يرفع هذا التعارض بأنها تعرض عليه عرضا مجملا، فيقال: عملت أمتك خيرا، أو عملت أمتك شرا دون تعيين لفاعلي الخير والشر.

12 -

ويؤخذ منها أن الرسول صلى الله عليه وسلم يذود غير المسلمين ويبعدهم عن حوضه، ولا يقال: كيف يطرد الناس عن حوضه وهو الكريم؟ فإن الذود المذكور قصد منه إرشاد كل أحد إلى حوض نبيه على ما تقدم من أن لكل نبي حوضا، وأنهم يتباهون بكثرة من يتبعهم فيكون ذلك من جملة إنصافه؛ ورعاية إخوانه النبيين عليهم السلام، لا أنه يطردهم بخلا عليهم بالماء، ويحتمل أن يطرد من لا يستحق الشرب من الحوض والعلم عند الله تعالى. ذكره الحافظ في الفتح.

13 -

ويؤخذ من الرواية السادسة زيارة القبور، ولا خلاف فيها للرجال، والنهي عنه منسوخ، واختلف فيها للنساء، والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم أتاها للزيارة، لا لدفن أو غيره.

ص: 154

14 -

السلام على أهل المقابر، وهل المقصود به تحية الموتى وأنهم يسمعون؟ أو المقصود به الدعاء لهم؟ قولان، الراجح الثاني.

15 -

وتمنى لقاء الفضلاء، ووجهه القاضي عياض بأنه صلى الله عليه وسلم تمنى لهم (أي الذين لم يأتوا بعد) أن يلقوه لينتفعوا برؤيته، وهذا التوجيه كان يصح لو أن العبارة: وددت لو أن إخواننا رأونا، أما وأنها "وددت أنا قد رأينا إخواننا" فإن معناها أنه صلى الله عليه وسلم تمنى أن لو رآهم هو وأصحابه لينتفعوا برؤيته. وهل تمنى صلى الله عليه وسلم لقاءهم في الحياة؟ أو بعد الممات؟ قولان. اعترض على الأول بأنه كيف يصح أن يتمنى ذلك، وهم معدومون والمعدوم لا يرى، وأيضا كيف تمنى ما لا يكون؟ لأن عمره لا يمتد إلى أن يرى من هم في آخر الزمان؟ .

ويمكن أن يقال: إن التمني لا يشترط فيه إمكان وقوع المتمني عرفا. والله أعلم.

16 -

يؤخذ من قوله "وأنا فرطهم على الحوض" بشارة هذه الأمة وتشريفها. فهنيئا لمن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فرطه ليستقبله ويهيئ له المقام والنعيم.

17 -

يؤخذ من قوله في الرواية الخامسة "والذي نفسي بيده" جواز الحلف من غير استحلاف ولا ضرورة. قاله النووي.

18 -

وفي الأحاديث المذكورة ما أطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم عليه من المغيبات المستقبلة.

والله أعلم

ص: 155