الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(130) باب وجوب الاستبراء من البول وعقوبة من يتهاون فيه
521 -
حدثنا الأعمش قال: سمعت مجاهدا يحدث عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال "أما إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله" قال فدعا بعسيب رطب فشقه باثنين ثم غرس على هذا واحدا وعلى هذا واحدا ثم قال "لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا".
522 -
عن سليمان الأعمش بهذا الإسناد غير أنه قال "وكان الآخر لا يستتزه عن البول (أو من البول) ".
-[المعنى العام]-
الإسلام دين نظافة، نظافة الباطن، ونظافة الظاهر، نظافة السلوك، ونظافة البدن والثياب، يمثل السلوك الخاطئ المشي بالنميمة بين الناس، ويمثل القذر في الثياب والبدن عدم التنزه من البول، والتعرض للتلوث من بقاياه، بسبب عدم الاستبراء منه بالحجارة أو الماء.
أمران قد يستهين بهما المسلم، ولا يحسبهما من الكبائر التي يعذب عليها بعد الموت، مع أنهما من أول ما يعذب من أجله المؤمن في قبره.
يصور الحديث هذا المنظر. رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر مع بعض أصحابه بمقابر المدينة، فيقول لأصحابه: إني أسمع صوت إنسانين في هذين القبرين يعذبان، أسمعني الله بقدرة أودعها في سمعي، إن أصواتهما أصوات تأوه وتضجر وتألم، وقد أخبرني ربي أنهما يعذبان في أمرين استهانا بهما، يعذبان في معصيتين ليستا كبيرتين في حسبان الناس، لكنهما عند الله كبيرتان، كان أحدهما في دنياه لا يتحرز من بقايا بوله، فكان البول يصيب بدنه وثوبه، فتبطل صلاته وهو لا يدري، وكان الآخر في دنياه ينقل الحديث السيئ من القائل إلى المقول فيه، ويزيد عليه للوشاية والإيقاع بين الناس.
وأخذت الشفقة والرحمة برسول الله صلى الله عليه وسلم، فتوجه إلى الله بالدعاء أن يخفف عنهما، ثم طلب من
أصحابه جريدة خضراء لينة، بما عليها من خوص أخضر، فشقها نصفين، ووضع على كل قبر من القبرين نصفا، وقال: لعل الله يخفف عن المعذبين هذين بسبب تسبيح الجريدة الخضراء مادامت رطبة، إلى أن تيبس وتجف. صلى الله عليه وسلم.
-[المباحث العربية]-
(أما إنهما ليعذبان) في الكلام مضاف محذوف، أي إن صاحبيهما ليعذبان، وقيل: إن الضمير للقبرين، من قبيل إطلاق المحل وإرادة الحال فيه و"أما" حرف استفتاح مثل "ألا".
(وما يعذبان في كبير)"ما" نافية، والمعنى: وليسا يعذبان في أمر كبير شاق، بل في أمر سهل الترك يسير.
(أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة)"أما" حرف شرط وتفصيل، قامت مقام مهما يكن من شيء، والفاء لازمة في تلو تاليها، و"النميمة" نقل كلام الغير بقصد الإضرار.
(وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله) وفي الرواية الملحقة "لا يستنزه من البول" وفي رواية البخاري "لا يستبرئ من البول" قال النووي: وكلها صحيحة، ومعناها لا يتجنبه، ولا يتحرز منه. اهـ.
فمعنى "لا يستتر من بوله" لا يجعل بينه وبينه سترة، يعني لا يتحفظ منه وحمله بعضهم على ظاهره، فقال: معناه لا يستر عورته، وهو مردود لأن التعذيب لو وقع على كشف العورة لاستقل الكشف بالسببية، فيترتب العذاب عليه، سواء وجد البول أم لا، وسياق الحديث يدل على أن للبول بالنسبة إلى عذاب القبر خصوصية، فلو حمل على مجرد كشف العورة زال هذا المعنى، فتعين الحمل على المعنى الأول لتجتمع ألفاظ الحديث على معنى واحد، لأن مخرجه واحد.
(فدعا بعسيب رطب)"العسيب" بفتح العين وكسر السين: الجريد والغصن من النخل، قاله النووي. وقال الحافظ ابن حجر: العسيب هي الجريدة التي لم ينبت فيها الخوص، فإن نبت فهي السعفة، وخص الجريد بذلك لأنه بطيء الجفاف. اهـ.
(فشقه باثنين) قال النووي: الباء زائدة، و"اثنين" منصوب على الحال.
(ثم غرس على هذا واحدا وعلى هذا واحدا) المراد بالواحد النصف. وفي رواية للبخاري "فغرز" وفي أخرى له أيضا "فوضع".
(لعله أن يخفف عنهما) شبه "لعل" بعسى، فأتى بأن في خبرها. ذكره الكرماني. قال ابن مالك: يجوز أن تكون الهاء ضمير الشأن، وجاز تفسيره بأن وصلتها لأنها في حكم جملة، لاشتمالها على مسند ومسند إليه، قال: ويحتمل أن تكون "أن" زائدة مع كونها ناصبة، كزيادة الباء مع كونها جارة. اهـ.
و"لعل" للترجي، وقيل: للتعليل بناء على أنه أوحى إليه صلى الله عليه وسلم أن ذلك يخفف عنهما.
(ما لم ييبسا)"ما" مصدرية زمانية، أي مدة عدم اليبس.
-[فقه الحديث]-
في الحديث وجوب التنزه من البول، وعقوبة مخالفة: أما عدم التنزه من البول فإن الحديث صريح في أنه من أسباب عذاب القبر، ويرى العلماء أنه من الكبائر، ويؤولون قوله صلى الله عليه وسلم "وما يعذبان في كبير" فيقول النووي: وقد ذكر العلماء فيه تأويلين. أحدهما: أنه ليس بكبير في زعمهما وإن كان كبيرا في حقيقته. والثاني: أنه ليس بكبير تركه عليهما، وحكى القاضي عياض تأويلا ثالثا. فقال: ليس بأكبر الكبائر. اهـ.
ويؤيد أنه من الكبائر رواية البخاري "وما يعذبان في كبير، وإنه لكبير" ورواية البخاري في باب الوضوء "وما يعذبان في كبير، بل إنه كبير" قال النووي: فثبت بهاتين الزيادتين الصحيحتين أنه كبير. ثم قال: وسبب كونه كبيرا أن عدم التنزه من البول يلزم منه بطلان الصلاة، فتركه كبيرة بلا شك. اهـ.
ولما كانت رواية مسلم "لا يستتر من بوله" ظنه بعضهم من كشف العورة وحمله على ذلك، ولم يضع في حسابه الروايات الأخرى للحديث "لا يستنزه". "لا يستبرئ". "لا يتوقى" وقد هاجمه ابن دقيق العيد. فقال: لو حمل "الاستتار" على حقيقته للزم أن مجرد كشف العورة كان سبب العذاب المذكور، وسياق الحديث يدل على أن للبول بالنسبة إلى عذاب القبر خصوصية. قال الحافظ ابن حجر: يشير إلى ما صححه ابن خزيمة من حديث أبي هريرة مرفوعا "أكثر عذاب القبر من البول" أي بسبب ترك التحرز منه، ويؤيده أن لفظ "من" في هذا الحديث لما أضيف إلى البول اقتضى نسبة الاستتار -الذي عدمه سبب العذاب- إلى البول، بمعنى أن ابتداء سبب العذاب من البول، فلو حمل على مجرد كشف العورة زال هذا المعنى، فتعين على المجاز، لتجتمع ألفاظ الحديث على معنى واحد، لأن مخرجه واحد، ويؤيده أنه في حديث أبي بكرة عند أحمد وابن ماجه "أما أحدهما فيعذب في البول" ومثله للطبراني عن أنس. اهـ. والله أعلم.
-[ويؤخذ من الحديث]-
1 -
الإيمان بعذاب القبر، كما هو مذهب أهل السنة خلافا للمعتزلة.
2 -
ونجاسة الأبوال مطلقا، قليلها وكثيرها، وهو مذهب عامة الفقهاء وذهب أبو حنيفة إلى العفو عن قدر الدرهم الكبير، اعتبارا للمشقة. وفي الجواهر للمالكية: أن البول والعذرة من بني آدم الآكلين نجسان. وهما طاهران من كل حيوان مباح الأكل، ومكروهان من المكروه أكله.
3 -
ويستدل به على وجوب إزالة النجاسة. خلافا لمن خص الوجوب بوقت إرادة الصلاة.
4 -
وفيه دليل -كما قال الخطابي- على استحباب قراءة القرآن على القبور، لأنه إذا كان يرجى عن الميت التخفيف بتسبيح الشجر، فتلاوة القرآن أعظم رجاء وبركة. ومذهب أبي حنيفة وأحمد وصول ثواب القراءة إلى الميت. قال النووي: والمشهور من مذهب الشافعي وجماعة أن قراءة القرآن لا تصل إلى الميت. قال: والأحاديث حجة عليهم، ولكن أجمع العلماء على أن الدعاء ينفعهم، ويصلهم ثوابه. لقوله تعالى:{والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} [الحشر: 10] وغير ذلك من الآيات والأحاديث المشهورة، منها قوله صلى الله عليه وسلم "اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد" وقوله "اغفر لحينا وميتنا".
5 -
استدل به ابن بطال على أن التعذيب لا يختص بالكبائر بل قد يقع على الصغائر. قال: لأن الاحتراز من البول لم يرد فيه وعيد. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: يعني قبل هذه القصة، وتعقب بالزيادة الواردة في بعض الروايات وهي تثبت أنه كبيرة كما سبق قريبا.
6 -
وفيه حرمة النميمة، وهي كبيرة بلا خلاف.
7 -
استدل به بعضهم على استحباب وضع الجريد الأخضر على القبور، ويطرد في كل ما فيه رطوبة من الأشجار والزهور وغيرها. قال النووي: قيل لكونهما يسبحان ماداما رطبين. وليس لليابس تسبيح. وهذا مذهب كثيرين أو الأكثرين من المفسرين في قوله تعالى: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} [الإسراء: 44] قالوا: معناه: وإن من شيء حي. ثم قالوا: حياة كل شيء بحسبه، فحياة الخشب ما لم ييبس والحجر ما لم يقطع، وذهب المحققون من المفسرين وغيرهم إلى أنه على عمومه، ثم اختلف هؤلاء: هل يسبح حقيقة أم فيه دلالة الصانع. فيكون مسبحا منزها بصورة حاله؟ والمحققون على أنه يسبح حقيقة، وقد أخبر الله تعالى بقوله {وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله} [البقرة: 74] وإذا كان العقل لا يحيل جعل التمييز فيها، وجاء النص به، وجب المصير إليه. اهـ.
وأنكر الخطابي ما يفعله الناس على القبور من الأخواص ونحوها متعلقين بهذا الحديث. وقال: لا أصل له. ولا وجه له. وقال عن الحديث إنه محمول على أنه دعا لهما بالتخفيف مدة بقاء النداوة. لا أن في الجريد معنى يخصه ولا أن في الرطب معنى ليس في اليابس. وقال الطيبي: الحكمة في كونهما مادامتا رطبتين تمنعان العذاب يحتمل أن تكون غير معلومة لنا. كعدد الزبانية. اهـ. وقال الطرطوشي: لأن ذلك خاص ببركة يده صلى الله عليه وسلم. قال القاضي عياض: لأنه علل غرزها على القبر بأمر مغيب. وهو قوله "ليعذبان" اهـ. والهدف من هذا كله أنه لا يقتدي به صلى الله عليه وسلم في هذا الفعل.
وقد حمل على ذلك الحافظ ابن حجر فقال: لا يلزم من كوننا لا نعلم أيعذب أم لا؟ أن لا نتسبب
له في أمر يخفف عنه العذاب لو عذب. كما لا يمنع كوننا لا ندري أرحم أم لا؟ أن ندعو له بالرحمة. وقد تأسى بريدة بن الحصيب الصحابي بذلك. فأوصى أن يوضع على قبره جريدتان [كما جاء ذلك في البخاري] وهو أولى أن يتبع من غيره. اهـ.
(فائدة) لم يعرف اسم صاحبي القبرين، ولا أحدهما. والظاهر أن ذلك كان على عمد من الرواة. لقصد الستر عليهما، وهو عمل مستحسن، وينبغي أن لا يبالغ في الفحص عن تسمية من وقع منه ما يذم به. قاله الحافظ ابن حجر، ثم قال: والظاهر أنهما كانا مسلمين، إذ حصر سبب عذابهما في البول والنميمة ينفي كونهما كافرين؛ لأن الكافر وإن عذب على ترك أحكام الإسلام فإنه يعذب مع ذلك على الكفر بلا خلاف. اهـ. وقال بعضهم: إنهما لو كانا كافرين لم يدع لهما بتخفيف العذاب ولا ترجاه.
والله أعلم